خطط الشام - ج ١

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ١

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٨

ارستوبولس ، ومنها أن فيلبس الروماني الذي صار امبراطورا في رومية سنة ٢٤٤ ب. م كان عربيا من بصرى في حوران.

والغالب أن في العرب خاصية التمثيل إذا جاوروا شعبا قربوه من مناحيهم وأدخلوا عليه لغتهم ، وهم المادة العظمى التي ما زالت تفيض على الشام. وأهل الوبر والمدر أو البادية والحضر منهم ، من أصبر الأمم على الحروب والأسفار الطويلة والاكتفاء بميسور العيش ، لكنهم لا يصبرون على الضيم والأذى. ولطالما غزوا من جزيرتهم العراق وفارس والجزيرة والشام ، ولم يسمع أن حكمتهم أمة وقد تمكنوا كما قال جويدي من غزو الأعداء ، ولهم المفازة التي بينهم وبين العراق والشام اي بادية الشام والنفود ، ومن هجم عليهم في ديارهم لم تدم سلطنته عليهم كملوك الأثوريين او رجع بالخيبة والافتضاح كغالوس.

دول العرب الأقدمين :

كانت العرب تختلف الى الشام قبل الإسلام بقرون طويلة ، قامت لهم فيها وفي جوارها دول عظيمة خلفت من آثارها ما دلّ على عظمتها ، فمنها دولة النبط ويغلب في أسماء ملوك النبطيين اسم الحارث وعبادة ومالك وهم عرب من بقايا العمالقة ، والعمالقة قوم من عاد وهم القوم الجبارون في الشام. ولم تخلف البتراء غير تدمر وأصل ملوكها من سلالة عربية أيضا. وقد أبقت هاتان الدولتان من أصولهما وحاميتهما جندا كثيرا أصبحوا بعد من جملة سكان الشام والمادة الأولى للعربية فيه. قال نالينو : النبط أو النبيط في اصطلاح العرب في القرون الأولى للهجرة اسم أهل الحضر المتكلمين باللغات الآرامية الساكنين في الشام وخصوصا في الصقع الواقع ما بين النهرين ، وليسوا النبط أو الأنباط الذين اتسعت مملكتهم في أرض الحجاز الشمالية الى حدود فلسطين ونواحي دمشق.

سليح وغسان والضجاعم :

وقد ذكر المؤرخون أن نزول العرب في ديار الشام أقدم من ذلك

٢١

بقرون فإن تكلت فلاسر أحد ملوك أشور غزا الشام مرارا من سنة ٧٤٣ الى ٧٣٢ ق. م. وأخضع في خلال ذلك السامرة ودمشق وصور وحماة وعرب البادية بين فلسطين ومصر وكانت عليهم يومئذ ملكة اسمها حبيبة. وقيل : إن أول من دخل الشام من العرب سليح وهو من غسان ـ وغسان ماء نزل عليه قوم من الأزد بين رمع وزبيد في اليمن فنسبوا اليه ـ ويقال من قضاعة فدانت بالنصرانية وملّك عليها ملك الروم رجلا منهم يقال له النعمان بن عمرو بن مالك فلما خرج عمرو بن عامر مزيقيا من اليمن في ولده وقرابته ومن تبعه من الأزد أتوا أرض عك في اليمن ثم أرض الحجاز وصار منهم قوم الى الشام ، منهم آل جفنة ملوك الشام فكتب سليح الى قيصر يستأذنه في إنزالهم فأذن لهم على شروط شرطها عليهم.

وبنو غسان في الحقيقة حي من الأزد على رواية المسعودي من القحطانية قال أبو عبيد : وهم بنو جفنة والحارث وهو ثعلبة والعنقاء وحارثة ومالك وكعب وخارجة وعون بن عمرو بن مزيقيا. وذكر الحمداني أن في البلقاء طائفة منهم وباليرموك الجم الغفير وبحمص منهم جماعة. وحكم ملوك غسان حوران والبلقاء والغوطة وحمص ودمشق. قال المسعودي : وكانت ديار ملوك غسان باليرموك والجولان وغيرهما بين غوطة دمشق وأعمالها ، ومنهم من نزل الأردن وقد أخرجت غسان من الشام سليحا وصاروا ملوكها ، وأول من ملك جفنة بن عمرو فقتل ملوك قضاعة من سليح الذين كانوا يدعون الضجاعمة أو الضجاعم ودانت له قضاعة ومن بالشام من الروم وجميع ملوك جفنة من آل غسان اثنان وثلثون ملكا لبثوا في ملكهم ستمائة وست عشرة سنة وقيل أربعمائة سنة.

التنوخيون :

هذا في الجنوب أما في الشمال فقد نزل التنوخيون قبل الإسلام بقرون ، وسموا تنوخيين لأنهم حلفوا على المقام بالشام ، والتتنخ والتنوخ المقام ، كانوا قبائل تتاخم منازلها مملكة الروم ، فلما غزا ملك الفرس الروم ، وأذرع فيهم القتل والسبي وخرب العمائر ، أنفذ ملك الروم الى تنوخ يستنجدهم

٢٢

على ملك الفرس فأنجدوه ، وقاتلوا معه قتالا شديدا ، ثم سألوا ملك الروم أن يتولوا حرب الفرس منفردين عن جند الروم لتظهر له طاعتهم وغناؤهم فأجابهم الى ذلك فقاتلوا الفرس وظفروا بهم ، فأعجب بهم ملك الروم وفرق فيهم الدنانير والثياب وقرّبهم وأدناهم وأقطعهم سورية وما جاورها من الأصقاع الى الجزيرة. وسورية مدينة بقرب الأحصّ على جانب البرية. قال ابن العديم : هذا منتهى أمرهم في الجاهلية.

