خطط الشام - ج ١

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ١

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٨

تتش قد تأهب لقصده فرحل عنها ، والتقى عسكره وعسكر تاج الدولة في موضع يعرف بعين سيلم على ثلاثة أميال من حلب ، فكسر جيش تاج الدولة عسكر سليمان وقتل هذا في الهزيمة وملك تاج الدولة عسكره وسواده ونزل على حلب فتسلمها. ثم وصل ملكشاه وانهزم أخوه تاج الدولة من حلب وملكها ملكشاه مع أنطاكية. أي إن سليمان بن قتلمش أحد عمال السلطان ملكشاه السلجوقي ، قتل بأمر مولاه مسلم بن قريش ليأخذ بلاده ، فقام تتش أخو ملكشاه فقتل سليمان ، ثم قام تتش يريد الاستئثار بالملك دون أخيه ، وقد فاته أن ملكشاه تهتز الدنيا من جيوشه ، وأخوه في الشام لا يخرج عن كونه واليا من ولاته ، والغالب أن تاج الدولة عرف هذا من نفسه فلم يسعه إلا أن يخدم أخاه.

ولما نزل ملكشاه بحلب دخل ابن منقذ صاحب شيزر في طاعته ، وسلم إليه اللاذقية وكفر طاب وأفامية ، فأقره السلطان على شيزر وسلم حلب الى قسيم الدولة آق سنقر جد البيت الأتابكي أصحاب الموصل والشام ، ووالد عماد الدين زنكي ، وجد نور الدين محمود بن زنكي. ولما استقر آق سنقر في حلب وأعمالها بسط العدل في أهلها ، وحمى السابلة وتتبع المفسدين وأبادهم. وكان ملكشاه في سنة ٤٧٩ ملك حران وقلعة جعبر على الفرات ، ثم ملك منبج وحلب ، أما دمشق فكانت بيد تاج الدولة تتش منذ سنة ٤٧١ أقطعه إياها أخوه السلطان ملكشاه مع ما يفتحه من بلاد الخليفة العلوي. وكانت جيوش الفاطميين تغزو بعض المدن الساحلية وتستردها من التركمان أحيانا ، وسلطة الفاطميين تتقلص اللهم إلا من فلسطين ، فإنهم بعد أتسز الخوارزمي أخذوا يستردونها وخرج (٤٧٨) أمير الجيوش بدر الجمالي بجيوش مصر فحصر دمشق وبها تاج الدولة تتش وضيق عليه فلم يظفر بشيء فارتحل عائدا الى مصر.

تنازع السلجوقيين والفاطميين وانقسام السلجوقيين :

لم ينقطع أمل الفاطميين من ملك الشام بعد أن قطعت خطبتهم من أهم

٢٤١

مدنها مرات ثم عادت إليها ، وبعثوا سنة ٤٨٢ جيشا قصد الساحل وفتح ثغر صور ، وكان تغلب عليها ابن أبي عقيل وامتنع عليهم ومات فوليها أولاده ودخلوا تحت راية تاج الدولة تتش ، فلما حصرهم عسكر المصريين سلموها إليهم ، ثم فتح الجيش الفاطمي صيدا وعكا وجبيل.

ونزل تاج الدولة (٤٨٣) على حمص ومعه آق سنقر وبزان وفيها خلف بن ملاعب الكناني ، فضايقوها الى أن ملكوها بالأمان. وخرج ابن ملاعب وسافر الى مصر ، ثم عاد وأعمل الحيلة حتى ملك حصن أفامية ، واستخلصه منه قسيم الدولة آق سنقر في السنة التالية. وقيل : إن القتال كان على بعلبك وإن من حاربوا خلف ابن ملاعب قالوا له : أنت خطبت للمستنصر العلوي ، فلما أخافوه طلب الأمان.

وفي سنة ٤٨٤ فتح تاج الدولة عرقة وقلعة أفامية ، ثم سار الى طرابلس فحصرها وبها صاحبها ابن عمار ابن أخي القاضي أبي طالب بن عمار قاضي طرابلس والمتغلب عليها ، وكان معه آق سنقر وبزان ونصب عليها المجانيق. فاحتج عليهم ابن عمار بأن معه منشور السلطان ملكشاه بإقراره على طرابلس فلم يقبل منه تتش ذلك وتوقف آق سنقر عن قتاله فقال له تتش : أنت تبع لي فكيف تخالفني؟ فقال : أنا تبع لك إلا في عصيان السلطان. فغضب تتش ورجع الى دمشق. وذكر ابن الأثير : أن ابن عمار لما رأى جيشا لا يدفع إلا بحيلة أرسل الى الأمراء الذين مع تاج الدولة وأطمعهم ليصلحوا حاله ، فلم ير فيهم مطمعا ، وكان مع آق سنقر وزير له اسمه زر بن كمر فراسله ابن عمار فرأى عنده لينا ، فأتحفه وأعطاه فسعى مع صاحبه آق سنقر في إصلاح حاله ليدفع عنه ، وحمل له ثلاثين ألف دينار وتحفا بمثلها ، وعرض عليه المناشير التي بيده من السلطان.

وفي سنة ٤٨٦ خرج من مصر عسكر كثير الى صور لما عصى واليها منير الدولة ، وكان أهل صور أنكروا عصيانه فحين اشتد القتال نادوا بشعار المستنصر بالله العلوي ، فهجم العسكر المصري على البلد وأخذها ، وفرض على أهلها ستين ألف دينار ، وفي هذه السنة تحرك تتش من دمشق لطلب السلطنة بعد موت أخيه ملكشاه الذي توفي في السنة الماضية ، واتفق

٢٤٢

معه آق سنقر صاحب حلب ، وباغي سيان صاحب أنطاكية ، وبزان صاحب الرّها ، وسار معه آق سنقر فافتتح نصيبين والموصل وديار بكر ، وسار الى أذربيجان ، وكان بركيارق بن ملكشاه قد استولى على جانب كثير منها ، فلما رأى آق سنقر ذلك تخلف عن معاونة تتش وقال : نحن إنما أطعنا تتش لعدم قيام أحد من أولاد السلطان ملكشاه ، أما إذا كان بركيارق بن السلطان قد تملك فلا نكون مع غيره. وخلى آق سنقر تتش ولحق ببركيارق فضعف تتش لذلك ، وعاد من أذربيجان الى الشام وأخذ في جمع العساكر وكثرت جموعه (٤٨٧) وجمع آق سنقر العسكر بحلب ، وأمده الأمير بركيارق بالأمير كربغا صاحب الموصل ، فاجتمع كربغا مع آق سنقر ، والتقوا مع تتش عند نهر سبعين على ستة فراسخ من حلب واقتتلوا ، فخامر بعض عسكر آق سنقر مع تتش وانهزم الباقون ، وثبت آق سنقر فأخذ أسيرا وأحضر الى تتش فقال تتش لآق سنقر : لو ظفرت بي ما كنت صنعت ، قال : كنت أقتلك ، قال تتش : فأنا أحكم عليك بما تحكم عليّ به. فقتل آق سنقر وسائر أصحابه صبرا ، وسار تتش الى حلب فملكها.

