خطط الشام - ج ١

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ١

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٨

من أحسن قتال الفرنج وطلب مني أمرا فعلته معه ، ومن أتاني بحجر من حجارة الحصن أعطيته خمسة دنانير ، فبذل الرجالة نفوسهم وصعدوا الى الحصن وخربوه وحملوا حجارته الى طغتكين فوفى لهم بما وعدهم ، وأمر بإلقاء الحجارة في الوادي وأسروا من بالحصن فأمر بهم فقتلوا كلهم واستبقى الفرسان ، ثم سار الى حصن رفنية فحصره وملكه ، وقتل به خمسمائة رجل من الفرنج.

وفي السنة التالية (٥٠٠) زاد عيث الفرنج في أعمال السواد وحوران وجبل عوف (عجلون) ، فنهض صاحب دمشق بالعسكر وخيم في السواد. وهجم عز الملك والي صور على ربض حصن تبنين في جبل عامل من عمل الفرنج وقتل من كان فيه ، فنهض بغدوين من طبرية ، وسار صاحب دمشق الي حصن بالقرب من طبرية فيه جماعة من فرسان الفرنج فقاتله وملكه وقتل من كان فيه. وأقطع صاحب دمشق الأمير الأصفهبد التركماني وادي موسى ومآب والشّراة والجبال والبلقاء ، وكان الفرنج قد نهضوا الى هذه الأعمال وقتلوا من فيها وسبوا ونهبوا ، فلما وصل إليها وجد أهلها على غاية الخوف من الفرنج ، ونهض هؤلاء لما عرفوا خبره من ناحية البرية وكبسوه على غرة ، فانهزم واستولى الفرنج على سواده.

وتتابعت المكاتبات من صاحبي دمشق وطرابلس الى محمد بن ملكشاه السلجوقي بعظيم ما ارتكبه الفرنج ، وتملك الحصون والمعاقل ، والفتك بالمسلمين ومضايقة ثغر طرابلس ، والحض على تدارك الناس بالمعونة ، فوقع خلاف بين الأمراء الذين انتدبهم صاحب حلب ودمشق وغيرهما في جهات الرحبة ، والتقوا مع عسكر قلج أرسلان في أراضي الموصل ، ونسوا الغرض الذي ندبوا إليه. وقلج أرسلان التركماني هو الذي أعان ملك الروم في القسطنطينية على بيمند ملك الفرنج ، فاستظهر الروم والتركمان على الفرنج وكسروهم كسرة شنيعة أتت على أكثرهم بالقتل والأسر وتفرق الباقي منهم عائدين الى ديارهم.

٢٦١

حروب الصليبيين

ودولة طغتكين وبقايا السلجوقيين

«من سنة ٥٠٠ الى ٥٢٢»

هدنة طغتكين للصليبيين وشدته عليهم :

انسلخ القرن الخامس ، وأهم ما دهم القطر فأوقع الاضطراب فيه ، انهيال جيوش الصليبيين عليه ، وتبلج القرن السادس والصليبيون في الشام ، منذ عشر سنين ، استصفوا الساحل وبعض الداخل ، والحرب بين أمراء الشام وبين الفرنج على أشد حالاتها ، وشعر أمراء المسلمين بالخطر المداهم لكن القوى لم توحّد ، وكيف يخضع صاحب آمد لصاحب دمشق أو صاحب حلب لصاحب الموصل ؛ وكل منهم يدعي التفوق ويود لو ينال من جاره ليكون له الأمر كله ، وكان طغتكين صاحب دمشق يحمل العبء الثقيل لأن مملكته تتاخم أرض فلسطين ، وملوك الأطراف أبعد ديارا ، وكان همه قتال الأعداء من الجنوب والغرب ، وحفظ الموازنة مع صاحب حلب حتى لا يستخذي فتسقط دمشق بل الشام بأسره.

وأهم الأحداث في العقد الأول من هذا القرن إقامة صاحب القدس على تل المعشوقة في صور (٥٠١) بناء ، ومصانعة واليها على سبعة آلاف دينار ، واشتداد الأمر بابن عمار في طرابلس لحصار الفرنج ومضيه الى بغداد مستنجدا ، وقد استناب ابن عمه أبا المناقب ، فنادى بشعار الأفضل صاحب مصر ، فقبض عليه وحمل الى حصن الخوابي. وطال مقام ابن عمار في مدينة السلام على غير طائل ، وأنفذ الأفضل من مصر الى طرابلس

٢٦٢

في البحر الغلة والميرة وواليا من قبله فتسلم البلد. وأسرى صاحب دمشق الى طبرية وفرق عسكره فرقتين ، نفذت إحداهما الى فلسطين ، وأغار بالثانية على طبرية ، وأحاطت الخيل بصاحب طبرية وبأصحابه فقتل أكثرهم. ونهض صاحب القدس الى صيدا برّا وبحرا ونصب برج الخشب عليه ، ووصل الأسطول المصري فظهر على مراكب الفرنج وعسكر البر واتصل بهم نهوض العسكر الدمشقي لحماية صيدا فرحلوا عنها.

وتسلم الفرنج عرقة بالأمان (٥٠٢) ، وكان أنجدها صاحب دمشق فعاقته الثلوج والأمطار عن الوصول إليها ، فرجع الى حصن الأكمة مقاتلا ، ثم رحل عنه شبه المنهزم الى حمص. ونزل الفرنج على طرابلس وشرعوا في قتالها ومضايقة أهلها زهاء أربعة أشهر ، فشمل اليأس أهلها لتأخر وصول الأسطول المصري في البحر ، فملكها الفرنج بالسيف «ونهبوا ما فيها وأسروا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها وحصل في أيديهم من أمتعتها وذخائرها ودفاتر دار علمها ، وما كان منها في خزائن أربابها ، ما لا يحد عدده ولا يحصر ، ونزل بأهلها أشد البلاء ، وتقرر بين الفرنج والجنويين على أن يكون للجنويين الثلث من البلد وما نهب منه ، والثلثان لريمند بن صنجيل وأفردوا للملك بغدوين من الوسط ما رضي به». وذكر النويري أن السبب الذي دعا أهل طرابلس الى التسليم ، أنهم بينا كانوا ينتظرون وصول النجدة بحرا من مصر ، جاءهم رسول منها على مركب يطلب منهم لاسم الخليفة الفاطمي جارية جميلة كانت في طرابلس وخشب مشمش يصلح لعمل عود وغيره من آلات الطرب.

