خطط الشام - ج ١

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ١

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٨

عزيمة الخليفة المكتفي فأرسل من العراق جيشا ، والى الطولونيين فأرسلوا من مصر جيشا آخر فواقعوهم في كناكر وكوكب ، فأصبح القرامطة بين جيشين جيش الطولونيين من أمامهم وجيش الخليفة من ورائهم. وكان من أمر جيش العراق أن وصل من طريق الموصل الى وادي بطنان قرب حلب وفي جملة قواده أبو الأغر فنزع فيما ذكر جماعة من أصحابه ثيابهم ، ودخلوا الوادي يتبردون بمائه ، وكان يوما شديد الحر ، فبينما هم كذلك إذ وافى جيش القرمطي فكبسهم على تلك الحالة فقتل منهم خلقا كثيرا ، وانتهب العسكر وأفلت أبو الأغر في جماعة من أصحابه ، فدخل حلب وأفلت معه مقدار ألف رجل ، وكان في عشرة آلاف بين فارس وراجل ، وكان قد ضمّ إليه جماعة ممن كان على باب السلطان من قواد الفراغنة ورجالهم ، فلم يفلت منهم إلا اليسير ، ثم صار أصحاب القرمطي الى باب حلب فحاربهم أبو الأغر ومن بقي معه من أصحابه وأهل البلد ، فانصرفوا عنه بما أخذوا من عسكره من الكراع والسلاح والأموال والأمتعة ، ومضى المكتفي بمن معه من الجيش حتى انتهى الى الرقة فنزلها وسرّح الجيوش الى القرمطي جيشا بعد جيش.

وفي سنة ٢٩٠ أيضا تحارب القرمطي صاحب الشامة وبدر مولى ابن طولون ، فانهزم القرمطي وقتل من أصحابه خلق كثير ومضى من سلم منهم نحو البادية فوجه المكتفي في أثرهم الحسين بن حمدان وغيره من القواد.

وكان المكتفي عهد بإمارة الشام الى أحمد بن كيغلغ سنة ٢٩١ وصار هذا الى مصر لقتال الخليجي الثائر ، فواقعه بالقرب من العريش فانهزم أقبح هزيمة فطمعت القرامطة في دمشق لغيبة ابن كيغلغ عنها ، فنهبوا فيها وساعدهم أن بعض السكان دانوا بمذهبهم ، ثم سار القرامطة الى طبرية (٢٩٣) وقتلوا أكثر أهلها رجالا ونساء وأولادا. وقال المسعودي : إن القرمطي الذي خرج يكنى أبا غانم وقد خرج في جمع من كلب وقوي أمره وكثر أتباعه ، فوجه الخليفة ابى القرامطة الحسين بن حمدان بن حمدون فحاربهم الى أن ظفر بهم وأحضر رأس صاحبهم الى بغداد ، وكان القرمطي في طريقه الى طبرية مرّ بمدينتي بصرى وأذرعات

١٨١

فحارب أهلهما ثم أمّنهم ، فلما استسلموا له قتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم واستاق أموالهم ، ثم نهض الى دمشق فخرج إليه من كان بقي بها مع صالح بن الفضل خليفة أحمد بن كيغلغ ، فقتل صالحا وفض عسكره ، ولم يطمع في دمشق إذ دافعهم أهلها عنها.

وبالحزم الذي أظهره المكتفي في قتال القرامطة بالشام وبالجيوش التي سرحها من بغداد وسرّحت له من مصر اضمحل أمر الباطنية ، ولم يبق لهم أمل في ملك ، وانفض عنهم الأعراب والمتلصصة ومن قال بقولهم وشايعهم على قيام أمرهم : ولو لا الحزم لأوشكوا أن ينشئوا لهم ملكا بالشام ، كما حاول الزنج في العراق أن ينشئوا لهم دولة لو لا قيام الموفق ولي عهد الخلافة العباسية ذلك القيام المحمود في قمع شأفتهم. وكان ادعى القائمون بالقرمطة الشرف وأنهم يمتون بالقرابة الى آل البيت. قال بعض المؤرخين : إن القرمطي في الشام المكنى أبا القاسم كان ينتمي الى آل أبي طالب.

وفي سنة ٢٩١ سار نائب طرسوس المعروف بغلام زرافة نحو بلاد الروم ففتح مدينة أنطاكية وقتل خمسة آلاف وأسر مثلهم واستنفد من الأسارى خمسة آلاف وأخذ لهم ستين مركبا فحمل فيها ما غنم من الأموال والمتاع والرقيق وقدر نصيب كل رجل ألف دينار فاستبشر المسلمون بذلك. عاث بنو تميم في أعمال حلب وأفسدوا إفسادا عظيما وحاصروا واليها زكا ابن الأعور. فكتب المقتدر بالله الى الحسين بن حمدان في إنجاد زكا بحلب ، فكانت وقعة بين الحسين بن حمدان وأعراب كلب والنمر وأسد وغيرهم (٢٩٤) فاجتمعوا عليه وهزموه حتى بلغوا به باب حلب ثم أسر منهم وقتل. وفي سنة ٢٩٨ كان دخول الروم الى ساحل الشام فافتتح صاحبهم حصن القبة بعد حروب طويلة وعدم مغيث يغيثهم من المسلمين وافتتح مدينة اللاذقية فسبى منها خلقا كثيرا.

ومن أهم الأحداث ما وقع من الهيج بدمشق في زمن وصيف البكتمري الذي ولي إمارة دمشق في أيام المقتدر بعد هلال بن بدر (٣١٦) وفي أيامه خلع المقتدر المرة الثانية ثم رجعت إليه الخلافة فطلب الأولياء من

١٨٢

البكتمري البيعة له بدمشق فامتنع عليهم ، فركبوا الى داره بالسلاح والنفاطات. وكانت دار الإمارة في تلك الأيام خارج لؤلؤة الصغيرة على نهر بانياس فأحرقوها وبقيت عرصته. وفي هذا الدور سار (٣١٩) طريف بن عبد الله السبكري الخادم والي حلب الى بني القصيص التنوخيين وحاصرهم في حصونهم باللاذقية وغيرها فحاربوه حربا شديدة ثم نزلوا على الأمان.

ومن أهم الكوائن في خاتمة القرن الثالث ظهور ابن الرضا وهو محسن ابن جعفر بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد في أعمال دمشق ، وكانت له مع أبي العباس أحمد بن كيغلغ وقعة فقتل صبرا ، وقيل قتل في المعركة وحمل رأسه الى مدينة السلام فنصب على الجسر الجديد بالجانب الغربي ذكر ذلك المسعودي. ولو تم الأمر لابن الرضا لقامت دولته قبل دولة الفاطميين.