ورحل تاج الدولة عن حلب بعد أن ملكها وحصونها الى الفرات ، واستولى على حران وسروج والرّها وكاتب ولده فخر الملوك رضوان بدمشق يأمره بالمسير إليه في من بقي من الأجناد في الشام ، فسار الى حلب ومنها الى العراق فالري ، واستصحب معه جماعة من أمراء العرب وأتراك حلب القسيمية، نسبةلقسيم الدولة آق سنقر ، فجرت وقعة بين السلطان بركيارق بن ملكشاه وبين عمه تاج الدولة تتش على عانة من عمل الجزيرة ، فانفلّ عسكر هذا وتفرق ونهب سواده ، وأسر أكثر جنده وقتل منه خلق كثير. واغتال بعض أصحاب آق سنقر تاج الدولة تتش فقضى عليه. ولما بلغ الخبر فخر الملوك رضوان في دمشق ما تم على أبيه تاج الدولة أغذّ السير الى حلب ففتحت له أبوابها ، ووصل إليه أخوه شمس الملوك دقاق من ديار بكر ، وراسله الأمير ساوتكين الخادم المستناب في قلعة حلب والبلد ، وقرر له ملك دمشق سرا ، فخرج في الحال من حلب ، وجلس على سرير أبيه في دمشق ، واستقام له الأمر واستمرت على السداد

٢٤٣

الأحوال. وفي سنة ٤٩٠ قدم على الأفضل بمصر رسل فخر الملوك رضوان بن تتش صاحب أنطاكية ، يبذل له الطاعة في إقامة خطبة المستعلي بالشام ، فأجيب بالشكر والثناء وخطب للمستعلي.

تطال تتش الى ملك أخيه ملكشاه فصده عنه ابنه بركيارق وقتله. وقتل تتش آق سنقر لأنه لم يوافقه على رغائبه من نزع الملك السلجوقي من ابن ملكشاه ، وحنق تتش على آق سنقر منذ قال له يوم طرابلس وهو يريده على قتال صاحبها : نحن نطيعك إلا في عصيان السلطان. فقتل آق سنقر وجوزي تتش بأن قام من صنائع قتيله من يأخذ بثأره فقتله أيضا. واستراح آل ملكشاه من تصدي تتش للملك وهو الذي لم يقنع بملك الشام ، وكان فيه الملك الأعظم بعد مقتل آق سنقر. وتصرفت الأقدار بأن تتسلم زمام الأمر في هذا القطر ذرية تاج الدولة تتش ، ريثما ينتقل منها الحكم الى مملوك آخر اسمه طغتكين ، وهو يسلمه الى حفيد آق سنقر نور الدين محمود بن زنكي.

الدولة الأتابكية وطغتكين وبنو أرتق :

كان آق سنقر وبزان صاحبا حلب وأنطاكية من مماليك السلطان ملكشاه ، وكان من أمرهما في الغناء والوفاء ما كان في الشام حتى مضيا لسبيلهما. ثم قام مملوك آخر طالت مدته أكثر منهما وكان له في الدولة بالشام اليد الطولى والكعب المعلى ، ونعني به أبا منصور ظهير الدين أتابك طغتكين ، من مماليك تاج الدولة تتش بن آلب أرسلان ملك الشام ، ومعنى أتابك مربي أولاد الملك أو قائد الجيوش. قال ابن القلانسي : حظي هذا الأمير وهو في حداثة سنه عند السلطان تاج الدولة فقدمه على أبناء جنسه من خواصه وبطانته ، وسكن الى شهامته وصرامته ، وسداد طريقته ، فجعله مقدم عسكره ، واستنابه في تدبير أمر دمشق ، وحفظها أيام غيبته ، فأحسن السير فيها ، وأنصف الرعية من أهلها ، وبسط المعدلة في كافة من بها ، فكثر الدعاء له والثناء عليه ، فعلت منزلته وامتثلت أوامره ، ولم يلبث أن شاع ذكره بنجابته ، وأشفقت

٢٤٤

النفوس من هيبته ، فولاه ميافارقين وديار بكر وهي أول ولايته ؛ وسلم إليه ولده شمس الملوك دقاق واعتمد عليه في تربيته وكفالته ، فساس أمرها بالهيبة والتدبير ، وأصلح فاسدها وقوّم منآدها.

قال : وتنقلت به الأحوال الى أن توجه مع تاج الدولة الى الري وشهد الوقعة التي استشهد فيها تاج الدولة ، وحصل في قبضة الاعتقال مع من أسر من المقدمين ، وأقام مدة الى أن أفرج عنه (٤٨٨) فتلقاه شمس الدولة دقاق (بدمشق) وعسكره وأرباب دولته ، وبولغ في إكرامه واحترامه ، ورد إليه النظر في قيادة الجند ، واعتمد عليه في تدبير المملكة ، وسياسة البيضة ، واقتضت الحال فيما بينه وبين الملك وأمراء الدولة العمل على الأمير ساوتكين والإيقاع به ، وتمم عليه الأمر وقتل ، وعقدت الوصلة بينه وبين ظهير الدين أتابك وبين الخاتون صفوة الملك والدة شمس الملوك دقاق ودخل بها ، واستقامت له الحال بدمشق وأحسن السيرة فيها ، وأجمل في تدبير أهليها ، وسكنت نفس شمس الملوك إليه اه.

فانظر الى غرائب التوفيق في الأرض كيف ينشأ مملوك ، ربما كانت يد النخاس مرت على رأسه ، يكفل ابن السلطان ويربيه ويتزوج بأمه ويتصرف في ملكه ويدبر أمره ، ثم يصبح بتجاربه وعقله ملكا ترغب الملوك في التقرب منه ، ويخاف العدى بأسه وسطوته ، ويظهر في مظهر من طيب الأخلاق لا يضاهيه من تسلسل فيهم الحكم والملك ، وتنقلوا في السلطان كابرا عن كابر ، لكن هي التربية إذا حسنت أتى صاحبها بالعجائب ، والنفوس إذا صفت جبل الخلق على حبها ، والإرادات متى سلمت استمات الناس دونها ، وبهذا كان الناس ولا يزالون يحكم كبارهم صغارهم ، ويصبح المملوك ملكا مطاعا والمسود الخامل سيدا نابها ، وكم من عصامي أفلح ، ومن عظامي أخفق.

قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه خلق وجيب قميصه مرقوع ومن المماليك الذين حكموا في الشام فأصبحوا ملوكا في هذا الدور أيضا بنو أرتق ، نسبة لجدهم أرتق بن أكسك وقيل أكسب التركماني ومن مماليك ملكشاه بن آلب أرسلان. تغلب أرتق على حلوان والجبل

٢٤٥

وكان منصورا لم يشهد حربا إلا وكان الظفر له ، ثم أمره مولاه ملكشاه سنة ٤٧٧ أن يذهب مع فخر الدولة بن جهير لضبط الموصل ، وبينما كان مسلم بن قريش محصورا في آمد ، راسله أرتق وأخذ منه مالا وافرا وفتح له طريقا سار منه ، فأنهى ابن جهير ذلك الى ملكشاه فخاف أرتق وذهب الى دمشق والتحق بصاحبها تاج الدولة تتش ، وعاونه على الاستيلاء على حلب ، وساعده في كثير من المواقف ، فأقطعه فلسطين ، أخذها من أصحاب أتسز أرتق الخوارزمي (٥٨٤). فلما توفي صارت القدس وعملها لولديه ايلغازي وسقمان ابني أرتق ، حتى خرج عسكر خليفة مصر فاستولوا على القدس بالأمان في سنة ٤٨٩ بعد أن بقيت في حكم الأرتقية ثلاث عشرة سنة وأياما. وسار سقمان وأخوه إيلغازي من القدس فاجتاز سقمان بدمشق وكان صاحبها متغيبا عنها فقاتله أهلها ومن فيها من الأجناد.

وفي سنة ٤٩٠ برز الملك رضوان صاحب حلب وياغي سيان صاحب أنطاكية الى ناحية شيزر وعزما على معاودة دمشق لفتحها ، فوقع الخلف بين مقدمي العسكر فرجع ملك حلب ، وورد عليه كتاب المستعلي بالله الفاطمي يريده على الدخول في طاعته ، وإقامة الدعوة لدولته ، وكذلك كتاب الأفضل يتضمن مثل ذلك ، فأجابهما الى ما التمساه وأمر أن يدعى للمستعلي على المنبر وللأفضل بعده ، ثم يدعى له بعدهما ، ودامت الخطبة على ذلك أربع جمع. وكان الملك رضوان قد بنى الأمر في ذلك على الاجتماع مع العسكر المصري والنزول على دمشق لأخذها من أخيه الملك دقاق. فأنكر سقمان بن أرتق وياغي سيان على الملك الدخول في الأمر ، واستبدعاه من فعله ، وأشارا عليه بإبطاله واطراح العمل به ، فقبل ما أشير عليه وأعاد الخطب الى ما كانت عليه أي للعباسيين. وجرى الاتفاق على أن يخطب في دمشق لرضوان قبل أخيه دقاق ، وذلك بعد أن يخطب للخليفة ثمّ للسلطان ، وفي هذه السنة خرج العسكر من مصر ونزل على صور بعصيان واليه المعروف بالكتيلة ، ولم يزل منازلها الى أن فتحها بالسيف قهرا وقتل فيها خلق كثير ، ونهب منها المال الجزيل ، وأخذ الوالي فقتل.

٢٤٦

الحروب الصليبية

«من سنة ٤٩٠ ـ ٥٠٠»

الحملة الصليبية الأولى :

لم يخل الجو لملوك التركمان السلاجقة وأتباعهم في الشام زمنا طويلا بعد مقتل مسلم بن قريش العربي ، فكانت المدة بين مقتله وورود الأخبار بخروج عسكر الصليبيين الى الأرض المقدسة ثلاث عشرة سنة كما مضى مثل هذا العدد من السنين بين استيلاء أول تركي واستيلاء أول أفرنجي. وكان القطر خلال ذلك في هرج ومرج ، يتطاحن أمراؤه يمزق بعضهم بعضا. تتعاوره أيدي ملكشاه وأخيه تتش بن آلب أرسلان ثم أولاده رضوان ودقاق والمماليك آق سنقر وبزان وطغتكين وأولاد أرتق ايلغازي وسقمان ، والسلاجقة هنا يميلون الى الخلافة العباسية ، وإذا رأى بعضهم القوة لأصحاب الخلافة المصرية يغمضون الطرف عنهم ، والفاطميون لا يملكون غير بعض الساحل ، وأصبح القطر للتركمان ، ويصعب على عرب الجزيرة إنجاده لبعد المسافات ، وبغداد مهد العرب مشتغلة بنفسها.

ربما كان في استيلاء التركمان على الشام خير لم تعرف حكمته إلا بعد حين ، وهو قيام دولة فتية لها جيش جرار اشتهر بالشجاعة حتى قيل : إن آلب أرسلان لما جاء المرة الأولى الى شمالي الشام كان في أربعمائة ألف مقاتل ، ومثل هذا الجيش لا تستطيع العراق والشام والجزيرة أن تجنده لدفع جيوش الفرنج الجرارة ، هذا على فرض أن قواها موحدة ، وروحها

٢٤٧

في الدفاع واحد ، فالشام إذا اعتز بالتركمان. ثم إن السلجوقيين كانت بأيديهم الدروب أو المنافذ الى آسيا الصغرى أو طريق الإفرنج من أوروبا الى الشام على طريق البر ، فتولي دولة التركمان القيادة العامة جمع بالطبيعة حولهم العرب من سكان هذه الديار وما إليها. إن حكم التركمان الشديد عجل على ما يظهر في خروج الصليبيين الى الشام. وإليك البيان :

أثخن بنو سلجوق أصحاب آسيا الصغرى في جيش صاحب قسطنطينية بإيعاز السلطان ملكشاه ، وضايق الأمير برسق الروم ، حتى قرر على القسطنطينية في كل سنة حمل ثلاثمائة ألف دينار للسلطان ، وثلاثين ألف دينار له ، جزية يؤديها ، فخاف ملك القسطنطينية كثيرا على مملكته من هجوم المسلمين ، فكتب يستنهض ملوك أوروبا أن يأتوا لمساعدته ، ورضي بطريرك القسطنطينية بأن يقدم خضوعه لبابا رومية ، إذا كانت ممالك أوروبا تجهز جيشا لتخليص المملكة اليونانية مما يتهددها من هجوم التركمان والمسلمين ، فكاتب ملوك أوروبا بذلك.

قال صالح بن يحيى في سبب استيلاء الصليبيين على ديار المسلمين : إنه لما قويت دولة بني سلجوق ضعفت حال الخلافة ببغداد ، فلما مات ملكشاه السلجوقي سنة خمس وثمانين وأربعمائة وقع الخلف بين ولديه محمد وبركيارق ، ودام الحرب بينهما نحو اثنتي عشرة سنة فاضطربت ممالك الشرق لذلك ، ووافق هذا خلافة الآمر بأحكام الله بمصر وكان صغيرا ، ولما كبر كان مستهترا بالمملكة فخلا للصليبيين الجو.

