خطط الشام - ج ١

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ١

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٨

العهد وأطلق يده في مصادرة جماعة من الدمشقيين والمتهمين بقيام الفتنة فتنكروا عليه وأبغضوه واجتمع أهل البلد والجند على كراهيته.

تقسيم الأقاليم بين القبائل ودولة بني مرداس :

كان لؤلؤ غلام ابن حمدان وولده منصور بن لؤلؤ قد استوليا على حلب بعد موت أبي الفضائل بن سعد الدولة ، وضيق منصور بن لؤلؤ على ابني أبي الفضائل فقصدا الحاكم في مصر ، وهرب أبو الهيجاء بن سعد الدولة من حلب أيضا في زي النساء والتجأ الى بسيل ملك الروم ومات لؤلؤ في المحرم سنة ٣٩٩ وآلت الإمارة لولده الصغير منصور بن لؤلؤ ، وكرهه كثير من الحلبيين ورغبوا في أبي الهيجاء ، وكذلك أمراء بني كلاب المدبرون بلد حلب ، وسار أبو الهيجاء الى ميافارقين فأنفذ معه حموه ابن مروان صاحبا له في دون المائتي فارس وسار الى الجزيرة ، ولقيه جماعة أمراء بني كلاب وضمنوا له أن يعاضدوه ، وخافه منصور بن لؤلؤ فاستصلح بني كلاب وشرط لهم أن يعطيهم الإقطاعات الكثيرة ويجعلهم مساهمين له في الضياع والأعمال ظاهر حلب ، واستنجد بالمغاربة جيش الفاطميين ، فأسرع إليه علي بن عبد الواحد بن حيدرة قاضي طرابلس في عسكر منيع ، فاتفقت موافاته حلب مع نزول أبي الهيجاء ، فانهزم هذا وذهب الى القسطنطينية ، ومات فيها عند صاحب الروم ، وعاد ابن حيدرة الى طرابلس ، وأقام منصور بن لؤلؤ يخطب لصاحب مصر ولقبه الحاكم مرتضى الدولة ، ثم فسد ما بينه وبين الحاكم وعاد الكلابيون يلتمسون من منصور بن لؤلؤ ما شرط. لهم ، فحضر منهم زهاء سبعمائة رجل فيهم جميع أمراء بني كلاب وذوي الرئاسة والشجاعة جميعا وأمر ببذل السيف فيهم ، وحبس منهم جماعة ، وكان في جملة المحبوسين صالح بن مرداس فتوصل في الحبس الى أن صعد من السور وألقى نفسه من أعلى القلعة الى تلها ، فسار الى أهله وجمع ألفي فارس وأسر ابن لؤلؤ وقيده بقيده الذي كان في رجله ولبته الحديد.

وكان لابن لؤلؤ أخ فنجا وحفظ المدينة ، وبذل ابن لؤلؤ لصالح

٢٢١

ابن مرداس مائتي ألف دينار فأطلقه على شرط أن يطلق كل أسير عند ابن لؤلؤ من بني كلاب. وبنو كلاب بطن من عامر بن صعصعة ملكوا حلب ونواحيها ، وأول من ملك منهم صالح بن مرداس هذا ، وكان لهم في أيام سيف الدولة بن حمدان شأن ، وغزاهم غير مرة بعد أن اصطنعهم واصطفاهم من بين قبائل العرب.

انقرضت دولة بني حمدان سنة ٤٠٦ وآخرهم في حلب المنصور ، وقد دامت حكومتهم في حلب وحماة وحمص والمعرة وأنطاكية زهاء سبعين سنة عزيزة مستقلة في أولها ، ذليلة خاضعة لسلطان غيرها في آخرها. وفي شوال (٤١١) سلم محمد بن خليد النهراني الى الروم حصن الخوابي في جبل نهران ومدينة مرقبة على ساحل البحر وكانت خرابا فأحسن إليه بسيل الملك. وتسلم نواب الفاطميين الشام حتى موت الحاكم بأمر الله (٤١١ ه‍ ١٠٢١م) وعندها اجتمع حسان أمير بني طيىء ، وصالح بن مرداس أمير بني كلاب ، وسنان بن عليان أمير بني كلب ، فتحالفوا واتفقوا على أن يكون من حلب الى عانة لصالح بن مرداس ، ومن الرملة الى مصر لحسان ، ودمشق لسنان ، فقصد صالح حلب وبها رجل يقال له ابن ثعبان يتولى أمرها للمصريين ، فسلم أهل البلد لصالح لإحسانه إليهم ولسوء سيرة المصريين معهم ، وسلمت القلعة إليه سنة ٤١٤ وملك من بعلبك الى عانة وأقام بحلب ست سنين.

افتتح حسان بن المفرج بن الجراح أمير الطائيين مدينة الرملة (٤١٥) وأتى عليها حريقا ونهبا وأسرا. وحاصر سنان بن عليان مدينة دمشق (٤١٦) وجرت بينه وبين أهلها حرب شديدة وخرب داريا وأعمالها. وبقيت حال الشام على هذا الى سنة ٤١٩ وقد مات سنان بن عليان أمير الكلبيين ، ودخل ابن أخيه رافع بن أبي الليل بن عليان الى الظاهر الفاطمي فاصطنعه وعقد له الإمارة على الكلبيين وسير معه عسكرا ، وانضافت إليه العساكر المقيمة في الشام ، واجتذب إليه جماعة من العرب ، وقصدوا بأجمعهم حرب حسان بن المفرج بن الجراح وورد إليه صالح بن مرداس وبنو كلاب لمعاونته ، واتفقا على لقائهم وتصافوا للحرب في طبرية في

٢٢٢

موضع يعرف بالأقحوانة (٤٢٠) وقتل صالح ومع علم حسان والعرب بقتله انهزموا بأسرهم الى الجبال وقتل منهم جماعة ، ولما عرف أصحاب صالح المقيمون في بعلبك وحمص وصيدا ورفنية وحصن ابن عكار قتله تخلوا عن جميعها واستعادها أصحاب السلطان. واستولى نصر وثمال ابنا صالح على حلب وأعمالها وعلى الرحبة وبالس ومنبج.

