خطط الشام - ج ١

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ١

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٨

بين الفريقين العظيمين من العرب أضرت ضررا بالغا. وكان القيسيون حزب العباسيين على الأغلب واليمانيون حزب الأمويين والمنافسة بينهما على الملك والسلطان.

«تعرض رجل للمأمون بالشام مرارا فقال له : يا أمير المؤمنين انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم أهل خراسان فقال : أكثرت عليّ يا أخا أهل الشام ، والله ما أنزلت قيسا من ظهور الخيل إلا وأرى أنه لم يبق من مالي درهم واحد ، وأما اليمن فو الله ما أحببتها ولا أحبتني قط. وأما قضاعة فسادتها تنتظر السفياني وخروجه فتكون من أشياعه ، وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر ، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما ثائرا ، اعزب فعل الله بك».

سبب تباغض النزارية واليمانية وحكمة حكيم :

تأصلت البغضاء بين النزارية واليمانية منذ كان للعرب في الشام سلطان. وكثيرا ما تظهر بوادر هذه العداوة لسبب تافه. فقد ذكروا أن الكميت الشاعر المعروف ، مدح النزارية فأفحش في مدحه ، ففخروا بذلك على اليمانية ، وأغدق بنو هاشم المال على الكميت مكافأة له ، وقام دعبل الخزاعي يمدح اليمانيين ويعيب غيرهم ، فكان هذا أول الشنآن بين النزارية واليمانية ، ومنها تحزب الناس بالمناقب وثارت بينهم في البدو والحضر ، الى أن قام محمد الجعدي متعصبا لقومه ، فانحرف الناس للدعوة العباسية وتقلقل الأمر الى انتقال الدولة من بني أمية الى بني هاشم ، ولم يبق معهم إلا من فرّ بنفسه مستخفيا.

وكان رجال الإدارة والسياسة إذا أحبوا نشر العدل بين هذين الحيين العظيمين من أحياء العرب يتعذر عليهم ذلك إلا بغمط حقوق الفريق الثاني ، ولذلك عدّ من حسن سياسة إبراهيم بن محمد المهدي المنبوز بابن شكلة الهاشمي أخي الخليفة الرشيد لما ولي دمشق، ما اتخذه أو ابتدعه من طريقة

١٦١

جديدة أرضى بها قيسا ويمنا ، فإنه لما جاء غوطة دمشق وافاه الحيان من مضر ويمن ، فلقي كل من تلقاه بوجه واحد ، فلما دخل المدينة أمر حاجبه بإحضار وجوه الحيين وأمره بتسمية أشرافهم ، وأن يقدم من كل حي الأفضل فالأفضل منهم ، وأن يأتيه بذلك ، فلما أتاه به أمر بتصيير أعلى الناس من الجانب الأيمن مضريّا ، وعن شماله يمانيا ، ومن دون اليماني مضري ، ومن دون المضري يماني ، حتى لا يلتصق مضري بمضري ، ولا يماني بيماني ، فلما قدم الطعام قال قبل أن يطعم شيئا : إن الله عزوجل جعل قريشا موازين بين العرب فجعل مضر عمومتها ، وجعل يمن خؤولتها وافترض عليها حب العمومة والخؤولة ، فليس يتعصب قرشي إلا للجهل بالمفترض عليه. ثم قال : يا معشر مضر كأني بكم وقد قلتم إذا خرجتم لإخوانكم من يمن : قد قدّم أميرنا مضر على يمن ، وكأني بكم يا يمن قد قلتم وكيف قدمكم علينا ، وقد جعل بجانب اليماني مضريا ، وبجانب المضري يمانيا ، فقلتم : يا معشر مضر إن الجانب الأيمن أعلى من الجانب الأيسر ، وقد جعلت الأيمن لمضر والأيسر ليمن ، وهذا دليل على تقدمته إيانا عليكم. ألا إن مجلسك يا رئيس المضرية في غد من الجانب الأيسر ومجلسك يا رئيس اليمانية في غد من الجانب الأيمن. وهذان الجانبان يتناوبان بينكما يكون كل من كان في جهته متحولا عنه في غده الى الجانب الآخر. فانصرف القوم وكلهم حامد. وهذا من ألطف أساليب السياسة واستمالة القلوب بدون خسارة.

فافتخر إبراهيم بن المهدي بقوله : ما أعلم أحدا ولي جند دمشق فسلم من لقب يلقبه به أهل ذلك الجند غيري ، وذلك أن كل ملقب ممن ولي إمرة الشام ، لم يكن إلا ممن ينحرف عنه من اليمانية أو المضرية ، فكان إن مال الى المضرية لقبته اليمانية ، وإن مال الى اليمانية لقبته المضرية ، فعاملهم إبراهيم معاملة واحدة في الاجتماع وقضاء المصالح. فكانت الحاجة تعرض لبعض الحيين فيسأل قبل أن يقضيها له ، هل لأحد من الحي الآخر حاجة تشبه حاجة السائل ، فإذا عرفها قضى الحاجتين في وقت واحد. قال : فكنت عند الحيين محمودا لا أستحق عند واحد منهم ذمّا

١٦٢

ولا عيبا ولا نبزا أنبز به. وقال إبراهيم : إنه ولي دمشق سنتين ثم أربع سنين بعدهما لم يقطع على أحد في عمله طريق. وأخبر أن الآفة كانت في قطع الطريق في عمل دمشق من ثلاثة نفر : دعامة والنعمان موليان لبني أمية ، ويحيى بن أرميا من يهود البلقاء ، وأنهم لم يضعوا أيديهم في يد عامل قط ، فكاتبهم فارعوى الاثنان وأبى الثالث أداء الجزية فقتل في معركة ، وساد الأمن في القطر.

ولكن هذه السياسة لم يجر العمل بها دائما ، فقد ذكروا أن إبراهيم ابن صالح والي دمشق في خلافة الرشيد لما خرج منها في الوفد الذي قدم به على الرشيد استخلف ابنه إسحاق على دمشق ، وضم إليه رجلا من كندة يقال له الهيثم بن عوف ، فغضب الناس وحبس رؤساء من قيس ، وأخذ أربعين رجلا من محارب فضربهم وحلق رؤوسهم ولحاهم ، وضرب كل رجل ثلاثمائة ، فنفر الناس بدمشق وتداعوا الى العصبية ونشبت الحرب ورجعوا الى ما كانوا عليه من القتل والنهب فلم يزالوا على ذلك أشهرا.

