خطط الشام - ج ١

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ١

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٨

بالشام ، وقامت بالمغرب ، ونمت في مصر ، وماتت فيها. ولم تكن على نسبة تينك الدولتين بقوة سلطانها وتأثيراتها ، ولذا ظلت دولة أخرى في أقصى الشام تقاسمها السلطة ، وهي الدولة الحمدانية ، اتفقت معها سياسة اتفاقها معها مذهبا.

وفي سنة وفاة كافور (٣٥٧) جرت بين فنك بن عبد الله مولى كافور الإخشيدي ، وكان جهزه مولاه لأخذ دمشق ثانية ، وبين أهل هذه المدينة مناوشة وقتال وإحراق ونهب ، وبلغه خبر الروم وأخذهم حمص فنادى في دمشق بالنفير الى ثنية العقاب بسبب الروم فخرج الناس الى دومة وحرستا وانتهز الفرصة في خلو دمشق ورحل عنها وتوجه بأثقاله نحو عقبة دمر متوجها الى الساحل ، فنهب أهل دمشق بعض أثقاله وقتلوا من بقي من رجاله.

لما هلك كافور وهلك سيف الدولة وتولى الفاطميون أمر مصر وفتحوا الشام بقي سعد الدولة (٣٥٦) ابن سيف الدولة في مملكة حلب ، ولم يكن كأبيه عقلا وتدبيرا فعصى عليه جند حلب سنة ٣٥٧ ، فنازلها وبقي القتال عليها مدة واستولى الرعيلي على أنطاكية ، وجاءت الروم فنزلوا عليها وأخذوها وهرب الرعيلي من باب البحر هو وخمسة آلاف إنسان ناجين بأنفسهم من الروم ، فأسر هؤلاء أهل أنطاكية وقتلوا أناسا من أكابرها. وقال عظيم الروم لما ضيقوا عليه : أرحل وأخرب الشام كله وأعود اليكم من الساحل ، ورحل في اليوم الثالث ونازل معرة مصرين ، فأخذها وغدر بهم وأسر منهم أربعة آلاف ومائتي نسمة ، ثم سار الى عرقة فافتتحها ، ثم سار الى طرابلس فأخذ ربضها ، وأقام في الشام أكثر من شهر ورجع فأرضاه أهل أنطاكية بمال عظيم. وأحرق حمص وقد أخلاها أهلها وملك ثمانية عشر منبرا ، وعاد الى بلاده بالأسرى والأموال.

وقال الأنطاكي : إن نقفور لما توجه الى الشام ، خافه سعد الدولة ، فخرج عن حلب الى بالس ، واستخلف فيها قرعويه الحاجب ، ونزل الملك على أنطاكية وأقام يومين ورحل في اليوم الثالث ، ونزل على معرة مصرين وأمن أهلها من القتل ، وكانت عدتهم ألفا ومائتي نفس وسيرهم

٢٠١

الى بلد الروم ، وفتح معرة النعمان وحماة وحمص ، وأخذ منها رأس القديس يوحنا المعمداني ، ونزل على طرابلس ، وأحرق ربضها وحاصر مدينة عرقة تسعة أيام ، وكان لها حصن منيع ففتحه بالسيف وأخذ منها خلقا كانوا التجأوا إليه من الأقاليم المجاورة وأخذ منه مالا كثيرا ، وكان في الحصن أمير طرابلس أحمد بن نحرير الأرغلي ، وكان أهل طرابلس قد طردوه لجوره ، وكان مأسورا ومعه مال جزيل ، فأسره وأخذ جميع ماله ، ورجع الى بلدان الساحل فأتى عليها ، وحصل في يده من السبي ما لا يحصى عدده ، وفتح حصن انطرطوس ومرقبة وحصن جبلة ، وصالح أصحاب اللاذقية عليها ، وخرب كثيرا من القرى ، وعبر بأنطاكية وميز السبي الذي معه وأعتق عليها من الشيوخ والعجائز زهاء ألف نفس ، وبنى حصن بغراس مقابل أنطاكية في فم الدرب ورتب فيه رئيسا يقال له ميخائيل البرجي ، ورسم لسائر أصحاب الأطراف طاعته ورتب معه ألف رجل ورجع الى القسطنطينية.

وفي تاريخ العلويين أن اليهود كانوا يقطنون في القرن الرابع في أرجاء صهيون ، وينزل النصارى في اللاذقية ، والنصيريّة في الجبل ، ولما استولت الروم على أرجاء اللاذقية في سنة ٣٥٧ شعر العلويون ـ أي النصيرية ـ بالتنظيمات الإدارية والعسكرية وأعلنوا الثورة على الروم وكان يرأسهم حسين ابن إسحاق الضلعيني العلوي ففاز واستقل باللاذقية سنة ٣٦٨ ، ثم حكم محمد بن إسحاق التنوخي ثم أخوه إبراهيم.

وفي سنة ٣٥٩ ملك الروم أنطاكية بالسيف ، وقتلوا أهلها وسبوا وقصدوا حلب فتحصن قرعويه بالقلعة ، وملكوا المدينة بعد حصارها ٢٧ يوما ، ثم اصطلحوا على مال يحمله قرعويه كل سنة وقدره ثلاثة قناطير ذهب عن حق الأرض ، وسبعة قناطير ذهب عن خراج حلب وقنسرين وحمص وحماة وجوسية وسلمية والمعرة وكفرطاب وأفامية وشيزر وجبل السماق ومعرة مصرين والأثارب وغيرها ، وعن كل حالم دينار في السنة سوى ذوي العاهات ، وأن يكون لملك الروم صاحب يقوم بحلب يستخرج أعشار الأمتعة الواردة إليها ، فرحلت الروم ومعهم الرهائن على ذلك ،

٢٠٢

وقد عقدوا هدنة مؤبدة وصارت الكور سائبة لا مانع للروم عنها ، فطمع نقفور ملك الروم في ملك الشام جميعه ، ولم يعترف سعد الدولة بالمعاهدة التي جرت بين قرعويه وبين الروم ، وظل في معرة النعمان ، فأخرب الروم حمص حتى يضطروه الى الإذعان ، ولكن جاءته نجدات فعمرها. وفي سنة ٣٦٣ سار أبو محمود بن جعفر بن فلاح الى الشام ، في عسكر يقال إنه عشرون ألفا ودخل دمشق وتمكن بها ، وغادر الروم أرض الشام سنة ٣٦٤ بعد أن فتحوا بعلبك وأخربوها وأخذوا جماعة من أهلها وصالحتهم صيدا وافتتحوا بيروت عنوة وسبوها ونهبوها ، وجرى مثل ذلك على جبيل. وقاطعوا أهل دمشق على ستين ألف دينار يحملونها إليهم في كل عام ، وكتبوا عليهم بذلك كتابا وأخذوا فيه خطوط أشرافهم وأخذوا جماعة منهم رهينة وأنفذوا إليهم صليبا بالأمان فتلقوه بالإكرام. ثم انقطع حمل المال المفروض على الشام للروم ، فأغضوا عن ذلك لاشتغالهم بالحرب في آسيا الصغرى.