ولم يعرف الزمن الذي كان فيه التنوخيون ، وبعضهم يقول : إنهم كانوا في أواخر القرن الثالث للمسيح ويقول المسعودي : إن قضاعة بن مالك بن حمير أول من نزل الشام وانضافوا الى ملوك الروم فملّكوهم ، بعد أن دخلوا في دين النصرانية ، على من حوى الشام من العرب ، فكان أول ملوك تنوخ النعمان بن عمرو بن مالك ، ثم ملك بعده عمرو بن النعمان ابن عمرو ، ثم ملك بعده الحواري بن النعمان ولم يملك من تنوخ غيرهم. ثم وردت سليح الشام فتغلبت على تنوخ وتنصرت فملّكتها الروم على العرب الذين بالشام. قال : وغلبت غسان على من بالشام من العرب فملكها الروم على العرب وإن من ملكته الروم من اليمن بالشام تنوخ والضجاعم من سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وغسان استكفاء بهم من يليهم من بادية العرب.

المهاجرات والايطوريون :

والغالب أن معظم مهاجرات العرب الى الشام كانت تقع عقيب حوادث طبيعية في أرضهم من جفاف وطوفان وجدب وموتان ، فيستهويهم بخصبه ، وينتجعون هناءة العيش في أرجائه. وفي الأغاني لما أرسل الله سيل العرم على أهل مأرب قام رائدهم فقال : من كان منكم يريد الخمر والخمير ، والأمر والتأمير ، والديباج والحرير ، فليلحق ببصرى والحفير ، وهي من أرض الشام فكان الذين سكنوه غسان.

ومن الدول العربية التي اشتهرت زمن دخول الرومان الى سورية دولة الإيطوريين ومعنى الإيطوريين بالعبرية الجبليون ، وهم شعب عربي جاءوا

٢٣

من ايتورة اي الجيدور شمالي حوران واشتهروا برمي النشاب فاستولوا بمضائهم الحربي على جبل الشيخ (حرمون) والبقاع الى فينيقية ، وبعض أسماء الجنود الجيدوريين التي جاءت في الكتابات اللاتينية باللغة الآرامية وبعضها باللغة العربية. قال دوسو : لم تكن هجرة العرب الى سورية مما ينسب لإدارة الرومان كما يظن بعضهم بل إن الأحوال قد سهلت طرقها في ذاك العصر وضمنت لهم رسوخ قدمها في ظل السلام. فقد كانت مدينة حمص في يد حكومة عربية قبل وصول القائد بونبيوس الى سورية وأن الأقيال الذين تولوا أمر تلك الديار لتطلق عليهم ألقاب عربية صرفة ، كما يفهم من آثار الصفا. ولما جاء الإسكندر الى الشام كان العرب يحتلون لبنان.

سليح وعاملة وقضاعة :

وممن يجب عدهم في المهاجرة الأول من العرب الى الشام سليح الذين أشرنا اليهم آنفا فقد قال البكري : سارت سليح بن عمرو بن الحاف ابن قضاعة يقودها الحدرجان بن سلمة حتى نزلوا ناحية فلسطين على بني أذينة بن السّميدع من عاملة وانتشر سائر قبائل قضاعة في القطر ، يطلبون المتسع في المعاش ويؤمون الأرياف والعمران ، فوجدوا بلادا واسعة خالية في أطراف الشام قد خرب أكثرها ، واندفنت آبارها ، وغارت مياهها ، لإخراب بخت نصّر لها ، فافترقت قضاعة فرقا أربعا ينضم الى الفرقة طوائف من غيرها يتبع الرجل أصهاره وأخواله فسار ضجعم ابن حماطة ولبيد بن الحدرجان السليحي في جماعة من سليح وقبائل من قضاعة الى أطراف الشام ومشارفها وملك العرب يومئذ ظرب بن حسان بن أذينة ابن السّميدع بن هزبر العمليقي فانضموا اليه وصاروا معه فأنزلهم مناظر الشام بين البلقاء الى حوارين الى الزيتون (جبال فلسطين) فلم يزل ملوك العماليق يغزون معهم المغازي ويصيبون المغانم حتى صاروا مع الزباء بنت عمرو بن الظرب اللخمي واستولوا على الملك بعدها وظلوا ملوكا حتى غلبتهم غسان على الملك ، قال بعض آل سعد بن ملكيكرب يذكر منازل

٢٤

من خرج من اليمن وقد ذكر غسان وقضاعة وكلبا :

وغسان حيّ عزهم في سيوفهم

كرام المساعي قد حووا أرض قيصر

وقد نزلت منا قضاعة منزلا

بعيدا فأمست في بلاد الصنوبر

وكلب لها ما بين رملة عالج

الى الحرّة الرجلاء من أرض تدمر

وعالج رمال معروفة في البادية ، والحرة الرّجلاء في ديار بني القين في أطراف الشام بين حوران وتيماء ، والشاعر يقول إنها من أرض تدمر. وفي تاريخ الأمم الاسلامية : «إن الضجاعمة ملوك اصطنعهم الرومان ليمنعوا عرب البرية من العبث وليكونوا عدة على الفرس وولوا منهم ملكا ومن أشهر ملوكهم زياد بن الهبولة».

لخم ، جذام ، عاملة ، ذبيان ، كلب :

ذكر الهمداني مساكن من تشاءم من العرب أي دخل الشام فقال أما مساكن لخم فهي متفرقة وأكثرها بين الرملة ومصر في الجفار ومنها في الجولان ومنها في حوران والبثنيّة ، ومدينة نوى ، وبها خلف بن جبلة القصيري وابن عزير اللخمي مسكنه طرف جبال الشّراة ، وأما جذام فهي بين مدين الى تبوك فالى أذرح ومنها فخذ مما يلي طبرية من أرض الأردن الى اللجون واليامون الى ناحية عكا ، وأما عاملة فهي في جبلها مشرفة على طبرية الى نحو البحر ، وأما ذبيان فهي من حد البياض بياض قرقرة ـ والقرقرة الأرض الملساء ـ وهو غائط ـ والغائط كالغوطة المطمئن من الأرض ـ بين تيماء وحوران لا يخالطهم إلا طيّ وحاضرهم السواد ومرو والحيانيات ـ والحيانية كورة بالسواد من أرض دمشق وهي كورة جبل جرش قرب الغور ـ وأما كلب فمساكنها السماوة ـ والسماوة الأرض المستوية لا حجر بها وهي البادية بين الكوفة والشام ـ ولا يخالط بطونها في السماوة أحد. ومن كلب بأرض الغوطة عامر بن الحصين بن عليم وابن رباب المعقلي ومن بني الحارث بن كعب بيت يسكنون بالفلجة من أرض دمشق ـ والفلجات في شعر حسان بالشام كالمشارف والمزالف بالعراق والمشارف جمع مشرف قرى قرب حوران منها بصرى.