وبعد فتح طرابلس سار الفرنج الى جبلة ، وسار جاولي الى بالس ، فهرب من بها من أصحاب الملك رضوان صاحب حلب ، فحصرها خمسة أيام وملكها بعد أن نقب برجا من أبراجها. وافتتح السرداني المتغلب على عرقة حصن بانياس ، ونزل على ثغر جبيل وفيه ابن عمار فخرج منه بالأمان ، ووصل الأسطول المصري بعد أخذ طرابلس فأقام بالساحل مدة وفرقت الغلة في جهاتها ، وتمسك به أهل صور وصيدا وبيروت ، وشكوا ضعفهم عن مقاومة الفرنج. وفيها كان المصاف بين جاولي وبين

٢٦٣

طنكري صاحب أنطاكية ، وسبب ذلك على ما رواه ابن الأثير أن الملك رضوان كتب الى طنكري يعرفه ما عليه جاولي من الغدر والمكر والخداع ويحذره منه ويعلمه أنه على قصد حلب ، وأنه إن ملكها لا يبقى للفرنج معه بالشام مقام ، وطلب منه النصرة والاتفاق على منعه ، فأجابه طنكري الى منعه ، وبرز من أنطاكية ، فأرسل إليه رضوان ستمائة فارس. ولما وقعت الحرب لم يبق غير هزيمة صاحب أنطاكية ، ثم انهزم جاولي وبقية عسكره ، وقتل من المسلمين خلق كثير ، ونهب صاحب أنطاكية أموالهم وأثقالهم وعظم البلاء عليهم من الفرنج ، وهرب القمص وجوسلين الى تل باشر ، والتجأ إليهما خلق كثير من المسلمين ففعلا معهم الجميل وداويا الجرحى وكسوا العراة وسيراهم الى بلادهم.

وفيها كانت حرب شديدة بين طغتكين والفرنج على طبرية ، واشتد القتال فانهزم المسلمون ، ثم نادى طغتكين بالمحاربين وشجعهم ، فعاودوا ألحرب وكسروا الفرنج وأسروا ابن أخت ملك القدس ، وحمل الى طغتكين فعرض طغتكين عليه الإسلام فامتنع ، وبذل في فداء نفسه ثلاثين الف دينار وإطلاق خمسمائة أسير ، فلم يقنع طغتكين منه بغير الإسلام وقتله بيده. ثم اتفق طغتكين وبغدوين ملك الفرنج على وضع الحرب أربع سنين. ولما انهزم طغتكين على طرابلس ووصل الى حمص بعسكره على أقبح حال أرسل إليه ملك القدس يقول له : لا تظنن أنني أنقض الهدنة للذي تم عليك من الهزيمة. فالملوك ينالهم أكثر مما نالك ثم تعود أمورهم الى الانتظام والاستقامة ، وكان طغتكين خائفا أن يقصده بعد هذه الكسرة فينال من بلده كل ما أراد.

وهادن صاحب دمشق ملك بيت المقدس على أن يكون السواد وجبل عوف أثلاثا ، للتركمان الثلث وللفرنج والفلاحين الثلثان. وجاء ابن عمار الى دمشق فأقطعه صاحبها الزبداني وأعمالها (٥٠٣) وكان لابن عمار البلاء الحسن بل الأحسن في دفع عادية الصليبيين عن بلده ، لم يترك بابا من أبواب الخلاص ليصدهم عن طرابلس إلا طرقه ، حتى دفعهم بعقله وحسن إدارته عن تملكها عشر سنين. وكان في طريق رجعتهم كالحسكة

٢٦٤

في الحلق ، وفي معاملة ملوك الأطراف نموذج الدهاء السياسي ، وهو على صغر جرم مملكته يطاول ويحاول وينازل ويصاول ويلين ويقسو.

ونهض الفرنج (٥٠٣) الى رفنية وترددت بينهم وبين أمراء الشام مراسلات أفضت الى تقرير الموادعة على أن يكون للفرنج ثلث مغل البقاع ، ويسلم إليهم حصن المنيطرة وحصن عكار ، وأن لا يتعرض لحصن مصياف والخوابي وحصن الأكراد وحصن الطوبان ، وأن يحمل إليهم مال عنها وعن حصن الطوبان ، وأقاموا على ذلك مدة ثم عادوا الى الفساد ، وخرج صاحب أنطاكية واستولى على طرطوس وقرر على شيزر عشرة آلاف دينار وتسلم حصن الأكراد وعاد الى أنطاكية ، ونزل بغدوين صاحب القدس وابن صنجيل صاحب طرابلس الى بيروت ، وسار إليهم جوسلين صاحب تل باشر لمعاونتهم واستنجادهم على الأمير مودود ابن التونتكين صاحب الموصل. وجاء الأسطول المصري مؤلفا من ١٩ مركبا وفيه الرجال والميرة فدخلوا ثغر بيروت فقويت نفوس أهلها ، فبعث بغدوين الى الجنوية في ثغر السويدية فجاءوا في أربعين مركبا ، وزحفوا برا وبحرا وفعلوا ما فعلوه في طرابلس من القتل والحرق والنهب وملكوا بيروت ، ثم نزل بغدوين على صيدا فسلمها أهلها واستمهلوه مدة عينوها فأجابهم وأخذ منهم إتاوة. وراسل والي بعلبك كمشتكين الفرنج بالتماس المصافاة ، وبعثهم على شن الغارات على الأطراف ، فزحف صاحب دمشق عليه فجنح المقاتلة الى الدخول في الطاعة ، واستولى على البلد وعوض واليها عن بعلبك بحصن صرخد.

اجتماع كلمة أمراء المسلمين وإنجاد بغداد للشام :

اجتمع صاحب إرمينية وميافارقين وصاحب الموصل وغيرهم على جهاد الفرنج ، وقصدوا الرها وضايقوها فأشرف من بها على الهلاك لقلة القوت ، فشرع أصحاب أنطاكية وطرابلس والقدس بالذود عنها ، ونهض صاحب دمشق في عسكره وخيم على سلمية ، وظهر الفرنج في رفنية فقاتلهم واليها شمس الخوّاص ، ورحل الفرنج الى قصد الرّها فخف صاحب

٢٦٥

دمشق الى الرقة وقلعة جعبر وقطع الفرات ، وتلوّم هناك الى أن عرف خبر الفرنج وأنهم قد أحجموا عن العبور لتفرق سرايا العساكر الإسلامية وطلائعهم في عامة المسالك الى الفرات. ولما أدرك المسلمون قرب الفرنج منهم اتفقت الآراء على الإفراج لهم ليتمكنوا من لقائهم في الفضاء من شرقي الفرات ، ورحلوا عن الرّها ونزلوا أرض حران مكرا وخديعة ، ففطن الفرنج لهذا التدبير فأجفلوا ناكصين على الأعقاب الى شاطىء الفرات ، فنهض المسلمون في أثرهم وغنموا سواد الفرنج وأثقالهم ، وأتوا على العدد الدثر من أتباعهم قتلا وتغريقا في الفرات. وفي هذه الأيام تأكدت أسباب الألفة بين صاحب دمشق وملوك الشمال.