الدولة الإخشيدية :

ظن بنو العباس أنهم نجوا من ثائر يناصب دولتهم العداء في الشام ومصر يوم قضوا على أبناء طولون وقوادهم وقرضوا الدولة الطولونية آخر الدهر ، وقتلوا ابن الرضا القائم بتأسيس دولة علوية جديدة ، كما قتلوا القرمطي القائم بدعوة متدرعة بالعلوية ، وقضوا على صاحب الزنج في البصرة ، وما كانوا يظنون أن تظهر لهم في الحال دولة أخرى قامت على أنقاض الطولونية وإن لم تكن مثلها استعدادا وعدلا فليست دونها من أكثر الوجوه والاعتبارات. ظهرت لهم الدولة الإخشيدية أو دولة بني طغج. والإخشيد كلمة فارسية معناها ملك الملوك ومعنى طغج عبد الرحمن ، ورأس هذه الدولة أبو بكر محمد بن طغج بن جفّ بن بلتكين بن فوري ابن خاقان. وكان جفّ جد الإخشيد قد سار من فرغانة الى المعتصم العباسي ، فأكرمه وأقام معه الى أن توفي المعتصم ، فصحب ابنه الواثق الى أن توفي ، ثم صحب أخاه المتوكل الى أن توفي جفّ. ولما توفي ابن طولون صار طغج مع ابنه أبي الجيش فولاه دمشق وطبرية الى أن

١٨٣

قتل أبو الجيش. ولما بويع هارون بن أبي الجيش ، ولى طغج دمشق وطبرية ، وتولى طغج قتال صاحب الخال القرمطي سنة تسعين ومائتين الى أن ظفر به. وكان لطغج من الولد سبعة ذكور الإخشيد أحدهم.

ولم يزل طغج على دمشق وطبرية وابنه محمد المعروف بالإخشيد يخلفه على طبرية. وكان بطبرية أبو الطيب محمد بن أبي حمزة العلوي ، وكان وجه طبرية شرفا وملكا وقوة وعفافا. فكتب الإخشيد الى أبيه طغج يذكر له أنه ليس له أمر ولا نهي مع أبي الطيب العلوي ، فكتب إليه أبوه : أعز نفسك. فأسرى محمد بن طغج على أبي الطيب في بستان له فقتله. ولم يزل طغج أيام أبي الجيش على دمشق وطبرية وأيام جيش وأيام هرون ابن أبى الجيش الى أن قتل هرون وانقرضت الدولة الطولونية. فمات طغج في حبس العباس بن المحسن وزير العباسيين ، ونجا من محبسه بعد مدة ابنه الإخشيد ، وهرب الى الشام قاصدا أحمد بن بسطام عاملها ، وبقي معه يخدمه ثم تقلد ابن بسطام مصر فسار معه الإخشيد ، وكان معه الى أن توفي سنة سبع وتسعين ومائتين ، فصار مع ابنه أبي القاسم علي وحضر الإخشيد مع تكين الخاص وقعة حسن فيها أثره ، فولاه تكين عمّان وجبل الشراة. واتفق له وهو على عمان والشراة في سنة ٣٠٦ أن حاج الشام ، وفيهم جماعة من أهل العراق قعد له جمع من لخم وجذام فجمع عسكره ولقيهم ومعه أخوه علي بن طغج فهزمهم فصار له شأن في العراق وذاعت كفايته وأمانته.

وتقلد محمد بن طغج الملقب بالإخشيد مصر من جهة الراضي ، وكان قبل ذلك تولى مدينة الرملة سنة (٣١٦) من جهة المقتدر وأقام بها الى سنة ٣١٨ فوردت إليه كتب المقتدر بولايته دمشق فسار إليها وتولاها ، وكان حينئذ المتولي على مصر أحمد بن كيغلغ ، فلما تولى الراضي عزل أحمد بن كيغلغ وولى ابن طغج مصر وضم إليها البلاد الشامية ، فاستقر ابن طغج بها سنة ٣٢٣ وما نشب ـ وهو يتولى أعمال المعاون في الشام علاوة على أعمال المعاون في مصر ، وقلد بدرا الخرشني دمشق ، وأحمد بن سعيد الكلابي شيخ قبيلة بني كلاب حلب ، حتى كثر بذلك الكلابيون

١٨٤

وزاد نفوذهم ـ أن خلع طاعة الخليفة العباسي ، فندب الخليفة محمد بن رائق الى الشام وأقطعه إياها على أن يستخلصها من الإخشيدية ، فاستولى ابن رائق سنة ٣٢٨ عليها وطرد بدرا نائب الإخشيد وولي إمرة دمشق محمد بن يزداد الشهرزوري ، فلم يزل عليها الى أن قتل محمد بن رائق بالموصل (٣٣٠) فقدم الإخشيد محمد بن طغج فاستأمن إليه محمد بن يزداد فأقره على إمرة دمشق خلافة له. وبلغ ابن رائق العريش يريد مصر ، فخرج إليه الإخشيد واقتتلا فانهزم ابن رائق الى دمشق.

ثم جهز الإخشيد الى ابن رائق جيشا مع أخيه واقتتلوا ، فانهزم عسكر الإخشيد وقتل أخوه ، فأرسل ابن رائق يعزي الإخشيد في أخيه ويقول له : إنه لم يقتل بأمري ، وأرسل ولده مزاحم وقال له : إن أحببت فاقتل ولدي به. فخلع الإخشيد على مزاحم وأعاده الى أبيه. فاستقرت مصر للإخشيد الى حد رملة فلسطين ، والشام لابن رائق من طبرية. وفي السنة التالية بعث الإخشيد من مصر قائده كافورا الى الشام في جيش عظيم ، فهزم عامل ابن رائق واستولى على حلب ، وأفسد أصحابه في جميع النواحي وقطعت الأشجار التي كانت بظاهر حلب وكانت عظيمة جدا ، ونزل عسكر الإخشيد على الناس بحلب وبالغوا في أذاهم.