قيس ويمن وفتنة المبرقع :

ولي دمشق بعد إبراهيم بن المهدي سليمان بن المنصور فانتهبه أهل دمشق وسبوا حريمه ، وولي بعده منصور بن المهدي ، وكانت على رأسه الفتنة العظمى ولم يؤد القوم طاعة بعد ذلك ، الى أن افتتح دمشق عبد الله ابن طاهر في سنة عشر ومائتين. ووقعت بدمشق فتن على عهد الأمين ، وسببها على ما ذكروه أنه كان يعجبه البلور فدس عامله فأخذ له قلة دمشق من جامعها فلما شعر الدمشقيون قالوا : «لا صلاة بعد القلة» فصارت مثلا وافتتن الناس وامتدت فتنتهم ، ولما ولي المأمون أرجع القلة الى محلها. ولعل مسألة القلة أوجدها أنصار المأمون على الأمين حتى لا تبقى ناحية في المملكة إلا وتشعر بكراهة الأمين. وكتب المأمون في سنة ٢١٨ الى عامله على دمشق في التقدم الى عماله في حسن السيرة وتخفيف المؤونة وكف الأذى عن أهل محله. قال : فتقدم الى عمالك في ذلك أشد التقدمة ، واكتب إلى عمال خراجك بمثل ذلك. وكتب بهذا الى جميع

١٦٣

عماله في أجناد الشام جند حمص والأردن وفلسطين.

وفي أيام المعتصم (٢٢٤) خرجت رجال دمشق على أبي المغيث الرافعي واليها في طلبهم محمد بن أزهر ، وكان قد عاث في مرج دمشق ونفّر أهلها وأجلاهم عنها ، فخرج رجل من بني حارثة اسمه يزيد في جماعة وغيرهم من يمن ، واجتمعت قيس بمرج دمشق وأقبل محمد بن أزهر ، فلما صار إليهم خرجوا عليه وجرح وقتل من الجند خلق ، ووثب ابن لمحمد بن صالح على بعض أمراء السلطان وأخذه في جماعة من قيس بحوران ، وأقبل الى مرج دمشق وصار مع يزيد وحاصر دمشق حصارا شديدا ، وغلقت أبواب دمشق ولم يخرج أحد إلا اختطف. ولما مات المعتصم (٢٢٧) ثارت القيسية بدمشق وعلى رأسهم ابن بيهس الكلابي فعاثوا وأفسدوا وحصروا أميرهم فبعث الواثق إليهم رجاء بن أيوب ، وكانوا معسكرين بمرج راهط ، فنزل بدير مران ودعاهم الى الطاعة فلم يرجعوا ، فواعدهم الحرب بدومة فوافاهم فقاتلهم فهزمهم وقتل منهم نحوا من ألف وخمسمائة ، وقتل من أصحابه نحو من ثلاثمائة وهرب مقدمهم ابن بيهس وصلح أمر دمشق. وقال ابن عساكر : إن الذين ثاروا هم أهل الغوطة والمرج ، ومن قرى الغوطة الثائرة كفر بطنا وجسرين وسقبا وقرى جرش ومن انضوى إليهم ، وأصيب من ذلك جماعة كثيرة ، وقاتلهم العامل في مجمع عسكرهم بكفربطنا وهي لقيس ، وثار الناس من النواحي ، وقتلوا الأطفال وجرحوا النساء وهزمهم.

وسار رجاء الى فلسطين لقتال تميم اللخمي ، ويعرف بأبي حرب ويلقب بالمبرقع الخارج بها في لخم وجذام وعاملة وبلقين ، فقاتله فانهزم المبرقع وأخذ أسيرا سنة ٢٢٧ ، وكان المبرقع من أهل الغور خلع الطاعة ودعا الى نفسه فتبعه خلق كثير من الحراثين وغيرهم وقالوا : هذا هو السفياني المذكور أنه يملك الشام ، واستفحل أمره جدا واتبعه نحو مئة ألف فأنفذ المعتصم إليه جيشا ، فلما قدم الأمير رأى أمة كبيرة قد اجتمعت حوله ، فخشي أن يناجزه والحالة هذه فانتظر حتى جاء وقت حرث الأرض ، فتصرّم عنه الناس الى أرضهم ، وبقي في شرذمة قليلة من

١٦٤

أصحابه فناهضه فأسره. وروى الطبري : أن سبب خروج المبرقع على السلطان أن بعض الجند أراد النزول في داره وهو غائب عنها وفيها إما زوجته وإما أخته ، فمانعته ذلك فضربها بسوط أصاب ذراعها فأثر فيها ، فلما رجع أبو حرب الى منزله بكت وشكت إليه ما فعل بها وأرته الأثر الذي بذراعها من ضربه ، فأخذ أبو حرب سيفه ومشى الى الجندي وهو غارّ فضربه حتى قتله ، ثم هرب وألبس وجهه برقعا كي لا يعرف ، فصار الى جبل من جبال الأردن ، ولما كثرت غاشيته من الحراثين استجاب له جماعة من رؤساء اليمانية وأرباب البيوت منهم. وروى أيضا أن خروجه كان في سنة ٢٢٦ بالرملة وصار في خمسين ألفا من أهل اليمن وغيرهم ، وأن القائد العباسي قاتله بالرملة فقتل من أصحابه في وقعتين خمسة وعشرون ألفا حتى أسر.

فتن أهلية وعصبيات حمصية ولبنانية ودمشقية وفلسطينية ومعرية :

في سنة ٢٣١ جرى بين الأمير هانىء والمردة حروب في جبل لبنان ، انتصر عليهم ولقب بالغضنفر أبي الأهوال ، وبلغ خبره خاقان التركي خادم الرشيد ، فكتب كتابا يشكره على ما فعل ويحثه على الحرب ، ويخبره أنه بلغ حسن سلوكه الى مسامع الخليفة. ومن أهم الأحداث في سنة ٢٤٠ وثوب أهل حمص بعاملهم ، فوجه المتوكل محمد بن عبدويه عاملا عليهم ، فسكنهم وأقام بديارهم عدة شهور ، ثم وثبوا فشغبوا عليه ، فسكنهم ومكر بهم وأخذ جماعة منهم ، فحملوا الى باب المتوكل ثم ردوا إليه فضربهم بالسياط حتى ماتوا ، وصلبهم على أبواب منازلهم ، وتتبع رجال الفتنة فأفناهم.