وكان بأنطاكية عامل للروم فجمع جيشا وسار قاصدا حلب بغير أمر ملكه ، فتلطف معه ابنا صالح بعد أن كبست العرب معسكره وقتلت منه جماعة ، ثم سار ملك الروم بنفسه (٤٢١) الى غزو حلب واتصل بحسان ابن الجراح ما عزم عليه ملك الروم من غزو الشام ، فأنفذ إليه جماعة من أهله برسالة يقوي بها عزمه على ما همّ به ويبذل له الخدمة في غزاته والمسير بين يدي جيوشه بعشيرته وأصحابه ، وأنفذ أيضا نصر وثمال ابنا صالح بن مرداس مع آل جراح ابن عمهما مقلد بن كامل بن مرداس يبذلان مثل ذلك عن نفوسهما وعشيرتهما وأصحابهما ، وأن يعطي جميعهم رهائنهم على مناصحتهم إياه ، وصحة وفائهم بما بذلوه ، ووفد جميعهم الى الملك فنزل هذا بجيشه على تبّل من بلد أعزاز فطاردهم العرب وانهزم أكثر المقاتلة وثبت بعضهم وقتل من الفريقين جماعة ، وأسرت العرب من الروم المنهزمين عددا كبيرا وعاد الباقون الى معسكرهم ، ثم اضطر الملك الى العودة الى دياره ، وكان معه جماعة كثيرة من الأرمن فوضعوا أيديهم في النهب وزادت الفتنة ، ثم كتب نصر بن صالح الى ملك الروم يستعطفه ويعتذر إليه ويلتمس منه أن بحريه على ما كان أبوه عليه وغيره ، ممن ملك حلب مع من تقدمه من أسلافه الملكين الماضيين بسيل وقسطنطين.

قال ابن الأثير : لما خرج ملك الروم بنفسه من القسطنطينية الى الشام هذه المرة كان في ثلاثمائة ألف مقاتل ، فلما بلغ قريب حلب نزل على يوم منها ، ولحقه عطش شديد فهلك كثير من جيشه عطشا ، فعاد وجماعته أدراجهم. وقيل في عوده : إن جمعا من العرب ليس بالكثير عبر على عسكره وظن الروم أنها كبسة فانهزموا لا يلوون على شيء. وذكر ابن

٢٢٣

المهذب المعري أن خروج أرمانوس ملك الروم الى حلب في سنة إحدى وعشرين وأربعمائة ، وكانوا ستمائة ألف ، ومعه ملك البلغار وملك الروس والألمان والخزر والأرمن والبلجيك والفرنج وغنم المسلمون منهم ما لا يحصى وأسرت جماعة من أولاد ملوكهم. وفي قول ابن المهذب نظر. لأنّ هذا الجيش العظيم وهذه الأمم التي عدها يستحيل أن تسير مع ملك الروم إلا إذا كان دعاهم باسم حماية النصرانية في الأرض المقدسة ، ويستحيل أن تقترب منها أو أن تفتحها وفي الشام أمامها دول وإمارات.

وملك الروم (٤٢٢) قلعة أفامية ، وسبب ملكها أن الظاهر الفاطمي سير الى الشام الدزبري وزيره فملكه ، وقصد حسان بن المفرج الطائي ، فألح في طلبه فهرب منه ودخل بلد الروم ، ولبس خلعة ملكهم وخرج من عنده وعلى رأسه علم فيه صليب ، ومعه عسكر كثير ، فسار الى أفامية فكبسها وغنم ما فيها وسبى أهلها وأسرهم.

وفي سنة ٤٢٣ اجتمع في جبل السماق جماعة من الدرزية وجاهروا بمذهبهم وأخربوا المساجد ، وتحصن دعاتهم وكثير من عوامهم في مغاور شاهقة منيعة ، وقصدهم وانضوى إليهم خلق كثير من أهل نحلتهم ، وتوفر عددهم واستضاموا المسلمين المجاورين لهم من أهل بلدان حلب ، ووعدوا أنفسهم وأطمعوا عوامهم بقوة أيديهم وكثرة استيلائهم على الأعمال القريبة والبعيدة. فرأى قطبان أنطاكية مبادرتهم قبل تفاقم أمرهم وتخطيهم الى الفساد والعيث ، ورسم لمن يجاورهم من طراخنته (١) قصدهم برجاله وأصحابهم ، فتلطفوا في أن قبضوا على دعاتهم وأماثلهم وقتلوهم ، وحاصروا باقيهم في تلك المغاور ، فنصبوا عليها القتال اثنين وعشرين يوما الى أن التمسوا الأمان وخرجوا منها هاربين ، وتتبع الروم المسلمين في أعمالهم وأخذوهم واضمحلوا ودثروا. وهذه ثاني وقعة للدروز في الشام والوقعة الأولى في وادي التيم بعد قيام دعوتهم على عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي.

__________________

(١) طرخان : اسم للرئيس الشريف في قومه ، والذي لا يؤخذ منه الخراج ، ومن يكون تحت يده خمسة آلاف رجل ، وهو دون البطريق والجمع طراخنة.

٢٢٤

وكان الحاكم هذا في جملة تحكماته الباردة على سكان مملكته أن أمر بهدم الكنائس ، فهدم كنيسة في دمشق وكنيسة القيامة بالقدس وغيرها من الكنائس العظمى ، ونقض بعض الكنائس بيده ، وأمر بأن تعمر مساجد للمسلمين ، وأمر بالنداء : من أراد الإسلام فليسلم. ومن أراد الانتقال الى الروم كان آمنا الى أن يخرج ، ومن أراد المقام على أن يلتزم ما شرط عليه فليقم. وبعد أن مضى الحاكم لسبيله اشترط ملك الروم على الظاهر (٤٢٤) في الهدنة التي عقدها معه أن يعمر الملك كنيسة القيامة ببيت المقدس ويجددها من ماله ويصير بطريركا على بيت المقدس ، وأن تعمر النصارى جميع الكنائس الخراب التي في مملكة الظاهر.