وفي سنة ٣٦٥ وصل بارقطاش مولى سيف الدولة الى شريف ابنه وهو بحماة من حصن برزويه وخدمه وعمر له حمص بعد خراب الروم ، وتقوى بكجور مولى قرعويه ونائبه ، وقبض على قرعويه بحلب وحبسه بالقلعة واستولى على حلب ، فكاتب أهلها أبا المعالي شريفا فجاءهم ، وأنزل بكجور بالأمان وولاه حمص واستقر أبو المعالي بحلب. ومن الأحداث في هذا الزمن أن وشاح السلمي ولي إمارة دمشق من قبل الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم ، وكان الوالي إذ ذاك بها صالح بن عمير العقيلي البدوي فخرج صالح عنها ، فلما رجعت القرامطة الى الأحساء رجع صالح بن عمير الى دمشق وتعصب له أحداثها فأخرجوا وشاحا عنها قهرا وسلموها الى صالح (٣٦٨). ومنها أن بسيل الملك ردّ ولاية اللاذقية الى كرمروك لشنه الغارة على طرابلس وما يليها وقتله وأسره من أهلها ومن المغاربة خلقا كثيرا. وورد عسكر المغاربة الى عمل أنطاكية مع أمير لهم يعرف بالصنهاجي ، فاستظهر عليه كرمروك وقتل جماعة من أهله ، فسار نزال وابن شاكر من طرابلس الى اللاذقية (٣٧٠) وحاصر حصنها

٢٠٣

وسار الدمستق (الدومستيقس) الى حلب (٣٧١) ووقع الحرب على باب اليهود في اليوم الثاني من نزوله. وطالب سعد الدولة بمال الهدنة على أن يحمل للروم في كل سنة أربعمائة ألف درهم فضة نقية صرف كل عشرين درهما بدينار.

وخالف مفرج بن دغفل بن الجراح على العزيز بالله وجاهر بخلع الطاعة فسير الى الشام رشيقا العزيزي (٣٧١) فطرده عنها وهزمه. وسار ابن الجراح بعد هزيمته يريد الحجيج ليقطع عليهم الطريق عند رجوعهم ، فأنفذ العزيز مفلح الوهباني في عسكر ليلقاهم ويدفع عنهم ، فأوقع به ابن الجراح بأيلة وقتله وجميع من معه ، وعاد الحجيج الى مصر فعاود ابن الجراح الشام فلقيه رشيق الحمداني دفعة ثانية وهزمه ودخل الى البرية والتجأ الى بكجور في حمص فأجاره ، وقصد أنطاكية ملتمسا من بسيل الملك النجدة فأطلق له صلة ودفعه الى الشام والتمس من العزيز الأمان فأجابه إليه.

ولما تفرغ الروم من مشاكلهم قصدوا الى الشام سنة ٣٧١ فاضطر سعد الدولة الى تمديد الهدنة معهم معترفا لهم بالسيادة ، ومتعهدا بأداء الجزية ليتخلص من حكم الفاطميين (٣٧٣). ثم عاد فأبى أداءها ، فاستولوا على كليس وأوقعوا بجماعة من الحمدانية وحاصروا أفامية وقاتلوها أشد قتال ، وجاءوا الى حلب ، وسار قرعويه الى دير سمعان فحاصره ثلاثة أيام وفتحه بالسيف وقتل جماعة من رهبانه ، وسبى خلقا التجأوا إليه من أنطاكية ودخلوا بهم الى حلب وأشهروا بها وأنفذ الدومستيقس سرية من عسكره الى كفرطاب فأوقعت بجماعة العرب والحمدانية ، واستولى المغاربة على حصن بانياس ولم يقبل الروم بالصلح مع صاحب حلب سنة ٣٧٦ إلا على شرط أن يدفع ما تأخر عليهم من الجزية لهم ، ورحل بسيل ملك الروم الى الشام فحاصر حلب وفتح حمص وشيزر وأقام على طرابلس ، ودامت معاهدة صاحب حلب مع الروم الى حين وفاته سنة ٣٩٢. وهكذا أصبحت الدولة الحمدانية بعد عزها على عهد سيف الدولة ، ذليلة خاضعة لسلطان غيرها في عهد خلفه.

٢٠٤

تجاذب السلطة بين العباسيين والفاطميين :

هلك المعز الفاطمي وتولى ابنه العزيز (٣٦٥) فقصد أفتكين المستولي على دمشق سواحل الشام وعمد الى صيدا فحاصرها وبها ابن الشيخ ومعه رؤوس المغاربة ومعهم ظالم بن موهوب العقيلي فقاتلهم ، وكانوا في كثرة فطمعوا فيه وخرجوا إليه فاستجرهم حتى أبعدوا ثم عاد عليهم فقتل منهم نحو أربعة آلاف ، وطمع في أخذ عكا ، فتوجه إليها وقصد طبرية ففعل فيها من القتل والنهب مثل صيدا وعاد الى دمشق.

ثم أرسل العزيز القائد جوهرا في العساكر الى الشام ، فلما سمع أفتكين بمسيره جمع أهل دمشق وعاهدهم فبايعوه على الطاعة وبايعهم على الذبّ عنهم ، فوصل جوهر الى دمشق (٣٦٥) ورأى من قتال أفتكين ومن معه ما استعظمه ، ودامت الحرب شهرين قتل فيها عدد كثير من الطائفتين ، فلما رأى أهل دمشق طول مقام المغاربة عليهم أشاروا على أفتكين بمكاتبة الحسن بن أحمد القرمطي ملك القرامطة واستنجاده ، فجاءهم القرمطي واجتمع إليه من رجال الشام والعرب نحو من خمسين ألفا ، فرحل جوهر من دمشق خوفا من أن يبقى بين عدوين ، وتبعه أفتكين والقرمطي والتقوا بيافا وحصروه في عسقلان فعاين الهلاك هو وأصحابه من الجوع نحو سبعة عشر شهرا ، فبذل لأفتكين مالا ليمنّ عليه ويطلقه ، فرحل أفتكين عنه وسار جوهر الى مصر ، وأعلم العزيز بالحال ، فسار العزيز بنفسه الى الشام في سبعين ألف مقاتل ، ووصل الرملة ، فقاتله أفتكين والقرامطة بظاهرها قتالا شديدا ، فنصر العزيز وقتل وأسر كثيرا (المحرم ٣٦٧) وقد قتل من المغاربة جيش الفاطمي نحو من عشرين ألفا.