وبعد سنة عقد الصلح بين الإخشيد وابن رائق ، فاستأثر هذا بولاية حلب ، وانفرد الإخشيد بدمشق يصادر أغنياءها ويستصفي أموالها ، وكان ظالما مستبدا. وقد وجد بداره قبل مسيره عن مصر الى الشام رقعة مكتوب عليها : «قدرتم فأسأتم ، وملكتم فبخلتم ، ووسّع عليكم فضيقتم ، وأدرّت عليكم الأرزاق ، فقطعتم أرزاق العباد ، واغتررتم بصفو أيامكم ، ولم تتفكروا في عواقبكم ، واشتغلتم بالشهوات واغتنام اللذات ، وتهاونتم بسهام الأسحار وهن صائبات ، ولا سيما إن خرجت من قلوب قرحتموها ، وأكباد أجعتموها ، وأجساد أعريتموها ، ولو تأملتم في هذا حق التأمل لانتبهتم ، أو ما علمتم أن الدنيا لو بقيت للعاقل ما وصل إليها الجاهل ، ولو دامت لمن مضى ما نالها من بقي ، فكفى بصحبة ملك يكون في زوال ملكه فرح للعالم ، ومن المحال أن يموت المنتظرون كلهم حتى لا يبقى

١٨٥

منهم أحد ، ويبقى المنتظر به ، افعلوا ما شئتم فإنا صابرون ، وجوروا فإنا بالله مستجيرون ، وثقوا بقدرتكم وسلطانكم فإنا بالله واثقون ، وهو حسبنا ونعم الوكيل».

قالوا : وقد بقي الإخشيد بعد سماع هذه الرقعة في فكر ، وسافر الى دمشق فمات فيها سنة ٣٣٤ ولم تطل دولته غير سنتين ، فهو في الحقيقة مؤسسها سنة ٣٢٣ وأيام حكمه من حيث المجموع كانت إحدى عشرة سنة سافر فيها خمس مرات من مصر الى أعداء يقاتلهم. لما زحف عليه سيف الدولة بن حمدان فخف إليه واقتتلا بقنسرين ثم اصطلحا وتصاهرا وتقاربا.

وفي أواخر أيام الإخشيديين (٣٥٢) خرج في برية الشراة خارجي من بني سليم يسمى محمد بن أحمد السلمي ، واجتمع إليه خلق كثير من العرب ومن غيرهم ومن أهل الطمع ، وقوي أمره وكثر جمعه ، فبلّغ كافور الإخشيد خبره وكان الشام يومئذ بيده ، فأنفذ عسكرا خوفا من حادث يحدث ، وتقدم الى أصحابه أن لا يبتدئوه بحرب ولا قتال ، وطال مقامه وإياهم على تلك الحال ، فأسرى إليه في بعض الليالي رجل من العرب يعرف بثمال الخفاجي من بني عقيل وأخذه أسيرا وحمله الى مصر فشهر بها راكبا فيلا ، واعتقل مدة ثم عفي عنه وخلي سبيله.

ولما تفرد كافور بالأمر (٣٥٥) جعل الحسن بن عبيد الله بن طغج على الشام مستخلفا من قبله ، وكان في بيت المقدس وال يعرف بمحمد ابن إسماعيل الصنهاجي اضطهد بطريق القدس ، وكان أبى مقابلته فهجم عليه الوالي في أشياعه وأحرق أبواب كنيسة القيامة ، وسقطت قبتها ، ونهبوا كنيسة صهيون وأحرقوها. قال ابن بطريق : وهدم اليهود وخربوا أكثر من المسلمين ، ثم قتل البطريق ولما مات كافور (٣٥٦) ونصب مكانه أحمد بن علي الإخشيد ، وكان عمره إحدى عشرة سنة ، على أن يخلفه ابن عم أبيه الحسن بن عبيد الله بن طغج وكان بالشام ، فوقع الخلاف بين الإخشيدية ، وصار كل واحد يتسمى بالأمير وكثر التحاسد ، فكتب جماعة منهم الى المعز الفاطمي صاحب المغرب يستدعون منه إنفاذ

١٨٦

جيشه الى مصر ليتسلمها ، وضمنوا له المعونة ، وعلى هذا انتهت أيام الإخشيديين.

الدولة الحمدانية :

بعث الخليفة العباسي محمد بن رائق لينقذ الشام ومصر من الإخشيد محمد بن طغج ، فلم يضرب ابن رائق ابن طغج ضربة قاسية ، واكتفى بأن ترك له مصر الى الرملة ، رملة فلسطين (٣٢٩) وقعد في القسم الأكبر من الشام ـ مقابل جزية سنوية قدرها مئة وأربعون ألف دينار ـ أميرا يحاول أن يقيم له فيه دولة ، عصى بالشام فقام يناجزه ناصر الدولة ابن حمدان القتال ، وكان هذا استأثر بالموصل والجزيرة ، فقتل ابن رائق (٣٣٠) وكتب بالأمر الى الخليفة المتقي بالله ، فحل ذلك من نفسه محلا عظيما ، ولقبه ناصر الدولة ولقب شقيقه عليا سيف الدولة وهذا هو صاحب الدولة التي اشتهر أمرها في حلب وما إليها. وبنو حمدان بطن من بني تغلب بن وائل من العدنانية.

سار سيف الدولة (٣٣٣) الى حلب فلقي فيها يأنس المؤنسي ، ففارقها يأنس ، واستأمن إليه في قطعة من الجيش ، فاستولى عليها سيف الدولة ، وسار الى دمشق وأقام الدعوة للمستكفي ولأخيه ولنفسه ، فخلع المستكفي على سيف الدولة وعلى الإخشيد لأن هذا أقام الخطبة له بمصر وما تحت حكمه من الأصقاع. ولما بويع للمطيع بالخلافة سار مع الإخشيد وابن حمدان بسيرة المستكفي على قدم التوازن السياسي ، فكتب الى الإخشيد بالتقليد ، فتكافأ الإخشيد وسيف الدولة ، وهدأت الفتن واستقامت الطرق.