بقي شبل الدولة مالكا لحلب الى سنة ٤٢٩ ، فأرسل إليه أنوشتكين الدزبري العساكر المصرية ، فلقيهم عند حماة فقتل في المعركة ، وملك الدزبري حلب ، وصفت له الشام بأجمعها ، وأباد المفسدين ومهد الأمور ، حتى أمنت السبل ، وعظم أمره وكثر ماله ، وأرسل يستدعي الجند الأتراك ، فبلغ المصريين أنه عازم على العصيان فتقدموا الى أهل الشام بالخروج عن طاعته ففعلوا ، فقصد حماة فعصى عليه أهلها ، فكاتب محمد ابن منقذ الكفرطابي فحضر إليه في نحو ألفي رجل فاحتمى به وسار الى حلب (٤٣٣) وتوفي بعد شهر واحد. وكان أنوشتكين نائب الشام للمستنصر ، شجاعا مقداما ، عظيم الهيبة ، حسن السياسة ، طرد الأعراب من الشام ، وأباد المفسدين ومهد أحوال القطر وفسد بموته الشام وزال النظام ، وخرجت العرب في الأقاليم ، فخرج أبو علوان ثمال بن صالح بن مرداس الملقب بمعز الدولة بالرحبة وجاء حلب فملكها تسليما من أهلها ، وسار (٤٤٠) ناصر الدولة بن حمدان أمير دمشق وشجاع الدولة جعفر بن كلشيد والي حمص بجماعة من الجند وقبائل العربان من الكلابيين وغيرهم الى حلب ، لقتال متوليها ثمال بن صالح بن مرداس ، فخرج أهل حلب فهزمهم واختنق بالنهر منهم جماعة فرجع بغير طائل ، ثم قلد قطز الصقلبي دمشق وقبض على ابن حمدان وصادره واعتقله بصور ثم بالرملة ، وقبض على

٢٢٥

راشد بن سنان أمير بني كلاب وحمله الى صور فاعتقله بها ، وخرج أمير الأمراء رفق الخادم على عسكر تبلغ عدته نحو ثلاثين ألفا بلغت النفقة عليه أربعمائة ألف دينار يريد الشام ومحاربة بني مرداس ، فحاربه الحلبيون فانهزم المصريون وأسر رفق ومات في حلب. قال ابن ميسر : وتقدم المستنصر الى جميع ولاة الشام بالانقياد لرفق ، فوافى بالرملة رسول ملك القسطنطينية واصلا بالصلح بين المستنصر وبني مرداس فقتل رفق ، وجرت بالرملة ودمشق أمور آلت الى حرب بين العسكر مدة أيام بباب توماء من دمشق.

وجهز ثمال الى معرة النعمان واليا أساء التدبير فانحرف عنه القوم وآل أمره الى الهرب ، فبادر جعفر أمير حمص وتجهز الى المعرة بنفسه ولقيه مقلد بن كامل بن مرداس فأوقع به وقتله وشهر رأسه بحلب. وحصر ثمال امرأة الدزبري وأصحابه بالقلعة أحد عشر شهرا وملكها سنة ٤٣٤. وكان ثمال جمع للمصريين خمسة آلاف فارس وراجل فقاتلهم ثلاثة أيام ، فلما رأى المصريون صبر ثمال وكانوا ظنوا أن أحدا لا يقوم بين أيديهم ، رحلوا عن المدينة. والسبب في قتال ثمال أنه كان قرر على نفسه أن يحمل كل سنة عشرين ألف دينار عما في يده ويد عشيرته الى صاحب مصر ، فتأخر الحمل سنتين. ثم أرسل الهدايا الى المصريين وأصلح أمره معهم ، ونزل لهم عن حلب فانفذوا إليها الحسن بن علي ابن ملهم فتسلمها من ثمال سنة ٤٤٩ بعد حروب طويلة.

وفي سنة ٤٤٦ نقض الروم الهدنة مع الخليفة الفاطمي وكانوا تعهدوا بأن يطلقوا له أربعمائة ألف أردب من الغلال بسبب الغلاء في مصر ، ولم يوفوا بالعهد ، فجهز المستنصر عسكرا قدّم عليه ابن ملهم لقصد اللاذقية ، فخرج في عساكر جمة وحاصرها وأتبعهم بعسكر ثان وعسكر ثالث ، ونودي في الشام بالغزو الى الروم ، وحاصر ابن ملهم قسطون بالقرب من أفامية ، وضيق على أهله ، وجال في أعمال أنطاكية ونهبها وسبى منها.

وفي سنة ٤٤٧ سير المستنصر فقبض على جميع ما في كنيسة القيامة بالقدس ، لأن صاحب الروم أذن لرسول طغرلبك السلجوقي أن يصلي في

٢٢٦

جامع القسطنطينية ، فخطب للقائم العباسي ، فغضب الخليفة الفاطمي. قال ابن ميسر : وكان هذا من الأسباب الموجبة لفساد ما بين المصريين والروم. وفي هذه السنة تجمع كثير من التركمان بحلب وغيرها ، فأفسدوا في أعمال الشام.

حدثت فتنة بين بعض السودان وأحداث حلب ، فسمع ابن ملهم أن بعض الأحداث من سكانها قد كاتب محمود بن شبل الدولة ليسلموا إليه البلد ، فقبض على جماعة منهم فاجتمع أهلها ، وراسلوا محمودا وهو منهم على مسيرة يوم يستدعونه ، وحصروا ابن ملهم ، فسيرت مصر ناصر الدولة بن حمدان أمير دمشق لقتال من بها لأجل قطع خطبة المستنصر ، فلما قارب البلدة خرج محمود عن حلب الى البرية ، واختفى الأحداث جميعهم ، ولم يمكن ناصر الدولة أصحابه من دخول حلب ونهبها ، وسار في طلب محمود فالتقيا بالفنيدق ، فانهزم أصحاب ابن حمدان وثبت هو فخرج وحمل الى محمود أسيرا ، فأخذه وسار الى حلب فملكها وملك القلعة في سنة ٤٥٢ فجهز المصريون ثمال بن صالح الى ابن أخيه ، فحصره في حلب ، فاستنجد محمود خاله منيع بن شبيب النميري صاحب حران ، فجاء إليه ، فلما بلغ ثمالا مجيؤه سار عن حلب الى البرية (٤٥٣) وعاد منيع الى حران ، فعاد ثمال الى حلب وخرج إليه محمود ابن أخيه ، فاقتتلوا وقاتل محمود قتالا شديدا ، ثم انهزم محمود ، فمضى الى أخواله بني نمير بحران. وتسلم ثمال حلب وخرج الى الروم فغزاهم. وذكر ابن ميسر: أن البازوري وزير مصر سير أموال الدولة جميعها لفتح بغداد ، وكان ذلك سببا لخروج الغز الى الشام وملكهم إياه. وقال في حوادث سنة ٤٥١ إن حادثة قتل البساسيري وقطع خطبة المستنصر من بغداد وإعادتها للقائم ، كانت آخر سعادة الدولة المصرية ، فإن الشام خرجت من أيديهم بعدها بقليل ولم يبق لهم سوى ملك مصر.