٢٥

جهينة ، القين ، بهراء ، تنوخ :

ثم للخم ومن يخالطها من كنانة ما حول الرملة الى نابلس ولهم ايضا ما جاز تبوك الى زغر ـ قرية بمشارف الشام ـ ثم البحيرة الميتة. وللخم أيضا الجولان وما يليها من الأرجاء نوى والبثنيّة وشقص من أرض حوران ، ويخالطهم في هذه المواضع جهينة وذبيان ومن القين وعن أيسر جبال الشراة مدائن قوم لوط قال : وفي الحيانيات وما يليها ديار القين حيث كانت بقية من جديس إخوة طسم ، فإذا جزت جبل عاملة تريد قصد دمشق وحمص وما يليها فهي ديار غسان من آل جفنة وغيرهم ، فإن تياسرت من حمص عن البحر الكبير وهو بحر الروم وقعت في أرض بهراء ، ثم من أيسرهم مما يصل البحر تنوخ وهي ديار الفضيض سادة تنوخ ومعكودهم (المقيم الملازم) ، ومنها اللاذقية على شاطىء البحر ثم تقع في نصارى وغير ذلك الى حد الفرات ، وما وقع في ديار كلب من القرى تدمر وسلمية والعاصمية وحمص وهي حميرية ، وخلفها مما يلي العراق حماة وشيزر وكفر طاب لكنانة من كلب.

إياد وطيىء وكندة وحمير وعذرة وزبيد وهمدان ويحصب وقيس :

يؤخذ مما قاله اليعقوبي أن أهل حماة قوم من يمن والأغلب عليهم بهراء وتنوخ وصوّران ـ كورة بحمص ـ وبها قوم من إياد ، وأهل حمص جميعا يمن من طيىء وكندة وحمير وكلب وهمدان وغيرهم من البطون ، وأهل التمة من أقاليم حمص كلب ، وأهل سلمية من ولد عبد الله بن صالح الهاشمي ومواليهم وأهل تدمر كلب ، وتلمنس مساكن إياد (وتل منّس حصن قرب المعرة) ، ومعرة النعمان أهلها تنوخ وأهل البارة بهراء وفامية عذرة وبهراء ، وأهل مدينة شيزر قوم من كندة ومدينة كفر طاب والأطميم ، وهي مدينة قديمة وأهلها قوم من يمن ، من سائر البطون وأكثرهم كندة وأهل اللاذقية قوم من يمن من سليح وزبيد وهمدان ويحصب وغيرهم ، وأهل مدينة جبلة همدان ، وبها قوم

٢٦

من قيس ومن إياد ، ومدينة بانياس وأهلها أخلاط ، وأهل مدينة انطرطوس قوم من كندة.

قال : وكانت دمشق منازل ملوك غسان والأغلب على أهلها أهل اليمن وبها قوم من قيس ، وأهل الغوطة غسان وبطون من قيس وبها جماعة من قريش ، وجبال ومدينتها عرندل ـ قرية من أرض الشّراة ـ وأهلها قوم من غسان ومن بلقين وغيرهم ومآب وزغر وأهلها أخلاط من الناس ، والشّراة ومدينتها أذرح وأهلها موالي بني هاشم ، وبها الحميمة منازل علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب وولده. والجولان ومدينتها بانياس وأهلها قوم من قيس أكثرهم بنو مرة ، وبها نفر من أهل اليمن ، وجبل سنير ـ اي لبنان الشرقي ويدخل فيه جبل قلمون ووادي التيم ـ وأهلها بنو ضبّة وبها قوم من كلب.

واختلف الباحثون في الغسانيين إذا كانوا حكموا دمشق أم لم يحكموها وكون منازلهم كانت بجلق صحيح نقله ثقات العرب وورد في شعر حسان وقال نولدكه : إن بني غسان لم يتولوا الحكم إلا على قبائل حوران وشرقي الأردن. وقد قال الأخنس بن شهاب من شعراء الجاهلية :

وغسّان حيّ عزهم في سواهم

يجالد منهم مقنب وكتائب

وبهراء حيّ قد علمنا مكانهم

لهم شرك حول الرّصافة لاحب

معناه هم ملوك ولم يكونوا كثيرا ، وكانت الروم توليهم وتقاتل عنهم فعزّهم في غيرهم ، وكانوا نزولا على قوم من العرب. (والمقنب الجماعة والشرك اللاحب الطرق المدمثة).

الفرس والزط :

وبعلبك وأهلها قوم من الفرس ، وفي أطرافها قوم من اليمن ، وجبل الجليل وأهلها قوم من عاملة ولبنان وصيدا وبها قوم من قريش ومن اليمن ، وكورة عرقة ـ شرقي طرابلس ـ ولها مدينة قديمة فيها قوم من الفرس ناقلة وبها قوم من ربيعة من بني حنيفة ، ومدينة طرابلس وأهلها قوم من الفرس نقلهم اليها معاوية بن أبي سفيان ، كما نقل منهم الى جبيل

٢٧

وصيدا وبيروت. وقد نقل معاوية قوما من فرس بعلبك وحمص وأنطاكية الى سواحل الأردن وصور وعكا سنة ٤٢ ونقل من أساورة البصرة والكوفة وفرس بعلبك وحمص الى أنطاكية جماعة. والغالب أن الفرس عند دخول العرب المسلمين الى الشام كانوا أصحاب مكانة حتى جرى ذكرهم بالتنصيص في العهد الذي أعطاه أبو عبيدة الى أهل بعلبك «رومها وفرسها وعربها».