وجعل العزيز لمن يحضر أفتكين مائة ألف دينار ، وطلب أفتكين في هزيمته بيت صاحبه مفرج بن دغفل الطائي ، فأسره مفرج في بيته وأعلم العزيز به فأعطاه الجعل ، وأحضر أفتكين (٣٦٨) فأطلقه العزيز وأصحابه ، وبقي عنده معطما حتى مات بها. وبعث العزيز الى الأعصم زعيم القرامطة وهو منهزم فأدركه بطبرية وأعطاه عشرين ألف دينار فسار الى الأحساء.

٢٠٥

ودلّ العزيز بكفه عن قتل أفتكين على بعد نظره ، وأنه أثر فيه ما أسداه من الجميل لقائده جوهر في نوبة عسقلان بإطلاقه سراحه وسراح من معه ، فقابل العزيز أفتكين على جميله بمثله. خصوصا وأن أفتكين لم يقصر منذ استولى على دمشق بمجاملة خليفة مصر العلوي ، وإن كان من جهة ثانية نزع خطبته وأرجع الخطبة العباسية في كثير من مدن الشام ، وأكرم العزيز ملك القرامطة الذي ندبه الدمشقيون على لسان أفتكين أن يعاونهم على الخلاص من الدولة المصرية لظلم عمالها ومخالفتها لهم في المذهب ، وذلك ليستميل قلبه حتى لا يعود ثانية الى نصرة أحد من أهل بلاده عليه.

سوء حالة دمشق واضطراب الأحكام المصرية :

لما فارق أفتكين دمشق الى فلسطين قدّم على أهلها رجلا اسمه قسام الحارثي من الأبطال المعروفين ، وقيل : من أرباب الدعارة العيارين ، كان أصله من قرية تلفيتا في سنير ، يعتاش بتقل التراب على الحمير ، وتنقلت به الأحوال حتى صار له ثروة وأتباع ، وغلب على دمشق وما إليها من الأصقاع ، بحيث لم يبق معه لنوابها من الفاطميين أمر ولا نهي ، ودام ذلك سنين. وكان القائد أبو محمود بن إبراهيم المغربي قد عاد الى البلد واليا عليه للعزيز فلم يتم له مع قسام أمر ، وامتدت أيدي أصحاب أبي محمود بالعيث والفساد وقطع الطرق فاضطرب الناس وخافوا ، وانتزح أهل القرى منها لشدة نهب المغاربة أموالهم وظلمهم لهم ، ووقعت فتنة عظيمة بين عسكر أبي محمود وبين العامة ، فألقى عسكره النار من باب الفراديس فأحرقوا تلك الناحية ، وكانت فيها أجمل قصور دمشق ، وحرق كثير من أحياء البلد ، وهلك فيه جماعة وما لا يعد من الأثاث والأموال ، ثم صالحوا القائد أبا محمود ثم انتقضوا ولم يزالوا كذلك الى سنة ٣٦٤.

ولما خاف الفاطميون عاقبة قسام الحارثي ؛ إذا استلذ طعم الانتصار غير مرة ، سيروا لحربه الأمير الأفضل فحاصر دمشق وضاق بأهلها الحال ، فخرج قسام متنكرا فأخذته الحرس فقال : أنا رسول. فأحضروه الى

٢٠٦

الأفضل فقال له : أنا رسول قسام اليك لتحلف له وتعوضه عن دمشق بلدا يعيش به وقد بعثني اليك سرا ، فحلف الأفضل ، فلما توثق منه قام وقبل يديه وقال : أنا قسام. فأعجب الأفضل ما فعله وزاد في إكرامه ورده الى البلد وسلمه إليه ، وقام الأفضل بكل ما ضمنه وعوضه موضعا عاش به ، فلما بلغ ذلك العزيز أحسن صلته. ذكر هذا القفطي وأورد الذهبي رواية أخرى في أمر قسام قال : إنه تقدم لقتاله سليمان بن جعفر بن فلاح الى دمشق فنزل في ظاهرها ولم يمكنه دخولها فبعث إليه قسام بخطه أنا مقيم على الطاعة ، وبلغ العزيز ذلك فبعث البريد الى سليمان يرده فترحل سليمان من دمشق وولى العزيز عليها أبا محمود المغربي ولم يكن له أيضا مع قسام أمر ولا حل ولا عقد. قال ابن تغري بردي : ولعل الذي ذكره الذهبي كان قبل توجه عسكر أفتكين والأفضل ، فإن الأفضل لما سار بالجيوش أخذ دمشق من قسام وعوضه بلدا آخر وهو المتواتر.

وكان من سياسة قسام الحارثي أن كان يدعو للعزيز بالله العلوي على المنابر. وقبل أن يحاربه المصريون وصل إليه أبو تغلب بن حمدان صاحب الموصل وحط رحاله في حوران ، فمنعه قسام من دخول دمشق ، فاستوحش أبو تغلب وجرى بين أصحابه وأصحاب أبي تغلب شيء من قتال ، فرحل أبو تغلب الى طبرية ، وورد من عند العزيز القائد الأفضل في جيش فقاتله وجماعته حتى قتل في الرملة (٣٦٩) وخلت الديار ، وأتت بنو طيىء على الناس وشملهم البلاء منهم.