ووثب أهل دمشق بعامل المتوكل سالم بن حامد لظلمه وعسفه فيهم وقتله جماعة من أشرافهم ورؤسائهم ، فقتلوه على باب الخضراء. قال ابن عساكر : إن سالما كان سيء السيرة أذلّ قوما من أهل دمشق ، كان بينه وبينهم طائلة ودماء في أول دولة بني العباس وآخر دولة بني أمية. وكان لبني بيهس ولجماعة من قريش دمشق وسائر العرب من

١٦٥

السكون والسكاسك وغيرهم قوة ونجدة ، فقتلوه على باب الخضراء وقتلوا من قدروا عليه من رجاله ، وسلطوا الموالي على رجالهم وأموالهم فسلبوها.

وغضب المتوكل لمقتل عامله وقال : من لدمشق وليكن في صولة الحجاج؟ فقيل له : أفريدون التركي. فأمره وجهزه إليها في سبعة آلاف ، وأحلّ له القتل والنهب ثلاثة أيام ، فنزل بيت لهيا فبات بها ، فلما أصبح قال : يا دمشق إيش يحل بك اليوم مني. فقدمت له بغلة وهمّ ليركبها ، فلما وضع رجله في الركاب ضربته بالزوج في صدره ، فسقط ميتا. وبعد ثلاث سنين جاء المتوكل ليسكن دمشق هربا مما كان يحاذره من شدته على العراقيين فنقل دواوين الملك إليها ثم رجع بعد أشهر وهناك قتل.

وفي سنة ٢٤٨ شغب أهل حمص على عاملهم أيضا ، فوجه الخليفة إليهم عاملا آخر فأخذهم وقتل منهم خلقا كثيرا ، وحمل مئة رجل من عيونهم الى سامرّا. وفي هذه السنة غزا الصائفة وصيف ، وكان مقيما بالثغر الشامي ثم دخل أرض الروم وفتح بعض الحصون. وفي السنة التالية كان غزو جعفر بن دينار الصائفة ، فافتتح حصنا ومطامير ، ثم غلب وقتل جماعة كثيرة من جيشه. وفي سنة ٢٥٠ وثب أهل حمص بعاملهم فقتلوه ، فوجه إليهم المستعين من حاربهم فهزمهم بين حمص والرّستن ، وافتتح حمص وقتل من أهلها وفيهم خلق من نصارى المدينة ويهودها ، فقتل مقتلة عظيمة وأحرقها. وكان المتوكل أمر بإخراج النصارى من حمص ، لأنهم كانوا يعينون الثوار. ووثب أيضا أهل حمص بعاملهم مرة أخرى فقتلوه. وخافوا عامل دمشق فزحفوا إليه فوجه إليهم بعسكر من البابكية وغيرهم فهزموهم وانصرفوا الى حمص. وثاروا مرة فأرسل عليهم الخليفة عاملا آخر فدخل بلدهم عنوة وأباحها ثلاثة أيام وطرحت النار في منازلها. وكان الواثب بحمص العطيف بن نعمة الكلبي في خلق عظيم من عشيرته وغيرهم. وكثر وثوب أهل حمص ، وبعبارة أعم ، وثوب أهل جند حمص بعمالهم ، لأنهم يمانية نزاع الى الثورة ، ونار الإحن بينهم وبين القيسية لا تزال موقدة ، ثم إنه كان لهم من السكان

١٦٦

الأصليين من غير المسلمين من كانوا يحرضونهم على شق عصا الطاعة ، فلذلك كثرت ثوراتهم وما برحوا يثورون حتى أيام المهدي. فقد ثاروا بمحمد بن إسرائيل ، فخرج هاربا ولحقه ابن عكار ، فكانت بينهما وقعة قتل فيها ابن عكار ، ورجع ابن إسرائيل على البلد.

وفي أيام المستعين وثب بالأردن رجل من لخم ، فطلبه صاحب الأردن فهرب ، فقام مكانه رجل يعرف بالقطامي وكثف جمعه ، فجبى الخراج وكسر جيشا بعد جيش أنفذهم إليه عامل فلسطين. فلم تزل هذه الحالة حتى قدم مزاحم بن خاقان التركي في جمع من الأتراك وغيرهم ، ففرق جمعهم ونفاهم. ووثب بالمعرة المعروف بالقصيص وهو يوسف بن إبراهيم التنوخي فجمع جموعا من تنوخ ، وصار الى مدينة قنسرين فتحصن بها ، فلم يزل بها حتى قدم محمد المولد مولى أمير المؤمنين فاستماله ، واستعمل عطيف بن نعمة وصار إليه ، ثم وثب بعطيف بن نعمة فقتله ، وهرب القصيص فصار الى الجبل الأسود واجتمعت قبائل كلب بناحية حمص على الامتناع على المولد ، فسار إليهم فواقعهم فكانت عليهم ، ثم ثابوا عليه فهزموه وقتلوا خلقا عظيما من أصحابه ، وانصرف الى حلب في فلّه ، ورجع القصيص الى قنسرين والتحم مع كلب ، وعزل المولد وولي أبو الساج الأشروسي وكتب الى القصيص يؤمنه وصير إليه الطريق والبذرقة ثم ولاه اللاذقية ونحوها.

وفي سنة ٢٥٢ عقد لعيسى بن الشيخ بن السليل الشيباني على الرملة فأنفذ خليفته أبا الغراء إليها واستولى على فلسطين جميعها ، وتغلب على دمشق وأعمالها وامتنع من حمل المال الى العراق ، فحمل ابن مدبّر ، صاحب خراج مصر الى العراق سبع مائة ألف وخمسين ألف دينار فنهبها عيسى بن الشيخ في الطريق. وفي سنة ٢٥٦ عزل عيسى عن الشام ، وولي أماجور الشام فسار واستولى عليه بعد قتال بينه وبين أصحاب عيسى على باب دمشق وانتصر أماجور واستقر ، وكان عيسى يومئذ في زهاء عشرين ألفا ، وأماجور في مائتين الى أربعمائة وقيل ألف ، فتغلب قليله على كثير خصمه. وكان أماجور أميرا مهابا ، ضابطا لعمله ، حشما شجاعا ،

١٦٧

لا يتجاسر أحد على أن يقطع الطريق في جميع أعماله ، وله في باب تأديب العصاة وسلبة الطرق حكايات أثرت عنه.