وفي التاريخ العام أن حجاج النصارى كانوا يرمون الى أخذ القبر المقدس من أيدي المسلمين ، وإن كان هؤلاء يتركونهم وشأنهم يقومون بعبادتهم بسلام ، ولكن كان يتراءى للنصارى أن سيدهم المسيح يرضى عن عملهم إذا أنقذوا قبره من غير المؤمنين بدينه. وروى بعض المؤرخين أن الفاطميين هم الذين فاوضوا الصليبيين وأرادوهم على غزو الشام لينجوا من السلجوقيين الذين كانت قويت دولتهم. وهذا مما يستبعد ، وإن كان العقل لا يستبعد شيئا في السياسة ، ولكن ظهر أن الفاطميين حاولوا غير مرة رد الصليبيين عن الساحل وعن فلسطين.

٢٤٨

واتفق أن بعض زوار الأوروبيين في الأرض المقدسة شاهدوا شيئا من العنف في بيت المقدس لم يكن لهم عهد به في أدوار الحكومات العربية القوية ، وانقلبت سماحة العرب بجفاء من خلفوهم من التركمان ، فعاد الزوار الى ممالكهم يقصون ما لقوا من الشدة في الشام ويعظمون الأمر ، وكان التعصب الديني يومئذ على أشد حالاته في الغرب ، ومعظم حكوماته تدين بدين البابا وتخضع لسلطانه القاهر ، ولم يكن ظهر إذ ذاك المذهب الإنجيلي ، وكان مذهب الروم الأرثوذكس آخذا بالضعف ليس له روابط الكنيسة البابوية ولا سلطتها على الأرواح والأشباح ، فأوعز البابا الى أمم النصرانية في الغرب ليهبوا كلهم الي إنقاذ القبر المقدس من أيدي المسلمين. وقد ذكر أهل الأخبار من الأوروبيين في تعليل الحروب الصليبية ، أن المسيحيين والمسلمين كانوا حتى القرن الحادي عشر للميلاد على صلات سلمية إلا قليلا، يحمل العرب الى مصر والقسطنطينية حاصلات مختلفة من بلاد الهند والشرق الأقصى ، فتستبضعها من المدن الإيطالية باري وبيزة وجنوة وأمالفي والبندقية فيبيعونها في أوروبا. وكان العرب يسمحون للزوار أن يأتوا زرافات الى فلسطين ، فيشخص إليها جماهير عظيمة من عامة نصارى الغرب يسجدون أمام القبر المقدس. وتضاعفت الحماسة الدينية في ذاك الزمن وتداعى الحكم العربي القائم على التسامح في قارة آسيا ، وقام مقامه المحاربون من الترك المعروفين بتعصبهم وبسالتهم. فاستولى السلجوقيون على أرمينية والشام ونيقية ودانت لهم في سنة (٤٦٩ ه‍ ١٠٧٦ م) القدس فاختلت العلائق الاقتصادية بين آسيا وأوروبا ، وخافت المدن التجارية في البحر المتوسط أن يغلق الأتراك أمامها أسواق الشرق.

نعم نشأت الحملة الصليبية الأولى من الحماسة الدينية بصنع البابوية التي كانت إذ ذاك الحاكمة المتحكمة في كل شيء. ولقد تأثر البابا أوربانوس الثاني بشكاوي الزوار القادمين من فلسطين. وقلق للارتقاء المخوف الذي بلغه المسلمون في الأندلس ، ولا سيما عقبى وقعة الزلاقة سنة (٤٨٠ ه‍ ١٠٨٧ م) وقد أثبت العرب فيها كفاءتهم الحربية ، كما أثبتوا من قبل ومن بعد كفاءتهم المدنية ، واغتنم فرصة اجتماع المجمع الديني العظيم الذي التأم في مدينة

٢٤٩

كلرمون وحضره ألوف من الفرسان ، ليحرض المؤمنين من النصارى على حمل الصليب لفتح القبر المقدس. فوعد جمهور كبير من جميع طبقات الشعوب أن يرحلوا الى فلسطين. واتخذوا شعار الحملة الصليبية صليبا من القماش الأحمر يجعل على الكتف الأيمن. وكثر المشتركون بهذه الحملة في ايطاليا وانكلترا ولا سيما في فرنسا. ومنحهم البابا غفرانا عن جميع خطاياهم ، وشجب كل من يمس أموالهم مدة سفرهم. ولم ينتظر العامة ريثما تجمع الجيوش المتحدة التي أبطأ تنظيمها ، بل سافروا بدون سلاح ، غير آخذين بالحزم في التأهب للرحلة. وكان هذا شأن عصابات البائسين الذين جمعهم بطرس الراهب وغوتيه المعدم (سانزافور) ومن لم يهلك من هذه العصابات في الطريق أهلكه الترك.

وفي أواخر سنة (٤٩٠ ه‍ ١٠٩٦ م) اجتمع في القسطنطينية أربعة جيوش متحالفة من اللورين والألمان بقيادة بودوين دي هينو ، وفرنسيين من الشمال بقيادة القومس فرماندوا ودوق نورمنديا ، وبرفنسيون بقيادة قومس طولوز ، ونورميون من إيطاليا بزعامة بوهيموند دي ترانت وتنكري (١) ولم يكن مع هذه الأمم ملك من ملوكهم ، ولم يتفق رأي الغزاة على نصب ملك يرتضونه ويرجعون إليه. وكان الأمير الكسيس كومنين (ملك الروم) يرجو استخدام الجيوش الصليبية لفتح آسيا الصغرى ، واسترجاعها من أيدي المسلمين ، فصانعوه ولكن ما لبث البيزنطيون واللاتين أن تباغضوا واحتقر بعضهم بعضا. وبعد سنتين ونصف مضت في المصائب الهائلة والجدال العنيف ، استولى الصليبيون في طريقهم على نيقية لحساب الإمبراطور ، وكسروا جيش سليمان في دوريليوم (أسكيشهر) واستولوا على الرّها (١٠٩٧) وعلى أنطاكية (١٠٩٨) وبلغوا القدس واستولوا عليها (٤٩٢ ه‍ ١٠٩٩ م). وربما هلك في هذه الحملة نصف مليون من

__________________

(١) أخذنا بمصطلح مؤرخي العرب في أعلام الصليبيين فنقول : بغدوين بدلا من بودوين (Baudouin) وتنكري عوضا عن تنكريد (Tancrede) وكدفري بدلا من كودفروا (Godefroy).

٢٥٠

الرجال حتى تهيأ للصليبيين أن ينشئوا أربع إمارات : إمارة القدس وإمارة أنطاكية وإمارة الرها وإمارة طرابلس ، قسمت أقطاعا على الفرسان الغربيين. أما المدن الكبرى في الساحل الشامي فقسمت مستعمرات أوروبية أنشأت فيها مارسيليا والمدن الإيطالية أحياء برمتها.