ولما توفي ثمال (٤٥٤) أوصى بحلب لابن أخيه عطية بن صالح فملكها ، ونزل به قوم من التركمان فقوي بهم ، فأشار أصحابه بقتلهم فأمر أهل البلد بذلك ، فقتلوا منهم جماعة ونجا الباقون ، فقصدوا محمودا بحرّان ،

٢٢٧

واجتمعوا معه على حصار حلب فحصرها وملكها. وفي سنة ٤٥٥ ندب بدر الجمالي لولاية دمشق على حربها وندب معه على الخراج أبو الحسين الزيدي ، ولم يلبث بدر أن انصرف عن ولاية دمشق هربا من أهلها ، فولى المستنصر عليها حصن الدولة حيدرة ، ثم ولاه الشام بأسره (٤٥٨).

وفي سنة ٤٥٩ بعث المستنصر الى محمود بن الروقلية المتغلب على حلب يطالبه بحمل المال وغزو الروم وصرف ابن خاقان ومن معه من الغز فلم يجبه وقال : إنه لا مال له وأنه هادن الروم وأعطى ولده رهينة على مال اقترضه منهم فندب المستنصر بدرا الجمالي الى محاربته فدخل ابن عمار صاحب طرابلس بينهما وأصلح الحال. وفي سنة ٤٦٠ كانت حرب بدمشق بين أمير الجيوش وبين عسكريته.

وفي سنة ٤٦١ وقع الخلف بدمشق بين العسكرية وبين أهلها وطرحت النار في جانب منها فاحترقت ، واتصل الحريق بالمسجد الجامع من غربيه ولم يبق منه إلا حيطانه الأربعة. واستولى في هذه السنة على دمشق معلى ابن حيدرة الكتامي من غير أن يؤمر له بذلك عند خلو دمشق من متول بعد ما هرب أمير الجيوش بدر الأرمني ، فأساء السيرة في أهلها وصادرهم وبسط العقوبة عليهم ، الى أن خربت أعمال البلد وجلا كثير من أهلها ، ووقعت بينه وبين حامية البلد وحشة خاف منهم على نفسه فهرب الى بانياس فصور فطرابلس فأخذ واعتقل ومات من الضرب.

وفي سنة ٤٦٣ استولى القفي على دمشق وطرد نواب أمير الجيوش واستولى على صور ابن أبي عقيل ، وعلى طرابلس قاضيها ابن عمار ، وعلى الرملة والساحل ابن حمدان ، ولم يبق غير عكا وصور ، ونزل هذه السنة أمير الجيوش في العسكر المصري على صور محاصرا لابن أبي عقيل القاضي الغالب عليه ، فاستنجد هذا الأمير ترلو مقدم الأتراك بالشام ، فأنجده بستة آلاف فارس ، فرحل عنها أمير الجيوش ثم عاودها وحاصرها من البر والبحر سنة بدون طائل. وفتح الروم منبج وأحرقوها وبقيت معهم سبع سنين.

٢٢٨

آخرة الفاطميين :

كان على حلب عند هلاك الحاكم عزيز الدولة فاتك الوحيدي ، وقد استفحل أمره وعظم شأنه وحدث نفسه بالعصيان ، فلاطفته ست الملك عمة الظاهر لإعزاز دين الله وكفيلته ، وهي التي قامت بتدبير مملكة الفاطميين بعد مهلك الحاكم ، وساست الناس أحسن سياسة أربع سنين ، أعادت الملك فيها الى غضارته وعمرت الخزائن بالأموال واصطنعت الرجال ـ فلاطفته وبعثت إليه بالخلع والخيل بمراكب الذهب وغيرها ، ولم تزل تعمل عليه حتى أفسدت غلاما له يقال له بدر فقتله وحفظ الخزائن ووهبت له جميع ما خلفه وقلدته حلب. ولو لم يقيض الله لملك الفاطميين مثل هذه السيدة بعد الأحوال التي تمت على عهد الحاكم لكان الانقراض الى دولتهم قريبا جدا. ثم جاء ابنه الظاهر لإعزاز دين الله وكان حسن السيرة فرفع أيدي المتغلبين على الملك ، المتوثبين على سلطان الفواطم ، واستقام له الأمر مدة. أما أيام الخليفة المستنصر بالله خامس خلفائهم الذي بقي في الخلافة ستين سنة وأربعة أشهر فقد كانت على هذا المنوال من التسرع في نصب العمال وصرفهم والشام تشكو وتئن ، والبؤس أكثر من السعادة ، والمتغلبة منذ الثلث الأول من القرن الرابع كل يوم في شأن ، تارة يقوم فيها مثل سيف الدولة الذي كان يلبس على علاته ، وتارة يقوم ابنه ومملوكه يستنجدان بالروم على المسلمين. ويرضيان بإعطاء الجزية لهم ، ويدلانهم على عورات الجيران ، بعد أن كان مؤسس دولتهم سيف الدولة يقاتلهم ، ويظهر لهم من الشمم حتى يوم هزيمته ما يبيض وجه العرب والمسلمين.

كان الفاطميون زمن المعز والعزيز على جانب من القوة ، فتح المعز مصر فدخلها من الغرب في مئة وقيل في مئة وأربعين ألف مقاتل ، واستكثر من العساكر من كتامة وروم وصقالبة وبربر ومغاربة ، حتى قيل لم يطأ الأرض بعد جيوش الإسكندر بن فيلبس الرومي الكبير أكثر من جيوش المعز الفاطمي ، وربما فاقت بعددها الجيوش التي جمعها أبو الجيش

٢٢٩

خمارويه بن أحمد بن طولون صاحب مصر والشام في القرن الثالث.

فبمثل هذه الجيوش استقام أمر الفاطميين لأول عهدهم في مصر والشام ، فحكموا الى الفرات ومكة والمدينة والقدس والخليل وصارت مصر والمغرب مملكة واحدة ، والخلفاء من بني العباس يحكمون من الفرات الى بغداد وأعمالها الى سائر المشرق ، ويخطب لكل خليفة منهما في الجهات التي تحت حكمه باسمه فقط ، ولما ضعف أمرهم أصبح يحكم دمشق حمال التراب ، ويحكم صورا الملاح ، وثلاثة من البدو يتقاسمون ملك الشام ، والعباسيون في الشرق والفاطميون في الجنوب لا يبدون ولا يعيدون ، وعندهم القواد والأجناد ، وللأحداث أي فتيان العامة في حلب ودمشق القول الفصل ، يرفعون ويضعون ، ويتحكمون ويعبثون بالناس وأموالهم ، ويا بؤس بلاد يكون القول الفصل فيها لفوضى العامة.