الحكم على الدور الأول للعباسيين :

مضت اثنتان وعشرون ومائة سنة على الشام بعد انقراض دولة بني أمية ، وهو لا يخلو من فتن وتسمع فيها اسم السفياني والأموي العثماني أو غيرهم من أرباب العصبيات من العرب ، قيس ويمن. فتن أهلية يثور بركانها ، ثم يهمد الى حين ، ونزّاع الى الملك والسلطان ، ولم يسد السلام إلا على عهد الرشيد والمأمون وكانت الفتن في أيامهما لا شأن لها لأنهما كان يوليان على الشام أقدر رجالهما. والشاميون يرضيهم من الخلفاء حسن سياستهم ، والنظر بعطف على مصالحهم.

ولقد كانت الشام أوائل الفتح العباسي تتناوبها يدا عبد الله بن علي وصالح بن علي العباسيين وأولادهما ، ثم أخذ عقلاء الخلفاء منهم يولون أولادهم وإخوتهم شؤونها. فقد رأينا المهدي ولى ابنه هرون الرشيد أيام كونه وليا للعهد ولاية قنسرين أو شمالي الشام ، ورأينا الرشيد ولى أخاه إبراهيم بن المهدي دمشق ، ورأينا الرشيد ندب أحد عظام رجاله يحيى البرمكي الى دمشق ، كما رأينا ابنه عهد الى طاهر بن الحسين بولاية مصر والشام ، وسوّغه خراج مصر سنة وهو ثلاثة آلاف ألف دينار ففرقه على الناس وهو على المنبر ، ولم ينزل منه إلا وقد اقترض عشرة آلاف دينار ليعطيها لرجل جاء متأخرا والمصلحة تقتضي برّه.

وقد رأينا حسن أثر السياسية التي اتبعها إبراهيم بن المهدي في وضع التوازن بين القيسيين واليمانيين في الشام ، فدل على عقل راجح ، وإرادة هاشمية قوية ، وكان بسياسته حائلا دون المشاغبات الباطلة ، ونشر الأمن مدة ست سنين ، وكانت الشام من قبل تأجج فيها نيران العصبيات الجاهلية. ولكن المتوكل الخليفة المحمق ، أوسع مجال الخلف بينه وبين رعيته ، وأكبر أمر فتنة حدثت في دمشق ، فأباحها لعامله التركي ، فأطل الشعب في بغداد دمه لخرقه ، وهلك عامله قبل أن يباشر بجبروته فتكه

١٦٨

وسبيه ونهبه ، على نحو ما ارتكب العمال قبله في المتوثبين على العمال من أهل حمص.

وأهم الأغلاط التي ارتكبها المعتصم إدخال الأتراك في جنده ، فكان الاعتماد عليهم في الجيش العباسي كالاعتماد على أهل خراسان الأعاجم لأول الفتح من أهم الدواعي في إغضاب العرب ، فأدى هذا الإيثار الى نزع الحكم من العباسيين ، حتى دخل الوهن بدخول الأتراك على الدولة ، فآضت الخلافة العباسية بصنيعهم اسمية دينية فقط لا تتعدى قرى بغداد إلا قليلا ، وغدا الحكم الفصل لمن قويت شكيمته من الدخلاء واستجاش الأنصار والأعوان. وبعد أن كانت بغداد ترسل الى الشام أولاد خلفائها وأعاظم قوادها من الأصول أصبحت ترسل إليها من الفروع أفريدون التركي وخاقان التركي ومحمد المولد من الموالي فظهر الفرق في صورة الحكم ، لأن الحكم كان في الغالب فرديا لا علاقة للجماعة به إلا اذا أحبّ صاحب الأمر استشارة أهل الرأي استشارة خاصة ودية وله الحرية أن يعمل بما ارتأوه ، ولا أحد يكرهه على قبول رأيه. فمن ثم اقتضى أن يكون العامل في الغاية أصالة ونبالة وعلما ونزاهة.

أفضى هذا التساهل مع الأعاجم والاعتماد عليهم ، الى جر البلاء على الخلفاء من بني العباس ، وبعد أن كانت وصية إبراهيم الإمام الذي مات في سجن مروان الجعدي الى أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة : «انظر الى هذا الحي من اليمن فالزمهم ، واسكن بين أظهرهم ، فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم ، واتهم ربيعة في أمرهم ، وأما مضر فإنهم العدو القريب الدار ، واقنل من شككت فيه وإن استطعت أن لا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل ، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار واتهمته فاقتله» أصبحت تفتح للأتراك أبواب دار الخلافة ولكل دخيل على العرب ولم يعد حكم لقيس ولا يمن بل للأعاجم من الفرس والترك والديلم. وفي أيام المأمون نشأت الدعوة الشعوبية أي الحط من قدر العرب وتفضيل العجم عليهم ، فتبدلت روح الدولة ، وأخذ العربي يبغض العجمي والعجمي ينال من العربي ، منذ كانت السلطة لأبناء خراسان ، أما بدخول

١٦٩

الأتراك فالمسألة بلغت أقصى حدودها الخطرة ، وكادت مقاليد الخلافة تخرج من أبناء هاشم بعد عصر المعتصم.

كانت مسألة دخول الأتراك في الدولة بادىء بدء لا شأن لها في الظاهر وهي أن المعتصم جمع الأتراك وشراهم من أيدي مواليه فاجتمع له منهم أربعة آلاف فألبسهم أنواع الديباج ، والمناطق والحلية المذهبة ، وأبانهم بالزي عن سائر جنوده واصطنع قوما من اليمن وقيس وسماهم المغاربة وأعدّ رجال خراسان من الفراعنة وغيرهم والأشروسية ـ فلما تم هذا كثرت شكاية الناس أولا من إيذاء الأتراك لعوام بغداد ، وكلما زادت الشكاية توغل الأتراك في جسم المجتمع العباسي. وحاول من جاء بعده مثل المعتز أن يتخلص منهم ، ولكنهم كانوا تأصلوا في جسم الدولة وأفسدوا عليها أمرها ، ولكل أجل كتاب.