وقال البلاذري : نقل معاوية في سنة ٤٩ أو سنة خمسين الى السواحل قوما من زطّ البصرة والسبايجة وأنزل بعضهم أنطاكية ، وكان الوليد بن عبد الملك نقل الى أنطاكية قوما من الزط السند. وكثرت هجرة الناس على اختلاف عناصرهم الى هذا القطر لأن قصبته أصبحت عاصمة الدولة الإسلامية الكبرى.

الأخلاط والسامرة وجذام وعذرة ونهد وجرم والأزد :

وأهل مدينة طبرية قوم من الأشعريين هم الغالبون عليها ، وأهل صور وعكا وقدس وبيسان وفحل وجرش والسواد أخلاط من العرب والعجم. وأهل الرملة أخلاط من العرب والعجم ، وذمتها سامرة ، وأهل مدينة نابلس أخلاط من العرب والعجم والسامرة ، وأهل كورة جبرين قوم من جذام ، وأهل جند فلسطين أخلاط من العرب من لخم وجذام وعاملة وكندة وقيس وكنانة. وذكر القلقشندي أن بني كلب كانوا ينزلون في الجاهلية دومة الجندل (الجوف) كما نزلوا تبوك وشيزر وحلب وبلادها ، وفي تدمر والمناظر أقوام منهم ، ومن بني عذرة أقوام بالشام ، وكذلك من بني نهد وفي غزة. جرم طيىء وللأزد بقايا في زرع وبصرى ، ولغسان بقايا بالبلقاء واليرموك وحمص وهذا في القرن الثامن للهجرة ، وكان غسان وجذام وكلب ولخم وغيرهم من القبائل يعدون من المستعربة ، كما قال ابن البطريق ، استجلبهم هرقل لما سمع أن المسلمين فتحوا فلسطين والأردن وصاروا الى البثنية. ولما وصل أبو عبيدة بن الجراح فاتح الشام الى حاضر حلب وهو قريب منها جمع أصنافا من العرب من تنوخ وغيرهم ، وكانوا أرسلوا الى خالد بن الوليد أنهم عرب وأنهم إنما حشروا مع الروم ولم يكن من رأيهم حربه فقبل منهم وتركهم.

٢٨

قيس ويمن وإحصاء السكان :

رأينا في ما تقدم من النقول أن كل إقليم بل كل بلد ناله حظ من نزول العرب في أرجائه وذلك قبل الإسلام وبعده :

بها غرر القبائل من معدّ

وقحطان ومن سروات فهر

ومجموع أصولهم يرجع الى قيس ويمن ، وهم الذين كان يطلق عليهم اسم العشران. وكثيرا ما كانت تقع بينهم حروب أهلية تسيل فيها الدماء وينادى فيها يا للثارات. انتشروا من الجنوب الى الشمال ودام ذلك الى العهد الأخير ، وكانت بقايا هذه النغمة في لبنان الى القرن الماضي فدثرت. وآخر حرب نشبت بين قيس ويمن الحرب التي وقعت في قرية خربثة بفلسطين والحرب التي نشبت في قرية عين دارة في جبل لبنان سنة ١٧١٠ م. ويتعذر الآن الحكم على أجيال العرب التي نزلت الشام لما طرأ على القطر من ضروب البلاء كالوباء والجدب والزلزال والظلم والجلاء. وقد ذكر لامنس أن العرب المسلمين لما انتهوا من أمر الجابية وعمواس ودابق اي لما فتحوا الشام برمته أنشأوا ينزلون المدن والقرى وقد دخل منهم قبائل برمتها قدرها من مئة الى مائتي ألف ونظن هذا التقدير أقل من الحقيقة لأن المسجلين بديوان العطاء في دمشق فقط كانوا في الصدر الأول خمسة وأربعين ألفا فما بالك بسائر من كان يجرى عليه العطاء في البلدان الأخرى وغيرهم من التجار وأصحاب الزرع والضرع؟ قال : فلو فرضنا أن نصفهم قتلوا في الحروب فيبقى النصف الآخر أمام السكان الأصليين وكانوا من أربعة الى خمسة ملايين ، وكان في الشام على عهد الرومان نحو سبعة ملايين. وقال بعض الباحثين من الافرنج : إن الشام على عهد الإسكندر أي قبل المسيح بثلاثة قرون كان يسكنها عشرون مليونا من البشر ، ولما جاءت العرب في القرن السابع كان سكانها قد نقصوا حتى بلغوا عشرة ملايين وفي عهدنا بلغ عددهم نحو سبعة ملايين.

المردة والجراجمة والأرمن والروم والموارنة :

لقب أهل لبنان بالمردة أي العصاة لعصيانهم أمر ملك الروم في عدم

٢٩

التعرض للعرب. والمردة هم المعروفون في كتب العرب بالجراجمة نسبة لمدينة جرجومة كانت على جبل اللكام بالثغر الشامي عند معدن الزاج فيما بين بيّاس وبوقة قرب أنطاكية وقد صالح الجراجمة المسلمين على أن يكونوا أعوانا لهم وعيونا ومسالح في جبل اللكام ، ودخل معهم من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابع من الأنباط من أهل القرى ومن معهم في هذا الصلح فسموا الرواديف لأنهم تلوهم وليسوا منهم. وكانوا يستقيمون للولاة مرة ويعوجون أخرى فيكاتبون الروم يمالئونهم على المسلمين.