كان حكام الشام يأتونها من الحجاز والعراق ، فأصبحوا يكتسحونها في هذه الأعصار من مصر والشمال ، وكان العمال والقواد عربا من بني أمية وبني هاشم ومن والاهم ، فصاروا مزيجا من العجم والتركمان ، وكلهم سواء في ارتكاب المظالم والمغارم ، متى قوي سلطان الجار يهاجم جاره ، فتطل دماء الأبرياء على غير طائل. ولم تستقر المملكة على حالة معينة بضع سنين فكانت العوامل الجنسية والمذهبية تتنازعها وأهلها ، وبعد أن كانت الشام في القرن الأول وثلث القرن الثاني مصدر الحياة العربية ، ومنبعث القوة الحربية ، أمست في القرون التالية ألعوبة أهواء الدخلاء ، وطعمة الطامعين من أهل البوادي ومن جرت عليهم أحكام الرقيق من العبيد والبرابرة ، وبعد أن كان للعصبيات فيها شأن في القرنين الأولين أصبحت في القرون الثلاثة التالية ضعيفة ضئيلة ، لا يتعدى تأثيرها المصالح الخاصة ، ولا يفكر القائمون بها في غير السلب والاعتداء.

إن تسامح العباسيين بإدخال أهل غير عصبيتهم فيهم أدى الى انتشار كلمتهم وتمزيق جامعتهم ، وما كل القواد والعمال كإبراهيم بن المهدي وجعفر بن يحيى وطاهر بن الحسين وعبد الله بن طاهر. ولا كل المتوثبين على الملك في عقلهم وسياستهم كأحمد بن طولون وسيف الدولة بن حمدان.

٢٣٠

دثرت تلك الطبقة الممتازة المختارة ، وخلف من بعدها خلف من القواد والرجال ليسوا في الأكثر على شيء من حسن السياسة والإدارة. إذا كان لهم جيش عظيم رهبهم الناس ، وإلا فالحكم للصعاليك والسلبة ، وهم أول الطامعين في السلطان ، العاملين على نقض بنيان الأوطان ، والناس بين مظلوم وظالم ، ومتخوف ومخيف. والمنافسة بين الأمراء على أشد حالاتها ، والشام مقسم الأجزاء بين كثيرين في سياسته الداخلية والخارجية ، مصر من الجنوب تشده ، وبغداد من الشرق تريد أن تسترده ، والطامعون فيه من الترك والتركمان والروم والقرامطة والعبيد والخدم والمماليك يسطون عليه فيدمرون عمرانه ، ويهلكون أهله وسكانه ، والناس في الواقع لا يعرفون لهم سيدا معينا لتفرق قلوبهم ، وتباين منازعهم. وصاحب حمص غير صاحب حلب ، وصاحب دمشق غير صاحب صور أو الرملة، مملكة هذا حالها تموت بحكم الطبيعة ، ولا تستريح من الغوائل نحال. والجسم يعيش بروح واحد وتعدد الأرواح يستلزم تعدد الأجسام.

بعد أن قتل القرامطة الباطنية أهل مدن برمتها من هذا القطر استنجد أهل أعظم مدينة فيه بهم ، فوافوا يجوسون خلال ديارهم لينقذوها من دولة الفاطميين المسلمين ، وبعد أن ثبت أن الروم هم أعداء الشام بلا مراء ، أصبح أمراؤه يستغيثون بهم على أبناء ملتهم ليصفو لهم ملكهم الذي يريدون أن يعيشوا فيه قيد الأسر لعدوهم الخارجي ، ويستكثروا من القصور والجواري والمماليك والحاشية والغاشية ليكون كل صاحب مقاطعة في أبهته كخليفة الوقت وزيادة. يسلبون نعمة الرعية لينعموا بما سلبوا ، كمن يحاول نقض أساس بيته ، يجمّل خارجه بإطار جميل ، أو يذهّب شرفته وجدرانه. وبينما كان العزيز الفاطمي يبثّ دعاته لنشر التشيع في الأقطار التي انضوت الى علمه ، ويقتل هو وآله علماء المالكية لتشددهم في التسنن ، كان جمهور المسلمين غاضبين في مصر والشام لأنه وسد الأمر بمصر لرجل من الأقباط اسمه نسطورس ، وقلد أموال الشام لإسرائيلي اسمه منشا يجمعان الأموال ، يوليان أبناء نحلتهما الأعمال ، ويعدلان عن الكتاب والمتصرفين من المسلمين ، فعمد بعضهم في القاهرة الى مبخرة

٢٣١

من حديد وألبسها ثياب النساء وزينها بإزار وشعرية ، وجعل في يدها قصة على جريدة ، وكتب فيها رقعة ليراها العزيز عند مروره وهي : «بالذي أعز جميع النصارى بنسطورس وأعز جميع اليهود بمنشا وأذل جميع المسلمين بك إلا ما رحمتهم وأزحت عنهم هذه المظالم» فتوسطت ست الملك ابنة العزيز لنسطورس بالعفو. فحمل الى الخزانة ثلاثمائة ألف دينار ، وأعاده الى ما كان ناظرا فيه وشرط عليه استخدام المسلمين في دواوينه وأعماله. أما منشا فقتل اذ لم يستشفع فيه أحد. تناقض في التسامح غريب في بابه ، وأصول في الإدارة لم يلاحظ فيها نزع العلة التي يشتكى منها ، بل كان ينظر فيها لمنفعة الخزانة ، أما الرعايا فأمرهم لله ، وحسابهم على سواه.

ولقد جاء في الفاطميين وزراء عقلاء مثل الوزير ابن كلس المتوفى سنة ٣٨٠ الذي نصح للعزيز في مرض موته بقوله : «سالم يا أمير المؤمنين الروم ما سالموك ، واقنع من الحمدانية بالدعوة والسكة ، ولا تبق على المفرج بن دغفل بن الجراح متى عرضت لك فيه فرصة» وكان ذلك غاية الغاية في سياسة الملك لأن الروم أمة قوية عزيزة لا تخنع لجيرانها خلفاء مصر ولا لخلفاء بغداد ، وهي تراهم مختلفة كلمتهم جد الاختلاف متعبين في داخليتهم ، مشتغلين بالمنتقضين على سلطانهم ، فقد أجاب العزيز الروم سنة ٣٧٧ الى الصلح واشترط شروطا شديدة التزموا فيها كلها. منها أنهم يحلفون أنه لا يبقى في مملكتهم أسير إلا أطلقوه ، وأن يخطب للعزيز في جامع قسطنطينية كل جمعة ، وهادنهم سبع سنين. أما الدولة الحمدانية فإنه على ما يظهر لم يعجل انقراضها إلا اعتصامها في آخر أمرها بالروم ، ونفضها يديها من طاعة العباسيين وطاعة الفاطميين معا ، فاستهان بها عدوها وصديقها ، ودب الفساد ودخلت الدسائس وكان في ذلك زوالها ، وأما المفرج بن دغفل أمير بني طيىء وسائر العرب بأرض فلسطين ، فإنه كان عدوا لدودا للفاطميين ، قريبا من دار ملكهم يهددهم كل يوم ، وربما استطاع أن يستنجد بملوك الشرق على نقض عرى الملك الفاطمي. فهو بدوي والأعراب أي البادية ما دخلوا بلدا إلا أسرع إليه