ولما بلغ الإخشيد أن سيف الدولة سار الى حمص جرد عسكرا كبيرا وجعل عليه أربعة قواد ، فساروا الى دمشق وعبوا عساكرهم ، ثم ساروا الى حمص ، فالتقوا مع سيف الدولة بالرّستن من أرض حمص فهزمهم سيف الدولة ، فعادوا الى دمشق ثم خرجوا عنها يريدون الرملة ، ثم قصدوا الى مصر وسار سيف الدولة في إثرهم يريد دمشق ، وكتب الى

١٨٧

جماعة الأشراف والعلماء والأعيان والمستورين كتابا قرىء على منبر جامعها وفيه :

وقد علمتم أسعدكم الله ، تشاغلي بجهاد أعدائي وأعداء الله الكفرة ، وسبيهم وقتلي فيهم ، وأخذي أموالهم ، وتخريبي ديارهم ، وقد بلغكم خبر القوانين (؟) في هذه السنة ، وما أولانا الله وخولناه ، وأظفرنا به ، واستعملت فيهم السّنّة في قتال أهل الله فما أتبعت مدبرا ، ولا ذففت على جريح ، حتى سلم من قد رأيتم ، وقد تقدمنا الى وشاح بن تمام بصيانتكم وحفظكم ، وحوط أموالكم ، وفتح الدكاكين ، وإقامة الأسواق ، والتصرف في المعاش ، الى حين موافاتنا إن شاء الله.

كتب الرجحان لجيش سيف الدولة على جيش الإخشيدية ، وسار كافور بعساكر مولاه الى مصر ، فأقام سيف الدولة بدمشق وجبى خراجها ، وجعل يطالب أهلها بودائع الإخشيد وأسبابه ، وكان أحداث دمشق قد نهبوها في يوم موت الإخشيد ، وظن ابن حمدان أن الأمر تم له فجمع الى ملكه في الجزيرة ملك الشام ، وربما تطالّ بعد ذلك الى مصر ولم يعرف ما خبأته له الأقدار حتى زحزحته عن ملك دمشق ، واقتصرت دولته على حلب وما إليها. وذلك أنه اتفق أن كان يسير هو والشريف العقيقي بضواحي دمشق ، فقال سيف الدولة : ما تصلح هذه الغوطة إلا لرجل واحد. فقال له العقيقي : هي لأقوام كثيرة فقال سيف الدولة : لئن أخذتها القوانين السلطانية ليتبرأوا منها.

فأعلم العقيقي أهل دمشق بذلك ، فكاتبوا كافورا يستدعونه من مصر ، فجاءهم ومعه أنوجور بن الإخشيد فخرج سيف الدولة الى اللّجون ، وأقام أياما قريبا من عسكر الإخشيدية بقرية أكسال وكان في خمسين ألفا ، وتفرق عسكر سيف الدولة في الضياع لطلب العلوفة ، فعلم به الإخشيدية فرجعوا ، وركب سيف الدولة فرآهم زاحفين في تعبية ، فعاد الى عسكره فأخرجهم فنشبت الحرب فقتل من أصحابه خلق وأسر كذلك ، وانهزم سيف الدولة الى دمشق وسار من حيث لم يعلم أهل دمشق بالوقعة (٣٣٥) وجاء الى حمص وجمع جمعا لم يجتمع له قط مثله من بني عقيل وبني نمير وبني

١٨٨

كلب وبني كلاب ، وخرج من حمص ، وشخص عساكر الإخشيدية من دمشق ، فالتقوا بمرج عذراء على ساعتين من دمشق ، وكانت الوقعة أولا لسيف الدولة ثم آخرها عليه ، فانهزم وملكوا سواده ، وتقطع أصحابه فهلكوا وتبعوه الى حلب فعبر الرقة.

لم يستطع سيف الدولة بعد وقعة أكسال ومرج عذراء أن ينال من الإخشيدية ، وبقيت لهم دمشق وما وراءها حتى مصر لأن أهل دمشق خافوا من مصادرات سيف الدولة ، يوم طالبهم بودائع الإخشيد وأحب أن يملك غوطتهم ، فقلبوا له ظهر المجن ، ولم يغنه جيشه العظيم لانصراف القلوب عنه ، فاقتضى له أن يقاتل جيشين : جيش الطامعين في تلك الديار وجيش البلاد نفسها ، وظلت حلب لسيف الدولة لأنه لم يأت فيها بادىء بدء ما أتاه من أفعال الظلم. وحلب أقرب الى مهد عصبيته وهي الثغور الشامية والجزرية وديار مضر وديار بكر. واصطلح سيف الدولة والإخشيد وصاهره وتقرر لسيف الدولة حلب وحمص وأنطاكية ، ومن الأحداث في هذه الحقبة أن شبيب بن جرير العقيلي تقلد عمان والبلقاء وما بينهما من البر والجبال ـ على عهد كافور فعلت منزلته واجتمعت إليه العرب وكثرت حوله وسولت له نفسه أخذ دمشق والعصيان بها ، فسار إليها في نحو عشرة آلاف وقاتله أهلها وسلطانها واستأمن إليه جمهور الجند الذين كانوا بها وغلقت أبوابها ، فنزل بعض أصحابه على الثلاثة الأبواب التي تلي المصلى يشغلهم بهم ، ودار هو حتى من الحميريين على القنوات حتى انتهى الى باب الجابية وحال بين الوالي وبين المدينة ليأخذها فهلك وانهزم أصحابه لما رأوا مصرعه فخالفوا الى الموضع الذي دخلوا منه فأرادوا الخروج منه فقتل أربعمائة فارس وبضعة عشر. وكانت علائق الإخشيديين كصلات الحمدانيين اسمية مع خلفاء بغداد ، واشتهر الإخشيديون وهم عجم بشحهم ، والحمدانيون العرب بكرمهم ، وكان الإخشيديون من أهل السنة ، والحمدانيون يرون رأي الشيعة.

١٨٩

مغازي سيف الدولة :