أخذ يوستنيانوس ملك الروم اثنى عشر الف مقاتل من المردة أو الجراجمة على رواية الدويهي إرضاء للخليفة عبد الملك الأموي. وأسكن أبو جعفر المنصور بعض العشائر في الأرض الخالية المجاورة منازل المردة في لبنان. وكان المردة يعتدون على أبناء السبيل بين دمشق وبيروت. ولما جاء المنصور الى دمشق قدم عليه الأمير أرسلان بن مالك من المعرة ومعه جماعة فشكوا اليه توالي القحط عليهم فأقطعهم جبال بيروت الخالية وعهد اليهم بحفظ الطريق فنزلوا في عشائرهم بحصن أبي الحبيش ثم نزلوا جبل المغيشة (ظهر البيدر) ومنها امتدوا الى سن الفيل ، وصارت بينهم وبين المردة وقائع. وفي أوائل حكم العباسيين أخرج صالح بن علي قوما من الأرمن واللان ممن كانت الروم تسيرهم من إرمينية مع جاثليقهم وأسكنهم الشام ، ومن هذا اليوم امتنع ملوك الروم أن يسكنوا في سلطانهم أحدا من الأرمن ولا سيما في المواضع القريبة من الثغور أي ثغور الشام أو بلاد قيليقية. وفي سنة ١٨٩ أرسل هرون الرشيد منشورا الى ثابت بن نصر الخزاعي أمير الثغور الشامية ومناشير أخرى الى باقي عمال الشام أن يطلقوا التنبيه في البلاد بالرحيل الى لبنان لتشتد قوة أمرائه. ومثل ذلك وقع منذ خمسة قرون ، فهاجرت مئات من الأسر المسيحية في القرن الرابع عشر وبعده من حوران وما إليها الى لبنان ، واعتصمت في معاقله ولا سيما بعد الفتح العثماني ، وذلك تفاديا من قوة الشيعة في تلك الديار ، كما أن الموارنة انتقلوا من أرجاء حمص وجبل سنير وظلوا ينتشرون في شمالي لبنان حتى وصلوا الى كسروان والمتن والشوف وأقصى لبنان في جزين ، كما انتقل الدروز في

٣٠

الأعصر الثلاثة الأخيرة من الشوف ووادي التيم وغيرهما الى جبل حوران الذي كان يسمى جبل الريان وجبل بني هلال أو امالدانوس وأصبحوا فيه الأكثرية المطلقة. وكما هاجر النصارى الشرقيون الى القدس من أرض البلقاء وعمان وعرفوا بالمشرقيين ومحلتهم بالمشارقة. وبهذا رأينا أن الهجرة من صقع الى صقع من أصقاع هذا القطر والهجرة من القاصية والهجرة الى القاصية لم تنقطع في الإسلام كما أنها كانت كذلك منذ جلاء بني إسرائيل الى بابل بل قبلها مما لم تبلغنا بالتفصيل أخباره.

التركمان والأتراك والأكراد والشركس وغيرهم :

نزل التركمان على عهد دولة بني مرداس العربية في شمالي حلب ، وسير الأتابك زنكي طائفة من التركمان الإيوانية مع الأمير اليارق الى الشام وأسكنهم في ولاية حلب وأمرهم بجهاد الافرنج وملكهم كل ما استنقذوه منهم جعله ملكا لهم. ولم يزل جميع ما فتحوه في أيديهم الى نحو سنة ستمائة. وأسكن صلاح الدين كثيرا من التركمان والأكراد في لبنان وساحله. والتركمان والأكراد كثروا جدا في الشام على عهد الدولتين النورية والصلاحية ، وكان قسم عظيم من جند المسلمين إذ ذاك منهم ، فتديروا الأقاليم واستعربوا. ولم تجىء دولة المماليك حتى كثر الشراكسة في هذه الديار واستعربوا هم وحكومتهم مع الزمن. وفي عهد العثمانيين نزل قبائل من التركمان في بغراس (بيلان) وما اليها وعادت هذه فتعربت بمن كان نزلها من الإسماعيلية العرب الذين أخضعوا لسلطانهم تلك الجبال ، جبال اللكام وما اليها.

جاء القرن الحادي عشر وفي الشام كما قال كاتب جلبي أنواع الألسنة كالعربية والتركية والكردية والفارسية والهندية والأفغانية والسليمانية وهذا كله في دمشق قال : وهناك مغاربة وسريان وعرب ، وفي الإسكندرونة وطرابلس وصيدا والقدس اليونان واللاتين والطليان والفرنسيون والاسبان والإنكليز والنمساويون والبولونيون والروس والموسكوف والقبط والحبش والأرمن وجميع طوائف النصارى اه.

٣١

ومن أعظم شعوب أوروبا عراقة في هذه الديار البنادقة والبيزان والجنويون والطوسقانيون من أهل ايطاليا وكانت أهم تجارة البحر المتوسط في أيديهم من القرن الخامس الى القرن التاسع للهجرة ومنهم من توالد في ديارنا وملك الدور والتجارات الواسعة.

المهاجرون والمحدثون اليهود والأرمن :

وفي أواخر القرن الماضي جاء الشام قبائل كثيرة وجاليات مهمة من الطاغستان والبشناق والششن والشركس والمغاربة فنزلوا بعض القرى في فلسطين مثل قيسارية ، وبعض بلاد الجنوب مثل عمان وعين صويلح وناعور ووادي السير ، وبعض القرى في إقليم الجولان ومنها القنيطرة وما اليها من القرى ، وبعض قرى حمص وحلب ، فلم يأت عليهم بطن حتى استعربوا محتفظين بلغاتهم الأصلية ، كما استعرب من قبل التراكمة والأكراد. وهناك بقايا من موظفي الترك سكنوا بعض مدن الشام على عهد العثمانيين وامتزجوا بأهلها وتعربوا.

ومن أهم المهاجرين المتأخرين مهاجرو الصهيونيين من الإسرائيليين الى فلسطين ، وأكثرهم ممن اضطهدوا في روسيا وبولونيا ورومانيا ، ومنهم من كانوا من العنصر الجرماني وهؤلاء يتعاصون على التعرب وقد جعلوا من لغاتهم الأصلية واللغة العبرية ألسنهم المدنية والدينية ، ويقدرون الإسرائيليين عامة في فلسطين بنحو مليون ونصف مليون كان الألمان كثرتهم الغامرة ، وقلّ عدد العرب فيها بعد أن طردهم اليهود من أرضهم وقدر عدد النازحين من المسلمين والنصارى بتسعمائة ألف تشردوا في الأقطار المجاورة ، وما ندري هل يعلّم أبناء إسرائيل العرب لسانهم أم يخضع العبرانيون بحكم الطبيعة الى التعرب بعد جيلين أو ثلاثة كما جرى في كل مكان وطئتها أقدام العرب. وكذلك يقال في مهاجرة الأرمن والروم في الشام ، فقد قذفت الحوادث الأخيرة في قيليقية وأزمير نيفا ومائة وثمانين الف نسمة أكثرهم من الأرمن ، نزلوا حلب ودمشق وبيروت وغيرها من البلدان الصغرى. وقد عاد قسم عظيم منهم فجلا عن الديار الشامية ، قصد بعضهم الى أمريكا

٣٢

والآخر الى مملكتهم الجديدة. وما يدرينا أيضا إذا كان من نزلوا الشام يستعربون كما تترّك أجدادهم في آسيا الصغرى. وأصبح الأرمني والرومي لا يعرف غير التركية يتكلم بها في داره ويفهم بها صلواته ، أم يؤلفون كتلة جديدة في وسط هذا المجموع العربي الكبير.

