خطط الشام - ج ١

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ١

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٨

صدر الخطط

بسم الله الرّحمن الرّحيم

عونك اللهم يا لطيف

نشرت عام ١٣١٧ ه‍ (١٨٩٩ م) في مجلة المقتطف تسعة فصول في «عمران دمشق» صادفت استحسان بعض من قرأوها من خاصة الباحثين ، وجمهور المطالعين ، فوقع في النفس يومئذ أن أتوسع في هذا البحث ، وأدرس عمران الشام كله ، لأن صورة العاصمة وحدها لا تكفي للدلالة على حالة القطر ، ومن الإشراف على الأطراف ، قد تعرف صحة الجسم عامة والقلب خاصة ، ومن اهتم بالجزء كان حريا أن يضاعف العناية بالكل.

فشرعت من ثم أتصفح كل ما ظفرت به من المخطوطات والمطبوعات باللغات العربية والتركية والفرنسية ، وقصدت دور الكتب الخاصة والعامة في الشام ومصر والمدينة المنورة والاستانة ورومية وباريز ولندرا وإكسفورد وكمبريدج وليدن وبرلين ومونيخ ومجريط والاسكوريال. وكنت كلما استكثرت من المطالعة. تتجلى أمامي صعوبة العمل ، هذا مع ما قام في سبيل نشر هذا المجموع من العقبات ، منذ وطدت العزم على وضعه ، وما نالني من الكوارث في العهد الماضي. ولكن الشقاء قد يأتي بسعادة ، ورب ضرّ أعقب خيرا. فإن التضييق عليّ نشأ منه اضطراري الى الارتحال غير مرة ، فأخذت أستقري المعالم والمجاهل في هذا القطر ، ونزلت على

١

أمم كثيرة في بلاد الغرب ، فاستفدت من تنقلي بعض ما عندهم من أسفارنا وآثارنا ، وقابلت عن أمم بين عمراننا وعمرانهم ، وجمودنا اليوم وحركتهم.

رحلت الى اوروبا ثلاث رحلات ، أبحث في دور كتبها عن المخطوطات التي يرجى أن يكون أصحابها قد تعرضوا لحوادث هذا القطر ، وزرت أصقاع الشام لأقابل بين حاضره وغابره ، ولما نسجت بأخرة ما جمعت ، قدمت له مقدمة في بيان ما تشترك فيه بلاد الشام عامة من المظاهر والأوضاع ، وسميته «خطط الشام» وأعني بالشام الأصقاع التي تتناول ما اصطلح العرب على تسميته بهذا الاسم ، وهو القطر الممتد من سقي النيل الى سقي الفرات ، ومن سفوح طوروس الى أقصى البادية ، أي سورية وفلسطين في عرف المتأخرين. ويراد بالخطط كل ما يتناول العمران ، والبحث في تخطيط بلد بحث في تاريخه (١) وحضارته.

أول من صنف في الخطط واستقصى فيها على ما علمنا الحسن بن زولاق المصري (المتوفى سنة ٣٨٧) وقال المقريزي (المتوفى في سنة ٨٤٣) إن أول من صنف فيها أبو عمر بن يوسف الكندي ، ثم القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي (٤٥٤) والذي انتهى الينا كتاب خطط مصر للمقريزي المنوه به ، وهو أجمل مثال في باب الإجادة في التأليف. ولم نعلم أن أحدا من المتقدمين كتب على الشام وخططه ، وكتب بعض المتأخرين في موضوع خاص وبلد معين. وما خطط الشام في الحقيقة إلا زبدة الوقائع والكوائن ، وأخبار الصعود والتدلي ، والمظاهر الغريبة التي ظهرت بها هذه الديار ، في غابر الأعصار ، مقتبسا ذلك مما أبقته

__________________

(١) قال العلامة البيروني : التاريخ هي مدة معلومة من لدن اول سنة ماضية كان فيها مبعث نبي بآيات وبرهان ، أو قيام ملك مسلط عظيم الشأن ، أو هلاك أمة بطوفان عام مخرب ، أو زلزلة أو خسف مبيد ، أو وباء مهلك ، أو قحط مستأصل ، أو انتقال دولة ، او تبدل ملة ، أو حادثة عظيمة من الآيات السماوية ، والعلامات المشهورة الأرضية ، التي لا تحدث الا في دهور متطاولة ، وأزمنة متراخية ، تعرف بها الأوقات المحددة ، فلا غنى عنه في جميع الأحوال الدنيوية والدينية.

٢

الأيام مكتوبا أو مطبوعا على ورق ، أو مزبورا على حجر وآجر وبرديّ ورقّ.

لا جرم أن موضوع الخطط موضوع جليل ، تتعين الإحاطة به على كل من يحب أن يعرف أرضه ليخدمها ، ويستفيد منها ، وأحق الناس بمعرفة بلد أهله وجيرانه. ومن لم يرزق حظا من الاطلاع على ما حوى موطنه من الخيرات ، وما أتاه أجداده من الأعمال ، لا ينهض بما يجب عليه ليؤثر الأثر النافع في الحال والمآل ، ومن أجدر من الأبناء والأحفاد ، بالرجوع الى سجلات الآباء والأجداد ، وكيف يحب المرء بلدا لا يعرفه ، ويحرص على سعادته ليسعد هو فيه ، وهو لا علم عنده بما تعاقب عليه حتى صار الى ما صار اليه ، وهل يفهم الحاضر بغير الغابر ، وهل تنشأ في الأمة روح وطنية إذا لم تدرس تاريخها حق الدراسة.