لما تفرقت العساكر الإسلامية أغار بغدوين على الرها ، وكانوا رتبوا فيها جماعة من الأرمن لحفظها ، وبلغ ذلك صاحب حلب وما أصاب الفرنج من الهزيمة فاستعاد ما كان غلب الفرنج عليه وآغار على أنطاكية. ثم جاء الفرنج عقيب ذلك فأفسدوا في أعمال حلب وقتلوا واسروا خلقا كثيرا. وعاد طنكري على الأثارب وملكها بعد طول حصارها كما ملك زردنا ، واستقرت الموادعة بعد ذلك بين صاحب حلب وطنكري على أن يحمل إليه الأول من مال حلب كل سنة عشرين ألف دينار وأن يفك الأسرى.

ووصل بعض ملوك الفرنج في البحر في نيف وستين مركبا مشحونة بالرجال لقصد الحج والغزو في ديار الإسلام ، فاجتمع مع صاحب بيت المقدس ونزلا على صيدا وضايقاها برا وبحرا ، فلما عاين من بصيدا ذلك ضعفت نفوسهم وأشفقوا أن يصيبهم ما أصاب بيروت ، وقد قتل الفرنج يوم أخذوها واليها وأعيانها ، فخرج إليهم قاضيها وجماعة من شيوخها وطلبوا الأمان ، فأمنهم فاستحلفوه على ذلك ، وخرجت الحامية وخلق من أهلها الى دمشق ، وقرر بغدوين على من أقام بها نيفا وعشرين ألف دينار فأفقرهم واستغرق أموالهم.

وأغار بغدوين على عسقلان (٥٠٤) ، وكان صاحبها شمس الخلافة يراسله ، فاستقرت الحال بينهما على مال يحمله إليه ويرحل عنه ، وانتهى

٢٦٦

الخبر الى الأفضل بمصر فأنكر ذلك ، وجهز عسكرا كثيفا الى عسقلان ، فلما قرب منها أظهر شمس الخلافة الخلاف على الأفضل فغالطه الأفضل ، وخاف شمس الخلافة من أهل البلد فاستدعى جماعة من الأرمن فأثبتهم في عسقلان ، ثم وثب به قوم من كتامة وقتلوه. وسار الى بغداد رجل من أشراف الهاشميين في حلب وجماعة من الصوفية والتجار والفقهاء ، وانزلوا الخطيب في جامع السلطان عن المنبر وكسروه ، وصاحوا وبكوا لما لحق الإسلام من الفرنج ، ومنعوا الناس من الصلاة ، وعملوا في الجمعة التالية مثل ذلك في جامع الخليفة ، فأوعز السلطان الى الأمراء المقدمين بالتأهب للمسير الى الجهاد.

ووصل رسول ملك الروم بمراسلات للبعث على قصد الفرنج والاجتماع على طردهم قبل إعضال خطبهم ، ويقول إنه منعهم من العبور الى أرض المسلمين وحاربهم ، وإذا ضعفت عزائم قومه عن المقاومة ، اضطر الى مداراتهم وإطلاق عبورهم الديار الإسلامية ، وبالغ في الحث على حربهم ، ونقض بغدوين الهدنة المستقرة بينه وبين صاحب دمشق ، فخرج هذا الى اللجاة ونهض الفرنج في أثره الى الصنمين ، ففرق صاحب دمشق العسكر من عدة جهات ، وبث في المعابر والمسالك خيلا يمنعهم من حمل الميرة إليهم حتى ألجأهم الى المسالمة ، على أن يكون لبغدوين النصف من ارتفاع جبل عوف والسواد والحيّانية مضافا الى ما في يده من هذه الأعمال التي تليها في أيدي العرب من آل جراح.

لما قرر ملك بغداد إنهاض العسكر عقيب استغاثة الشاميين بالخليفة والسلطان تقدم من الأمراء لإنجادهم على قتال الصليبيين صاحب الموصل ، فافتتح تل مراد وعدة حصون هناك بالسيف والأمان. ووصل إليه الأمير أحمديل الكردي في عسكر كثيف ، والأمير قطب الدين سقمان من بلاد إرمينية وديار بكر وصاحب همذان فنزلوا على تل باشر ونقبوه فأنفذ جوسلين صاحب تل باشر الى الأمير أحمديل يلاطفه ويهاديه ويبذل له الكون معه والميل إليه ، وكان أكثر العسكر مع أحمديل وسأله الرحيل عن الحصن فأجابه الى ذلك على كراهية من باقي الأمراء ، وعادوا عن

٢٦٧

تل باشر الى حلب وعاثوا في أعمالها وفعلوا أقبح من فعل الفرنج ، ووصل إليهم في حلب صاحب دمشق ومعه رجال حمص وحماة ورفنية وسائر المعاقل الشامية ، فلم ير منهم عزيمة صادقة في جهاد ولا حماية بلاد ، واستجرهم الى المعرة فظهر له من سوء نية المتقدمين فيه ما أوحشه منهم ، وجعل يحرضهم على قصد طرابلس فلم يفعلوا وتفرقوا أيدي سبا ، فلما علم الفرنج برحيل العساكر نزلوا أفامية وفي رأسهم أصحاب القدس وطرابلس وأنطاكية ، وقد صاروا بعد التباين والمنافرة والخلف يدا واحدة على المسلمين ، وكانت خيل هؤلاء مثل الفرنج إلا أن راجلهم أكثر ، وناوشوا الفرنج على غير طائل.

غارات المسلمين وغارات الصليبيين :

وملك فرنج أنطاكية حصن الأثارب وقتلوا منه ألفي رجل وأسروا الباقين ، ثم ملكوا زردنا ففعلوا كذلك وقصدوا منبج وبالس فوجدوهما خاليتين فعادوا أدراجهم. ووقع الخوف في قلوب أهل الشام من الفرنج ، فبذل لهم المسلمون أموالا وصالحوهم ، صالحهم صاحب حلب على اثنين وثلاثين ألف دينار ، وأهل صور على سبعة آلاف دينار ، وصاحب شيزر على أربعة آلاف دينار ، وصاحب حماة على ألفي دينار. وذلك لأن الفرنج امتنعوا من مهادنة ملوك الشام إلا على قطيعة يأخذونها الى مدة يسيرة. ولو كان ملوك الشام إذ ذاك على شيء من الوحدة في الرأي ، لما أقطعوا الفرنج القطائع ، ولما هادنوهم ، خصوصا وقد خرق الفرنج مرات قانون المهادنات والموادعات ، وبعض المنكرين يعذرونهم على عملهم الفظيع في تلك العصور لأنهم كانوا دون المسلمين في كل أمر من أمورهم العلمية والحربية والاجتماعية.