خوارج على دولة الجنوب ودولة الشمال :

كان مفرج بن الجراح أمير بني طيىء وسائر العرب في فلسطين قد كثرت جموعه وقويت شوكته ، وعاث في فلسطين وخربها ، وهلك من فيها فكان الرجل يدخل الى الرملة يطلب فيها شيئا يأكله فلا يجده ، ومات الخلق بالجوع وخربت الأعمال ، فخاف العزيز عاقبة أمره بعد أن رأى ما أتعب دولته من أمر الخوارج أفتكين والأعصم وقسام وابن حمدان ، فجهز العساكر لحربه مع قائده بلتكين التركي فسار الى الرملة ، واجتمع

٢٠٧

إليه العرب من قيس وغيرهم ، ولقي ابن الجراح وقد كمن لهم بلتكين من ورائهم ، فانهزم ومضى الى أنطاكية فأجاره صاحبها. وصادف خروج ملك الروم من القسطنطينية الى الشام فخاف ابن الجراح وكاتب بكجور عامل حمص لأبي المعالي بن سيف الدولة ولجأ إليه فأجاره. وكان بكجور والي حمص يمد دمشق أيام هذه الفتن والغلاء ويحمل الأقوات من حمص إليها. وكانت دمشق في هذا العهد قد خربها العرب وأهل العيث والفساد ، وانتقل أهلها الى حمص فعمرت. وربما كان هذا القرن أشأم القرون السالفة في الشام ودمشق خاصة ، وكان كل أذى ينزل بها وبأهلها. قال ابن بطريق : سار بكجور الى أبي المعالي بن سيف الدولة من حلب وهو يومئذ بحمص فخلع عليه أبو المعالي وولاه حلب ، وعاد بكجور الى حلب وأقيمت له الدعوة فيها وفي سائر أعمالها ، ووافق بكجور سائر غلمان الدولة على القبض على قرعويه ، وسار أبو المعالي إلى حلب وأخرجه من حمص وقبض على قرعويه ، وسار أبو المعالي من حلب وفتح المعرة وما يليها في شوال سنة ٣٦٦ ، ونزل الى حلب ومعه بنو كلاب ، ووقع القتال بينه وبين بكجور ، واستظهر أبو المعالي عليه واستقر الأمر بينه وبين بكجور على ولاية حمص. ثم عصى بكجور على سعد الدولة واستدعى جيوش العزيز فسارت معه ونزل على حلب وتحاربوا يومين ، سار الدمستق الى حلب ، وورد خبره على بكجور فرحل إليه ، فوقع القتال وجرى بينه وبين سعد الدولة مراسلة واستقر الحال بينهم على أن يحمل إليه سعد الدولة مال سنتين أربعين ألف دينار ، وسار الدمستق وقصد حمص وسبى أهلها ، وأحرق بها جماعة اعتصموا في المغاور وسار بكجور الى دمشق وتقلدها.

وكان بكجور يكاتب العزيز الفاطمي بما يقوم به من الخدم فاستنجز وعد العزيز إياه بولاية دمشق فولاه إياها سنة ٧٣ إلا أنه أساء السيرة في أهلها وقتل أناسا وصادر آخرين وجمع الأموال لنفسه ، فجهزت العساكر عليه من مصر مع منير الخادم وكتب الى نزّال عامل طرابلس بمظاهرته. وجمع بكجور العرب وخرج للقائه فانهزم ، ثم خاف من وصول نزال

٢٠٨

فاستأمن إليه ، وتوجه الى الرقة فاستولى عليها ، ودخل منير دمشق واستقر في ولايتها وأحسن السيرة في أهلها ، وارتفعت منزلته عند العزيز وجهزه لحصار سعد الدولة بحلب.

وكان بكجور بعد انصرافه من دمشق سأل سعد الدولة العودة الى ولايته حمص فمنعه لأنه كان نزع يده من الدولة الحمدانية ووضعها في يد الدولة الفاطمية ، فلما أخفق عاد الى دولته الأولى فرفضته وأجلبت عليه ، فاستنجد بكجور الملك العزيز لحرب سعد الدولة فبعث الى نزّال بمظاهرته ، فسار إليه بالعساكر ، وخرج سعد الدولة من حلب للقائه وقد أضمر نزال الغدر ببكجور ، واستعد سعد الدولة للقائهم ، وقد استمد عامل أنطاكية للروم فأمده بجيش كبير ، وداخل العرب الذين مع بكجور في الانهزام عنه وكانوا وعدوه ذلك من أنفسهم ، فلما تراءى الجمعان وشعر بكجور بخديعة العرب استمات وحمل على الصف بقصد سعد الدولة فقتل لؤلؤا الكبير مولاه ، ثم حمل عليه سعد الدولة فهزمه ، فسار الى بعض العرب ثم حمل الى سعد الدولة فقتله ، وسار الى الرقة فملكها وقبض جميع أمواله وكان شيئا كثيرا.

وزاد مسكويه في تفاصيل هذه الحادثة ما يلي : كان لبكجور رفقاء بحلب يوادونه فكاتبوه وأطمعوه في الأمر ، وأعلموه تشاغل سعد الدولة باللذات ، فاغتر بأقوالهم وكتب الى صاحب مصر يبذل له فتح حلب ، ويطلب منه الإنجاد والمعونة ، فأجابه الى كل ملتمس ، وكتب الى نزّال الغوري والي طرابلس بالمسير إليه متى استدعاه من غير معاودة. وكان نزّال هذا من قواد المغاربة وصناديدهم ، فتلكأ نزّال ، وكاتب سعد الدولة بسيل ملك الروم يعلمه عصيان بكجور عليه ، وسأله إنجاده بالبرجي صاحبه بأنطاكية فسار إليه ، وبرز سعد الدولة في غلمانه وطوائف عسكره ، ولم يكن معه من العرب إلا خمسمائة فارس إلا أنهم أولو بأس. وتقارب العسكران ووقع الطراد ، وكان الفارس من أصحاب سعد الدولة إذا عاد

٢٠٩

إليه وقد طعن أو جرح خلع عليه وأحسن إليه. وكان بكجور شحيحا فإذا عاد إليه رجل من رجاله على هذه الحال أمر بأن يكتب اسمه لينظر مستأنفا في أمره. فقضى شح بكجور عليه حتى أسلمه الى خصمه فقتله.

وقد أعطى سعد الدولة سلامة الرشيقي عهدا بالإبقاء على آل بكجور وأموالهم على أن يسلمه حصن الرافعة ، وهو بلد متصل بالرقة ، فخرجوا منها ومعهم من الأموال والزينة ما كثر في عين سعد الدولة ، فإنه كان يشاهدهم من وراء سرادقه ، وبين يديه ابن أبي الحصين القاضي. وقال له : ما ظننت أن حال بكجور انتهت الى ما أراه من هذه الأثقال والأموال. فقال ابن أبي الحصين : إن بكجور وأولاده مماليكك وكل ما ملكه وملكوه فهو لك ، لا حرج عليك فيما تأخذه منهم ، ولا حنث في الأيمان التي حلفت بها ، ومهما كان من وزر وإثم فعليّ ، فلما سمع هذا القول أصغى إليه ، وغدر بهم وقبض جميع ما كان معهم.