* * *

كتب الغربيون في آثار هذا القطر وعمرانه وتاريخه واقتصادياته وعادياته أحمالا من الكتب بلغاتهم ، وقلما نشرت كتب جامعة لأحد أبنائنا بلغتنا وعلى نهجنا. واستنفض الغربيون كل بقعة من بقاعنا ، ومدينة من مدننا ، وبادية من بوادينا ، ومنهم من أجاد وأفاد ، مما يسجل ويا للأسف علمهم بنا ، وجهلنا حتى بأرضنا ، ويكفي أن يقال إن علماء الغرب وسياحهم صنفوا بين سنتي ١٨٠٥ ـ ١٩٠٣ م خمسة وتسعين كتابا فقط في آثار سلع أو البتراء (وادي موسى) على حين قلّ جدا في الشاميين أنفسهم من زاروا هذه الخرائب المهمة ، ومنهم من لم يسمع باسمها.

أخذت مما ظفرت به من الكتب الافرنجية ، وعنيت أشد العناية بالرجوع إلى ما كتبه الأسلاف في هذا الشأن ، على تفرقه ، واعتمدت على مؤلفي العرب خاصة لأن كل أمة أعرف على الغالب بحالتها من غيرها ، فإن بحث علماء الافرنج في تاريخ هذا القطر قبل الإسلام ، ونبشوا عادياته ومصانعه ، وحلوا لغاته ولهجاته ، فتاريخه بعد هذا العهد أقرب الى أن يكون علماؤنا مرجعا فيه ، فقد قيل «قتل أرضا عالمها».

جاء الكلام ناقصا في بعض الأدوار المتأخرة ، وعمي عليّ بعض

٣

مواضع مهمة ذات صلة بمدنية الشام ، والسبب فيه أن المتأخرين زهدوا في التاريخ حتى كادوا لا يفرقون بينه وبين أقاصيص العجائز ، وموضوعات المخرفين والوضاعين ، وعنيت بتجريد هذا الكتاب ما أمكن من المبالغات ، ونخل لباب الوقائع المهمة الثابتة وحذف ما فيه شية شبهة ، أو شائبة غلو ، وإن كان منها ما يروق بعضهم ويتفكهون بسماعه ، ويطربون لترداده. فخاطبت ما استطعت العقل أكثر من العاطفة ، وعنيت في قسم التاريخ السياسي أن أبين علل الحوادث ، وتسلسل الكوائن ، ودواعي الأحوال القريبة أو البعيدة ، واستخراج النتائج واستنباط القواعد. والتاريخ ربيب الحرية لا يتصرف على هوى من يكتبه ويقرأوه ولا على أذواق أهل العصر وأهوائهم. وما دام موضوعه الاعتبار بالخالي لمعرفة الحالي والآتي فهو جدير بأن يتحرى فيه الحق ولا يدون سواه. قال أحد العلماء : عند ما نريد أن نصل الى الحقائق التاريخية ، يجب أن تصح همتنا على إزالة الأوهام ، ونزع الزوان من الأساطير التي تعلق بالوقائع الثابتة القليلة التي وصلت إلينا.

* * *

كان المؤرخون بعد القرون الوسطى بين عاملين قويين ، إما أن يكذبوا فيغضبوا الحق ، أو يصدقوا فيغضبوا الخلق ، والعمال والأعيان منهم خاصة. فقد ألف مثلا ابن زوجة أبي عذيبة المقدسي المتوفى سنة ٨٥٦ تاريخين مطولا ومختصرا ، ولما توفي اطلع بعضهم على الكبير منه ، فوجد فيه أشياء توهمها في ثلب أعراض الناس فأتلفه ، وصنف عبد الله البصروي من أهل القرن الثاني عشر تاريخا لهذه الديار ، فبلغ أعيان دمشق خبره ، ولما هلك دخلوا داره وآلوا أن لا يأذنوا بدفنه أو يأخذوا التاريخ الذي وضعه ، فضبطوه وأحرقوه على أعين القوم ، مخافة أن تنكشف سيئات بعضهم. والذي ضاع من مدوّنات المتقدمين والمتأخرين يعد بالعشرات ، لكثرة الجوائح الأرضية والسماوية التي أصابتها. وإذا كتب البقاء لشيء مما كتبه المتأخرون فيكون في الغالب الى الركاكة لا تسقط فيه على حقيقة. وكثيرا ما كان العقلاء يعلقون على حواشي

٤

بعض الكتب تعاليق لحوادث جرت ، وأمور اهتم لها الناس وشغلت مجتمعهم ، ومن مثل تلك الأوراق ومن العهود والصكوك ضم هذا السفر جانبا.

بحثت جد البحث عما دوّن في التاريخ العام أو الخاص بتاريخ بلد من أرض الشام ، فرأيت يد الضياع قد غالتها إلا قليلا ، وقد أهمني منها الاطلاع على تاريخ صفد للعثماني وتاريخ البرزالي وتاريخ حلب الكبير لابن العديم وتاريخها لابن أبي طي وتاريخ حمص لابن عيسى ولعبد الصمد بن سعيد وأخبار قضاة دمشق للذهبي وتاريخ ابن أبي الدم الحموي وتاريخ قنسرين وتاريخ أنطاكية وتاريخ المعرة لابن المهذب وتواريخ كثيرة في سير مشاهير الفاتحين كتبها أمثال ياقوت الحموي وابن شداد وابن واصل وابن حبيب وابن الداية وابن عبد الظاهر وابن تيمية والجبريني والعسقلاني ، فلم أظفر بسوى ورقات من بعضها ، أو مختصرات ومنقولات لا تبل غلة ، حرّفت بالنقل فتشوهت محاسنها.