وفي هذا العقد (٥٠٥) جهز السلطان محمد عسكرا ، فيه صاحب الموصل وغيره من أصحاب الأطراف الى قتال الفرنج بالشام ، فساروا ونزلوا على الرها فلم يملكوها ، ووصلوا الى حلب فخافهم صاحبها ولم يفتح لهم أبوابها ، ثم ساروا الى المعرة وتفرقوا. وفيها أنجد صاحب

٢٦٨

دمشق أهل صور ، وكان أغار عليهم بغدوين ، وسار وخيم ببانياس وبث سراياه ورجاله في أعمال الفرنج ، ونهض الى حصن الحبيس في السواد ، فملكه بالسيف وأغار على صيدا وأحرق عشرين مركبا من مراكب الفرنج ، وبعد أن عمل الفرنج كباشا كبيرة لتعلق على السور رماها أهل صور بالنفط والزيت مرات ، وأقاموا على محاصرة صور أربعة أشهر ونصف ، ثم قصدوا عكا وتفرقوا في أعمالهم.

نزل أهل صور (٥٠٦) عن بلدهم لصاحب دمشق لما أعيتهم الحيل في الدفاع فتسلمها ، وأقام الدعوة والسكة على ما كانت عليه لصاحب مصر ولم يغير لهم رسما ، مع أن سائر الشام كانت طاعتها للعباسيين ودعوتها لهم ، وذلك حبا بدوام الصلات مع صاحب مصر حتى لا ينقطع مدده عن الساحل. وضبط صاحب القدس القافلة الدمشقية بينا كانت سائرة الى مصر ، بدلالة أناس من العرب البدو ، واشتمل الفرنج على ما فيها من الأمتعة والبضائع ، وحصل لبغدوين منها خمسون ألف دينار وثلاثمائة أسير ، ولم يبق بلد في الشام إلا أصيب بعض تجاره وأهله بأموالهم.

وتواترت غارات بغدوين على عمل البثنية ، وجمع صاحب الموصل عسكره من الأتراك والأكراد وقطع الفرات الى الشام ، وكذلك صاحب سنجار وصاحب ديار بكر ، وكان الصليبيون يكاتبون صاحب دمشق على أن يتركوا له حصن تبنين وجبل عامل ويعوضوا عن ذلك بحصن الحبيس حبيس جلدك الذي في السواد ونصف السواد من البلقاء ويتركوا التعرض لشيء من أعمال دمشق ، ولا يعرض هو لشيء من أعمال الفرنج ، فلم يجب الى ذلك ، ونهض في جيشه للقاء صاحب الموصل والاجتماع به على الجهاد ، فاجتمعا بمرج سلمية واتفق رأيهما على قصد بغدوين ، وسارا وقد استصحب صاحب دمشق جميع العسكر ومن كان بحمص وحماة ورفنية ، ونزلا بقدس فعين الجر بالبقاع فوادي التيم ثم نزلا على بانياس ، ونهضت فرقة من العسكر فقصدت ناحية تبنين ، فلم يظفروا منها بمراد ، ووصل إليها بغدوين ، وقد كان لما يئس من إجابة صاحب دمشق الى

٢٦٩

الموادعة واصل الغارات والفساد ، ثم نهض صاحب دمشق ونزل على الأقحوانة على بحيرة طبرية ، فنشب الحرب بين المسلمين والفرنج غربي جسر الصّنبرة مقابل عقبة أفيق ، فانتصر المسلمون بعد ثلاث كرات وغرق من الفرنج خلق كثير في البحيرة ، وقتل نحو ألفي رجل من أعيانهم وأبطالهم ، وأقام المسلمون على الجبل وطلع الفرنج إليه وتحصنوا به وهو من غربي طبرية ، واستنفر أمير دمشق العرب الطائيين والكلابيين والخفاجيين فوصلوا بخلق كثير بالمزادات والروايا والإبل لحمل الماء ، وصعدت الطلائع الى الجبل من شماله ، وعلم المسلمون أن الظفر قد لاحت دلائله ، والعدو قد ذلّ ، وأغارت بعض سرايا المسلمين على أرجاء القدس ويافا ونهبت بيسان ولم يبق بين عكا والقدس ضيعة عامرة. ثم تفرق المسلمون وعادوا الى كورهم.

وأرسل ملك القدس الى والي صور (٥٠٧) يريده على المهادنة والموادعة لتحسم أسباب الأذية عن الجانبين فأجابه الى ذلك ، وأمنت السابلة والتجار والسفار ، واستقرت الحال بينهما على المهادنة فأمنت المسالك وصلحت الأحوال ، بعد أن ذاق الفرنج بأس ملوك الشام والجزيرة على الأقحوانة. وكان صاحب القدس من أعظم ملوك الفرنج بالشام جيشا ومكانة. وكان من جملة من حضر في هذه الوقعة عند طبرية الأمير مودود بن التون تكش صاحب الموصل. وفي سنة ٥٠٨ قتل آلب أرسلان بن رضوان صاحب قلعة حلب ، قتله غلمانه بقلعتها وأقاموا بعده أخاه سلطانشاه بن رضوان ، وكان لما ملك حلب جرى على قاعدة أبيه في أمر الإسماعيلية ، وكان بنى لهم بحلب دار دعوة ، فطلبوا منه أن يعطيهم القلعة فأجابهم الى ذلك ، فقبح عليه القاضي ابن الخشاب فعله ، فأخرجهم بعد أن قتل منهم ثلاثمائة نفس وأسر مائتين وطيف برؤوسهم في البلد.

وأمر السلطان محمد بن ملكشاه (٥٠٨) الأمراء وأصحاب الأطراف بالمسير صحبة آق سنقر البرسقي لقتال الفرنج بالشام ، وجرى بين البرسقي وإيلغازي بن أرتق صاحب ماردين قتال انتصر فيه إيلغازي وهرب البرسقي. ثم خاف إيلغازي من السلطان ، فسار الى صاحب دمشق فاتفق

٢٧٠

معه وكاتبا الفرنج واعتضدا بهم. قال ابن الأثير : وكان طغتكين قد استوحش من السلطان لأنه نسب إليه قتل مودود ، فاتفقا على الامتناع والالتجاء الى الفرنج والاحتماء بهم فراسلا صاحب أنطاكية وحالفاه ، فحضر عندهما على بحيرة قدس في حمص وجددوا العهود ، وعاد الى أنطاكية وعاد طغتكين الى دمشق.