١٧٠

ظهور الدولة الطولونية وانقراضها

من سنة ٢٥٤ الى ٢٩٢

[بداية الطولونيين :]

ظهرت بوادر الضعف في العباسيين ، وكادت تصبح سلطتهم اسمية ، وخلافتهم دينية لا دنيوية ، ساعد على ذلك اشتغال الخلفاء بعد المعتز بأنفسهم ، وتغلب كثير من الأمراء على الأطراف ، وأصبحت البلاد رهن أيدي المتغلبة من العمال ، وكان معظم الخلفاء الأول الى ما بعد المعتصم على غاية من العلم والأخلاق وحسن السياسة ، ومن النادر أن يتسلسل هذا الرقي في الأخلاق في آل بيت واحد على اطراد جميل ، كما تسلسل في بني هاشم لأول أمرهم ، ولكن منهم من ساعدهم الطالع ومنهم من خانه ، والسعادة أكثر من الشقاء في الجملة.

وبينما كانت دولة الأمويين في الأندلس في إبان عزّها في القرن الثالث ، كانت دولة العباسيين تضطرب وتضيق بقعتها في هذا الشرق القريب ، خصوصا في النصف الثاني من المئة الثالثة ، وعمال فارس ومصر والشام وغيرها يقطعون الخراج عن دار الملك ، ويستبدون بالأمر ، وليس للخليفة العباسي إلا الخطبة والسكة ، وقد يقرن المتغلب على قطر اسمه الى اسم الخليفة في الدعاء ، ويضرب السكة باسمه أو باسميهما معا. وكانت الدولة الى هذا العهد لا تقوم لها قائمة إلا إذا جمعت بين السلطتين الدينية والدنيوية ، فإذا ضعفت إحداهما في القائم بأمر المسلمين ، أصاب القوة الثانية ضعف عطلها عن العمل النافع.

١٧١

وكلما اعتمد خلفاء بني العباس على الأعاجم ، في ولاية عمالاتهم ومقاطعاتهم وقيادة جيوشهم ، كانت الدولة العباسية تقترب من الانقراض ، فسدت عصبية العرب كما قال ابن خلدون في بني العباس لعهد دولة المعتصم وابنه الواثق ، لاستظهارهم بالموالي من العجم والترك والديلم والسلجوقية أي التركمان وغيرهم ، ثم تغلب الأولياء على النواحي ، وتقلص ظل الدولة ، فلم تكن تعدو أعمال بغداد حتى زحف إليها الديلم وملكوها وصار الخلائف في حكمهم. وقال المقريزي : اختص المعتصم الأتراك ووضع من العرب وأخرجهم من الديوان وأسقط أسماءهم ومنعهم العطاء ، وجعل الأتراك أنصار دولته وأعلام دعوته ، وكان من عظمت عنده منزلته قلده الأعمال الجليلة الخارجة عن الحضرة ، فيستخلف على ذلك العمل الذي تقلده من يقوم بأمره ويحمل إليه ماله ويدعى له على منابره كما يدعى للخليفة ، وقصد المعتصم ومن بعده من الخلفاء بذلك العمل مع الأتراك محاكاة ما فعله الرشيد بعبد الملك بن صالح والمأمون بطاهر بن الحسين ، ففعل المعتصم مثل ذلك بالأتراك فقلد اشناس ، وقلد الواثق إيتاخ ، والمتوكل بغا ووصيف ، وقلد المهتدي أماجور وغير من ذكرنا من أعمال الأقاليم ، فضعفت الدولة العباسية بعد الاستفحال ، وتغلب على الخليفة فيها الأولياء والقرابة والمصطنعون ، وصار تحت حجرهم من حين قتل المتوكل فتغلب على النواحي كل متملك.

احمد بن طولون وسيما الطويل وأحداث أخرى :

وكان من أهم من فتوا في عضد الخلاف أحمد بن طولون في مصر والشام ، وكان في ظاهره يظاهر الخليفة ، فهو أول متغلب ظفر حقيقة بالانفراد بالسلطة ، فما وسع العباسيين إلا مصانعته بعد أن حاولوا محاربته فعجزوا ، كانت ديار مصر قد أقطعها بايكباك من قواد الأتراك وكان مقيما بالحضرة أي في عاصمة الملك فاستخلف بها من ينوب عنها ، وكان طولون والد أحمد بن طولون أيضا من الأتراك ومن أنسبائه ، وقد نشأ بعد والده على طريقة مستقيمة ، وسيرة حسنة ، فالتمس بايكباك من يستخلفه بمصر فأشير

١٧٢

عليه بأحمد بن طولون فولاه المعتز بالله سنة ٢٥٤ مصر. وفي سنة ٢٦٤ توفي أماجور بدمشق واستخلف ابنه علي ، فحرك ذلك أحمد بن طولون على فتح الشام فكتب الى عليّ يخبره بانه سائر اليه وأمره بإقامة الأنزال والميرة لعساكره ، فرد علي بن أماجور أحسن جواب ، وخرج ابن طولون في المطوعة من مصر وفلسطين فبلغ الرملة فتلقاه محمد بن رافع خليفة أماجور عليها وأقام له الدعوة بها فأقره عليها ، ومضى الى دمشق فتلقاه علي بن أماجور وأقام له بها الدعوة واحتوى على خزائن أماجور وأقام بها أحمد حتى استوثق له أمرها ، ثم استخلف عليها احمد بن دوغباش ، ومضى الى حمص فلقيه عيسى الكرخي خليفة أماجور عليها فسلمها إليه ، ثم بعث الى سيما الطويل التركي وهو بأنطاكية يأمره بالدعاء له فلم يجبه سيما ، فتحصن بأنطاكية في جيش من الأتراك وغيرهم ، وامتنع ، فحاصره أحمد ورمى حصنها بالمنجنيق ، وطال حصاره لها فاشتد ذلك على أهلها فبعثوا الى أحمد بن طولون فخبروه بالموضع الذي يمكنه أن يدخل إليها منه فقصده ، وعاونه أهلها على سيما فدخلها في المحرم سنة خمس وستين ومائتين فقتل سيما واستباح أمواله ورجاله. وكان قبل نزول ابن طولون على أنطاكية (٢٦٤) وقع بين سيما وبين أحمد المؤيد حروب كثيرة ببلاد جند قنّسرين والعواصم ، وكان سيما قد عم أذاه أهلها فعاث ابن طولون ساعة بأنطاكية ثم ارتحل يؤم الثغر الشامي ، وبهذا استولى ابن طولون على الشام أجمع والثغور وامتد حكمه من مصر الى الفرات ، ومن مصر الى المغرب ، وكان ذلك مدة اشتغال لموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل بحرب الزنج.