* * *

ولقد وددت لما تيسر وضع خطط الشام على هذه الصورة لو ساغ لي أن أصبر عليه زمنا آخر حتى يتم التحقيق فيه على ما يجب عملا بالحكمة التي تمثل بها الثعالبي في اليتيمة قال : «وكلما أعرته على الأيام بصري ، وأعدت فيه نظري ، تبينت مصداق ما قرأته في بعض الكتب ، أن أول ما يبدو من ضعف ابن آدم ، أنه لا يكتب كتابا فيبيت عنده ليلة ، إلا أحب في غدها أن يزيد فيه أو ينقص منه ، هذا في ليلة فكيف في سنين عديدة». ولكن رأيت بعد طول التأمل أن من الحزم الاكتفاء بما تهيأ في هذه السنين ، والتمحيص بحر لا ساحل له ، ولطالما ذكرت وأنا أغوص في الكتب المختلفة التي طالعتها قول المؤرخ فوستيل دي كولانج ليس التاريخ من العلوم السهلة فلأجل يوم واحد يصرف في التركيب ينبغي قضاء أعوام طويلة في التحليل. على أني لما راجعت مسودات ما صنفت ورأيتني قد تذوقتها فهضمتها ، أيقنت أنه لا يثقل على القراء في الجملة ، فأبرزته خائفا حوادث الأيام ، ونزول داعي الحمام ، وأنا موقن بأن فوق

٥

ما طالعت وبحثت غايات ، لم يمكني الزمان والمكان من بلوغها ، وعسى أن يقوم غيري بعدي فيتم هذه الخطوط التي رسمتها من بنيان كتاب الخطط ، ويصلح بما يتوفر له من المواد ما ربما وقعت فيه من الغلط والشطط ، واذا حصلت الفائدة من عمل استغرق جلب مادته خمسا وعشرين سنة ، وكلّف تعبا ونشبا ، فهو غاية ما أتطالّ اليه ، وإلا فهو جهد المقلّ ، والكمال لله وحده.

وكتب في دمشق في اليوم الرابع من شعبان من شهور سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة وألف بعد الهجرة بموافقة شباط من شهور سنة خمس وعشرين وتسعمائة وألف للميلاد.

٦

تقويم الشام

تعريف الشام للأقدمين :

الشأم والشأم والشام والشآم هو اسم هذا القطر العزيز على ما عرفته العرب ، وهو يتناول عامة الأقاليم الداخلة اليوم في فلسطين وسورية بحسب الاصطلاح الحديث. وسورية اسم غلب إطلاقه على القطر الشامي على عهد الإسكندر مقتضبا مع تخفيفه من اسم أشوري لغلبة الأشوريين عليه والسين والشين تتعاوران في اللغات السامية. قال البكري : سورية «بضم أوله وكسر الراء المهملة وتخفيف الياء أخت الواو وفتحها» اسم للشام. وقيل : إن سبب تسميته بسورية نسبة لصور ثغر الشام القديم ومخرج الصاد والسين واحد. وقال آخرون : إن اليونان لما فتحوا الشام رأوا الأشوريين يتولون أمره فسموه أشورية. قال المسعودي : سورية هي الشام والجزيرة وكان الروم يسمون الصقع الذي سكانه المسلمون في عهده (٣٤٥ ه‍) من الشام والعراق سوريا ، والفرس كانوا يسمون العراق والجزيرة والشام سورستان إضافة إلى السريانيين الذين هم الكلدانيون وتسميهم العرب النّبط.

ويقال إن فلسطين (١) سميت بفلسطين بن سام او بفلسطين بن كلثوم ، او بفليستين بن كسلوخيم من بني يافث بن نوح ثم عربت فليشين. وجوزوا في اسم الشام التذكير والتأنيث والمشهور التذكير. وللغويين

__________________

(١) قد ننقل عبارة المؤلفين برمتها او نحذف منها جملا او الفاظا بحسب ما يقتضيه تأليف الكلام وبسطه او اقتضابه ولا نعزو عبارات المؤرخين التي نقلها غير واحد منهم على الأغلب ويكون العزو لما تفرد به مؤرخ او كان له ابتكارا دون غيره من معاصريه وسابقيه.

٧

والجغرافيين في سبب تسميته شاما آراء مختلفة فقيل : سمي لتشاؤم بني كنعان اليه وقيل : بل سمي بسام بن نوح لأنه نزل به واسمه بالسريانية شام بشين معجمة. وقال بعضهم : إن سام بن نوح لم يدخل الشام قط وقيل : لأن أرضه أي أرض الشام مختلفة الألوان بالحمرة والسواد والبياض فسمي شاما لذلك ، كما يسمى الخال في بدن الإنسان شامة ، وقيل : سمي شاما لأنه عن شمال الكعبة. والشام لغة في الشمال ، وقيل : سميت الشام شاما لكثرة قراها وتداني بعضها من بعض فشبهت بالشامات وجوزوا فيه وجهين أحدهما أن يكون من اليد الشؤمى وهي اليسرى والثاني أن يكون فعلا من الشؤم.

معنى الشام وجمعه :

واختصرت العرب من شامين الشام وغلب على الصقع كله (ياقوت) وهذا مثل فلسطين وقنسرين ونصيبين وحوّارين وهو كثير في نواحي الشام. وذكروا أن معنى الشام الطيب ، ويقال للشام اللمّاعة واللماعة بالركبان تلمع بهم اي تدعوهم اليها وتطبيهم ، وقد تجمع الشام على شامات وتسمى الشام بذلك ، ومن الناس من لا يجعله الا شاما واحدا ، ومنهم من يجعله شامات فيجعل بلاد فلسطين والأرض المقدسة الى حد الأردن شاما ، ويقولون الشام الأعلى ويجعل دمشق وأرجاءها من الأردن الى الجبال المعروفة بالطوال شاما ويجعل سورية وهي حمص وما ضمت الى رحبة مالك شاما ، ويجعلون حماة وشيزر من مضافاتها ويجعل قنسرين من إقليمها وحلب مما يدخل في هذا الحد الى جبال الروم والعواصم والثغور. فأما عكا وطرابلس وكل ما هو على ساحل البحر وكل ما قابل شيء منه شيئا من الشامات فيحسب منه.