وأرسل السلطان محمد ملكشاه (٥٠٩) عسكرا ضخما لقتال صاحب دمشق وصاحب ماردين فعبروا الفرات من الرقة وقصدوا حلب ، فعصت عليهم ، ثم فتحوا حماة عنوة ونهبوها ثلاثة أيام ثم سلموها الى قيرخان ابن قراجة صاحب حمص ، واجتمع بأفامية طغتكين وإيلغازي وملوك الفرنج صاحب أنطاكية وصاحب طرابلس وغيرهم ، وأقاموا بأفامية ينتظرون تفرق المسلمين ، ثم تفرق الفرنج وسار طغتكين الى دمشق وإيلغازي الى ماردين.

وفتح المسلمون كفرطاب وقتلوا من بها من الفرنج وساروا الى المعرة ثم الى حلب فكبسهم صاحب أنطاكية في الطريق فانهزموا ، ووضع الفرنج السيف في المسلمين فهرب من سلم منهم. واستولى الفرنج على رفنية فاسترجعها منهم صاحب دمشق وقتل من بها منهم ، وهادن الأفضل مدبر مملكة الآمر الفاطمي بغدوين صاحب القدس ، وكان قد أخذ قافلة عظيمة من المسلمين بالسبخة فرأى الأفضل مهادنته لعجزه عنه. وجمع صاحب طرابلس (٥١٠) جموعه ونهض الى البقاع لإخرابه ، فخف إليه صاحب الموصل وصاحب دمشق في بعض عسكرهما ، وسارا الى البقاع ، والفرنج غارّون في مخيمهم ، فأطلق السيف فيهم قتلا وأسرا ففقد منهم ما يزيد على ثلاثة آلاف وعاد صاحب الموصل الى بلده بعد استحكام المودة بينه وبين صاحب دمشق ، والموافقة على الاعتضاد في الجهاد ، متى حدث أمر أو حزب خطب.

بقية الغارات :

وفي العقد الثاني من القرن السادس هادن (٥١١) المتولي أعمال حلب

٢٧١

الفرنج ووادعهم وسلم إليهم حصن القبة ، وهجم الفرنج على ربض حماة وقتلوا من أهلها ، وخاف أهل حلب من الفرنج فسلموا البلد الى نجم الدين إيلغازي ، فلما تسلمه لم يجد فيه مالا ولا ذخيرة لأن الخادم لولؤا الذي كان مستوليا على صاحبها سلطانشاه بن رضوان كان فرق كل ما فيها. وسار طغتكين (٥١٢) عن دمشق لقتال الفرنج ، فنزل بين دير أيوب وكفر بصل فخفيت عنه وفاة بغدوين ملك القدس ، حتى سمع الخبر بعد ثمانية عشر يوما وبينهم نحو يومين ، فأتته رسل ملك الفرنج بطلب المهادنة فاقترح عليه طغتكين ترك المناصفة التي بينهم من جبل عوف والحيانية والصلت والغور فلم يجب الى ذلك وأظهر القوة ، فسار طغتكين الى طبرية فنهبها وما حولها ، وسار منها نحو عسقلان وسلم بنو أخي القاضي شرف الملك بن الصليعة حصن بلاطنس لروجار صاحب أنطاكية فأقطعهم في أعمال اللاذقية عوضا منه وسكنوا تحت يده.

وبرز (٥١٣) صاحب أنطاكية فيمن حشده من طوائف الفرنج ورجالة الأرمن في ثلاثة آلاف فارس وتسعة آلاف راجل سوى الأتباع الى سرمد وقيل دانيث البقل بين أنطاكية وحلب وقيل تل عفرين ، فطار إليهم المسلمون بقيادة صاحبي حلب والموصل في عساكر التركمان والأكراد والعرب في عشرين ألفا ، فقتلوا الفرنج بحيث لم يفلت منهم غير من يخبر خبرهم ، وقتل ملكهم روجر وبقيت أنطاكية شاغرة من حماتها ، ثم فتح المسلمون الأثارب وزردنا.

وعاد إيلغازي الى حلب وقرر أمرها وأصلح حالها بعد أن أخربها الفرنج ونازلوها ، وكان في جملة الأسرى نيف وسبعون فارسا من مقدميهم حملوا الى حلب فبذلوا في نفوسهم ثلاثمائة ألف دينار فلم يقبل منهم. قال ابن الأثير في وقعة الفرنج في تل عفرين وكانوا يظنون أن أحدا لا يسلك إليهم لضيق الطريق فأخلدوا الى المطاولة ، وكانت عادة لهم إذا رأوا قوة من المسلمين.

وسار جوسلين صاحب تل باشر ليكبس بني ربيعة ، فوقع بينهم قتال انتصر فيه أمير بني ربيعة ، وأسر من الفرنج عدة كثيرة. وجمع صاحب

٢٧٢

ماردين التركمان وغيرهم والتقى مع الفرنج عند دانيث البقل وجرى بينهم قتال شديد انتصر فيه صاحب ماردين وانهزم الفرنج. ووصل كندهري ملك الفرنج في المراكب ، وملك أكثر المعاقل ، ووقعت الهدنة بين صاحب حلب وبين الفرنج وتقررت المسالمة ، وقيل : إن جوسلين أغار على العرب والتركمان النازلين بصفين قرب قرية جعبر على الفرات وغنم منهم وفي عوده خرب حصن بزاعة.

وأغار كندهري على أذرعات وأطراف دمشق وكان صاحبها بالبثنية فبعث بولده بوري مع الجيش وأقام هو موضعه ردءا له فالتقوا فظهر الفرنج على بوري ، فعاد الى أبيه ودخلا دمشق ، ومضى طغتكين الى حلب مستصرخا بنجم الدين إيلغازي وكان أول ما ملكها فأقام عنده وشرع بجمع العساكر ، واغتنمت الفرنج غيبته فقصدوا دمشق ، ووصلوا الى حوران فالتجأ أهله الى اللجاة ، فتأثرهم الفرنج الى وعرة اللجاة فقتلوا وأسروا ، ولما بلغ أهل أنطاكية هذا جمعوا وحشدوا وقصدوا حلب في خمسة آلاف فارس وثمانية آلاف راجل فخرج إيلغازي وعمل كمينا ، فلما التقى الفريقان ظهر الكمين وضربوا البوقات والطبول فظنوه صاحب دمشق قادما من ورائهم ، وكان نجم الدين إيلغازي أشاع أن طغتكين واصل من دمشق وما كان إلا جريدة عنده فانهزم الفرنج وعمل فيهم السيف قتلا وأسرا.