عوامل النمو :

ولو لا أن مضى على الشام الى قبيل الحرب العامة الأولى خمسون سنة وهو يرسل من أبنائه كل سنة الى اليمن زهاء عشرة آلاف مجند يهلك أكثرهم كما أكد لي الثقة لقلنا ما زالت جزيرة العرب الى اليوم ترسل الى الشام من أبنائها أناسا يسكنونها ويمتزجون بأهلها كأن هذه الجزيرة العظيمة بعض ولايات الشام تعطيها أكثر مما تأخذ منها كما تعطي المدن الصغيرة للعواصم وقلما تعطي هذه لغيرها من أعمالها. ولو لا اعتدال المناخ والرضا بالدون من العيش وتعدد الزوجات في الطبقة النازلة من الشعب والاعتقاد بالقدر وترك الأبوين المجال للتوالد لظهر عجز كبير في عدد السكان خصوصا بعد أن منيت الشام بالهجرة على مقياس واسع وغفل عن العناية بالأسباب الصحية. والأمم يكثر سوادها على قول سكريتان بأربعة عوامل وهي الهجرة والاستيطان والولادات والوفيات وبنقيضها تقفر الأرض ويقل ساكنوها. وقد كان أبناء الشام منذ عهد الدولة الرومانية في كل مكان كما تراهم الآن وكان منهم في جيش جرمانيكوس القائد الروماني عدة كتائب عند ما حمل حملته على الرين. والبشر في فطرتهم التنقل وللسلطان الأرضي والسلطان الطبيعي آثار في ذلك مسطورة مشهورة.

العرب في الشام والاختلاط :

وما زالت الى اليوم سحنات بعض سكان الأصقاع الشامية كحوران والبلقاء تنم عن أصول عربية صرفة على ما نرى ذلك ماثلا في الطوائف التي

٣٣

احتفظت بأسابها العربية ولم يدخلها دم جديد كسكان الشوف ووادي التيم وجبل حوران وجبال الكلبية. وما طول القامات واتساع الصدور ومتانة العضلات والجملة العصبية والأدمغة في الأفراد إلا أدلة ناصعة على ما ورثه الشاميون من الدم العربي. وفي الشام جميع الأمزجة يكثر الدمويون مثلا في داخل القطر كالقدس ونابلس وصفد ودمشق وحمص وحماة وحلب وأنطاكية ، كما يكثر الصفراويون العصبيون في يافا وحيفا وصيدا وبيروت وطرابلس واللاذقية والإسكندرونة من مدن الساحل. وإن ما في تركيب أدمغة السوريين من أشكال الرؤوس كالشكل البيضوي المستطيل المعروف عند الافرنج ب (دوليكوسفال ـ Dolichoce ? phale) الشكل المدور المنبسط المعروف ب (براكيسفال Brachyce ? phale) ليدل كل الدلالة على مبلغ الشاميين من الذكاء والمضاء فقد قال فوليه : إن اتساع الجبهة يشعر باستعداد الحواس العقلية ، وامتداد القذال ينم عن استعداد للشهوات الجسمية. وفي وجوه السوريين تقرأ بعض أصولهم القديمة وما امتزجت به من الدم الحديث فسود الشعور والعيون والبشرة إجمالا هم من أصل عربي ، وشقر الشعور وزرق العيون وبيض البشرة فيهم الدم القافقاسي. وفي تراكيبهم دم العبيد والزنوج كما فيهم دم العرق الأبيض. قال جلابرت :إذا فحصت الصور المكتشفة في صيدا تحققت أنه كان يدخل في خدمة السلوقيين رجال من كل فج وصوب ، منهم يونان كأهل لقديمونة واقريطش ، ومنهم أسياويون كأهل قارية وبيسيدية وليقية وليدية ، وإن العقل ليحار باختلاط كل هذه الجنسيات في جيوش السلوقيين.

وسكان الحولة وأريحا والغور ويقال لهم الموارنة لا يشبهون بالطبع سكان اللبنانين الغربي والشرقي وجبال اللكام لمكان الهواء واختلاف البعد والقرب عن سطح البحر. وابن ضفاف العاصي وبردى ليس في طبيعته كالنازل على ضفاف الأردن والفرات. والاختلاف ما بين من نزل البطون وبين من نزل الحزون وبين من نزل النجود وبين من نزل الأغوار مشهود في كل أمة ، ومع هذا تساوى سكان هذا القطر من حيث الجملة كما قال الجاحظ في العرب : «في التربة وفي اللغة والشمائل ، وفي الأنفة والحمية ،

٣٤

وفي الأخلاق والسجية ، فسبكوا سبكا واحدا ، وأفرغوا إفراغا واحدا ، وكان القالب واحدا ، تشابهت الأجزاء وتناسبت الأخلاط حتى صار ذلك أشد تشابها في باب الأعم والأخص وفي باب الوفاق والمباينة من بعض الأرحام.» وبعد فإن من نراهم من أبناء الشام على اختلاف أرجائه وهوائه هم سلالة أولئك الجدود ظهروا على الزمن بمظهر آخر فكانوا كأبدع الفسيفساء في الرقعة الجميلة.