وإطلاق الشام على دمشق من باب إطلاق العام على الخاص والعرب (نالينو) كثيرا ما يسمون المدن القواعد بأسماء أقاليمها فكانوا يقولون بلا فرق دمشق او الشام ـ الفسطاط او القاهرة او مصر ـ شبام او

٨

حضرموت ـ صحار أو عمان ـ الأندلس بدلا من قرطبة ـ صقليّة عبارة عن بلرم.

حدّ الشام قديما :

وحدّ الشام من الغرب البحر المتوسط أو بحر الروم أو بحر الملح أو بحر الشام ، ومن الشرق البادية من أيلة الى الفرات. وأيلة مدينة قديمة على البحر الأحمر أو القلزم وهي على مقربة من العقبة اليوم. ثم يذهب الحد من الفرات الى حد الروم أو آسيا الصغرى وشمالا الى الروم وجنوبا حد مصر وتيه بني إسرائيل. وأوصلوا الحد من الغرب الى طرسوس قرب أذنة الى رفح في أول الجفار بين مصر والشام. وأوسع من هذا التعريف أنه يحيط بالشام من جهة الجنوب حد يمتد من رفح الى تيه بني إسرائيل الى ما بين الشوبك وأيلة الى البلقاء ، ويحيط به من جهة الشرق حد يمتد من البلقاء الى مشاريق صرخد آخذا على أطراف الغوطة الى سلمية الى مشاريق حلب الى بالس. ويحيط به من جهة الشمال حد يمتد من بالسن مع الفرات الى قلعة نجم الى البيرة الى قلعة الروم الى سميساط الى حصن منصور الى بهسنى الى مرعش الى سيس الى طرسوس. وهذا الحد للعرب قال به كاتب جلبي في القرن الحادي عشر.

حقيقة حد الشام :

وبموجب الاتفاق الفرنسي التركي الأخير جعلت الحدود في قرية قطمة على طريق السكة البغدادية على أربعين كيلومترا من حلب. ودخلت كليس في حدود الروم وليس هذا هو الحد الجغرافي الطبيعي للشام من الشمال. بل حد الشام ينتهي بسفوح جبال طوروس المعروفة بالدروب عند العرب آخذا الى ما وراء خليج الإسكندرونة لجهة أرض الروم وكان جبل السيّاح (بفتح السين وتشديد الياء) حدا بين الشام والروم ولا نعرف هذا الجبل بهذا الاسم اليوم. ويقول الإدريسي : ومن السويدية الى جبل رأس الخنزير عشرون ميلا وعلى هذا الجبل دير كبير وهو أول بلاد

٩

الأرمن وآخر بلاد الشام. فما كان من جهة الشام على ضفة الفرات فهو شام ، وما كان على الضفة الأخرى من الشرق فهو عراق. فصفيّن مثلا في الشام وقلعة جعبر في الجزيرة الفراتية وبينهما مقدار فرسخ او أقل وتدخل بالس أي مسكنة بالشام لانها من غرب الفرات وتدخل البيرة (بيره جك) في الجزيرة لأنها على الشق الآخر من الفرات. وما كان من دير الزور على الفرات الى جهة الشام فهو من الشام ، وما كان على الشاطىء الآخر الى الشرق فهو من العراق. وكذلك يقال في الرّقة. وتدخل دومة الجندل المعروفة اليوم بالجوف في الجنوب في جملة هذا القطر. كما أن أيلة هي آخر الحجاز وأول الشام. فالعريش او رفح او الزعقة هي حد الشام الجنوبي الغربي. ومعان نصفها للشام ونصفها للحجاز ، فيقال معان الشامية ومعان الحجازية.

حدوده مع مصر :

وقد اتفقت الحكومتان العثمانية والمصرية سنة (١٣٢٤ ه‍ ١٩٠٦ م) على تعيين الحد بين مصر والشام من رأس طابا على الساحل الغربي لخليج العقبة ممتدا الى قمة جبل فورت مارا على رؤوس جبال طابا الشرقية المطلة على وادي طابا ، ثم من قمة جبل فورت يتجه الى الخط الفاصل الى نقطة المفرق على قمة جبل فتحي حيث ملتقى طريق غزة الى العقبة بطريق نخل الى العقبة. ومن هذه النقطة الى التل الذي الى الشرق من مكان ماء يعرف بثميلة الردادي والمطلة على الثميلة ، بحيث تبقى الثميلة غربي الخط. ومن هناك الى قمة رأس الردادي ثم الى رأس جبل الصفرة ، ومنه الى رأس القمة الشرقية بجبل قم قف ثم الى سويلة شمالي الثميلة ، ومنها الى غرب الشمال الغربي من سماوة ومنها الى قمة التل الواقع الى غرب الشمال الغربي من بئر المغارة في الفرع الشمالي من وددي مايين ، ومنها الى غربي جبل المقراة فالى رأس العين الى نقطة على جبل أم حواويط الى منتصف المسافة بين عمودين قائمين في الجنوب الغربي من بئر رفح ، ومنها الى نقطة على التلال الرملية في اتجاه ٢٨ درجة اي ٨٠ درجة الى الغرب وعلى