قال مسكويه : فما كان أسوأ محضر هذا القاضي الذي حسن لسعد الدولة تسويل الشيطان ، وأفتاه بنقض الأيمان ، ثم لم يقنع بما زين له من غدره ، ولبّس عليه من أمره ، حتى تكفل له بحمل وزره ، وهل أحد حامل وزر غيره ، أما سمع قول الله تعالى في أهل الضلالة : «وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم نحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون».

حملة الفاطميين على الحمدانيين واستنجاد هؤلاء بالروم :

مات سعد الدولة فقام بعده ابنه أبو الفضائل ووصيه لؤلؤ فأخذ هذا العهد على الأجناد لأبي الفضائل ، وتراجعت العساكر الى حلب ، فرأى العزيز أن الوقت قد حان لاستصفاء الشام بأسرها وإنقاذها من هذا التذبذب بين الدولتين ، جنوبها للعزيز وشمالها للحمدانيين ، ولا يفتأ كل فريق يدس للآخر ، فسير جيشا كثيفا على حلب وعليه منجوتكين أنفق عليه ألف ألف دينار ونيفا ، فلما وصل الى دمشق تلقاه أهلها وقوادها وعساكر الشام كلها ، فأقام بها مدة ثم رحل الى حلب. قال ابن ميسر :

٢١٠

بل كانت بينه وبين أهل دمشق حروب آلت الى ظفره. وقد استعد واحتشد ونزلها في ثلاثين ألف رجل ، وتحصن بها أبو الفضائل ولؤلؤ.

ووقع القتال بين منجوتكين والحمدانية على أفامية فانهزم الحمدانية (٣٨٢) وقتل وأسر جماعة منهم ، ونزل منجوتكين على حلب ووقع الحرب في جميع جوانب المدينة ودخل الى أعمال الروم بسبب اعتقال البرجي لرسوله ، ونزل على حصن عم ضيعة البرجي في بلد أرتاح فقاتله وفتحه وسبى وقتل وسار الى أنطاكية فرشقه الأنطاكيون بالنشاب وعاد منجوتكين الى منازلة حلب وراجع القتال. وعصى المسلمون في اللاذقية فسار البرجي إليهم وسباهم وحملهم الى الروم ، وعاد منجوتكين من دمشق ونزل على أفامية فسلمها إليه وفاء خادم سيف الدولة (٣٨٣) ورحل الى شيزر وقاتلها وتسلمها من سوسن غلام سعد الدولة وعاد الى منازلة حلب.

وكان أبو الفضائل كتب الى بسيل ملك الروم يستنجده وهو يقاتل البلغار ، فأرسل بسيل الى نائبه بأنطاكية ميخائيل البرجي يأمره بإنجاد أبي الفضائل ؛ فسار في خمسين ألفا حتى نزل على الجسر الحديد بالعاصي ، فلما سمع منجوتكين الخبر سار الى الروم ليلقاهم قبل اجتماعهم بأبي الفضائل ، وعبر إليهم العاصي وأوقع بالروم فهزمهم وولوا الأدبار الى أنطاكية وكثر القتل فيهم ، وجمع من رؤوس قتلاهم نحو عشرة آلاف رأس وحملت الى مصر. قال الأنطاكي : قتل من الروم في هذه الوقعة التي دعيت بوقعة المخاضة (٣٨٤) زهاء خمسة آلاف ويمم منجوتكين الى أنطاكية ونهب رساتيقها وأحرقها ، وكان وقت إدراك الغلة فأنفذ لؤلؤا وأحرق ما يقارب حلب منها إضرارا بالعسكر المصري. وعاد منجوتكين الى حلب فحصرها وأقام عليها ثلاثة عشر شهرا. فقلت الأقوات فيها وعاد صاحب حلب الى مراسلة ملك الروم والاعتضاد به ، فلما قلّت الأقوات آلى العزيز على نفسه أن يمدّ عسكره بالميرة من غلات مصر ، فحمل مئة ألف تليّس (١) في

__________________

(١) التليس : قفيزان بالمعدل ، والقفيز مكيال ثمانية مكاكيك ، والمكوك يختلف باختلاف مصطلح كل بلد.

٢١١

البحر الى طرابلس ومنها على الظهور الى أفامية. فكان يوقع للغلمان بجراياتهم وقضيم دوابهم الى أفامية على خمسة وعشرين فرسخا فيمضون ويقبضونها ويعودون بها. وبنى وأصحابه الحمامات والخانات والأسواق.

وعاد منجوتكين الى منازلة حلب ومحاصرتها وفتح حصن إعزاز وملك سائر أعمال حلب وولى عليها وبنى حصنا مقابل حلب ، وأنجد ملك الروم صاحب حلب وكان قد استنجده وأرسل إليه ملكوثا السرياني ، فقطع المسافة من بلاد البلغار الى حلب وهي ثلاثمائة فرسخ في بضعة أيام. ولما أقبل الروم أحرق منجوتكين الخزائن والأسواق والأبنية التي كان استحدثها ورحل في الحال منهزما ووافى بسيل فنزل على باب حلب ، وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ ولقياه ، ثم عاد ورحل في اليوم الثالث الى دمشق وفتح حمص ونهب ، ونزل على طرابلس فمنعت جانبها منه ، فأقام نيفا وأربعين يوما فلما أيس منها عاد الى الروم ، وعاد منجوتكين غازيا الى أنطاكية ، ثم سار الى حلب ورحل عنها الى أنطرطوس ، وقاتل الحصن أياما وسار عامل الروم الى أنطرطوس ليدفع عنها ، وأرسلت مصر أسطولا مؤلفا من أربعة وعشرين مركبا مشحونا بالرجال فكسر الأسطول بريح عاتية ، وخرج رجال المراكب الى البر ، فانهزم منجوتكين وجميع عسكره وخرج المقيمون في أنطرطوس وأخذوا ما سلم من المراكب وأسروا من رجالهم خلقا.

الخوارج على الفاطميين واستنجاد أمراء المسلمين بالروم :

ظن بعد انصراف ملك الروم عن الشام ورجوع الحمدانيين الى حلب أن الدولة الفاطمية يطمئن بالها ، وما كان يحول في الفكر أن ينقلب عليها أحد قوادها الذي كانت اصطفته ليدفع عن القطر ما يتهدده من الشر وأعني به منجوتكين. فقد عصى على خليفته وأراد أن يستنجد الروم فلم يلتفتوا إليه ، فندب الخليفة العساكر من مصر لقتاله وقدموا أبا تميم بن جعفر عليها ، وأمدوه من الأموال ما أسرفوا فيه ، وسار أبو تميم من مصر ، ورحل منجوتكين من الرملة بعد أن ملكها. والتقى الجيشان بعسقلان وتواقعا فأجلت الوقعة عن هزيمة منجوتكين وأصحابه ، فأسر وحمل الى

٢١٢

مصر ، وسار أبو تميم فنزل طبرية وأنفذ أخاه عليا الى دمشق ، فامتنع أهلها عليه ومنعوه الدخول ، وكاتب أخاه بعصيانهم ، واستأذنه في قتالهم ، فكتب أبو تميم الى متقدميهم من الأشراف والشيوخ ، وحذرهم عواقب فعل سفهائهم ، فخافوا وخرجوا الى عليّ مذعنين بالطاعة ومنكرين لما فعله أهل الجهالة ، فلم يعبأ بقولهم وزحف الى البلد فملكه ، وأحرق وقتل وعاد الى معسكره.