وفي سنة ٥١٤ نهض الأمير معن من البقاع بعشيرته ورهطه ونزل في جبل الشوف ، وكان قفرا خاليا من السكان ، وجعل له مودة مع آل تنوخ أمراء عرب جبل لبنان ، وكان أميرهم إذ ذاك الأمير بحتر التنوخي فبنى له ولخاصته دورا ليستعيض بها الأمير معن عن المضارب ، وأخذ يقصد دياره أهل كل ديار استولت عليها الفرنج وبقي أميرا فيه نحو ثلاثين سنة وهو أصل الأمراء آل معن وإليه ينتسبون. وصار الجبل ينسب إليهم فيقال جبل بيت معن كما يقال جبل بني عوف وجبل بني هلال.

وكان بين نور الدين بلك بن أرتق (٥١٥) وبين جوسلين على

٢٧٣

الرّها حرب انتصر فيها بلك وقتل من الفرنج ، وأسر جوسلين وأسر معه ابن خالته وأسر جماعة من فرسانه المشهورين عند سروج وبذل جوسلين في نفسه أموالا كثيرة فلم يقبلها بلك وسجنه وأصحابه في قلعة خرتبرت ، وفي سنة ٥١٥ عصى سليمان بن إيلغازي بن أرتق على أبيه بحلب ، حسن له ذلك إنسان من حماة من بني قرناص ، وكان قدمه إيلغازي على أهل حلب ، وبلغ إيلغازي ذلك فسار مجدا من ماردين وهجم حلب وقطع يدي ابن قرناص ورجليه وسمل عينيه ، وهرب ابنه الى طغتكين بدمشق واستناب ابن أخيه عبد الجبار ، وخرج صاحب حلب (٥١٦) في عسكره وقطع الفرات وصادف الفرنج فأتلف ما ظفر به في أعمالهم. وتوفي إيلغازي بن أرتق وكان بحلب ابن أخيه سليمان بن عبد الجبار فبقي فيها الى أن أخذها ابن عمه ، فسلم سليمان قلعة الأثارب الى الفرنج ، فعظم ذلك على بلك بن بهرام وعلم عجزه عن حفظ بلاده فقوي طمعه في ملكها ، فسار إليها ونازلها وضايقها ومنع الميرة عنها وأحرق زروعها ، فسلم إليه ابن عمه البلد والقلعة بالأمان سنة ٥١٧.

ووصل الأسطول المصري الى صور ، وجمل والي صور سيف الدين مسعود الى مصر ، وكانت عاقبة خروجه منها خروجها بالأمان من أيدي المسلمين الى الفرنج بعد سنتين. ونهض بغدوين (٥١٧) في عسكره الى ناحية حلب ، وصاحبها منازل حصن كركر ، فالتقيا بالقرب من منظرة فكسره وأسره مع جماعة من وجوه عسكره واعتقله في جب قلعة خرتبرت مع جوسلين ومقدمي الفرنج الذين كان أسرهم قبل عامين ، واستنجد صاحبا دمشق وحلب بالخليفة الآمر في مصر فجهز أسطولا مؤلفا من أربعين شينيا فيها عشرون أميرا وهدايا فسار العسكر الى يافا وأقام عليها ستة أيام ورحل عنها ، وقد تخاذل عنه ملوك الشرق ورجع الى مصر ، فوافاه الفرنج على يبنى ، فانكسر العسكر المصري من غير مصاف. وملك الأمير بلك حصن البارة وأسر أسقفها. وهرب بغدوين وجوسلين وغيرهما من مقدمي الفرنج من أسر الأمير بلك في خرتبرت وملكوا القلعة فاستعادها الأمير من الفرنج الواثبين عليها. وهزم جيش الفرنج جيش

٢٧٤

المسلمين ، وفيهم جيش دمشق على قلعة عزاز ، وتفرق المسلمون بعد قتل من قتل وأسر من أسر.

قلنا : إن الفرنج ملكوا مدينة صور (٥١٨) بالأمان بعد حصار طويل ، وكانت للخلفاء العلويين أصحاب مصر ، وقد ثبت أهل صور نحو خمس وعشرين سنة على قتال الفرنج مع قلة المنجد لهم من مصر ، يقول ابن تغري بردي : إن سبب سقوط صور خروج سيف الدين مسعود منها ، وكان قد حمل الى مصر وأقام الوالي الذي بها في البلد ، وهذه زيادة في النكاية للمسلمين من صاحب مصر فإن سيف الدين المذكور كان قائما بمصالح المسلمين ، وفعل ما فعل مع الفرنج من قتالهم وحفظ سور المدينة هذه المدة الطويلة ، فأخذوه منها غصبا ودخلوا البلد مع من لا قبل له بمحاربة الفرنج ، فكان حال المصريين في أول الأمر أنهم تقاعدوا عن نصرة المسلمين والآن بأخذهم سيف الدين من صور صاروا نجدة للفرنج. وكانت صور آخر ما ملكه الفرنج من الساحل.

وفي سنة ٥١٨ ملك آق سنقر البرسقي حلب وقلعتها وسبب ذلك أن الفرنج لما ملكوا مدينة صور ، طمعوا وقويت نفوسهم ، وتيقنوا الاستيلاء على الشام كله ، ثم وصل إليهم دبيس بن صدقة صاحب الحلة فأطمعهم طمعا ثانيا لا سيما في حلب وقال لهم : إن أهلها شيعة وهم يميلون إليّ لأجل المذهب ، فمتى رأوني سلموا البلد إليّ ، وبذل لهم على مساعدته بذولا كثيرة ، وقال : إنني أكون ههنا نائبا عنكم ومطيعا لكم ، فساروا معه إليها وحصروها وقاتلوا قتالا شديدا ، ووطنوا نفوسهم على المقام الطويل.

وأخذ الفرنج في بناء بيوت لهم ظاهر حلب فعظم الأمر على أهلها ، ولم ينجدهم صاحبها تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق لإيثاره الدعة والرفاهة ، فكاتب أهل حلب آق سنقر البرسقي صاحب الموصل فسار إليها ، فأجفل الفرنج منهزمين ، ثم صلحت أحوال حلب وعمرت أعمالها بعد أن حاصرت مدة ولقي أهلها شدة حتى أكلوا الميتة ، ولم يكن عندهم أمير ، وإنما تولوا حفظ الأمن بأنفسهم وأبلوا بلاء حسنا حسنت به العاقبة. وأخذ البرسقي

٢٧٥

(٥١٩) كفرطاب من الفرنج وسار الى عزاز ، فاجتمعت الفرنج لقتاله فاقتتلوا ، فانهزم البرسقي وقتل من المسلمين خلق كثير وانهزموا راجعين أدراجهم. وقصد صاحب بيت المقدس حوران للعيث فيها فخرج إليه صاحب دمشق في التركمان وأحداث دمشق والغوطة والمرج وأحداث الباطنية فانهزم المسلمون وتتبع الفرنج المنهزمين حتى وصلوا الى عقبة سحورا وقربوا من شرحوب مع بعد المدى. وقصدت الفرنج رفنية واستعادوها من المسلمين. واجتمع المسلمون والفرنج في مرج الصفر عند قرية شقحب من عمل دمشق واشتد القتال فانهزم صاحب دمشق والخيالة وتبعهم الفرنج ، ونهب بعض الجند مخيم الفرنج وأثقالهم ، ورجع الفرنج في أثر المنهزمين ورأوا رجالتهم قتلى وأموالهم منهوبة وظلوا منهزمين لا يلوي الأخ على أخيه ، وكان هذا من الغريب أن طائفتين تنهزمان كل واحدة منهما من صاحبتها.