١٠

مسافة ٤٢٠ مترا في خط مستقيم من العمودين المذكورين ثم يمتد الخط مستقيما من هذه النقطة باتجاه ٤ ، ٣٣ درجة. الشمال المغنطيسي أعني ٢٦ درجة الى الغرب الى شاطئ البحر المتوسط مارا بتل خرائب على ساحل البحر الأحمر. وتقرر في ايلول ١٩٢٠ أن كون حدود حلب شمالا التخوم الشمالية للواء الإسكندرونة والتخوم الشمالية المنطقة الغربية القديمة آخر نقطة منها تلتقي بالخط الحديدي شرقي محطة هن؟؟؟ ، ثم خط الحديد وهو داخل التخوم حتى تل أبيض ، ثم خط يجمع بين تل أبيض والخابور شرقا ونهر الخابور حتى مصبه في الفرات ، ثم نهر الفرات حتى البوكمال جنوبا وهو الخط المعروف بخط البوكمال الى تدمر ثم الى الحدود الغربية الشمالية. وهذا الحد موضوع غير طبيعي. ولعل هذا القطر لن يعدم حده الطبيعي من الشمال فإن الصخور التي تفصل الشام من الشمال عن آسيا الصغرى ليس لها مثيل في التخوم الطبيعية كما قال نابوليون. وجعل الجغرافي اليزه ركلو حد الشام من جبال أمانوس (اللكام) الى طور سينا وقال : إن طور سينا وإن ضم سياسيا الى مصر فهو جزء من أجزاء الشام. وقال بوليه : إن حد سورية شمالا آسيا الصغرى. وقال بورتر : إن سورية أي سورية الرومانيين يحدها شمالا آسيا الصغرى. وقال بيدكر : إن حد الشام من طوروس الى مصر. وبذلك رأينا أن الشام يحيط به من الجنوب رمال من الجفار وتيه بني إسرائيل وجزء من البحر الأحمر فالبادية. ومن الشمال جبال شامخة صعبة المسالك وهي جبل أمانوس أحد سلاسل جبال طوروس. ومن الشرق الفرات ومن الغرب البحر. اي رمال وجبال ونهر وبحر.

مساحة الشام وصورته :

قدر القدماء طول الشام من العريش الى الفرات بمسيرة نحو شهر وعرضه من جبلي طي أجإ وسلمى من القبلة الى بحر الروم نحو عشرين يوما ، وجبلا اجإ وسلمى جنوب الشراة وراء البتراء المعروفة عند الرومان باسم (بروفنسيا أرابيا أو أرابيا بترا ـ Provincia Arabia Arabia Petraea). وقال شيخ الربوة : حد الشام طولا من ملطية الى العريش ومسافته سبعة

١١

وعشرون يوما ، وعرضه الأعرض من منبج الى طرسوس. وعدّ ياقوت من الشام الثغور وهي المصيصة وطرسوس وأذنة وجميع العواصم من مرعش. والحدث وغير ذلك.

وقال علماء الافرنج : إن معدل طول الشام نحو ألف كيلومتر وعرضه نحو مائة وخمسين كيلومترا ومساحته ١٨٣ ألف كيلومتر مربع وقال بعضهم : إن مساحته السطحية نحو ٢٨٠ الف كيلومتر ، وأبلغه غيرهم الى ثلثمائة ألف وأنزله آخر الى مائة وتسعة وخمسين الف كيلومتر ، وبالغ في تصغيره بعضهم فقال : إن مساحته مائة ألف كيلومتر مربع فقط ، ومنهم من قال مئة وخمسة عشر. وقال آخر : إن طوله ينيف على أربعمائة ميل وعرضه يختلف كثيرا ومعدله نحو مئة وعشرين ميلا. ومساحة الشام خمسون ألف ميل مربع. وذكر آخر أن طول الشام المتوسط من الشمال الى الجنوب نحو سبعمائة كيلومتر وعرضه من الغرب الى الشرق نحو أربعمائة وخمسين كيلومترا. وأكد بعضهم أن طوله من طوروس الى طور سينا لا يقل عن الف ومئة كيلومتر ، وقال غير واحد : إنه لا يقل عن ٨٠٠ الى ٩٠٠ هذا إذا تركت منه البادية ولم يحسب غير الأراضي القابلة للزرع. وقدرت الأرض القابلة للزراعة في الشام بمئة وخمسين ألف كيلومتر مربع. والاختلاف في حد الشام ومساحته بين علماء الجغرافية المحدثين أكثر مما بين علماء تقويم البلدان من العرب الأقدمين. وقد شبّه بعضهم الشام في هيئته الطبيعة بشكل مستطيل طوله ثمانية أضعاف عرضه. وشبهه آخر بأنه شكل مربع الأضلاع مستطيل كثيرا.

مدخل الفاتحين الى الشام :

جاء الفاتحون الشام بحرا وبرا بل جاءوها من جهاتها الأربع فجاءها الفراعنة من البحر والبر ، والبابليون والفرس من الشرق والشمال ، والاسكندر والصليبيون والعثمانيون من الشمال ، وغازان وهولاكو وتيمور لنك من الشرق ، والعرب الفاتحون من الشرق والجنوب ، ونابوليون من الجنوب ومن الغرب بحرا ، وإبراهيم باشا المصري برا وبحرا اي من الغرب والجنوب

١٢

الغربي ، وجيوش الحلفاء من الانكليز والفرنسيين والعرب من الجنوب والغرب. وكانت على اعتزالها وراء حدودها الطبيعية مطمح الطامحين ، وطعمة الطامعين ، لم تدفع عنها حصونها التي فصلتها عن الحجاز بصحار مقفرة ، وحرار معطشة ، وعن العراق بنهر عظيم وبادية قاحلة ، وعن آسيا الصغرى بجبال عالية ، وعن مصر وعن برّ إفريقية برمال محرقة. وداست تربتها الجميلة سنابك خيل الفاتحين ، وعبثت بجميل محياها سهام النوائب ، وأوردتها موارد العذاب الهون ، ولم تأمن عادية العادين ، على ما فيها من الجبال الشم ، ومضايق تضل فيها العصم.