ووافى أبو تميم في غد فأنكر على أخيه ما فعله ، وتلقاه وجوه الناس فشكوا إليه ما أظلهم ، فأحسن لقاءهم وأمنهم ، فسكنوا وعادوا الى معايشهم. وركب أبو تميم الى المسجد الجامع في يوم الجمعة بزيّ أهل الوقار ، واجتاز في البلد بسكينة ، وبين يديه القراء وقوم يفرقون الدراهم على أهل المسكنة ، وصلى الجمعة وعاد الى القصر الذي نزله بظاهر دمشق ، وقد استمال قلوب العامة بما فعله ، ثم نظر في الظلامات وأطلق من الحبوس جماعة من أهل الجنايات فازدادوا له حبا ، واستقرت قدمه واستقام أمره ، وعدل من بعد الى النظر في أحوال الساحل فهذبها ، وولى أخاه طرابلس وصرف عنها جيش بن الصمصامة.

ذكر كل هذا مسكويه ، وزاد أن أبا تميم كان مع سياسته مستهترا باللذات ، فلم يشعر إلا بهجوم المشارقة والعامة على قصره فخرج من دمشق هاربا ، ونهبوا خزائنه وأوقعوا بمن كان معه من كتامة ، وعادت الفتنة واستولى الأحداث على دمشق ، وثار أهلها مع ما كان فيها من الأولياء المشارقة على ابن فلاح فخرج عن البلد هاربا الى مصر ، وتغلب الأحداث ورأسهم رجل منهم يعرف بالدهيقين ، فسارت جيوش الحاكم الى دمشق مع محمد بن الصمصامة للقاء الدمشقيين والدهيقين ، فسار الدهيقين الى مصر وطلب الأمان. وقال ابن ميسر في حوادث سنة ٣٨٧ : إنه كانت وقعة بين منجوتكين وبين ابن فلاح في الرملة قتل فيها نحو مئة ألف (كذا) من أصحاب منجوتكين وانهزم ابن الجراح.

وفي سنة (٣٨٨) وقعت النار في أفامية واحترق ما كان فيها من القوت فسار أبو الفضائل بن سعد الدولة صاحب حلب في عسكر الحلبيين ،

٢١٣

وقاتلها مدة ثم رجع عنها لما سار إليها دوقس أنطاكية ، وحاصرها هذا أشد حصار ، فاستنجد الملايطي المقيم بها بجيش بن الصمصامة بدمشق ، فسار إليه في عساكر ضخمة ، وانتشبت الحرب بينهم ، واستظهر عليه الدوقس ، وقتل منهم مقتلة عظيمة وأخذت البادية سواد عسكر المغاربة ، وبلغت الهزيمة الى بعلبك ، وقتل الدوقس فعادت الهزيمة على الروم فقتل منهم زهاء ستة آلاف وأسر أبناء الدوقس وجماعة من رؤساء عسكره ، وحملوا الى مصر وأقاموا بها عشر سنين ثم فودي بهم.

وسار جيش بن الصمصامة الى شيزر فخف ملك الروم بنفسه ففتحها وشحنها بالأرمن ، وسار عنها الى حصن أبي قبيس فأخذه بالأمان وسار الى حصن مصيات. فملكه أيضا وأخربه وسار الى رفنية فأحرقها وسبى أهلها وتوجه يحرق ويسبي الى أن بلغ حمص فنزلها وتحصن منها نفر في كنيسة مار قسطنطين تحرما بها ، فلما علم الرؤوس من أهل عسكره أحرقوها ، وكانت كنيسة معجزة وحمل نحاسها ورصاصها ، وسار الملك الى قرب بعلبك واستصرخ جيش من دمشق الى مصر بكتبه ووصف كثرة الجموع التي للروم فجردت إليه العساكر وكوتب كل وال بالشام بالمسير معه ، فساروا حتى اجتمع بدمشق من العساكر كما قال الأنطاكي ما لم يجتمع فيها للإسلام مثله ، ورجع ملك الروم عن طريق الساحل وأحرق عرقة وهدم حصنها ثم نزل على طرابلس (٣٨٩) وحاربها برا وبحرا ، ثم رحل الى أنطاكية ، وافتتح حصن أبي قبيس بالأمان.

وامتدت ولاية منجوتكين في إمرة الجيوش الشامية الى ما بعد سنة ٣٨٦ وكان ظالما جبارا ساءت سيرته في ولايته دمشق وحمص وكثر ظلمه. وولي إمرة دمشق بشارة الإخشيدي من قبل برجوان الخادم الحاكمي (٣٨٨) وكان ولي طبرية قبل أن يلي دمشق مدة سنين. وكان أهل صور قد عصوا (٣٨٧) وأمّروا عليهم رجلا ملاحا يعرف بعلاقة. ضرب السكة باسمه وكتب عليها «عز بعد فاقة الأمير علاقة» فأرسل عليه الفاطميون أسطولا فاستجار علاقة بملك الروم فأنفذ إليه عدة مراكب مشحونة بالرجال والمقاتلة ، والتقت هذه المراكب بمراكب المسلمين فاقتتلوا فظفر المسلمون

٢١٤

وملكوا مركبا من مراكبهم ، وقتلوا من فيه وانهزمت بقية المراكب. وهكذا استنجد بالروم في هذه الحقبة أميران على بني جنسهما ودينهما ليستمتعا بالملك وهما أبو الفضائل في حلب وعلّاقة بصور.