٣٥

لغات الشام

اللغة الآرامية والسريانية والعبرانية والفينيقية والعربية :

اللغات التي انتشرت في الشام قبل الإسلام كثيرة أهمها اللغات السامية أخوات اللغة العربية وهي السريانية والعبرانية والفينيقية. وقد قسم جويدي (١) أهل اللغات السامية الى قسمين أكبرين شرقي وهم أهل أثور أي أهل بابل وأشور ، وغربي وهو إما شمالي وإما جنوبي ، فأما الشمالي منهما فينقسم قسمين كبيرين أحدهما الكنعاني ويشمل العبراني والفينيقي وغيرهما والآخر آرامي. وأما الجنوبي فهو نوعان النوع الأول العربية المعهودة أي لغة القبائل التي سكنت النواحي الشمالية من جزيرة العرب ، والنوع الثاني عربية القبائل الجنوبية كسبإ وحمير ويشبه هذا النوع لغة الحبش القديمة. وقد يسمى النوع الأول لسان العرب المستعربة ويسمى النوع الثاني لسان العرب العاربة. فالعبرانية من لغات كنعان ومن اللغات الكنعانية لغة موآب ومن لغات الكنعانيين لغة الفينيقيين وقال : إن اللسان الآرامي هو النوع الثاني من القسم الشمالي في اللغات السامية ، وفي هذا اللسان قسمان أحدهما غربي وهو لسان اليهود المتخلفين في فلسطين وفي مصر وهو لسان عدة أمم كالسامرة

__________________

(١) قال جويدي : وأول ما بلغنا مما سطره البابليون هو في غاية القدم اي من القرن الأربعين قبل الميلاد والكتابات الكنعانية في مكاتيب تل العمارنة هي من القرن الخامس عشر قبل الميلاد ثم الكتابات السبئية في جنوب جزيرة العرب قيل إنها من القرن الثاني عشر والكتابات الفينقية والآرامية من القرن الثامن او السابع ق. م. وكتابات الحبش القديمة سطرت في منتصف القرن الرابع بعد الميلاد.

٣٦

والنبط وأهل تدمر ، والقسم الثاني شرقي وهو لسان اليهود في بابل ولسان السريان وغيرهم.

قال : ومن اللغات الآرامية الغربية لغة الكتابات النبطية وكان الأنباط أمة عربية الأصل ولغتهم المأنوسة العربية في التكلم والمحاورة بين الناس. والأحرف الهجائية لم تكن معروفة عند العرب.

البابلية والكنعانية والكلدانية :

كان أهل الشام منذ الزمن الأطول قبائل سامية من البابليين ولم يزل يهاجر إليها أجيال من الناس سموا الكنعانيين فغلب الكنعانيون البابليين ، وباللغة البابلية كتبت رسائل تل العمارنة التي وجدت في مصر سنة ١٨٨٨ م وهي رسائل صدرت عن عمال الشام الى ملوك مصر قبل موسى وهارون فاستدل علماء الإفرنج أن اللغة البابلية كانت في ذلك العهد لغة الحكومة بين الدول الراقية ، وارتأى بعضهم أن الشام كانت تتكلم إذ ذاك بالبابلية ، وكان اللسان الكنعاني أخذ يمتزج بلغة بابل ، فتغلب بفرعيه العبراني والفينيقي على لغة أشور وبابل. وكان الكلدانيون يتكلمون بالآرامية على رأي بوست وفقا لعادة ديوان الحكومة ولكنها لم تكن لغتهم الخاصة ولا العلمية ، أما لغة الكلدانيين الأصلية فالكلدانية القديمة وهي لغة أكّد ، وقد استعملها سكان بابل الأصليون إلا أنها كانت على وشك الاضمحلال في زمن بخت نصر وقد هجرتها الألسنة لذلك الحين ، وكان ظهور اللغة المسماة الآن بالسريانية في القرن الثاني بعد المسيح وهجر أهلها استعمالها نحو القرن الثاني عشر.

الحثية والآرية واليونانية واللاتينية :

أما اللغة الحثية فكانت على قول كروفرد في القرن الرابع عشر والثالث عشر قبل التاريخ المسيحي لغة مستعملة من اللغات الهندية الأوروبية أي اللغات الأوروبية المشابهة للاتينية والآرية الايرانية والارمنية ، وأن الحثيين أنفسهم من سلالة آرية أوروبية ، ولكن امتزج بهم مع الزمن دم من

٣٧

غير الدم الآري الأوروبي أي إن الحثيين من أصل غير سامي ولم تنتشر لغتهم كما قال حتى بين العامة ولم يتوفق البحاثون الى حل رموزها حتى الآن. فاللغة البابلية كانت منتشرة في الشام منذ زهاء ثلاثة آلاف سنة قبل المسيح ، ثم تغلبت الكنعانية التي تشمل العبرانية والفينيقية ، ثم تغلبت الآرامية على الكنعانية وهما متشابهتان. ولما صار الأمر الى الفرس بعد البابليين في الشام بقيت اللغة الآرامية اللغة الرسمية.

وفي دولة الروم السلوقية بث خلفاء الإسكندر المدنية اليونانية في سكان سواحل البحر المتوسط ، وكانت مع هذا الى ضعف ولا سيما في لبنان إذ دام أهله على استعمال الآرامية ممزوجة باللغة الفينيقية ، وكانت اليونانية اللغة الرسمية ولغة العلماء على عهد الروم والرومان أيضا منتشرة في كثير من الأرجاء. وكانت مدرسة الفقه في بيروت تدرس باللاتينية مدة أربعة قرون. ولكن اليونانية على تأصلها بالنسبة للاتينية لم تشع في العامة. ولما استولى الإيطوريون على لبنان لم يغيروا شيئا من لغته ولا شك في أن لغتهم كانت العربية الآرامية. أما النبط وهم من أقارب الإيطوريين وجيرتهم فإن لغتهم لم تكن سوى لجة آرامية.