كان سيف الدولة يحمل بين جنبيه نفسا عظيمة ، ولطالما حارب الروم وغزاهم ، ومن الأحداث في أيامه إحراق حصن فامية سنة ٣٣٨ نازله الدوقس في ثلاثين ألفا وحاصره سبعة أشهر وأشرف على أخذه فدفعه عنه صمصامة والي دمشق فقتل الدوقس وقتل من عسكره أربعة عشر ألفا وأسر منهم خلق كثير وكسروا بعد أن ظهروا. ومنها أخذ سيف الدولة حصن برزويه من الأكراد بعد أن قاتلهم مدة. وفي السنة التالية خرج بسيل ملك الروم الى الشام وفتح شيزر بالأمان لقلة رجالها. وفي سنة ٣٤٥ سار سيف الدولة الى الروم فغنم وسبى وفتح عدة حصون ورجع الى أذنة فأقام بها ثم ارتحل الى حلب. ومن غزواته غزوة سنة ٣٤٩ ، أوغل في الروم وفتح حصونا ، فلما أراد الخروج من أرضهم أخذوا عليه الدرب الذي أراد الخروج منه ، فقطعوا الأشجار وسدوا بها الطرق ودهدهوا الصخور في المضايق على جيشه ، والروم وراء الناس مع الدمستق يقتلون ويأسرون. وكان مع سيف الدولة أربعمائة أسير من وجوه الروم فضرب أعناقهم ، وعقر جماله وكثيرا من دوابه. وأحرق الثقل وقاتل قتال الموت ونجا في نفر يسير قيل في ثلاثمائة من غلمانه ، واستباح الدمستق أكثر الجيش وأسر الأمراء والقضاة ، ووصل سيف الدولة الى حلب ولم يكد ، وكان جيشه ثلاثين ألفا. وأرسل الدمستق الى سيف الدولة يطلب الهدنة فلم يجبه إليها مع ما حلّ به منه ، ثم جهز سيف الدولة جيشا فدخلوا بلد الروم من ناحية حران فغنموا وأسروا ، وغزا أهل طرسوس أيضا في البر والبحر ، ثم سار سيف الدولة من حلب الى آمد (ديار بكر) فحارب الروم وخرب الضياع. قال مسكويه في وقعة ٣٤٩ : وخرج أهل طرسوس من طريق آخر فسلموا ، والسبب في سلامتهم ومصاب سيف الدولة ، أن هذا الرجل كان معجبا ، يحبّ أن يستبد برأيه ، وألا تتحدث نفسان أنه عمل برأي غيره ، وكان أشار عليه أهل طرسوس بأن يخرج معهم ، لأنهم علموا أن الروم قد ملكوا عليه الدرب الذي يريد الخروج منه

١٩٠

وشحنوه بالرجال ، فلم يقبل منهم ولجّ فأصيب المسلمون بأرواحهم ، وأصيب هو بماله وسواده وغلمانه.

وأغار الروم مرة على أطراف الشام فسبوا وأسروا ، فساق وراءهم سيف الدولة ولحقهم فقتل منهم مقتلة واسترد ما أخذوه. واستولى الروم سنة ٣٥١ على حلب دون قلعتها وعلى الحواضر ، وحصروا المدينة وثلموا السور ، وقاتل أهلها الروم أشد قتال فتأخر الروم الى جبل جوشن ، ثم وقع بين الحلبيين نهب فلم يبق على السور أحد ، فهجم الروم على البلد وفتحوا أبوابه وأطلقوا السيف وسبوا بضعة عشر ألف صبي وصبية وغنموا كثيرا وأحرقوا ما بقي. وكان سيف الدولة غائبا وقاتل الدمستق عند عودته فقتل غالب أصحابه ، وظفر الدمستق بدار سيف الدولة في الدارين من أرض حلب فأخذ منها ثلاثمائة وخمسين بدرة (١) من الدنانير ما عدا السلاح والدواب. وكانت عدة عسكر الروم مائتي ألف رجل منهم ثلاثون ألفا بالجواشن (٢) ، وثلاثون ألفا للهدم وإصلاح الطرق من الثلج ، وأربعة آلاف بغل يحمل الحسك الحديد. وفي رواية أن جيش الروم كان ثمانين ألف فارس ما عدا السواد وهو كثير جدا ، وأن سيف الدولة نادى في حلب من لحق بالأمير فله دينار ، وأنه انهزم الى ناحية بالس بعد أن قتل من جيشه من أهل حلب مدة ستة أيام جملة كثيرة من الناس. قال الذهبي : وقتلوا الأسرى ثم عادوا الى القلعة فإذا طلائع قد أقبلت نحو قنسرين ، وكانت نجدة للروم ، فتوهم الدمستق أنها نجدة لسيف الدولة فترحل خائفا.

وفي سنة ٣٥٥ سار صاحب الروم الى الشام فعاث وأفسد ، وأقام به نحو خمسين يوما فنزل على منبج وأحرق الرّبض وخرج إليه أهلها ، فأقرهم ولم يؤذهم ، ثم سار الى وادي بطنان وسار سيف الدولة متأخرا الى قنسرين ، وقد ضيق رجاله والأعراب الخناق على الروم ، وأخذت

__________________

(١) البدرة : كيس فيه ألف أو عشرة آلاف درهم أو سبعة آلاف دينار.

(٢) الجواشن : الدروع.

١٩١

الروم أربع ضياع بما حوت ، فراسل سيف الدولة ملك الروم وبذل له مالا يعطيه إياه في ثلاثة أقساط فقال : لا أجيبه إلا أن يعطيني نصف الشام ، فإن طريقي الى ناحية الموصل على الشام. فقال سيف الدولة : لا أعطيه حجرا واحدا. ثم جالت الروم بأعمال حلب ، وتأخر سيف الدولة الى ناحية شيزر ، وأنكب العرب في الروم غير مرة وكسبوا كثيرا ، ونزل عظيم الروم على أنطاكية يحاصرها ثمانية أيام ثم رحل عنها.

قل المنتقضون على سيف الدولة لبطشه ، وممن خالفه بنو كلاب (٣٤٣) فحاربهم وكان اصطنعهم حتى استطالوا على العرب ، وأوقع ببني عقيل وقشير وبني العجلان وبني كلاب حين عاثوا في عمله وخالفوا عليه. وهذه الغزوات تعد في باب المناوشات لا الحروب مثل غزوة سيف الدولة للمبرقع الذي دعا الناس الى نفسه ، والتفت عليه القبائل ، وافتتح مدائن من أطرف الشام وأسر أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان ، وهو خليفة سيف الدولة على حمص ، وألزمه شراء نفسه بعدد من الخيل وجملة من المال ، فأسرى سيف الدولة من حلب حتى لحقه في اليوم الثالث بنواحي دمشق فأوقع به ووضع السيف في أصحابه فلم ينج إلا من سبق فرسه ، وعاد سيف الدولة الى حلب ومعه أبو وائل وبين يديه رأس الخارجي على رمح. وممن خالفه أهل أنطاكية سنة ٣٥٤ وعليهم رشيق النسيمي فسار الى جهة حلب وحاصر قلعتها ثلاثة أشهر وعشرة أيام ، وقاتل قرعويه غلام سيف الدولة وعامله قتالا شديدا ، وكان هذا بميافارقين ، فأرسل عسكرا مع خادمه بشارة فقتل رشيق وهرب أصحابه الى أنطاكية ، ولما عاد سيف الدولة اجتمع على حرب ابن الأهوازي والديلمي اللذين قاما مقام رشيق ، فقتل هذا الثائران ، وقتل من ولاتهما وقضاتهما وشيوخهما خلق.