وكان المفرج بن دغفل قد نزل على الرملة وعاث فسادا في أرضها ، وانضاف الى حادثته وحادثة علّاقة نزول الدوقس صاحب الروم في عسكر كثيف على حصن أفامية ، فاصطنع برجوان جيش بن الصمصامة وقدمه ، وجهز معه عسكرا وسيره الى دمشق ، وبسط يده في الأموال ونفذ أمره في الأعمال ، وسار جيش بن الصمصامة ونزل على الرملة وعليها وحيد الهلالي واليا فتلقاه طائعا وصادف أبا تميم بها فقبض عليه قبضا جميلا ، وندب الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان في عسكر الى صور بعد أن كان أنفذ إليها مراكب في البحر مشحونة بالرجال فأحاطت العساكر بها برا وبحرا وضعف أهل صور عن القتال وأخذ علاقة فحمل الى مصر فسلخ وصلب بها وأقام ابن حمدان واليا عليها.

وسار جيش بن الصمصامة لقصد مفرج بن دغفل فهرب من بين يديه وعاذ بالصفح فكف جيش عنه ، وعاد سائرا الى عساكر الروم النازل على حصن أفامية ، فلما وصل الى دمشق تلقاه أهلها في أشرافها ووجوه أحداثها مذعنين له بالانقياد ، راغبين في استصحابهم للجهاد ، فجزاهم خيرا فأقبل جيش على رؤساء الأحداث وبذل لهم الجميل ، ونادى في البلد برفع المؤن ، وإباحة دم كل مغربي يتعرض لفساد ، فاجتمعت الرعية وشكروه ، وسألوه دخول البلد والنزول بينهم فلم يفعل ، ثم سار ونزل بحمص واجتمعت العساكر وتوجه الى حصن أفامية ، فوجد أهلها وقد اشتد بهم الحصار ، فنزل بإزاء عسكر الروم بينه وبينهم نهر العاصي. ثم التقى الفريقان من بعد ، وكان المسلمون يومئذ في عشرة آلاف من الطوائف وألف فارس من بني كلاب ، فحملت الروم على المسلمين فزحزحوهم عن مصافهم ، وانهزمت الميمنة والميسرة ، واستولى الروم على كراعهم وعطفت بنو كلاب على أكثر ذلك فنهبوه ، وثبت بشارة الإخشيدي

٢١٥

في خمسمائة فارس ، ورأى من في حصن أفامية من المسلمين ما أصاب إخوانهم فأيسوا من نفوسهم.

قالوا : وكان الدوقس عظيم الروم في هذه الوقعة بعد أن تراجع المسلمون على رأسه راية وبين يديه ولداه وعشرة خيالة ، فقصده أحمد بن الضحاك الكردي على فرس جواد ، فظنه عظيم الروم مستأمنا ، فلما قاربه طعنه الكردي فقتله فانهزمت الروم وتراجع المسلمون فركبوا أقفيتهم قتلا وأسرا وألجأوهم الى مضيق في الجبل وأسروا ولد الدوقس ، وحمل الى مصر من رؤوسهم عشرون ألف رأس وألف أسير.

وعاد جيش الى دمشق فاستقبله أهلها ، فخلع على وجوه الأحداث وحملهم على الخيل والبغال ، ووهب لهم الجواري والغلمان ، وعسكر بظاهر البلد وأخلوا له قرية بيت لهيا ليكون مقامه بها ، وتوفر على استعمال العدل وتخفيف الثقل ، فاستخص رؤساء الأحداث واستحجب جماعة منهم ، ثم أوقع بهم كلهم ، ودخل البلد وثلم السور من كل جانب ، ونزلت المغاربة دور دمشق ، وركب جيش فدخل المدينة وطافها ، واستغاث الناس به ولاذوا بعفوه ، فكفّ عنهم واستدعى الأشراف استدعاء حسن ظنهم فيه ، فلما حضروا أخرج رؤساء الأحداث وأمر بضرب رقابهم بين أيديهم ، ثم صلب كل واحد في محلته. وجرد الى المرج والغوطة قائدا وأمره بوضع السيف فيمن بها من الأحداث فقال : إنه قتل ألف رجل منهم ، حتى إذا فرغ من ذلك كله قبض على الأشراف وحملهم الى مصر واستأصل أموالهم ونعمهم ، ووظف على البلد خمسمائة ألف دينار. وكان عدد من قتلهم ثلاثة آلاف رجل ، واحتال للقضاء على هؤلاء الأحداث بأن جعل يبسط الطعام كل يوم لهم ولمن يجيء معهم من أصحابهم ، فكان يحضر كل إنسان منهم في جمع من أصحابه وأشياعه ، وأمرهم إذا فرغوا من الطعام أن يحضروا الى حجرة يغسلون أيديهم فيها ، وأمر أصحابه إذا دخل رؤساء الأحداث الحجرة أن يغلقوا بابها عليهم ويضعوا السيف في أصحابهم ، فلما كان الغد حضروا الطعام ، وقام الرؤساء الى الحجرة ، فأغلقت الأبواب عليهم وقتل من أصحابهم نحو ثلاثة آلاف رجل.

٢١٦

تولى جيش نيابة دمشق غير مرة ، وكان ظالما سفاكا للدماء ظلم الناس كثيرا. قالوا : وعم الناس في ولايته البلاء من القتل وأخذ المال حتى لم يبق بيت في دمشق ولا بظاهرها إلا امتلأ من جوره ؛ خلا من كان ظالما يعينه على ظلمه. وممن ولي دمشق للمصريين وساءت سيرته ختكين القائد ثم القائد طرملة بن بكار البربري ، وكان عبدا أسود ، فجار على أهلها كما جار ختكين وظلمهم وأخذ أموالهم ، وفر الى مصر وحمل بعض ما كان معه الى الحاكم ، فتمكنت حاله عنده وولاه دمشق فأقام واليا عليها الى سنة ٣٩٤ ، ثم صرف عنها بخادم من خدم الحضرة.

٢١٧

تتمة دور الفاطميين

«من سنة ٣٩٤ ـ ٤٦٣»

خوارج ومذاهب جديدة وفتن :

ظهر في أعمال حلب سنة ٣٩٥ رجل اسمه احمد بن الحسين ويعرف بالأصفر تزيّا بزي الفقراء وتبعه خلق من العرب وسكان القرى ، وصحبه رجل من وجوه العرب يعرف بالجملي ، ونازل شيزر وأسرى في جماعة من العرب وغيرهم ممن اجتمع إليه ولقي عسكر الروم وكبس والي أرتاح وسار نحو جسر الحديد يريد أنطاكية ، فلقيه في مهروية على فرسخين من أنطاكية بطريق يقال له بيغاس في عسكر كان معه ، فقتل الجملي وانهزم الأصفر الى سروج ، ونزل قرية كفر عزون وكانت حصينة ، ففتحها العامل الرومي وأسر منها اثني عشر ألف أسير وأخذ غنائم كثيرة ، وكان قد اجتمع عرب بني نمير وبني كلاب مع وثاب بن جعفر صاحب سروج في زهاء ستة آلاف فارس على الرومي فلقيهم وهزمهم ، وتوسط لؤلؤ صاحب حلب أن يعتقل الأصفر بقلعة حلب فأخذ واعتقل ، وبقي فيها معتقلا الى أن دخلت حلب في حكم الفاطميين (٤٠٦).