مدن الشام وقراه :

في الشام مدن كثيرة منها ما دثر وانحط بعد أن كان له شأن مهم في الأزمان الغابرة ، مثل قيسارية والمعرة وأنطاكية وقنسرين وأفامية وجرش والبتراء وبصرى وصيدا وصور وتدمر وبعلبك وجبيل وسبسطية وأم قيس وصرخد والسويداء وشهبة وعرقا وعمّان وبانياس في الحولة وعسقلان ، ومنها ما ثبت على صدمات الأيام والليالي وكان له من موقعه وملاءمة الطبيعة له ما أبقى عليه ، كأن يكون وسط ريف خصيب ، وماء دافق ، كدمشق وحمص وحماة وطرابلس. ودمشق أهم مدن الشام وعاصمته في الإسلام وعلى عهد السريان ، وكانت أنطاكية عاصمته على عهد الروم والرومان. وتجيء بالعظم بعد دمشق مدينة حلب ثم بيروت ثم القدس وسكان دمشق نحو أربعمائة الف ، ومثلهم سكان حلب ، وبيروت نحو ثلاثمائة الف ، والقدس أقل من ذلك. وفي الشام عدة مدن تزيد على خمسين الف نسمة ، مثل يافا وحيفا وحماة وحمص ودير الزور ، وفيها عدة مدن تختلف بين العشرين والأربعين الف نسمة ، مثل اللاذقية. غزة. صفد. زحلة. صيدا. إدلب. أنطاكية. وعشرات من القرى هي أشبه بمدن او مدن أشبه بقرى تكون نفوسها بين العشرة آلاف والعشرين الفا مثل صيدا والخليل والرملة واللدّ والناصرة وطبرية والدامور وبعلبك وحاصبيا وراشيا والصلت ودومة وداريا وجوبر ويبرود ودير عطية وحارم وإدلب وسلمية والشويفات

١٣

وبشرّي وإهدن والبترون وغيرها. ولا تقل قرى الشام عن ثمانية آلاف قرية ومزرعة وبليدة ومدينة وسكانها نحو سبعة ملايين يدخل فيهم العرب الرحالة ويقدرون بخمسمائة إلى ستمائة ألف.

طبيعة الشام :

قطر تأخذ فيه الفصول الأربعة حكمها ، وتتم في قيعانه وجباله أسباب النعيم ، معتدل الأهوية ، متهاطل الأمطار والثلوج ، ممرع التربة ، فيه الغابات والمعادن ، والحمامات المعدنية والأنهار الجارية ، والبحيرات النافعة ، والأجواء البهجة ، والرباع المنبسطة ، والمناظر المدهشة ، فيه من الجبال الشراة والخليل وعامل وسنير وحرمون ولبنان وكسروان وحوران وجرش وعجلون وعكار واللكام والأقرع والكلبية والأكراد والقدموس وباير والمنيطرة وصنين والكنيسة والباروك ونيحا والريحان وطابور والجرمق والكرمل وبلودان والنبك والصلت ومؤاب وأنطاكية والقصير وريحا. ومن البحيرات العمق والغاب وأفامية والمطخ واليمونة والعتيبة والهيجانة وطبرية والحولة ولوط. ومن السهول سهل حوران والجولان والجيدور والغوطة والمرج والبقاع والبقيعة وحمص وأنطاكية واللاذقية وطرابلس والشويفات وصيدا وصور والطنطورة وبيسان وأريحا. ومن المروج مرج ابن عامر وشارون (سارون) والبلقاء. ومن الأنهار النهر الكبير والأردن واليرموك والعاصي والفرات وقويق والساجور وعفرين والأسود وبردى والبارد وابراهيم وقاديشا والليطاني والحاصباني والزرقا والعوجا والأعوج والأولي والزهراني والكلب والموجب والدامور والذهب وقنديل وصنوبر وقرشيش وبرغل والمضيق والسن أو الأبتر وحريصون او مرقبة والجوز والكابري ونعمين والمقطع والأزرق والأخضر وأبي زابورة. ومن المناظر البديعة صنين وظهر القضيب وإهدن والبياضة وإصطبل عنتر والصبر والنبي يوشع وقاسيون وحرمون والطور والهرمل والكرمل.

خيرات الشام :

وفيه تنبت الحبوب والبقول والأشجار على اختلاف أنواعها. ففي

١٤

جنوبيه وشرقيه النخيل. وفي سواحله الموز والبرتقال. وفي أواسطه السرو والأرز. ويجود فيه القطن والقنب والكتان والحرير والنيل والدخان وقصب السكر والعسل وشجر الأرز والفوّة والسماق والسوس. وتصلح مراعيه لتربية ضروب الماشية. وفي أرضه ومياهه أنواع الطيور والأسماك وتعيش فيه الجمال كما تعيش البغال وتسمن فيه الجواميس كما ينمو الغنم والمعزى فيه زهاء مئة وثلاثين منجما لم يستثمر منها إلا القير والفوسفات والحمر ، على أن فيه الذهب والفضة والنكل والحديد والفحم الحجري والرصاص والمغرة والنحاس والكروم والزئبق والكبريت والسنباذج والجبس والنفط والإثمد والزاج والمرمر. ومن الحمامات المعدنية حمام طبرية وحمّة سمخ وحمة أبي رباح وحمة ضمير وحمة معلولا وحمة أنطاكية والمرقب وزرقاء معين وعجلون ولها كلها من الخواص الصحية ما اشتهر أمره.

هواء الشام وماؤه :

صقع حوى غرائب الطبيعة تشهد فيه بردا قارسا بل شتاء مستوفى في قنن جباله وسفوحه في حين تشهد في أغواره كغور بيسان وغور الصافي وطبرية وأريحا ربيعا تاما بل صيفا معتدلا ، وبينا تذيب شمس الصفاة واللجاة رأس قاصدهما ، إذا به في ريح بليل عليل اذا قصد الجبال وما اليها. فهو مصطاف ومرتبع ومشتى في آن واحد. وفيه ما لا يكاد يوجد له مثيل في الأرض : بحيرة طبرية تحت سطح البحر على ١٣١٦ قدما وفيها أسماك كثيرة ، وبحيرة لوط لا يعيش فيها حيوان فكأن نهر الأردن الذي يجري من بحيرة طبرية وينتهي ببحيرة لوط هو في أوله حياة وفي آخره موت ، وهذا لا نظير له في العالم.