٢٣٢

الخراب ، وقيام الملك يحتاج الى حسن تدبير وتقدير أكثر من البطش والجبرية ، ولذلك لم تتم لأمراء بني طيىء في الجنوب ، ولا لبني مرداس الكلابيين في الشمال دولة تعاقبت عليها بطون كثيرة في الشام وكيف كان حال هذه الدول فإن قاعدة الحكيم ابن خلدون في أن للدول أعمارا طبيعية كالأشخاص لا تنتقض في الدول التي يحكمها الأفراد حكما استبداديا ، وسعادة الدولة لا تدوم كالأفراد أكثر من أربعة بطون : الأول يفتح ويجمع ، والثاني ينظم ويرتب ، والثالث ينعم ويتمتع ، والرابع يفرق ويخرب ، تعالى الله.

٢٣٣

دور السلجوقيين

«من سنة ٤٦٣ ـ ٤٩٠»

أصل السلجوقيين والتركمان والفتح السلجوقي :

كانت الشام في معظم دور الفاطميين ككرة الصوالجة تتقاذفها القوات المختلفة. وقد قام الفاطميون بعقب انقراض الدولة الإخشيدية في مصر ، وورثوا تراثهم في قسم من هذه الديار ، ثم انقرضت دولة الحمدانيين في الشمال ، وكانت في آخر أمرها تفزع الى دولة الروم البيزنطية لتحميها بأس خلفاء المصريين من بني عبيد. وقامت دولة بني مرداس ودولة بني الجراح ودولة بني سنان أي دول بني كلاب والطائيين وبني كلب الى غيرهم من الدول الجديرات بأن يطلق على القائمين بها خوارج على الفاطميين ، وكلهم أمراء عرب البادية أخضعوا المدن لسلطانهم مدة ، وكان قيامهم دليلا على ضعف الدولة وسوء سياسة عمالها.

انقضى عهد الفاطميين أو كاد وكانت معظم أيامهم فتوحا وفتوقا ، ولم يخفق علمهم على الشام كله مدة طويلة ، بل كان إذا خضع الساحل خاصم الداخل ، وإذا أطاع الجنوب نشز الشمال. وهكذا كان الشقاء في أيامهم أكثر من السعادة ، والأهواء مشتتة ، والآراء ممزقة ، ولئن كان أول خلفائهم ممن ملك الشام المعز ثم العزيز يحبان العدل والإنصاف ، ولهما من الحزم قسط وافر ، إلا أن الولاة الذين تولوا الشام على عهدهما أيضا كانوا في الأكثر ظلمة يسفكون الدماء ويستحلون أموال الرعية. فخرب القطر

٢٣٤

في أيامهما وضعف أهله وغلت الأسعار ولا سيما على عهد العزيز ، وكانا يبادران حالا الى إبدال العمال مخافة أن ينزعوا الى العصيان. أما عهد الحاكم فكان الخلل المطلق ، لخلل في عقله وخرق في سياسته ، وكانت الشام بعده تختلف باختلاف العامل الذي ترسله مصر.

وبينا القطر متقلقل في سياسته أقبلت من الشرق قوة عظيمة لا قبل له بدفعها. قوة الدولة السلجوقية التركمانية الجديدة جاءت لتقضي على الدولة الفاطمية العربية التي نزل بها الهرم أو كاد. والسلجوقيون نسبة لسلجوق من صغار أمراء الترك في أرجاء بخارى ، يقسمون الى ثلاثة فروع ، فرع العجم وهذا الذي استولى على العراق والجزيرة ، ثم على الشام والحجاز واليمن ، وفرع الروم أي آسيا الصغرى ، وفرع كرمان. والتركمان قبائل كانت لأول أمرها تنزل بين بحيرة آرال وبحر الخزر ، وهم من أول الأتراك الذين دانوا بالإسلام وخدموا بني العباس ، هاجروا الى فارس والعراق وآسيا الصغرى. وهم أصل الترك العثمانيين سكان الأناضول ، وأعظم الشعوب التركية. والفرق طفيف بين لسانهم ولسان اويغور أي الجغتاي. وتنقسم الألسنة التركية الى خمسة أقسام وهي الجغتاي أو اويغور والنوغاي أي التتري والقرغيز والياقوت واللسان العثماني. فإذا أطلق اسم الترك فالمقصود منه الجنس الجامع لهذه الشعوب الخمسة ، وإذا قيل التركمان أريد به أعظم شعب في الترك ، وكلا الإطلاقين جائز. والتركمان على جانب عظيم من الشجاعة والفروسية ، أظهروا من الجلادة منذ وطئوا هذا القطر ما خلدوا به أعظم المفاخر ، وأسسوا في الشام حكومات منها المحمود ، ومنها دون ذلك.

لما سار السلطان آلب أرسلان ثاني ملوك السلجوقيين بجيوشه الى الشام ، كانت مملكته تمتد الى الصين شرقا ، ومن أقصى ديار الإسلام شمالا ، الى أقصى اليمن جنوبا ، وجاء الى حلب وأقام الحصار عليها وعظم القتال بين عساكره وحامية حلب لصاحبها محمود بن نصر بن صالح بن مرداس ، ثم استسلم هذا وخلع عليه السلطان آلب أرسلان ، وأعاده الى بلده فبعث إليه مالا جزيلا. وفي تلك السنة (٤٦٣) قطع خطبة المستنصر العلوي

٢٣٥

وخطب للقائم العباسي ، وبدأ ظل الدولة الفاطمية يتقلص ، وكان الحامل لآلب أرسلان على فتح الشام أن ناصر الدولة بن حمدان الحاكم المتحكم في الدولة المصرية أرسل يسأله أن يسير له عسكرا من قبله ليقيم الدعوة العباسية وتكون مصر له ، فتجهز آلب أرسلان من خراسان في عساكر جمة ، وكان جيشه فيما قيل لا يقل عن أربعمائة ألف.