وذكر أحد الباحثين أن الرومان لما جاءوا الشام واستعمروه انتشرت اللغة اليونانية في المراكز الكبرى حتى نسي كثيرون اللغة الفينيقية واللغة الآرامية ولا سيما في طبقة الأشراف وأصحاب الثروة ، وبقيت اللغة اللاتينية لغة الحكومة ، وحافظ العامة على اللغة الفينيقية والسريانية ، وكان الفقهاء يكتبون باللاتينية لغة الفقه والقضاء ، والأدباء والفلاسفة باليونانية ، وهي اللهجة العامة في الشرق ، واللغة الآرامية هي اللغة الرسمية في دولة تدمر. وظل الشاميون يتكلمون اليونانية على عهد انتشار النصرانية وكذلك عمال الحكومة ورجال القضاء ، وكان الآراميون او الأنباط ، كما كان يسميهم العرب ، في كل محل ما عدا المدن التي كانت مزيجا من عناصر مختلفة.

تنازع السريانية مع العربية :

كانت السريانية لغة عامة في الشام لم تدثر إلا بتملك الرومان على

٣٨

الشرق ونشرهم لغتهم فيه ، فدثر مجد السريانية ولم يبق إلا القليل حتى جاء الإسلام وأدخل العربية. وكانت السريانية على عهد المسيح اللغة العامة في سورية وفلسطين ممزوجة بقليل من العبرية. ورأى دي فوكويه أن جميع الكتابات التي وفق العلماء الى اكتشافها لا تتجاوز القرن الأول قبل الميلاد واللغة التي كان شعوب سورية يتكلمون بها إلا ما ندر هي اللغة الآرامية وجميع الكتابات التي عثروا عليها في تدمر وحوران وأرض النبطيين كتبت بهذا الفرع من اللغة السريانية. واللغة التدمرية واللغة اليونانية هما الغالبتان على الكتابات المكتشفة في تدمر. وكانت اللغة اليونانية بمنزلة اللغة الرسمية في جميع الأقاليم الشرقية الخاضعة لدولة الرومان. وأما لسان أهل تدمر فهو لهجة آرامية على غاية الشبه بالسريانية. وقال بعضهم : إن التدمرية من اللغات الآرية الغربية تشبه النبطية وفي بعض هذه الكتابات اسم ملكهم أذينة. ومن اللغات الكنعانية لغة موآب في شرقي فلسطين. وفي متحف باريز كتابة قديمة في هذه اللغة وضعها ملك اسمه ميشع يذكر فيها حروبه مع عمري ملك الأسباط (أسباط بني إسرائيل) ويقال لهم في كتب العرب ملوك الأسباط.

رأي رنان :

وذكر رنان أن الفينيقيين كانوا الواسطة الوحيدة بين العنصر السامي وسائر العالم ، وكثيرا ما عرفوا بأنهم اخترعوا أمورا ما كانوا فيها إلا نقلة. وما الفينيقيون سوى سماسرة مدنية كانت بابل مقرها ، وظاهر الحال يدعو الى الاعتقاد بأن بابل التي علّمت العالم أصول المقاييس والموازين قد اخترعت حروف ألف باء مركبة من اثنين وعشرين حرفا. قال : وكانت اللغة العبرية لغة الشعوب في فلسطين عند ما دخل بنو إسرائيل الى الشام وقد ذكرت أسماء الشعوب المذكورة في الإصحاح العاشر من سفر التكوين بجلاء ووضوح الأمم المجاورة لفلسطين ، وجعلت اسم كنعان رابطة من روابط القربى بين جميع شعوب الساحل ولبنان ، من مدينة حماة وأرواد في الشمال الى جرار (في فلسطين) والبحيرة المنتنة في الجنوب ،

٣٩

وهم مجموعة الشعوب التي كان اليونان يطلقون عليهم اسم الفينيقيين.

آراء أخرى :

وذكر يوسف داود أن لسان أهل فلسطين ولا سيما أورشليم في عصر المسيح الآرامي أي السريانية ، فكانت اليونانية لغة أجنبية يتكلم بها كثير من الغرباء النازلين في الشام وهي لغة الحكام والحكومة في عهد تلك الدولة. وكثيرا ما كانوا يكتبون بعض المقدسات على ذاك الدور بالعبراني او السرياني واللاتيني واليوناني ، وكان يحرم على اليهود في فلسطين ولا سيما الرجال أن يتعلموا اللغة اليونانية ويباح للنساء تعلمها من باب التزين الجائز لهن. قلت : وهذا من التحكمات الباردة مثل الأمر الصادر عن أحد خلفاء بني العباس من أخذ أهل الذمة بتعلم اللغة السريانية والعبرانية وترك العربية ولكن أمره لم ينفذ لأنه غير معقول.

وقيل : إن الآرامية كانت لغة العامة في عهد المملكة الأشورية وأن الأشورية اللغة الرسمية ، وكان الموظفون في العهد البيزنطي القادمون الى الشام يعتمدون على التراجمة مع الأهلين المتكلمين بالآرامية. ولما انقضى العصر البابلي الأشوري حلت اللغة الآرامية محل البابلية في السياسة والتجارة ، وأصبحت اللغة الرسمية لملوك فارس وآرام وتدمر والبتراء. وكانت اللغة الفينيقية تختلف عن السريانية في القرن الأول قبل الميلاد ثم تمازجتا حتى أصبحتا شيئا واحدا ، وكانت اللهجة العامة عند يهود فلسطين وهي أقرب الى الآرامية منها الى العبرية ، يطلق عليها بين اليهود أنفسهم اسم اللغة العبرية وهي تختلف عن لغتهم المقدسة. وذكر رنان أن اللغة السريانية الكلدانية كانت أكثر اللغات انتشارا في أرض الجليل وأن المسيح كان يتحدث بها الى الناس ، وأن الأناجيل كتبت لأول أمرها باليونانية وأصبحت هذه في الشام لغة عامة ولغة علم ، وكان من نتائج ذلك دخول الألفاظ اليونانية في اللغة السريانية بكثرة زائدة حتى إن اللغة اللاتينية لم يكن لها تأثير البتة بين الشعوب لسامية ، فمن القواعد العامة أن الفتح الروماني لم يستطع أن يقضي على استعمال اللغة اليونانية في القطر وقد رآها متأصلة فيه ،

٤٠