وبذا رأينا أنه دعا الى الحملات الصليبية تعصب أوروبا الديني ، وحب الغارة والتجارة ، والأسباب التي دعت إليها واهية لا محالة. قال أحد كتاب روسيا : كان في الإمكان اجتناب وقوع الحروب الصليبية ، وساعد على حدوثها الجهل والأوهام الدينية والسياسية ومصلحة البابوية. وكم من أحزان وآلام وجرائم جديدة كان يمكن أن تتوفر على الإنسانية لو لم يوقف شارل مارتل العرب سنة ١١٠ للهجرة فإن المدنية الزاهرة التي كان يحملها أولئك الذين دعاهم الصليبيون في حال سخطهم وبغضهم بأبناء إسماعيل (Sarrasins) عبدة الأصنام والكفار والوثنيين ، كانت هذه المدنية تؤثر في أوروبا الغربية وتعمل عملها في المدنية الفرنجية والرومانية.

الصليبيون في شمالي الشام :

هذا ما كان من جهة الغرب وسر الحملة الصليبية الأولى على هذا الجزء الصغير من الشرق ، ولو كانت كلمة القابضين إذ ذاك على زمام الأمر في آسيا الصغرى وأرض الشام متحدة ، وحكوماتهم قوية منظمة ، لتعذر كل التعذر على الصليبيين أن يزحفوا على أنطاكية ، ثم يسير جيشهم حتى يأخذ الساحل ويبلغ البيت المقدس على كثرة عدده ، فقد قيل : إن الحملة الأولى كانت مليون محارب ومحاربة ، لأن بعض الصليبيين كانوا يصحبون معهم أزواجهم وأولادهم. وفي رواية ميشو أن الحملة الأولى كانت ستمائة ألف محارب على حين كان جيش الإسكندر الذي فتح به آسيا ثلاثين ألفا فقط. ومع هذا فإن الشام كان في ذاك العهد بحالة من تجزؤ الحكم بحيث لا تستطيع أن تجهز نصف جيش الفرنج ، وهي تحتاج الى حاميات عظيمة في الثغور والحصون والمدن الكثيرة. وكان المسلمون إذ ذاك كنصارى الأوروبيين مشتتة أهواؤهم غير منظمة قواهم. ومع

٢٥١

هذا فقد روى مؤرخونا أن الأخبار لما وصلت سنة ٤٩٠ ه‍ الى الشام بظهور عسكر الفرنج من بحر القسطنطينية في عالم لا يحصى عدده كثرة ، شرع الملك داود بن سليمان بن قتلمش، وكان أقرب إليهم دارا في الجمع والاحتشاد ، واستدعى التركمان فوافاه منهم مع عسكر أخيه العدد الكثير وعادوا إليه ، واستظهروا عليه ، وكسروا عسكره فقتلوا منهم وأسروا ، ونهبوا وسبوا ، وانهزم التركمان واشترى ملك الروم من السبي خلقا كثيرا وحملهم الى القسطنطينية.

ولما اتصلت هذه الأنباء بأمراء الشام ، قرّ رأي أصحاب أنطاكية وحلب ودمشق وغيرهم من صغار الأمراء على الاستصراخ والاستنجاد ، وتحصين أنطاكية وإخراج النصارى منها ، ولم تلبث عساكر الفرنج ان نزلت على حصن بغراس وأعادوا الكرة على أعمال أنطاكية فعصى من كان في الحصون والمعاقل المجاورة لها ، وقتلوا من كان فيها وهرب من هرب منها ، وفعل أهل حصن ارتاح مثل ذلك واستدعوا المدد من الفرنج. وكان نهض من عسكر الفرنج فريق يناهز الثلاثين ألفا فعاثوا في الأطراف ووصلوا الى حصن البارة وفتكوا بأهله ، وكان عسكر دمشق وصل الى ناحية شيزر لإنجاد ياغي سيان ، فقتل الفرنج منهم جماعة ، وعاد الفرنج الى الروج بين حلب والمعرة ، وتوجهوا الى أنطاكية وجعلوا بينهم وبينها خندقا لكثرة الغارات عليهم من عسكرها.

وكان الفرنج عند ظهورهم عاهدوا ملك الروم ووعدوه بأن يسلموا اليه أول بلد يفتحونه ، ففتحوا نيقية فلم يسلموها اليه على الشروط المقررة ، وافتتحوا في طريقهم بعض الثغور والدروب وفتحوا الرّها وما إليها وجاءوا أنطاكية فحاصروها تسعة أشهر حتى واطأهم قوم من الزرادين ومنهم أرمن على تسليم أنطاكية اليهم ، وذلك لإساءة صدرت من صاحبها ياغي سيان الى الأرمن فصادرهم وأرهقهم ، ووجدوا الفرصة في برج من أبراج البلد مما يلي الجبل فباعوه من الفرنج وأطلعوهم الى البلد منه. فانهزم ياغي سيان بعد أن ظهر من شجاعته وجودة رأيه وحزمه واحتياطه ما لم يشاهد من غيره ، وخرج في خلق عظيم فلم يسلم منهم شخص ، ولما حصل بالقرب

٢٥٢

من أرمناز قرب معرة مصرين سقط عن فرسه فمات. وقد قتل في أنطاكية وأسر وسبي من الرجال والنسوان والأطفال خلق كثير.

ولما سقطت أنطاكية عادت عساكر الشام فتجمعت ، وحاصر المسلمون أنطاكية حتى عدم القوت منها ، وأكل الفرنج الميتة ، فزحفوا وهم على غاية من الضعف الى عساكر الإسلام ، وهم في الغاية من القوة والكثرة ، فكسروا المسلمين وفرقوا جموعهم. والسبب في هذه الهزيمة أن كربوغا صاحب الموصل كان في عسكره على حصار أنطاكية مع أمراء دمشق وحلب وحمص وغيرهم ، فأساء السيرة فيمن اجتمع معه من الملوك والأمراء وتكبر عليهم ، فخبثت نياتهم على كربوغا فهزمهم عدوهم وهو في ضعف وهم في قوة. قال صاحب التاريخ العام : وكان الجيش الإسلامي الذي دافع عن أنطاكية وأنجد صاحبها مؤلفا من مائتي ألف محارب ، ولو استطاع هذا الجيش أن يصل كله الى أنطاكية لقضى على الصليبيين جملة ، ولم تلبث الحرب أن نشبت بين الصليبيين فاختلف البرفنسيون والنورميون ، حتى إن الفرسان هددوا المتحاربين من الفرنج أن يخربوا المدينة التي كانوا يتنازعون ملكها. وظلت الحرب على أنطاكية أربعة أشهر ففتحت بعد مذبحة هائلة قتل فيها من الفريقين ألوف.