وذهب قرعويه الى أنطاكية فجرت بينه وبين الديلمي وقعة انهزم فيها قرعويه وعاد الى حلب ، وسار الديلمي في أثره الى حلب ، فلقيه أصحاب قرعويه ودفعوه الى أنطاكية. قال ابن قاضي شهبة في حوادث سنة ٣٥٥ : إن أهل أنطاكية خرجوا عن طاعة سيف الدولة لاشتغاله بنفسه ، فتفرغ لهم وقاتلهم قتالا شديدا ثم انتصر وأسر خلائق من أهلها ، فصادر أعيانهم

١٩٢

وأخذوا خطوطهم بأموال عظيمة وقتل خلقا منهم ، حتى قيل : إنه قتل نحو خمسة آلاف رجل ، وكتب الى ولده أبي المعالي كتابا يبشره بذلك وقال فيه : ما شاهدت عسكرا ، على كثرة مشاهدي للحرب ، استولى على جميع رؤسائه وأتباعه مثل هؤلاء ، ولا غنم عسكر مثل ما غنم منهم.

وسار ملك الروم بجيوشه الى الشام (٣٥٥) فعاث وأفسد ، وقيل : إن أهل أنطاكية راسلوه وبذلوا له الطاعة وأن يحملوا إليه مالا ، وكان الذي حركه وأحنقه إحراق بيعة القدس ، وكان البطريق كتب الى كافور صاحب مصر يشكو قصور يده عن استيفاء حقوق البيعة ، فجاءه من الناس ما لم يطق دفعه وقتل البطريق ، وأحرقت البيعة وأخذوا زينتها ، فراسل كافور ملك الروم بأن يرد البيعة الى أفضل ما كانت فقال : بل أنا أعيدها بالسيف. فلما خرج ملك الروم أصعد سيف الدولة أهل المدينة الى قلعة حلب ، وأنجفل الناس وعظم الخطب ، وأخليت نصيبين ، ونزل صاحب الروم على منبج وأحرق الربض ، وخرج إليه أهلها فأقرهم ولم يؤذهم ، وأنكت العرب في الروم غير مرة وكسبوا ما لا يوصف ، وحاصر الروم أنطاكية ثمانية أيام ليلا ونهارا ، وبذل الأمان لأهلها فأبوا فقال : أنتم كاتبتموني ووعدتموني ، فردوا عليه ردا قبيحا وحاربوه أشد حرب.

محاسن سيف الدولة ومقابحه :

توفي سيف الدولة بن حمدان سنة ٣٥٦ بعد أن غزا الروم أربعين غزوة له وعليه ، فحفظ بغزواته بيضة العرب والإسلام ، ولولاه لتقدم الروم في الشام ، وربما استصفوها كلها بعد ما ثبت من ضعف العباسيين. وكان جمع من نفض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئا وعمله لبنة بقدر الكف ، وأوصى أن يوضع خده عليه في لحده فنفذت وصيته في ذلك. ترجمه الأزدي بقوله : «كان معجبا برأيه ، محبا للفخر والبذخ ، مفرطا في السخاء والكرم ، شديد الاحتمال لمناظريه ، والعجب بآرائه ،

١٩٣

سعيدا مظفرا في حروبه ، جائرا على رعيته ، اشتد بكاء الناس عليه ومنه».

نعم كان سيف الدولة جائرا على رعيته يخرب قرية ليجيز شاعرا ، ولما تربع في دست الملك بحلب استكثر من القصور له ولآله وقواده ، وجعلها كحضرة بني العباس كعبة العلم والأدب ، فوافاه الشعراء والعلماء من الأقطار ، وكان كريما مفضلا خصوصا على مداحه. ينفق نفقات طائلة على علماء بغداد ومهاداة وزرائها وأرباب النفوذ فيها ، فكان حماته في دار الخلافة كثارا استمال بهم الرأي العام البغدادي ، فرضي الخلفاء ولم يخالفوه لأنه أبقى لهم الخطبة وإن ضرب السكة باسمه.

ولقد استحل سيف الدولة للقيام بهذه الأبهة الضخمة في مملكته الصغيرة مصادرة رعيته ، فكان قاضيه أبو الحصين يقول : «كل من هلك فلسيف الدولة ما ترك» ولذلك كثرت مصادرة كل غني من التجار وغيرهم ، فخربت الأصقاع الشمالية في أيامه. وذكر المؤرخون أن أبا الحصين الرقي قاضي حلب قتل في إحدى المعارك ، فداسه سيف الدولة بحصانه وقال : «لا رضي الله عنك فإنك كنت تفتح لي أبواب الظلم». على أن هذا لا ينجي سيف الدولة من المؤاخذة لأنه كان يتيسر له صرفه عن القضاء ، وليس أبو الحصين من أرباب العصبيات حتى يخافه. ومن كثرة مظالم سيف الدولة أن بني حبيب وهم أبناء عم بني حمدان ، كانوا ينزلون نصيبين «فأكبّ عليهم بنو حمدان بصنوف الجور ، حتى خرجوا بذراريهم في اثني عشر ألف فارس الى الروم. وتنصروا بأجمعهم ، ثم عادوا الى بلاد الإسلام على بصيرة بمضاره ، وعلم بأسباب فساده وقلوبهم تضطرم حقدا» على ما قال ابن حوقل ، وأخذوا يخربون القرى في الجزيرة والشام وأطمعوا صاحب الروم بأنطاكية وحلب.

وكانت لسيف الدولة طرق غريبة في الرحمة ، من ذلك أنه سار مرة بالبطارقة الذين في أسره الى الفداء ، وكان في أسر الروم ابن عمه أبو فراس وجماعة من أكابر الحلبيين والحمصيين فأخذ بالفداء ، ولما لم يبق معه من أسرى الروم أحد اشترى الباقين كل نفس باثنين وسبعين دينارا حتى نفد ما معه من المال ، فاشترى الباقين ورهن عليهم بدنته (درعه) الجوهر المعدومة

١٩٤

المثل. ثم لما لم يبق أحد من أسرى المسلمين كاتب نقفور ملك الروم على الصلح. قال ابن الوردي : وهذه من محاسن سيف الدولة. ومن حسناته أنه أنفق في سنة ٣٥٥ على فداء الأسرى خمسمائة ألف دينار ، وكان ورث هذا المبلغ من أخته.