كان ابن طولون أول من اقتطع جزءا من المملكة الإسلامية عن الخلافة ، وجمع بين ملك مصر والشام في الإسلام ، فكان لمن بعده من المستبدين بالنواحي قدوة ومثالا. وأخذ يستكثر من مشترى المماليك والديالمة حتى بلغت عدتهم أربعة وعشرين ألف مملوك وأربعين ألفا من الزنج ، واستكثر من العرب حتى بلغت عدتهم سبعة آلاف. وذكر بعض المؤرخين أن ابن طولون كان أعد بأمر الخليفة جيشا مؤلفا من مئة ألف إنسان لقتال أحد الخوارج على الخلافة في الشام ، وكانت هذه الكتلة من

١٧٣

الجند سببا في قوته وسلطانه فأخذ ملك الروم يهاديه ويطلب رضاه لاتساع مملكته ومكانتها بين مملكة الشرق ومملكة الغرب الإسلاميتين ، ولم يلبث أحمد بن طولون أن أخذ على الجند والشاكرية والموالي وسائر الناس البيعة لنفسه ، على أن يعادوا من عاداه ويوالوا من والاه ويحاربوا من حاربه من الناس جميعا. وانفرد بخراجها ، وأدرك رجال السياسية في بغداد أن ابن طولون التركي لم يقض على دولة سيما الطويل التركي حبا بسواد عيون الخلفاء ، بل ليستأثر بالأمر دونهم عند ما تسنح الفرص.

وكان ابن طولون لعدله وحسن سياسته يفضله الناس على بعض الخلفاء ، وفي الحق أنه كان على جانب من العدل ، وحسن السيرة ، وعلو الهمة وبعد النظر ، والتفكر في عمران مملكته حتى زاد خراجها ، وكان هديه في ذلك هدي المعتصم العباسي ، وكان هذا يحب العمارة ويقول إن فيها أمورا محمودة أولها عمران الأرض التي يحيى بها العالم ، وعليها يزكو الخراج ، وتكثر الأموال ، وتعيش البهائم ، وترخص الأسعار ، ويكثر الكسب ، ويتسع المعاش ، وكان يقول لوزيره محمد بن عبد الملك : إذا وجدت موضعا متى أنفقت فيه عشرة دراهم جاءني بعد سنة أحد عشر درهما فلا تؤامرني فيه. فاستعان ابن طولون بما تدر عليه مصر من الخراج على تقوية سلطانه وكثرت صدقاته ، وما يجريه على القراء والفقهاء ، حتى كان يرسل كل سنة مائة ألف دينار لفقراء بغداد عدا كساوي الصيف والشتاء وعدا ما يرسل به الى الثغور والى الحرمين.

وجاء المعتضد الى الخلافة وهو من أعقل خلفاء العباسيين فعرض عليه أبو الجيش خمارويه بن طولون أن يصهر الى ولي عهد الخلافة ويزوجه ابنته قطر الندى ، فقال الخليفة : بل أنا أتزوجها وقال : ما قصدت بهذا الزواج إلا إفقار بني طولون لأنهم يضطرون أن يجهزوها بجهاز لم تجهز به عروس من قبل ، وكان الأمر كما قال ، فإنها جهزت بما استفرغ خزائن صاحب مصر والشام. قيل : إنه كان في جهازها ألف هاون ذهبا .. وكانت قطر الندى من أجمل بنات عصرها ، وأكثرهن أدبا وفضيلة. وقد عقد لها على المعتضد سنة ٢٨١ وشرط المعتضد على أبيها أن يحمل كل سنة بعد

١٧٤

القيام بجميع وظائف مصر وأرزاق أجنادها مائتي ألف دينار. وفي رواية أن المعتضد جعل لخمارويه الصلاة والخراج والقضاء وجميع الأعمال على أن يحمل في كل عام مائتي ألف دينار عما مضى ، وثلاثمائة ألف للمستقبل ، وأن وزير المعتضد عبيد الله بن سليمان سعى مع أبي الجيش خمارويه ، على أن يقتصر على حمص ودمشق والأردن وفلسطين ومصر وبرقة وما والاها ، وينجلي عما كان في يده من ديار مضر وقنسرين والعواصم وسقي الفرات والثغور ، فأجاب الى ذلك وكتب سجلا أشهد فيه على المعتضد وعلى خمارويه.

دام ملك أحمد بن طولون في مصر والشام اثنتي عشرة سنة ، ومات لست عشرة سنة من ولايته مصر ، ولو لا سفكه الدماء لعدّ بعدله وعقله وسخائه من أفراد العالم. ومن الأحداث في عهده ما وقع من العصبية بفلسطين (٢٥٧) بين لخم وجذام فتحاربوا حربا أخذت من الفريقين. وما وقع بين الأمير نعمان الذي حصن سور مدينة بيروت وقلعتها وبين المردة في لبنان من قتال على نهر بيروت دام أياما حتى انهزموا ، وقتل بعضهم وأسر بعضا ، فأرسل الرؤوس والأسرى الى بغداد ، فعرض الأمر على الخليفة وأكرموا رسله ، وكتب المتوكل إليه كتابا يمدح شجاعته ويحرضه على القتال ، وأقره على ولايته هو وذريته ، وأرسل له سيفا ومنطقة وشاشا أسود ، وكتب إليه الموفق وغيره كتبا يمدحونه بها فاشتد أمره وعظم شأنه ، وفي بعض الروايات أن القتال على نهر الكلب دام سبعة أيام ، فانكسر عسكر المسلمين وقتل المقدم سمعان وأقيم مكانه خاله المقدم كسرى وهو الذي ذهب الى القسطنطينية ثم عاد الى بلاده ، وكانت خربت من تواتر الغارات عليها فعمرها وسميت باسمه كسروان. ومنها خروج رجل من ولد عبد الملك بن صالح الهاشمي ، يقال له بكار بين سلمية وحلب وحمص فدعا سنة ٢٦٨ لأبي أحمد الموفق ، فحاربه ابن عباس الكلابي فانهزم الكلابي ، ووجه إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون قائدا في عسكر كثيف ، فرجع وليس معه كثير أحد.