مزايا حكم طغتكين :

كان الفرنج منذ وطئوا تراب الشام أوائل العقد الأخير من القرن الخامس الى أواخر العقد الثاني من القرن السادس يتساندون وقل أن يقع شغب بينهم ، وربما تقاتلوا ثم اجتمعوا على سلام ، وتواكلوا وتآنسوا لأن موقفهم يدعوهم الى جمع الكلمة ، ولئن ألفوا أربع إمارات متحدة فهي إمارة واحدة في الواقع ، والنجدات تأتيهم بحرا على مراكب أهل بيزة وجنوة مرة ومرتين في السنة ، لتعذر قطع البحار إلا في فصل الصيف. فرجال الحملة الصليبية الأولى هي التي كانت افتتحت ما افتتحت من الأصقاع ومادتها القليلة من الزوار والتجار من البحر. وملوك الشام يأتيهم المدد من مصر والعراق والجزيرة وديار بكر وديار مضر. ولو كتب للشمال أن يكون في عاصمته حلب رجل عاقل كما كتب لدمشق أن يكون فيها مثل طغتكين ، لتيسر إنقاذ البلاد والإجهاز على أعدائها ، ولما استطاع الفرنج أن يجبوا إتاوة من حلب وحماة وحمص ولنجت كما نجت دمشق من إرضاء الفرنج بالمال على عهد طغتكين.

حكم طغتكين دمشق منذ سنة ٤٩٧ ، وحكمه كان في الحقيقة قبل عشر

٢٧٦

سنين من تاريخ حكومته ، حكمها بصورة شرعية بعد وفاة الملك دقاق ابن تتش بن آلب أرسلان وكان خطب أولا لابن دقاق ، وكان دقاق خلف طفلا له سنة واحدة ، فقطع طغتكين خطبته وخطب لبكتاش بن تتش عم هذا الطفل ، ثم قطع خطبة بكتاش وأعاد خطبة الطفل ، وهو آخر من خطب له بدمشق من بني سلجوق ، واستوحش بكتاش من طغتكين خوّفته والدته منه وقالت : إنه زوج والدة دقاق وهي لا تتركه حتى يقتلك ويستقيم الملك لولدها ، فخاف وحسن له من كان يحسد طغتكين مفارقة دمشق وقصد بعلبك وجمع الرجال والاستنجاد بالفرنج ، وكان بكتاش في الثانية عشرة من عمره ومعه ايتكين الحلبي صاحب بصرى.

استمر طغتكين في ملك دمشق خمسا وعشرين سنة حتى مضى لسبيله سنة ٥٢٢ وكان على غاية العدل والبعد عن الظلم ، أعاد الى الرعية كثيرا من أملاكهم التي اغتصبها منهم ولاة الجور ، وجرت عليها أحكام المقاسمة ، وأرجعها الى خراجها القديم ، وأحيا الأراضي المعطله ، وباع ما كان منها شاغرا للناس ليعمروه ، وصرف ما حصل من ثمنها في الأجناد المرتبين للجهاد ، فعمرت عدة ضياع وأجريت عيون ، وحسنت بإيالة طغتكين دمشق وأعمالها ، وعمرت الأقاليم بجميل سياسته وحسن تدبيره ، وكثرة إحسانه ، وانبسطت الرعية في عمارة الأملاك في باطن دمشق وظاهرها ، ولذلك اشتد حزن الدمشقيين عليه ، ولم تبق محلة ولا سوق إلا والمآتم قائمة فيه عليه. قال ابن عساكر : كان طغتكين شهما مهيبا مؤثرا لعمارة ولايته ، شديدا على أهل العيث والفساد. وقال آخر في وصفه : إنه لا يشبه غيره من ملوك الطوائف ، وكان على شيء من التدين حتى إنه لما عاون أهل صور على دفع الصليبيين سنة ٥٠٥ ولم يفوا له بما كانوا بذلوه له من تسليم البلد قال : إنما فعلت ما فعلت لله تعالى وللمسلمين لا لرغبة في مال ولا مملكة.

وكأن طغتكين كان مبشرا بظهور آل زنكي وآل أيوب في هذه الديار يردون حملة الغرب عن الشرق ، ويكفونها معرّة التفرق ، ويجمعون كلمتها على الحق والمطالبة به فتصبح مملكة برأسها ، تأتمر الأقطار المجاورة

٢٧٧

بأمرها ، وتسير معها الى الغاية التي هي تنشدها من رد عادية الصليبيين. وكان في حذقه بسياسته كما قيل يستخدم الفضائل والرذائل في الناس كما تستخدم الطبيعة فضول الأغذية فتجعلها في أشياء تنتفع بها. ولقد أوقف طغتكين سير الصليبيين عن التوغل في أحشاء المملكة ، وقصر حكمهم على الساحل وعلى أنطاكية والقدس وطبرية ، ولو لا قيامه ذاك القيام المحمود لفتح الصليبيون دمشق وحلب ، وكثيرا ما كانوا يغزون ربضهما وضاحيتهما ، واكتفى المسلمون والفرنج بإضعاف قوى بعضهم بعضا تارة ، وعقد المهادنات طورا ، ولم تسفّ دمشق الى دفع الغرامات للصليبيين على عهد طغتكين معتبرة نفسها الأم والعاصمة أكثر من غيرها من حواضر الشام ، ولو أخذت دمشق لاستصفي الشام كله ولا نقطع ما بين مصر وهذا القطر من الاتصال ، وصعب بعد ذلك إخراج الفرنج منه ، فبقاء الرابطة مع مصر من البر ومن البحر الى أن سقطت صور ، حصر الفرنج في بقعة معينة لا تتعدى الطريق الى بيت المقدس عن طريق الساحل.