ولما انهزم المسلمون أمام الفرنج على أنطاكية ، سار هؤلاء بجملتهم الى المعرة وضموا إليهم الأرمن الذين كانوا في طاعتهم وبعض النصارى الشاميين ، فاستولوا عليها ووضعوا السيف في أهلها ، وقتلوا منها ما يزيد على مائة ألف إنسان في أكثر الروايات ، وسبوا مثلهم وأقاموا بالمعرة أربعين يوما ، ثم زحفوا عنها بعد أن قتلوا أهلها وقطعوا أشجارها. قال ميشو : إن الفرنج قتلوا جميع من كان في المعرة من المسلمين الذين اعتصموا بالجوامع واختبأوا في السراديب ، فأصبحت خاوية على عروشها ، وفقد الفاتحون كل زاد وساءت حالهم ، ثم وقع الخلاف بينهم وصاروا في رواية يأكلون جثث الموتى ، وهدموا أسوارها وأبراجها ، وأحرقوا المساجد وكسروا المنابر وهدموا الدور ، ثم ساروا الى عرقة وحصروها أربعة أشهر ونقبوا سورها عدة نقوب ، فلم يقدروا عليها ، ثم ساروا الى حمص فصالحهم

٢٥٣

أهلها وراسلهم صاحب شيزر على الصلح وعصت طرابلس عليهم لما بدا من شمم صاحبها ابن عمار واستنجاده بالملوك ، فصالحه صاحب أنطاكية وهاداه على أن يكون للفرنج ظاهر طرابلس ولا يقطع الميرة والمسافرين عنها ، وبهذا تيسر للفرنج أن يحفظوا خط رجعتهم في طريقهم برا الى القدس. وخرجوا على طريق النواقير الى عكا فلم يقدروا عليها.

فتح الصليبيين القدس والساحل :

وبعد فتح الفرنج العرة وغدرهم بأهلها ومن احتمى فيها ، وقطعهم على أهل البلد القطائع التي لم يفوا بشيء مما قرروه فيها ، ومطالبتهم للناس بما لا طاقة لهم به ، رحلوا الى بيت المقدس على طريق الساحل فأجفل الناس ، وكانت حلب على قيد غلوة من خطر استيلاء الفرنج ، ولكنهم أعلنوا يوم وصولهم أنهم لا يقصدون إلا الاستيلاء على ما كان للروم من المدن ، ليصرفوا فكر حكام الشام عن نجدة أهل أنطاكية ، ولكن أمراء الأقاليم لم يصغوا لهذه الدعوة ، ونزل الفرنج بعد أن اجتازوا معظم الثغور على الرملة فملكوها ، وانتقلوا الى بيت المقدس فضيقوا عليه ، فجاءهم الأفضل في العسكر الدثر من مصر للإيقاع بهم وإنجاد البلد ، فشدوا في قتاله ولازموا حربه ، فانهزم الناس وملك الفرنج البلد «ولبث الفرنج يقتلون في المسلمين بالقدس أسبوعا ، وقتل من المسلمين في المسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألف نفس ، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن جاور في ذلك الموضع الشريف ، وغنموا ما لا يقع عليه الإحصاء». وجمع الفرنج اليهود في الكنيسة وأحرقوها عليهم ، وهدموا المساجد وقبر الخليل ، وأحرقوا المصاحف.

قال ميشو : «وقد ارتكب الصليبيون في فتح القدس أنواع التعصب الأعمى الذي لم يسبق له نظير ، حتى شكا من ذلك المنصفون من مؤرخيهم ، فكانوا يكرهون العرب على إلقاء أنفسهم من أعالي البروج والبيوت ويجعلونهم طعاما للنار ، ويخرجونهم من الأقبية وأعماق الأرض ويجرونهم في الساحات ، ويقتلونهم فوق جثث الآدميين. ودام الذبح في المسلمين أسبوعا حتى قتلوا منهم كما اتفق على ذلك مؤرخو الشرق والغرب سبعين

٢٥٤

الف نسمة ، واليهود كالعرب لم ينجوا من الذبح أيضا ، فوضع الصليبيون النار في المذبح الذي لجأ إليه أبناء إسرائيل وأهلكوهم كلهم بالنار».

ذكر ابن خلكان أن الأفضل كان تسلم القدس من سقمان بن أرتق وولى فيه من قبله فلم يكن لمن فيه طاقة بالفرنج فتسلموه منه ، ولو كان في يد الأرتقية لكان أصلح للمسلمين. وكان الأفضل راسل الأمير سقمان وإيلغازي ابني أرتق ليسلماه بيت المقدس بدون حرب فلم يجيباه ، فقاتل البلد ونصب عليها المجانيق وهدم منها جانبا فلم يجدا بدا من الإذعان له فسلماه إليه ، وكان الأمير أتسز بن أوق الخوارزمي انتزع القدس من يد المصريين سنة نيف وستين وأربعمائة قبل ملكه دمشق ، ثم لما كسر بمصر سنة ٤٦٩ قام على أصحابه فئة فأخرجوهم ثم أعاد الدعوة العباسية ، ولم يزل القدس بيده الى أن قتله تاج الدولة تتش بن أرسلان سنة ٤٧٢ ثم انتزعه تاج الدولة سنة ٤٧٤ ثم سلمه الى الأمير ظهير الدين أرتق أواخر سنة ٤٧٨ فعمره وأسكن به ولده ، ولم يزالوا به الى سنة ٤٩١ حتى تسلمه المصريون. وجاء الأفضل وقد فات الأمر فانضاف إليه عساكر الساحل ، ونزل بظاهر عسقلان منتظرا وصول الأسطول في البحر ، فنهض عسكر الفرنج إليه وهجموا عليه في خلق عظيم ، فانهزم العسكر المصري الى ناحية عسقلان ودخل الفرنج إليها ، وتمكنت سيوفهم من المسلمين ، فأتى القتل على الرجالة والمطوعة وأهل البلد ، وكانوا زهاء عشرة آلاف نفس ونهب العسكر الإسلامي ، وتوجه الأفضل في خواصه الى مصر ، وضايقوا عسقلان فقتل من أهلها وغيرهم سوى أجنادها ألفان وخمسمائة نفس.

ولما توغل الصليبيون في الشام ، وكانوا في كل بلد يدخلونه يقتلون أهله ، ويخربون عمرانه ، ويحرقون كتبه ومتاعه وآثاره ، هام الناس على وجوههم في البراري ومنهم من قصد الى داخلية الشام ، ومنهم من فرّ الى مصر على حالة رثة. وفي سنة ٤٨٥ ملك الفرنج ما حول بيت المقدس مثل صور وعكا والرملة ويافا ، أما بقية الساحل كطرابلس وبيروت واللاذقية فبقيت تقاوم الى حدود سنة ٥٠٠ معتصمة وراء أسوارها محصورة في بقعة ضيقه من أرباضها ، معتمدة على معاونة الفاطميين لها من البحر.