ومن عجائب طبيعة الشام إن تنبجس في بعض أصقاعه عيون طيبة ثرّة في بقعة ضيقة. ففي الجديدة على مقربة من الحولة عشرات من العيون على هضبة سميت بها البلدة «مرج عيون» وفي جبل ريحا من عمل حلب عيون لطيفة دارّة في الأعالي تكاد تخلو منها السهول المنخفضة المجاورة. ومياه الشام على الجملة طيبة لذيذة.

١٥

خصائص الشام :

قطر هذه مواهبه قامت فيه في الأزمان الغابرة النصرانية واليهودية. وانبعث من أرجائه مجد الإسلام ، فكان مباءة أول دولة عربية إسلامية ، ثم آوى اليه الشيع الغريبة من النحل والمذاهب التي لا مثيل لها في غيره ، كالدرزية والإسماعيلية والنصيرية والسامرة بل معظم المذاهب الإسلامية والنصرانية والإسرائيلية وتبلغ سبعة عشر مذهبا وجملة من العناصر القوية ذات المدنية التي استحالت عربا.

رأى الشام طلعة موسى وعيسى من النبيين ، والإسكندر وابن الخطاب وخالد بن الوليد وموسى بن نصير ونور الدين وصلاح الدين وسليم وابراهيم من الفاتحين. وعمر بن عبد العزيز والمأمون وابن تيمية من المجددين. وبختنصر وهولاكو وجنكيز وغازان وتيمور من المخربين ، وقلّ في الممالك كما قال كورتيوس ما اندمج فيه كثير من التواريخ في بقعة ضيقة كهذه.

الشام مهوى أفئدة الشعوب النصرانية واليهودية ، ومجاز حجاج المسلمين الى الأماكن الطاهرة القدسية والحجازية ، بل نقطة الاتصال القريبة بين آسيا وافريقيا وآسيا وأوربا ، بل بين القارات الثلاث القديمة آسيا وأوربا وإفريقية ، وأجمل مصيف ومشتى للأقطار الحارة المجاورة كالحجاز والعراق ومصر. والشام في أواسط الأقطار التي يتكلم أهلها بالعربية هو بلد الخيال والشعر ، والهمم العلياء واستقلال الفكر ، وأرضه أبدا باسمة طربة كسمائه :

مصحة أبدان ونزهة أعين

ولهو نفوس دائم وسرورها

مقدسة جاد الربيع بلادها

ففي كل أرض روضة وغديرها

١٦

سكان الشام

الامو واللودانو :

من الصعب الحكم على أصول السكان في الشام قبل أن يعرف التاريخ ، وتعيين أول من نزلها من القبائل قبل أن تبنى المدن والحواضر وتعرف المزارع والدساكر. وأقدم ما عرف منها قبائل كانت تعرف بالامو ورد ذكرها في الآثار المصرية ومعناها الشعب باللغة السامية اختلطت على ما يظهر بذرية لاوذ ، او بغيرها من القبائل التي كانت تسكن شمالي الشام ، وسمي هذا القبيل بالروتانو او اللودانو ، ويقسمون الى روتان المغرب ويراد بهم سكان دمشق وأرض كنعان ، والى روتان المشرق او الأعلى وهؤلاء كانوا ينزلون في شمالي الشام وجزء من غربي ما بين النهرين ولعل ذلك كان قبل الطوفان ، طوفان نوح او بعده بقليل. وقد حدث الطوفان قبل المسيح بنحو الفين وخمسمائة سنة ، ولم يعم الكرة الأرضية ولا برا من برورها المعروفة ، بل انحصر في بقعة صغيرة من آسيا على الأرجح أي إنه كان في الجزيرة على ما ذكره أهل الإدراك من المفسرين.

وظهرت بعد الطوفان أمم كثيرة سكنت الشام ، بعضها من أصل سامي وبعضها لم يعرف عنه شيء ، ومنها ما عرف أنه أتى من الأصقاع المجاورة ومنها من لم يثبت أصله. فقد ظهر بعد الطوفان الآراميون في دمشق والجيدور والجولان والبقاع وحمص ولبنان ، وآرام هو الاسم الذي أطلقته

١٧

التوراة على الشام وبين النهرين ، وكان يسكنها أبناء آرام الابن الخامس لسام. وأقام الأموريون في الأرض الواقعة بين البحر والأردن ، والعمونيون في أرض جلعاد اي في شرقي الأردن ، والموآبيون في الجنوب الشرقي من بحيرة لوط ، والإسماعيليون من نسل إسماعيل جد العرب في سلع والبتراء وما جاورها. وانتشر الأدوميون من وادي العربة الى حدود العقبة عقبة أيلة والفينيقيون في صور وصيدا وجبيل ، وتفرعت من هذه القبائل فروع كثيرة في قرون مختلفة. ولا تعرف أصول أكثر هذه القبائل. وقد قال رولنسون : إن أصل الفينيقيين من سكان البحرين في الخليج الفارسي ظعنوا من هناك الى ساحل الشام منذ نحو خمسة آلاف سنة وأنهم عرب بأصولهم وأن هناك مدنا فينيقية أسماؤها أسماء فينيقية مثل صور وجبيل. وذكر مكالستر أنه سكنت فلسطين شعوب من غير الساميين وربما عنى بهم الحثيين والأموريين. والحثيون جنوبيون وشماليون وكان الجنوبيون في جهات فلسطين ونزل الشماليون أولا جبل اللكام (امانوس) ثم انتشروا بكرور الأيام من الفرات الى حماة وحمص ومن دمشق وتدمر الى كبدوكيا ، ولم يكن لهم ملك واحد بل كان لكل فصيلة منهم ملك. ولم يعرف شيء عن الحثيين الشماليين قبل أن يمرّ الرحالة بروكهارت بحماة سنة ١٨١٢ ويرى على جدار أزقتها خطوطا قديمة بالخط المسند المصري أي الهيروغليفي تختلف عن الآثار المصرية وعثر على كثير من مثل هذه الآثار في حماة وحمص وحلب ومرعش وكركميش وغيرها ، وقد علم من سحنات الحثيين الشماليين على ما رسموا في الآثار المصرية أنهم أقرب الى الرومان منهم الى سكان فلسطين ولون وجوههم أبيض ضارب الى الحمرة.