ولو كان جميع أمراء الشام على مثل سيرة طغتكين ، لخفت وطأة الفرنج كثيرا في هذه الثلاثين سنة ، وماذا يرجى من خير الأمراء إذا كان صاحب بعلبك يطلعهم على عورات المسلمين ، وصاحب أفامية يقطع السابلة وابنه يحث الفرنج على قصد بلد أبيه ، وصاحب حمص يشارك قطاع الطريق وكذلك ابنه خير خان ، وبأمثال هذه الطبقة لا تخلص الرعية ويتعذر سوق القوم الى طريق الخير ، وهم لا يزالون مختلفين لأنهم يرون من عملهم أن يستعبدوا من صاروا إليهم وينعموا ولو بإهلاكهم ، لا أن يحافظوا على ملك ويدافعوا عن ذمار. ولذلك كان ظهير الدين بسياستة الحسنة مع ملوك الأطراف المرجع في الشام ، أطلق الخليفة العباسي يده فيه منذ سنة ٥٠٩ حربا وخراجا ، وجعل ارتفاعه على إيثاره واختياره ، لما بان من حسن بلائه وجميل سيرته في رعيته. على حين بدلت حلب عدة ملوك خلال دوره ، وكان بعضهم يتنازعون ويتفاشلون ويتقاتلون.

كانت أخبار المسلمين تصل الى الفرنج بسرعة ، والغالب أن هؤلاء برعوا في التقاط الأخبار أكثر من الذين نزلوا عليهم ، فكان الفرنج عند ما

٢٧٨

يبلغهم حادث في المسلمين يغيرون خططهم الحربية ، وبالطبع كانوا يستخدمون لذلك أناسا من أبناء نحلتهم من الأرمن وغيرهم ، وربما كان للمسلمين أيضا شأن في ذلك طمعا في مال أو انتقاما من سلطان ، ولعل الصليبيين وفقوا الى إمساك بعض ما كان ملوك الطوائف ، يطيرونه من حمام الزاجل ، ويحلون البطائق الصادرة عن بعض الأمراء والقواد ، فتنكشف لهم أسرار خصومهم. فقد ذكر المؤرخون أن صاحب أنطاكية الصليبي أرسل الى عز الدين مسعود صاحب حلب يخبره بقتل والده قسيم الدولة آق سنقر البرسقي صاحب الموصل بيد الباطنية قبل أن يصل إليه الخبر ، وكان قد سمعه الفرنج قبل لشدة عنايتهم بمعرفة الأحوال الإسلامية.

مؤاخذة الفاطميين وتوقيف سير الفرنج :

ولقد آخذ المؤرخون الدولة الفاطمية على تهاونها في الغزو والجهاد حتى روى ابن تغري بردي ، أن الآمر كان يتناهى في العظمة ويتقاعد عن الجهاد ، حتى استولت الفرنج على غالب السواحل وحصونها في أيامه ، ولئن كان وقع لأبيه المستعلي أيضا فأخذ القدس في أيامه ، فإنه اهتم لقتال الفرنج وأرسل بدرا الجمالي بالعساكر فوصلوا بعد فوات الوقت أما الآمر فإنه لم ينهض لقتال الفرنج البتة ، وإن كان أرسل مع الأسطول عسكرا فهو كلا شيء. قال : ولم ينهض أحد من المصريين لقتال الفرنج لما دخلوا الشام ، فعلمت الفرنج ضعف من بمصر ، وظهر عدم اكتراث أهل مصر بالفرنج من كل وجه. الأول من تقاعدهم عن المسير في هذه المدة الطويلة ، والثاني لضعف العسكر الذي أرسلوه مع أسطول مصر ، ولو كان لعسكر الأسطول قوة لدفع الفرنج عن البحر ، والثالث عدم خروج الوزير الأفضل بالعساكر المصرية كما كان فعل والده بدر الجمالي في أوائل الأمر ، هذا مع قوتهم من العساكر والأموال والأسلحة.

ويغلب على الظن أن الفاطميين دهشوا لغزو الفرنج الشام ولم يريدوا أن يثيروا حفائظهم لئلا يحصروا وكدهم بفتح دار ملكهم ، وفتح مصر أسهل من الشام ، لأنها سهول ليس فيها حصون طبيعية ، وأفضل للبيت

٢٧٩

العلوي أن تبقى له الديار المصرية ولو ذهب الشام بما فيه ، ولذلك كان الفاطميون ينجدون الشام في الأحايين لأول عهد دخول الفرنج إليه إنجادا ضعيفا ، وأكثر نجداتهم وحملاتهم لم تثمر الثمرة المطلوبة بل خففت جزءا صغيرا من الشر مدة ، وقوّى ذلك قلوب بعض أهل الأرجاء المحصورة ، ونفّس خناقهم ، وأوهمهم أن وراءهم قوة الفاطميين عند مسيس الحاجة يستصرخون بها فتنجدهم. والحقيقة أن الفاطميين على قوتهم من العدد والعدد لم يستطيعوا أن يذبوا حقيقة عن عسقلان ، ولا عن صور وصيدا وبيروت وطرابلس دع الأصقاع الأخرى ، وإذا عرفنا أن الدولة الفاطمية كانت في أواخر أيام ضعفها هان علينا أن لا نطلب منها أن تعمل عمل الشباب.

وقد أنجدت الدول المجاورة الشام نجدات مهمة على بعد المدى وقلة المواصلات. وأبلى جند التركمان والأكراد مع عرب الشام والموصل البلاء الحسن في هذه السبيل ، ولكن كانت القوى الصليبية عظيمة جدا لا قبل لهم بدفعها ، فكان موقف المسلمين على الأغلب موقف المدافع لا المهاجم ، وكان لأمراء التركمان في هذا الدور غيرة شديدة في الجهاد ، ولم يكن داخلهم الفساد الذي يدخل على البيوت والدول ، ولو كانت الآراء متجهة الى مقصد واحد لاستطاع المسلمون أن يدفعوا الفرنج عن هذا القطر على كثرة جيوشهم الجرارة قبل أن يتأصلوا فيه ، ويطلعوا على مبلغ قوات أمرائه ، ويتعلموا بحكم المجاورة ما كان ينقصهم من أصول الحرب ، وبعض الصناعات وأعمال المدنية التي وجدوها في الشام يومئذ على حصة موفورة ، فاقتبسوها ونقلوها بعد الى أممهم غنيمة نافعة من الشرق.

وقد حرص الفرنج أن يستولوا على قرى حلب والبقاع وحوران والسواد والبلقاء في الأكثر ليتقووا بغلاتها لأن معظم القرى في فلسطين كانت ساحات حرب لا تقوم بإطعام جيوشهم. وكان الفرسان في حصون الفرنج يملكون القرى ويجبون الأموال من أهلها الأصليين ، ويسلبون قوافل المسلمين. وفي التاريخ العام : «كانت الحرب في الشرق كما هي في الغرب تجارة رابحة ، يقوم فرسان الفرنج ويغزون أرض المسلمين ، وينهبون

٢٨٠