ومنها مخالفة لؤلؤ غلام ابن طولون على مولاه سنة ٢٦٩ وكان في يد لؤلؤ

١٧٥

حمص وقنسرين وحلب وديار مضر من الجزيرة وسار الى بالس ونهبها ، وكاتب ابن طولون الخليفة المعتمد في المصير إليه ، فمنعه الموفق واشتد الخلاف بين الموفق ولي عهد الخلافة وبين ابن طولون ، فخلع ابن طولون الموفق من ولاية العهد في مدينة دمشق وأقبل يلعنه على منابر مصر والشام والموفق يلعنه على منابر العراق وما إليها ، وابن طولون يوهم أنه ينصر الخليفة.

وفي سنة ٢٦٩ غزا الصائفة من ناحية الثغور الشامية خلف الفرغاني عامل ابن طولون، فقتل من الروم بضعة عشر ألفا وغنم الناس. وبلغ ابن طولون قدوم عرب من الحجاز الى حوران ، فأرسل الى صحراء أذرعات نحو خمسين ألفا فتلقاهم الأمير عامر الملقب بالأذرعي بخمسة عشر ألفا فكسرهم. والأمير عامر هو من نسل الحارث بن هشام المخزومي ، الذي أرسله الخليفة الثاني الى الشام مع أبي عبيدة بن الجراح أميرا على بني مخزوم فسكن ولده حوران وتولوا الأعمال للأمويين ، ثم للعباسيين وسموا ببني شهاب نسبة للأمير شهاب المخزومي والي حوران المتوفى سنة ١٧٣.

عهد أبي الجيش خمارويه وجيشه :

خلف أحمد بن طولون ابنه أبو الجيش خمارويه ، وكان على قدم أبيه في الاستكثار من العدد والعدد وترتيب الرواتب الدارة والمشاهرات والجرايات لجيشه وغيره. وقد بلغ جيشه في الشام ومصر نحو أربعمائة ألف فارس على ما روى بعض أصحاب السير ، وهو عدد مبالغ فيه كثيرا والغالب أن جيشه لم يتجاوز المئة ألف ، ولا شك أن مثل هذا الجيش ، وما يلحقه من الرجالة والمتطوعة تفتح به ممالك الخلافة العباسية كلها. وربما كان جيشه وجيش أبيه من قبله أول جيش جعل على الدوام تحت السلاح.

ولما بايع الجند أبا الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون بعد وفاة أبيه ، أمر بقتل أخيه العباس لامتناعه عن مبايعته ، وعقد لأبي عبد الله أحمد الواسطي على جيش الشام ، وعقد لسعد الأعسر على جيش آخر ، وبعث بمراكب

١٧٦

في البحر لتقيم على السواحل الشامية ، فنزل الواسطي فلسطين وهو خائف من خمارويه أن يوقع به لأنه كان أشار عليه بقتل أخيه العباس ، فكتب الى أبي أحمد الموفق يصغر أمر خمارويه ويحرضه على المسير إليه ، فأقبل من بغداد وانضم إليه إسحاق بن كنداج ومحمد بن أبي الساج ، ونزل الرقة فتسلم قنسرين والعواصم وسار الى شيزر ، فقاتل أصحاب خمارويه وهزمهم ودخل دمشق ، فخرج خمارويه في جيش عظيم ، فالتقى وأحمد ابن الموفق بنهر أبي فطرس واقتتلا ، فانهزم أصحاب خمارويه وكان في سبعين ألفا وابن الموفق في نحو أربعة آلاف ، واحتوى على عسكر خمارويه بما فيه ومضى خمارويه الى الفسطاط ، وأقبل كمين له ، عليه سعد الأعسر ، ولم يعلم بهزيمة خمارويه فحارب ابن الموفق حتى أزاله عن المعسكر وهزمه اثني عشر ميلا ومضى الى دمشق فلم يفتح له ، وسار سعد الأعسر والواسطي ، فملكا دمشق ، وخرج خمارويه من مصر فوصل الى فلسطين ، ثم عاد إلى مصر ، ثم خرج سنة ٢٧٢ فقتل سعدا الأعسر ودخل دمشق.

قال ابن عساكر : وسعد الأعسر ويقال الأعسر التركي ولي إمرة دمشق من قبل أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون (٢٧٢) ، ولما قتل في قصر نخلة فيما بين الرملة وبيت المقدس اضطرب الناس بدمشق. وكان سعد الأعسر قد فتح طريق الشام للحاج ، لأن الأعراب كانوا قد تغلبوا على الطريق قبل ولايته ، وكان قد بطل الحج من طريق الشام قبل ثلاث سنين ، فخرج سعد الى الأعراب وواقعهم وقتل منهم خلقا عظيما وفتح الطريق للحاج ، وكانت وقائعهم في المحل المعروف بالقسطل ، فأحبه أهل دمشق ، واغتموا لقتله ، فصاح الناس بدمشق وضجوا في المسجد الأموي ودعوا على من قتله ، وافتتن البلد حتى وافاهم أبو الجيش ابن خمارويه فمهد الأمور وبعث الى طريق الحاج من أصلحها ، وفرق في دمشق مالا عظيما على الفقراء والمساكين والمستورين وأهل العلم ، ومال إليه أهل دمشق وأحبوه. ولما تغلب الأعراب على بعض النواحي وجه

١٧٧

إليهم طباره جي ، فقتل منهم مقتلة عظيمة.