وذكر المؤرخون أنه كان يقف على مائدة سيف الدولة أربعة وعشرون طبيبا ، لينصحوا له بتناول ما ينفع مزاجه ، وأنه كان من أهل الأدب وغيرهم من يتناول رزقين وثلاثة. وفي باب كرمه واسرافه غرائب ، منها أنه أنفق تسعمائة ألف دينار في جهاز ابنته وعرسها ، وضرب دنانير في كل دينار ثلاثون دينارا وعشرون وعشرة. قال الأزدي : ويقال إنه جاد بما لم يجد به أحد. قالوا : إنه كان لا يملك نفسه ، ويجود بكل ما لديه إذا قصده من يريد إكرامه ، كل هذا على ما فيه من المفاخر يحمل في مطاويه الظلم وإعنات الرعية. فسيف الدولة ممن خلط عملا صالحا وآخر سيئا وحسناته أكثر.

ابتداء الدولة الفاطمية :

كان كافور آخر ملوك الإخشيديين مملوكا حبشيا ذا عقل ودراية وحسن إدارة ، استولى بالفعل على زمام الحكم في مصر والشام على عهد أبي القاسم أنوجور محمود وأبي الحسن علي ، ولدي محمد بن طغج الإخشيدي رأس الدولة الإخشيدية ، ثم تولاه مستقلا بنفسه ، وقام بالأمر بعده أبو الفوارس أحمد ، بمعنى أن الدولة الإخشيدية امتدت أربعا وثلاثين سنة من سنة ٣٢٣ الى ٣٥٧ ولما آذنت شمسها بالأفول انتشرت الفوضى في المملكة ، فرأى عقلاء مصر أنه لا ينجيها مما صارت إليه إلا إلقاؤها في أحضان دولة قوية فتية تنقذ الأمة من بلائها ، وكان للقائم بالدولة الفاطمية أو العبيدية التي نشأت في المغرب وامتد سلطانها هوى في هبوط مصر ففاوضوه في أمرها ، وكان حاول غير مرة أن يستولي عليها فرده عنها جيش بني العباس.

وبلغ المعز الفاطمي اختلاف الأهواء وتفرق الآراء ، فجهز العسكر

١٩٥

إليها بإشارة المصريين ، فهربت العساكر الإخشيدية من القائد جوهر الذي جاء مصر في مئة ألف محارب وألف وخمسمائة جمل تحمل الذهب والفضة ، واتفق أن ورد القرامطة الى دمشق ، وأتوا عليها وعلى سائر أعمالها ، وساروا الى الرملة ولقيهم الحسن بن عبيد الله بن طغج ، ووقع بينهم حرب عظيمة بظاهر الرملة في ذي الحجة سنة ٣٥٧ ، فانهزم ابن عبيد الله من الشام ودخل الى مصر ، فاستولت القرامطة على الرملة واستباحوها ، فقاطعهم أهلها على مائة وخمسة وعشرين ألف دينار ، شروا بها أنفسهم منهم وأخذوا من أعمالهم بشرا كثيرا. وإذ رأى الروم أن مصر قد عبثت بها الفوضى ، وأن الشام في ضعف ووهن ، أغاروا على الشام (٣٥٨) فقتلوا وسبوا في حمص والثغور وقتلوا خلائق وسبوا نحو مائة ألف إنسان ، وخاف المسلمون ، ولم يشكوا في أن الروم يملكون الشام ومصر والجزيرة ودياربكر لخلو الجميع عن المانع. فأقام جوهر الخطبة للمعز الفاطمي. قال المسبّحي : لما استقر المعز بمصر انفرد بها ولم يدخل تحت طاعة الخلفاء العباسية وادعى الخلافة لنفسه بمصر وقال : نحن أفضل من الخلفاء العباسية لأننا من ولد فاطمة بنت رسول الله. ولما استقرت قدم جوهر بمصر ، سير جمعا كثيرا مع جعفر بن فلاح الى الشام فبلغ الرملة وبها الحسن بن عبيد الله بن طغج ، وجرت بينهما حرب أسر عقيبها ابن طغج واستولى جعفر على فلسطين ، وجبى أموالها ثم سار الى طبرية ، فوجد أهلها قد أقاموا الدعوة للمعز قبل وصوله ، فجهز منها من استمال من بني مرة وفزارة لحرب بني عقيل بحوران والبثنية وأردفهم بعسكر من أصحابه ، فواقعوا بني عقيل وهزموهم الى أرض حمص ، وسار هو من طبرية الى دمشق ، فقاتله أهلها فظفر بهم وملكها بعد فتن وحروب ونهب بعضها وأحرق الآخر. وأقام الخطبة للمعز سنة ٣٥٩ وقطعت الخطبة العباسية ، واستقرت دمشق للمعز الفاطمي. وأصبح بنو عبيد الفاطميون خلفاء مصر والشام والمغرب.

وكان رئيس الثورة بدمشق سيدها وصدرها في عصره أبو القاسم بن أبي يعلى الهاشمي العباسي. فأخذه جعفر بن فلاح وشدّه على جمل ،

١٩٦

وفوق رأسه قلنسوة ، وفي لحيته ريش ، وبيده قصبة وبعث به الى مصر. وضرب الفاطميون على دمشق دية عم الناس البلاء في جبايتها ، وتطلب حمال السلاح فظفر بقوم منهم ، وضرب أعناقهم وصلب جثثهم ، وعلق رؤوسهم على الأبواب.

وفي سنة ٣٦٠ أنفذ جعفر غلامه فتوحا على عسكر الى أنطاكية ، وكان لها في أيدي الروم نحو من ثلاث سنين ، وسير الى أعمال دمشق وطبرية وفلسطين فجمع منها الرجال ، وبعث عسكرا بعد عسكر الى أنطاكية ، وكان الوقت شتاء فنازلوها حتى انصرم الشتاء وهم ملحّون في القتال ، فلم يظفر بطائل ، وانهزم عسكره آخر الأمر وقتل منهم كثيرون. وبلغ جعفر بن فلاح مسير القرامطة الى الشام وقد أمدّهم صاحب بغداد لقتال جيش الفاطميين فاستهان بهم وواقعهم. فانهزم منهم قرب دمشق وقتل في المعركة ، وملك القرامطة دمشق وأمنوا أهلها ثم ساروا الى الرملة فملكوها واجتمع اليهم كثير من الإخشيدية. قتل القرامطة جعفر بن فلاح مخافة أن يفوتهم حمل المال الذي كان تقرر بينهم وبين ابن طغج ، وهو ثلاثمائة ألف دينار في السنة ، وساروا يريدون الرملة ، وعليها سعادة بن حيان فالتجأ الى يافا ، ونزل عليه القرمطي ، وقد اجتمعت إليه عرب الشام فناصبها القتال حتى أكل أهل المدينة الميتة وهلك أكثرهم جوعا ، وسير جوهر من مصر نجدة الى أصحابه المحصورين بيافا ، ومعهم ميرة في خمسة عشر مركبا ، فأرسل القرامطة مراكبهم إليهما فأخذوا مراكب جوهر ولم ينج منها غير مركبين غنمتهما مراكب الروم.