٢٥٥

وكان الفرنج أول ما ملكوا من هذه الأرجاء الرّها وما حولها من الحصون الفراتية قبل ملكهم أنطاكية والمعرة. وظلت بيروت في أيدي المسلمين الى سنة ٥٠٣ حتى فتحها بغدوين بعد أن حاصرها حصارا شديدا وقتل من أهلها عالما كثيرا. ودام ملوك الفاطميين ينجدون الساحل والداخل بجنودهم ، ولولاهم لتيسر للفرنج اكتساح هذه الأرجاء بمجرد سير جيوشهم الجرارة ، وحالت أسوار المدن بينهم وبين ما كانوا يؤملون ، وصحت نيات القائمين بالأمر فيها ، ولا سيما في المدن الداخلية ، على الدفاع ، فكانت هجمات العدو يبددها في الغالب دفاع السكان على ضعف قواهم وتشتت أهوائهم ، وموقف المدافع أسهل من موقف المهاجم.

ومن أهم الأحداث بعد دخول الفرنج أنطاكية خروج صاحبها بيمند سنة ٤٩٣ الى حصن أفامية ، فوصل الخبر الى الدانشمند التركماني صاحب ملاطية وسيواس وعسكر قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش صاحب قونية وأقصرا ، فقتل من عسكر الفرنج عددا عظيما ، وحصل بيمند في قبضة الأسر مع نفر من أصحابه ، ونفذت الرسل الى نوابه في أنطاكية يلتمسون تسليمها. قال صاحب الكامل : لم يفلت أحد من الفرنج في هذه الوقعة وكانوا ثلاثمائة ألف غير ثلاثة آلاف هربوا ليلا وأفلتوا مجروحين. ووصل كدفري صاحب بيت المقدس الى عكا ، وأغار عليها فأصابه سهم فقتله ، وكان قد عمر يافا وسلمها الى طنكري ، فلما قتل كدفري سار أخوه بغدوين القمص صاحب الرّها الى بيت المقدس في خمسمائة فارس وراجل ، فجمع صاحبا دمشق وحمص الجموع ولقياه بالقرب من بيروت ، فسارع نحوه صاحب حمص في عسكره فظفر به وقتل بعض أصحابه. وفيها افتتح الفرنج حيفا على ساحل البحر وأرسوف بالأمان وأخرجوا أهلها منها ، وفتحوا قيسارية وقتلوا أهلها ونهبوا ما فيها وأعانهم الجنويون عليها. وكان الجنويون والبيزيون يبعثون كل سنة بمراكب الى ثغور الشام.

وأرسل عبد الله بن صليحة المتغلب على ثغر جبلة الى صاحب دمشق ، يلتمس منه إنفاذ من يراه من ثقاته ليسلم إليه جبلة ، فانتدب ولده تاج الملوك فتسلمها ، وأساء هو وأصحابه الى أهلها وظلموهم ، فشكوا حالهم

٢٥٦

الى ابن عمار صاحب طرابلس فأنهض إليهم عدة وافرة من عسكره ، فدخلت الثغر واجتمعت مع أهله على التركمان فقهروهم وأخرجوهم منه وملكوه ، وحملوا تاج الملوك الى طرابلس فدمشق معززا. وفي رواية أن الفرنج استولوا على جبلة هذه السنة. وفيها خرج من مصر عسكر كثيف مع سعد الدولة المعروف بالقوامسي ووصل الى عسقلان لجهاد الفرنج ورحل عنها ، فنهض من الفرنج ألف فارس وعشرة آلاف راجل والتقى الفريقان فكسرت ميمنة المسلمين واستشهد سعد الدولة وعاد المسلمون على الفرنج وتذامروا عليهم وتحاضوا على قتالهم ، وبذلوا النفوس في الكرة عليهم فهزموهم الى يافا وقتلوا منهم وأسروا. وفيها نزل صنجيل على طرابلس ، وكان جاءه أربعون مركبا مشحونة بالرجال والمال ، فعطب بالرياح أكثرها ، فكتب صاحبها الى دمشق يستصرخ ، فسار عسكرها مع صاحب حمص الى أنطرطوس والتقوا بالفرنج ، فانهزم صاحب حمص وعاد الفرنج الى قتال طرابلس وعاد ابن عمار الى الاستصراخ بصاحبي حمص ودمشق ، فدفعوا الفرنج عنه بعد أن قتل من أهل طرابلس سبعة آلاف رجل ، ونازل صنجيل طرابلس وحصرها وأتاه أهل الجبل فأعانوه على حصارها ، وكذلك أهل السواد وأكثرهم نصارى ، ثم هادنهم على مال حمله أهل طرابلس الى صنجيل ، فسار الى أنطرطوس ففتحها وقتل من بها من المسلمين ، ثم رحل الى حصن الطوبان وهو يقارب رفنية ، ومقدمه يقال له ابن العريض فقاتلهم فنصر عليه أهل الحصن وأسر ابن العريض منه فارسا من أكابر فرسانه ، فبذل صنجيل في فدائه عشرة آلاف دينار وألف أسير فلم يجبه ابن العريض الى ذلك. ثم سار صنجيل وحاصر حصن الأكراد فجمع تاج الدولة صاحب حمص العسكر ليسير إليه فوثب به باطني واغتاله ، ولما بلغ صنجيل ذلك رحل عن حصن الأكراد الى حمص ونازلها وملك أعمالها. وفي هذه السنة أطلق الدانشمند صاحب سيواس بيمند الفرنجي صاحب أنطاكية من الأسر وأخذ منه مائة ألف دينار ، ولما خلص من الأسر عاد الى أنطاكية فقويت نفوس أهلها به ،

٢٥٧

ولم يستقر حتى أرسل الى أهل العواصم وقنسرين وما جاورها يطالبهم بالأتاوة ، فورد على المسلمين من ذلك ما طمس المعالم التي بناها الدانشمند.

تخاذل أمراء المسلمين وبلاء طغتكين وابن عمار :

جهز ملك مصر في سنة ٤٩٦ عسكرا بقيادة ابنه شرف المعالي ، وسير الأسطول في البحر فاجتمع بالعسكر الذي خرج سنة ٤٩٥ وعليه سعد الدولة القوامسي بيازور على ساحل الرملة ، والتقيا مع عسكر الفرنج فهزموهم ، وحاصر شرف المعالي قصرا كان الأفشين قد بناه قريبا من الرملة وملكه قهرا ، وقتل من كان به من الفرنج فحضر في البحر عدة مراكب نجدة لهم وحاصروا عسقلان ، فرحل شرف المعالي من الرملة الى عسقلان ، فارتحل الفرنج عنها ، وكتب الأفضل الى شمس الملوك دقاق صاحب دمشق يستنجده على الفرنج فاعتذر عن ذلك.