ومن أقدم شعوب الشام شعب كان ينزل منذ الزمن الأطول في السقي الأسفل من نهري الفرات وقزل ايرمق ويعتصم في مضايق جبال طوروس ، عرف عند اليونان باسم خيطايوس وعند العبران بخطي خطيم وعند الأشوريين بخاطي وعند المصريين بخايطي خاطي وعرفه المتأخرون بالحثيين ، وهو شعب غير سامي مجهول اللسان. وأصل العبرانيين او اليهود سبط من الساميين الذين نزلوا من جبال إرمينية الى سهول الفرات على عهد مملكة الكلدان

١٨

الأولى وضربوا نحو الغرب فجازوا الفرات فالبادية فالشام حتى انتهوا الى عبر الأردن وراء فينيقية. وتعرف هذه الأسباط بالعبرانيين يعني أهل ما وراء النهر. قال هشام الكلبي : ما أخذ على غربي الفرات الى برية العرب يسمى العبر واليه ينسب العبريون من اليهود لأنهم لم يكونوا عبروا الفرات حينئذ. والعبرانيون كمعظم الساميين شعب من الرعاة الرحالة لم يحرثوا الأرض ، ولا سكنوا الدور والمنازل ، وقد دعيت ديارهم أرض الميعاد او أرض كنعان او فلسطين. ودعاها اليهود أرض إسرائيل ثم دعيت بعد اليهودية ودعاها أهل النصرانية الأرض المقدسة ، وكان عدد الإسرائيليين أيام عزهم ٧٠٠ ، ٦٠١ رجل يحمل السلاح منقسمين الى اثني عشر سبطا.

الآراميون والعناصر الأخرى :

وبعد انقراض دولة الحثيين في القرن الثامن قبل الميلاد عمّ اسم آرام هذه الديار فأصبح القسم الأكبر من سورية يسمى آراما وسكانها الآراميين وقد ورد اسم آرام في التوراة مضافا عدة مرات مثل آرام رحوب وآرام معكة وآرام صوبا. وقيل إن إرم الواردة في القرآن مضافة أيضا «إرم ذات العماد» هي دمشق بعينها. وللمفسرين في ذلك أقوال كثيرة ليس هذا محل إيرادها. وفي الشام عناصر منوعة من نسل حام بن نوح وسام بن نوح ويافث بن نوح. أي إن فيها الدم الآري والقافي (القافقاسي) والعربي والتركي وبعبارة أصرح فيها بقايا من الشعب الأشوري والبابلي والكلداني والكنعاني والفينيقي والعبراني والحثي والفارسي والروماني واليوناني والتتري والعربي. وكانت منذ عهد بني إسرائيل موطن العصبيات وفيها على رأي ابن خلدون قبائل فلسطين وكنعان وبني عيصو وبني مدين وبني لوط والروم واليونان والعمالقة واكريكش والنبط من جانب الجزيرة والموصل ما لا يحصى كثرة وتنوعا في العصبية ، ولذلك يتعذر ردّ كل جنس الى جنسه اليوم بعد هذا التمازج الذي دام أكثر من

١٩

ستين قرنا في هذه البوتقة الجميلة مضافة الى الأصول التي كانت فيها من قبل ونعني بهذه البوتقة الديار الشامية.

العناصر القديمة والعرب :

كل أمة عظيمة عرفت في الشام طال عمرها بضعة قرون ثم فنيت في غيرها وأدغم الضعيف في القوي وتمثل المغلوب في الغالب مع توالي الأيام والليالي. وهكذا يقال في السريان والعبران واليونان والرومان. ويمكن أن يقال في الجملة إنه كان في الشام منذ القرن السادس عشر قبل الميلاد شعوب كثيرة أهمهم الكنعانيون النازلون في الجنوب والوسط والشمال والآراميون ، وما وراء ذلك من الشمال يسكنه الحثيون. ولم تطل حياة عنصر في صحة بالشام كما طالت حياة العرب فإنهم فيها على أصح الأقوال منذ زهاء الفين وخمسمائة سنة وأوصله بعضهم الى نحو أربعة آلاف سنة ، وهم الذين اندمج فيهم عامة الشعوب القديمة واستعربت فلم تعد تعرف غير العربية لسانا ومنزعا. ولذلك كان من المعقول أن يدلّ الشامي بعربيته أكثر من إدلاله بفينيقيته وروميته وسريانيته وعبرانيته. وفي تاريخ فلسطين أن العرب دخلوا فلسطين قبل الإسلام بقرون. والدليل أن نرحم سين ابن سرجون غزا فلسطين سنة ٣٨٠٠ ق. م. وصادف في سينا حكومة عربية ثم حارب قبيلة معان العربية وأسر أميرها ، وقد ظهر من آثار بابل ما يثبت ذلك. ومنها أن سرجون الثاني غزا عرب البادية الذين اعتدوا على السامرة وأخضع قبائلهم ومنها ثمود ومدين ومساكنهم شرقي الأردن وحارب عباديد وأخذ منهم طائفة وأسكنها في السامرة. ولما جاء الإسكندر الى غزة وحاصرها كانت حاميتها عربا فقاومته أشد مقاومة ، ومنها أن أحد تلامذة المسيح بشر بلغات عديدة منها اللغة العربية كما ورد في أعمال الرسل ، ومنها أن الحارث حاكم دمشق كان عربيا لما دخلها بولس الرسول كما ورد في رسالته الى اهل مدينة كورنثوس ، ومنها أن تيطس لما جاء لفتح القدس كان معه الحارث ملك العرب يقود فرقة عربية ، ومنها أن هركانوس المكابي التجأ الى الحارث ملك العرب فأنجده وساعده على أخيه

٢٠