اصطلح قرعويه (٣٦٠) مولى سيف الدولة بن حمدان متولي حلب وأبا المعالي شريف بن سيف الدولة ، فخطب له قرعويه بحلب ، وخطبا في معاملتيهما للإمام المعز الفاطمي بحلب وحمص. بمعنى أن بني حمدان وهم شيعة أسرعوا في نزع أيديهم من أيدي العباسيين ، ووضعوا أيديهم في أيدي الفاطميين الشيعة ، بيد أن الفاطميين لم يجدوا نصيرا قويا في الشام ، لأن السواد الأعظم من أهل السنة والجماعة كانوا يخالفونهم في مذهبهم ، وقد بلغهم ما صارت إليه مصر من تغيير مذهب أهلها ومصطلحهم في

١٩٧

أذانهم وصلواتهم ، فشق عليهم ذلك وعزموا أن يقفوا للفاطميين بالمرصاد. ومن ذلك ما وقع سنة ٣٦١ من التقاء سعد أمير عرب الشام بحسان بن جراح الطائي في عربه ، واتفقا على أن ينزعا حكم مصر من الشام ، وكان جيش المعز حارب عرب الشام في حوران حربا دامية، فأرسل المعز الى حسان ووعده بمائة ألف دينار إن خذل أمير الشام. ولما دارت الحرب بينهما انهزم حسان بالعرب فضعف جانب سعد وقوي عليه المعز وكسره. وقطعت خطبة المعز من دمشق أيام القرامطة وبقيت الى أن استردها سنة ٣٦٣ وأرسل المعز قائده ظالم بن موهوب واليا على دمشق فعظم أمره وكثرت جموعه ثم وقع بينه وبين أهلها فتن دامت الى سنة ٣٦٤.

وتفصيل ذلك أن المعز سير القائد أبا محمود يتبع القرامطة فنزل بظاهر دمشق ، وأمتدت أيدي أصحابه بالعيث والفساد وقطع الطرق ، فاضطرب الناس وخافوا ، فوقعت فتنة عظيمة بين عسكره وبين العامة ، وجرى بين الطائفتين قتال شديد وظالم بن موهوب مع العامة ، فأحرق جانب من المدينة وهلك جماعة من الناس ، وعادت الفتنة بعد أن اصطلح المتقاتلون الى شدتها بينهما (٣٦٤) واتفقوا على إخراج ظالم من البلد ، ووليه جيش بن الصمصامة ، وعاد المغاربة أي جيش الفاطميين وعاثوا وأفسدوا فثار العامة وقاتلوهم ، ثم زحف جيشه في العسكر الى البلد وقاتله أهله فظفر بهم وهزمهم ، وأحرق من المدينة ما كان سلم ، ودام القتال بينهم أياما ، فاضطرب الأهلون وخافوا وخربت المنازل وانقطعت المواد ، وانقطع الماء والميرة عن البلد ، وهلك الفقراء على الطرقات جوعا وبردا ، ووصل الخبر الى المعز فأنكر ذلك واستبشعه ، فأرسل الى القائد ريان الخادم والي طرابلس يأمره بالسير الى دمشق لمشاهدة حالها وكشف أمور أهلها.

واتفق أن أفتكين غلام عضد الدولة انهزم في خلال هذه الأيام من المدائن فنزل على حمص في طائفة من الترك والأعراب ، وكان الأحداث قد غلبوا على دمشق وليس للأعيان معهم حكم ، فخرج أشرافها وشيوخها يظهرون السرور بمقدم أفتكين ويبايعونه على الطاعة لينقذهم من المصريين ، فنزل على دمشق وأخذها من ريان الخادم ، وأقام العدل في الناس وكفّ

١٩٨

أيدي الأعراب الذين كانوا عاثوا في الأرض فسادا ، وأخذوا عامة المرج والغوطة ، ودخل البلد وخطب للطائع العباسي ، وأبان في جميع مواقفه عن شجاعة وقوة نفس وحسن تدبير ، فأذعنت له العرب ، وأقطع الأرضين ، وكثر جمعه ، وتوفرت أمواله وثبتت قدمه ، وكاتب المعز يداريه ويظهر له الانقياد.

١٩٩

دور الفاطميين

«من سنة ٣٦٤ ـ ٣٩٤»

الدول الثلاث وغزوات الروم :

تقلبت على الشام ثلاث دول في مدد متقاربة ، وهي الإخشيدية والحمدانية والعبيدية. انبثقت الدولتان الأوليان من أصل الدولة العباسية ، بمعنى أن الإخشيديين والحمدانيين كانوا كالطولونيين من عمال العباسيين ، قوي أمرهم فاستبدوا بالشام. وأنشأؤا لهم ملكا لم يتعاقب فيهم عدة بطون وأجيال. أما دولة العبيديين فعلى خلاف هذا ، كانت دولة شيعية قامت سنة ٢٩٦ بالمغرب ، وأول من ولي منهم أبو محمد عبيد الله بن محمد بن عبد الله بن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنهم ، دعا الدعاة أولا بالمغرب الى محمد والد المهدي عبيد الله وكان أولا بسلمية من الشام ، ولما توفي أوصى الى ابنه عبيد الله المهدي وأطلعه على حال الدعاة. وشاع ذلك في أيام المكتفي فطلب فهرب عبيد الله وابنه أبو القاسم محمد الذي ولي بعد المهدي وتلقب بالقائم ، وتوجها نحو المغرب ونزل تاهرت ، وعظم شأنه في القبائل واستجابت لدعوته ، وملك ومن بعده معظم شمالي إفريقية وجزائر البحر المتوسط مثل صقليّة وساردنية ومالطة وغيرها. والخليفة المعز الذي فتح مصر والشام هو رابع خلفائهم.

نشأت الدولة العبيدية أو الفاطمية أو العلوية كالدولتين إلأموية والعباسية

٢٠٠