وفي سنة ٤٩٧ وصلت مراكب الفرنج في البحر الى ظاهر اللاذقية مشحونة بالتجار والأجناد والحجاج وغير ذلك ، فاستنجد بهم صنجيل المنازل لطرابلس في مضايقتها والمعونة على ملكها ، فاجتمعوا معه على منازلتها ، فقاتلوها أياما ورحلوا عنها ، ونزلوا على ثغر جبيل ، فقاتلوه وضايقوه وملكوه بالأمان ثم غدروا بأهله وصادروهم ، واستنفدوا أموالهم بالعقوبات وأنواع العذاب. وفيها التقى عسكر الأميرين سقمان بن أرتق صاحب آمد وجكرمش صاحب الموصل بعسكر بيمند وطنكري في عسكريهما من ناحية أنطاكية فانتصر المسلمون.

ونزل بغدوين صاحب بيت المقدس على ثغر عكا ـ وواليها من قبل المصريين زهر الدولة الجيوشي ـ ومعه الجنويون والمراكب في البحر والبر ، وهم الذين كانوا ملكوا ثغر جبيل في نيف وتسعين مركبا فحصروه من جهاته ، ولازموه بالقتال الى أن عجز واليه ورجاله عن جربهم ، وضعف أهله عن المقاتله وملكوه بالسيف قهرا. ونزل الفرنج على حصن بسرفوت ورموه بالمناجيق ففتحوه بالأمان وأطلقوا من كان فيه ، وكان من أمنع حصون جبل بني عليم من حيز حلب. وظهر ابن عمار صاحب طرابلس

٢٥٨

في عسكره وأهل البلد وقصد الحصن الذي بناه صنجيل عليهم ، وهجم على غرة ممن فيه ، فقتل من به ونهب ما فيه وأحرق وأخرب ، وأخذ منه السلاح والمال والديباج والفضة ، هذا وملوك الإسلام إذ ذاك مشتغلون بقتال بعضهم بعضا وقد تفرقت الآراء وتمزقت الأموال. وقصد الفرنج حران فاتفق صاحب الموصل وصاحب حصن كيفا وماردين ومعهم العرب والتركمان واجتمعوا بالفرنج على الخابور على نهر البليخ فهزم الفرنج وأسر ملكهم القومص.

وفي سنة ٤٩٨ خرج صاحب حلب عازما على قصد طرابلس لمعاونة صاحبها ابن عمار على الفرنج النازلين عليه ، وكان الأرمن في حصن أرتاح قد سلموا إليه الحصن لما شملهم من جور الفرنج ونزل عليها فوقع المصافّ بين المسلمين والفرنج عند شيزر ، فثبت راجل المسلمين وانهزمت الخيل ، ووقع القتل في الرجالة ولم يسلم منهم إلا القليل ووصل الفلّ الى حلب ، وحين عرف ذلك من كان في أرتاح من المسلمين هربوا بأسرهم منها فملكها الفرنج ، ثم قصدوا حلب فأجفل أهلها منهم واضطربت أحوال من بالشام.

وفي هذه السنة خرج من مصر عسكر كثيف يزيد على عشرة آلاف فارس وراجل مع شرف المعالي ولد الأفضل ، وكوتب صاحب دمشق بالاستدعاء للمعونة فنزل هذا على بصرى ثم قصد ظاهر عسقلان ، فتجمع الفرنج وقصدوا عسقلان فالتقى الفريقان بين يافا وعسقلان ، واستظهر الفرنج على المسلمين وقتلوا والي عسقلان ، وانهزم عسكر مصر الى عسقلان ، وعسكر دمشق الى بصرى ، وكان صاحبها أيتكين الحلبي راسل بغدوين ملك الفرنج للاستنجاد به ، وتوجه أيتكين وأرتاش بن تاج الدولة نحو بغدوين ، وأقاما عنده مدة يحرضانه وقومه على المسير الى دمشق ، ويبعثانه على الإفساد في أعمالها فلم يجبهما ، فلما يئسا توجها الى ناحية الرحبة.

وتوجه صاحب دمشق الى بعلبك ، وقرر أمورها وكف الأذى عن واليها كمشتكين الخادم التاجي ، وتوجه إلى حمص وقصد رفنية ونزل عليها ، ووفد عليه خلق كثير من جبل بهراء في عمل حمص ، فهاجموا رفنية على حين غفلة من أهلها ، وغرة من مستحفظيها ، وقتلوا من بها

٢٥٩

وبأعمالها وأحرق ما أمكن إحراقه من الحصن المحدث عليها من الفرنج وغيره ، وملكت أبراج رفنية وهدم الحصن وقدم من كان فيه.

وفي سنة ٤٩٩ سار الفرنج الى أفامية وحاصروها وملكوا البلد والقلعة وقتلوا القاضي المتغلب عليها ، وكان هذا كتب الى صاحب حلب لإنقاذ البلاد من المستبد بها خلف بن ملاعب الكلابي الذي كان دأبه إخافة السبل ، فقتله والتجأ ابنه مصبح الى طنكري صاحب أنطاكية وحرضه على العود الى أفامية وأطمعه في أخذها لقلة القوت بها ، فنهض إليها ونزل عليها وضايقها الى أن تسلمها بالأمان. والغالب أن الإسماعيلية هم الذين ملكوا حصن أفامية باسم الملك رضوان صاحب حلب ، وكان بنى لهم بحلب دار دعوة وهو أول من عملها. وكان بأفامية رجل من دعاتهم ، يقال له أبو الفتح السرميني فقرر ذلك لمنع أهلها ، فنقبوا السور وهجموا على ابن ملاعب وقتلوه ونادوا بشعار الملك رضوان. وبقي الحصن في أيديهم حتى أخذه الفرنج منهم في سنة ٥٠٠.

وفي سنة ٤٩٩ ملك صنجيل مدينة جبلة ، ثم سار وأقام على طرابلس فحصرها وبنى بالقرب منها حصنا ، وبنى تحته ربضا وهو المعروف بحصن صنجيل ، فخرج صاحب طرابلس فأحرق الربض وهلك صنجيل على أثر حرق بجسمه «ودام الحرب بين أهل طرابلس والفرنج خمس سنين وظهر من صاحبها ابن عمار صبر عظيم ، وقلّت الأقوات بها وجلا الفقراء وافتقرت الأغنياء». قال ابن الأثير : وكانت طرابلس من أعظم بلاد الإسلام تجملا وثروة ، فباع أهلها من الحلي والأواني الغريبة ما لا حد عليه حتى بيع كل مائة درهم نقرة بدينار.

حرب طغتكين للصليبيين :

خرج الفرنج الى سواد طبرية (٤٩٩) وشرعوا في عمارة حصن علعال بين السواد والبثنية ، أو بين الغور وجبل الشراة ، وكان من الحصون الموصوفة بالمنعة ، فلما عرف صاحب دمشق هذا العزم منهم نهض ، فملك الحصن وقتلهم وأسرهم. قال ابن الأثير : وقد قال طغتكين للمقاتلة يومئذ :

٢٦٠