وخلف آلب أرسلان في الشام طائفة من عسكره فجمع أتسز بن اوق من أمراء السلجوقيين الأتراك الغز ، وسار الى فلسطين ففتح الرملة ، وسار منها الى بيت المقدس وحصره ، وفيه عسكر المصريين ففتحه ، وملك ما يجاوره ما عدا عسقلان ، وقصد دمشق فحصرها وتابع نهب أعمالها حتى خربها وقطع الميرة عنها ، فضاق الأمر بسكانها فصبروا ولم يمكنوه من ملك البلد فعاد عنه ، وأدام قصد أعماله وتخريبها كل سنة حتى قلّت الأقوات عندهم ، فكان يأخذ الغلات عند إدراكها فيقوى بها هو وعسكره ويضعف أهل دمشق وجندها.

ولما ملك السلطان ملكشاه بن آلب أرسلان (٤٦٥) سير أخاه تاج الدولة تتش الى الشام ، وقرر معه فتح ديار مصر والمغرب واستخلاصهما من العلويين ، وأمر مملوكيه بزان صاحب الرّهما وآق سنقر صاحب حلب أن يطيعاه على هذا الغرض. وكان ملكشاه الملقب بالسلطان العادل وأبوه آلب أرسلان من قبل المثل السائر في آل سلجوق بعدلهما ، ولم يكن للخليفة العباسي معهما سلطان في الحقيقة ، على نحو ما كان العباسيون في الدهر السالف مع سلاطين بني بويه الأعاجم. عرفت الشام ذلك وكان مما يفتح القلوب لحكم السلجوقيين أنهم من أهل السنة يخطبون باسم بني العباس. وجميع هذه المزايا كانت مفقودة في الدولة العلوية المصرية.

فتح دمشق :

وفي سنة ٤٦٧ حاصر السلاجقة ثغر عكا وقتلوا واليها وساروا عنها الى طبرية ، وسار أتسز الى دمشق فحصرها وأميرها المعلى بن حيدرة من قبل الخليفة المستنصر ولم يقدر عليها فانصرف عنها ، وكان المعلى أساء

٢٣٦

السيرة مع الجند والرعية وظلمهم ، فكثر الدعاء عليه وثار به العسكر ، وأعانهم العامة فهرب منها ، فخربت دمشق وأعمالها وجلا عنها أهلها ، وهان عليهم مفارقة أملاكهم وسلوهم عن أوطانهم ، بما عانوه من ظلمه ، وخلت الأماكن من قاطنيها ، والغوطة من فلاحيها. ولما رحل المعلى عن دمشق اجتمعت المصامدة الفاطميون وولوا عليهم انتصار بن يحيى المصمودي وغلت بها الأسعار حتى أكل الناس بعضهم بعضا ، ووقع الخلاف بين المصامدة وأحداث البلد ، وعرف أتسز ذلك فعاد الى دمشق فحصرها ، فعدمت الأقوات وبيعت غرارة القمح إذا وجدت بأكثر من عشرين دينارا ، فسلموها إليه بالأمان وخطب بها للخليفة العباسي ، وكان آخر ما خطب فيها للعلويين المصريين. وتغلب على أكثر الشام ومنع الأذان بحي على خير العمل ، ففرح أهلها فرحا عظيما ، وظلم أهلها وأساء السيرة فيهم.

قال ابن عساكر : إن أتسز التركماني لما دخل دمشق وكان حاصرها دفعات ، أنزل جنوده دور الدمشقيين ، واعتقل من وجوههم جماعة ، وشمسهم بمرج راهط حتى افتدوا نفوسهم بمال أدوه له ، ورحل جماعة منهم عن البلد الى طرابلس الى أن أريحوا منه بعد. وقال ابن الأكفاني : نزل أتسز محاصرا لدمشق ثم انصرف عنها ، ثم عاد الى منازلتها ، ثم رحل عنها ، ثم رجع إليها فحاصرها ، ثم إنه فتح البلد صلحا ، ودخلها هو وعسكره سنة ٤٦٨ وسكن دار الإمارة وخطب بها للمقتدي العباسي ، وكتب إليه يذكر له تسليمها إليه ، وغلو الأسعار بها ، وموت أهلها ، وأن غرارة القمح بيعت بمائتي دينار مما لم يعهد مثله. وأن أتسز نظر في أمور دمشق بما يعود بصلاح أعمالها ، وأطلق لفلاحي المرج والغوطة الغلات للزراعات فصلحت الأحوال ورخصت الأسعار.

ولما فتح أتسز دمشق وأقام الخطبة العباسية طمعت نفسه في ملك مصر ، فسار (٤٦٩) من دمشق فيمن استطاع من الأحداث والجند ورجع خائبا بعد أن قتل من جنده جملة كثيرة جدا ، ثم أقام بدمشق وجاءه التركمان من الروم ولم يستخدم غيرهم ، وعصى عليه الشام وأعيدت خطبة صاحب

٢٣٧

مصر في جميع الشام ، قام بذلك المصامدة والسودان. وكان أتسز وأصحابه تركوا أموالهم بالقدس ، فوثب القاضي والشهود ومن بالقدس على أموالهم ونسائهم فنهبوها واستعبدوا الأحرار ، فخرج من دمشق فيمن انضوى إليه ، ودخل القدس فقتل ثلاثة آلاف إنسان ، واحتمى قوم بالصخرة والجامع فقرر عليهم الأموال لأنه لم يقتلهم وأخذ مالا كثيرا ، وسار الى الرملة فلم ير فيها من أهلها أحدا ، فجاء الى غزة وقتل كل من فيها فلم يدع بها عينا تطرف ، وجاء الى العريش فأقام فيه وبعث سرية فنهبت الريف وعادت ، ثم مضى الى يافا فحصرها وهدم سورها ، ثم عاد الى دمشق ولم يبق من أهلها عشر العشر من الجوع والفاقة ، بل لم يبق من أهلها سوى ثلاثة آلاف إنسان بعد خمسمائة ألف أفناهم الوباء والغلاء والجلاء. وكان بها مائتان وأربعون خبازا فصار بها خبازان والأسواق خالية ، والدار التي كانت تساوي ثلاثة آلاف دينار ينادى عليها بعشرة دنانير فلا يشتريها أحد ، والدّكان الذي كان يساوي ألف دينار ما يشترى بدينار ، وأكلت الكلاب والسنانير والفيران ، وكان الناس يقفون في الأزقة الضيقة فيأخذون المجتازين فيذبحونهم ويشوونهم.