وأمر الحاكم (٤٠٤) باروح التركي الملقب علم الدولة على جيوشه ولقبه أمير الأمراء وولاه الشام وسيره إليها وحمل باروح معه زوجته وهي ابنة الوزير يعقوب بن يوسف بن كلس وحملا معهما أموالهما في قافلة مع التجار ، فاعترضهم ظاهر غزة المفرج بن دغفل بن الجراح وأولاده فأوقع بهم وحاز جميع ما كان معهم وأخذ باروح أسيرا وقتله. وسار ابن الجراح

٢١٨

الى الرملة ودخلها ، وأباح للعرب نهبها وصادر الأموال وأقام الدعوة لأبي الفتوح الحسن بن جعفر الحسني أمير مكة يومئذ وأسماه أمير المؤمنين ولقبه الراشد لدين الله ، وضرب له السكة واستحوذت العرب على جنوب الشام وملكوه من الفرما الى طبرية وحاصروا حصون السواحل مدة طويلة ولم يمكنهم أخذ شيء منها.

واستدعى ابن الجراح أبا الفتوح الحسني من مكة فسار الى الشام ووصل الى الرملة ودخلها راكبا فرسا ونزل في دار الإمارة بها ، وأنشأ كتابا قرىء على الناس بأن لا يقبل له أحد الأرض ، وأن هذا شيء ينفرد به الله عزوجل ، وجلب معه أموالا كثيرة من الحجاز فأكلها العرب وحجزوا عليه وأشرف على ضعف أمره. وقد كان الحاكم بذل فيه أموالا جسيمة لحسان بن المفرج فأشار على أبي الفتوح بالرجوع الى طاعة الخليفة العلوي وأوصلوه الى مأمنه ، فلما عاد الى مكة أقام الدعوة للحاكم على الرسم السالف بعد أن كان أقامها لنفسه ، وكتب الى الحاكم يعتذر فقبل عذره ووصله وأحسن إليه.

وحصل الشام في أيدي بني الجراح وأقاموا متغلبين عليه الى المحرم سنة أربع وأربعمائة وعظمت مصادرتهم للناس مرة بعد أخرى وعسفهم إياهم ، فهرب من النصارى خلق كثير توجهوا الى الروم وقصد أكثرهم اللاذقية وأنطاكية وقطنوهما. استقل ابن الجراح سنتين وخمسة أشهر في الشام ولم يرسل الحاكم عليه عسكرا ، ثم سير القائد علي بن فلاح في جيش كبير جمع فيه معظم رجال مملكته ، وكوتبت الجيوش في دمشق والسواحل بلقائه ، وسارت العساكر من الجهتين نحوه فاتفق في الحال أن مات المفرج بن دغفل بن الجراح واتصل بأولاده ، قصد العساكر إليهم فذهبوا مع العرب الى البرية وتخلوا عن الرملة وغيرها من الأقاليم التي غلبوا عليها.

ولى الحاكم عهده لأبي القاسم عبد الرحمن بن الياس وجعله الخليفة بعده (٤٠٤) ودعي له على المنابر ونقش اسمه على السكة ، وحصل بدمشق وفسح لأهلها في شرب القهوة وسماع الأغاني فأحبوه ومقته الجند

٢١٩

لشحه ، وأذاع بعض الدرزية دعوته في قوم من المسلمين في وادي التيم ، فتجاهر الذين استجابوا لدعوته بمذهبهم ، فغزاهم أمير الأكراد ابن تالشليل فقتل منهم وسبى وأحرق وأهلك خلقا. واستشعر ولي العهد بعد ما جرى في أمرهم إنكار الحاكم ما فعل بهم ، وحذر أن يحنق عليه بسببهم ، فأنفذ صاحبا له يعرف بابن الخرقاني الى حسان بن المفرج بن الجراح ليقرر له معه أن يكون من جهته ، فشغب عليه الجند وقتلوا الخرقاني بدمشق ونهبوا دار ولي العهد ، فاستغاث بالدمشقيين والغوطيين ، فأحاطوا بالقصر الذي ينزله بظاهر دمشق فانتشبت الحرب بينهم وبين الجند واندفع الدمشقيون عنه ونهب الجند القصر ، وكان عند تواصل الأخبار الى الحاكم بعصيان ولي العهد ندب صاعد بن عيسى بن نسطورس للخروج الى الشام ، وأعطاه من العدد السلطانية والآلات الجليلة ما لم يعط لغيره ، وتقدمت مكاتبة الحاكم الى ولي العهد يأمره بالحضور الى مصر فبادر بالرحيل وسار العسكر معه الى الرملة ولما أيقن الحاكم امتثاله أمره زالت الشبهة عنه من نفسه ، وكتب يرسم له بالرجوع الى دمشق وقلد تقليدا ثانيا.

وثار بدمشق بعد مسير ولي العهد عنها رجل من أهلها يعرف بمحمد بن أبي طالب الجزار ، واجتمع إليه جمع كثير من أحداثها ومن رعاع أهل حوران امتعاضا لولي العهد ، وحاربوا الجند ، وطرح العسكر النار في المدينة فأحرقت منها قطعة كبيرة ، ولما عرف محمد بن أبي طالب الجزار عودة ولي العهد سار للقائه واجتمعوا في لدّ وسار محمد بن أبي طالب الى دمشق ، وقد اجتمع إليه خلق كثير ودخل دمشق بغتة ، وراجع الحرب واستظهر على الجند وأخرجهم من المدينة ، وأرسل إليه ولي العهد في تسكين الفتنة فلم يطعه وقتل قاضي دمشق وتسلط هو والأحداث عليها ، وقتل أيضا جماعة من الناس ونهبهم ، وتوقاه أهل السلامة وخافوا منه ، وغلت الأسعار بقيام الفتنة فاجتمع على الناس الجوع والحريق والنهب والقتل. وكان محمد بن أبي طالب قد سدّ الباب الشرقي ، فوجد الدمشقيون فرصة وفتحوه ، وقبضوا عليه وقتلوه وصلبوه على باب الجابية ، وقتلوا جمعا ممن كان على رأيه ، واستقام أمر دمشق وصلح حال ولي

٢٢٠