وعاد الفاطميون يحاولون فتح دمشق وعليهم ناصر الدولة الجيوشي فحاصروها مدة (٤٧١) وترحلوا ، ثم حاصروها مرة ثانية واستولوا على أعمالها وأعمال فلسطين ، فاضطر صاحبها أتسز الى الاستنصار بتاج الدولة ، فلما عرف ناصر الدولة الخبر رحل عن دمشق وقصد الساحل. وكان ثغرا صور وطرابلس في أيدي قاضييهما قد تغلبا عليهما ، ولا طاعة عندهما لأمير الجيوش الفاطمي ، ويصانعان الأتراك بالهدايا والألطاف. ووصل تاج الدولة الى عذراء في عسكره لإنجاد دمشق فخرج أتسز إليه وخدمه ثم قبض عليه وقتله وملك تاج الدولة دمشق ، واستقام له الأمر وأحسن السيرة في أهلها بالضد من فعل أتسز وملك أعمال فلسطين ، ثم قصد حلب وملك حصن بزاعة (٤٧٠) وقتل جميع من فيه ، وملك البيرة وأحرق ربض عزاز وغيرها من الحصون مع ما غلب عليه من القلاع المجاورة.

٢٣٨

أول جمهورية عربية ومقتل آخر أمير عربي :

وفي سنة ٤٧٢ انقضت دولة بني مرداس بحلب ، وكان قصدها تتش ابن آلب أرسلان فحاصرها أربعة أشهر ونصفا ، ثم رحل عنها فنازلها مسلم ابن قريش صاحب الموصل ، وتعهد لملكشاه السلجوقي أن يحمل إليه كل سنة ثلاثمائة ألف دينار فكتب له تقليدا ، وعادت رياستها شورى في مشيختها وطاعتهم لمسلم بن قريش. ومعنى أن حلب أصبحت رياستها شورى في مشيختها أن الحلبيين لما نفضوا أيديهم من حام يحمي بلدهم ألفوا جمهورية من شيوخهم أدارت شؤونهم زمنا ، وجعلوا ملكهم صاحب الموصل. وذكر المؤرخون أن الحلبيين أحسنوا في هذه الحكومة ولم يختلفوا ونفذت قواعد العدل وستقر الأمر في نصابه. وسبب ميل الحلبيين الى مسلم بن قريش أن تتش بن آلب أرسلان حصر مدينتهم المرة بعد المرة واشتد عليها الحصار ، فكان ابن قريش يواصلهم بالغلات وغيرها ، ولما دخلها حصر القلعة واستنزل منها سابقا ووثابا ابني محمود بن مرداس ، وأنفذ الى السلطان يخبره بملك البلد ، وأنفذ مع الرسول شهادة فيها خطوط المعدلين بحلب بضمانها ، وسأل أن يقرر عليه الضمان ، فأجابه السلطان الى ما طلب. وفي سنة ٤٧٣ ملك جلال الملك ابن عمار قاضي طرابلس وصاحبها حصن جبلة. وكان ابن عمار غلب على تلك الأصقاع سنين وعجز والي الفاطميين بدر الجمالي عن مقاومته.

وفي سنة ٤٧٥ جمع تاج الدولة تتش جمعا كثيرا وسار عن بغداد وقصد بلاد الروم أنطاكية وما جاورها ، فلما سمع شرف الدولة صاحب حلب الخبر خافه فجمع أيضا العرب من عقيل والأكراد وغيرهم ، فاجتمع معه خلق كثير ، فراسل الخليفة بمصر يطلب منه إرسال نجدة إليه ليحصر دمشق فوعده بذلك. فلما سمع تاج الدولة الخبر عاد الى دمشق وحصرها وقاتله أهلها ، وفي بعض الأيام خرج إليه عسكر دمشق وقاتلوه ، وحملوا على عسكره حملة صادقة فانكشفوا وتضعضعوا ، وانهزمت العرب وثبت شرف الدولة وأشرف على الأسر وتراجع إليه أصحابه. فلما رأى ذلك

٢٣٩

ورأى أن مصر لم يصل إليه منها عسكر وأتاه من بلاده الخبر أن أهل حران عصوا عليه ، رحل عن دمشق الى بلاده وأظهر أنه يريد بلاد فلسطين. رحل أولا الى مرج الصفر فارتاع أهل دمشق وتاج الدولة واضطربوا ، ثم سار من مرج الصفر مشرّقا في البرية ، وجد في مسيره فهلك من المواشي الكثير مع عسكره وانقطع خلق.

وكان مسلم بن قريش الذي أحبه أهل حلب وأطاعوه من جملة عمال آلب أرسلان ، وكان سليمان بن قتلمش السلجوقي صاحب قونية وأقصرا وملاطية ومن عمال السلجوقيين وأنسبائهم أشار إليه ملك السلجوقيين الأكبر السلطان ملكشاه أن يستولي على أنطاكية (٤٧٧) ففعل ، ولما استقر فيها بعث إليه مسلم بن قريش يطلب منه المال الذي كان يحمله صاحب أنطاكية الرومي إليه فأبى وقال : أنا لا أدفع الجزية لأني مسلم ، فنهب مسلم بن قريش أنطاكية ، ونهب سليمان بن قتلمش حلب ، ثم جمع مسلم ابن قريش الجموع من العرب والتركمان ومعه أمير التركمان جبق في أصحابه وسار الى أنطاكية ليحصرها ، فسار إليه سليمان بن قتلمش فالتقيا على نهر سبعين في موضع يقال له قرزاحل واقتتلا ، فمال تركمان جبق الى سليمان فانهزمت العرب وتبعهم مسلم بن قريش منهزما ، فقتل بعد أن صبر وقتل بين يديه أربعمائة غلام من أحداث حلب ، وسار سليمان الى حلب فحصرها (٤٧٨) ولم يبلغ منها غرضا.

وفي هذه الوقعة التي قتل فيها سليمان بن قتلمش التركي مسلم بن قريش العربي انتقل ملك الشام من أيدي العرب الى الترك ولم يحكم في الشام بعده إلا أمراء وملوك من التركمان والأتراك والشراكسة والأكراد. وكان الأتراك يأتون الشام منذ أوائل القرن الثالث عمالا للعباسيين ، فلم تكن مقاتلهم بادية للعيان لأنهم كانوا يحكمون باسم الدولة التي يعملون لها ، وكان أكثرهم على جانب من حسن الأدب والإدارة نشأوا نشأة عربية ، وها قد جاء دور يعمل الأتراك فيه أحرارا لحساب أنفسهم ، بعد أن ختم الحكم العربي بمقتل مسلم بن قريش العقيلي ..

وعاد سليمان بن قتلمش في السنة التالية وقصد حلب فبلغه أن تاج الدولة

٢٤٠