ثم سار أبو الجيش خمارويه لقتال ابن كنداج ، ثم اصطلحا وتظاهرا وكاتب خمارويه أبا أحمد الموفق في الصلح فأجابه الى ذلك ، وكتب له كتابا بولاية خمارويه وولده ثلاثين سنة على مصر والشامات ، أي أنه ولاه من الفرات الى برقة ، فأمر خمارويه بالدعاء لأبي أحمد الموفق ، وترك الدعاء عليه بعد أن كان خلعه أبوه من ولاية عهد الخلافة. ثم بلغ خمارويه مسير محمد بن أبي الساج الى أعماله الشمالية ، فخرج إليه ولقيه في ثنية العقاب من دمشق فانهزم أصحاب ابن أبي الساج وثبت هو ، فحاربه حتى هزمه أقبح هزيمة ، واستبيح عسكره قتلا وأسرا ، واتبعه جيش الى الفرات. وفي ذلك يقول البحتري :

وقد تولت جيوش النصر منزلة

على جيوش أبي الجيش بن طولونا

يوم الثنية إذ ثنى بكرته

خمسين ألفا رجالا أو يزيدونا

عهد جيش بن خمارويه وظهور القرامطة وانقراض الطولونية :

وفي أيام خمارويه بن طولون استقامت شؤون الديار المصرية ، ومع أن أيام المعتضد العباسي كانت أيام فتوق فقد حمدت سيرته. ولي والدنيا خراب ، والثغور مهملة ، فقام قياما مرضيا حتى عمرت مملكته ، وكثرت الأموال ، وضبطت الثغور ، وكان قوي السياسة ، شديدا على أهل الفساد ، حاسما لمواد أطماع عساكره عن أذى الرعية ، محسنا الى بني عمه من آل أبي طالب. وفي سنة ٢٨٢ ذبح أبو الجيش خمارويه في دمشق على فراشه ، ولما بلغ المعتضد ذلك قتل من خدمه الذين باشروا قتله نيفا وعشرين خادما. وكان مقتل خمارويه في قصره بسفح قاسيون ، بعد أن فتح الشام كله ، ولم يسع الخليفة إلا إقراره على عمله والاكتفاء بمال يحمل إليه في بغداد ، وخلفه ابنه جيش بن خمارويه فخلعه طغج بن جف أمير دمشق سنة ٢٨٣ واختلف جيش جيش عليه لتقريبه الأراذل وتهديده قواد أبيه ، فثاروا عليه وقتلوه ، ونهبوا داره ونهبوا مصر وأحرقوها ، وأقعدوا هارون بن خمارويه في الولاية ، وعصى هارون بن خمارويه على الخليفة ، وبعد حروب

١٧٨

كثيرة عقد الصلح بين الخليفة العباسي وبين هارون سنة ٢٨٦ ، فبقيت حلب للخليفة وما زالت الدولة بالفعل بالشام ومصر لبني طولون وبالاسم لبني العباس حتى سنة ٢٩٢ ، وقد بعث المكتفي العباسي ، مع محمد بن سليمان جيشا فاستولى على دمشق ، ثم سار الى مصر وذبح بني طولون وهم عشرون إنسانا ، ذبحهم بين يديه هم وقوادهم كما تذبح الشياه ، وأشخص من أبقى عليه من آلهم وقوادهم الى بغداد ، فانقرضت بذلك الدولة الطولونية.

لا جرم أن روح الطولونيين هي روح العباسيين تطورت بتطور الأقطار التي استولوا عليها. وعلى كثرة ما بذل الطولونيون من أسباب التقرب من خلفاء بغداد لم يسكت العباسيون عنهم. تقربوا إليهم بالصهر والأموال والطاعة فلم يرضوا عنهم. ولما قوي جيش العباسيين قرضوهم وقتلوا قوادهم. وفي استيلاء الطولونيين على الشام شعرت الأمة أنها مستقلة عن العباسيين ، وأن في استطاعتها إذا جهزت لها جيشا عظيما كجيش أحمد ابن طولون وابنه خمارويه أن تستقل ، لأن قوة بني العباس لم تعد كما كانت ، بمعنى أن ابن طولون هتك ستر الخلافة ، فطمع فيها عمال الأطراف. والدولة الطولونية دولة عمران ، عمرت الأرجاء في أيامها ، ورأت مصر والشام أنهما إذا ألفتا حكومة واحدة تصبحان دولة قوية يرهب بأسها. وقد أكثر الشعراء من رثاء الدولة الطولونية ومما قاله بعضهم :

فمن يبك شيئا ضاع من بعد أهله

لفقدهم فليبك حزنا على مصر

ليبك بني طولون إذ بان عصرهم

فبورك من دهر وبورك من عصر

١٧٩

دور الدولة العباسية الأوسط

«الإخشيدية والحمدانية والفاطمية»

٢٩٢ ـ ٣٦٤

القرامطة والبوادي والخوارج (١) :

اشتدت شوكة القرامطة (٢٨٩) في الشام جاءوها من المطرق ، وهزموا جيش طغج بن جف امير دمشق للأمويين بوادي القردان والأفاعي ثم حاصروا دمشق فاجتمعت عليهم العساكر وقتلوا مقدمهم يحيى المعروف بالشيخ فقام في القرامطة أخوه الحسين وتسمى بأحمد وأظهر شامة بوجهه زعم أنها آيته فسمي بصاحب الشامة ، وكثر جمعه فصالحه أهل دمشق على مال دفعوه ، وتقرمط أكثر من حولها من أهل الغوطة وغيرها وعاضدوه ، ثم انصرف عن دمشق الى حمص فغلب عليها وخطبوا له من منابرها وتسمى بالمهدي أمير المؤمنين ، ثم سار الى حماة والمعرة وغيرهما وقتل أهلها حتى الأطفال والنساء وأخذ سلمية بالأمان فبدأ بمن فيها من بني هاشم وكانوا جماعة فقتلهم أجمعين ، ثم قتل البهائم وأباد أهل بعلبك ، وعندها صحت

__________________

(١) القرامطة منسوبون لحمدان قرمط ، لقب بذلك لقرمطته أي تقريبه في خطه أو خطوه وقيل : إن لفظ القرامطة محرف عن كرميتة ومعناه بالنبطية أحمر العينين وذلك أن القرمطي الأول مرض مرة فأخذه الى بيته رجل اسمه كرميتة لقب بذلك لحمرة عينيه فسمي باسم مضيفه ، ودعوة القرامطة من الدعوات الباطنية وهؤلاء دهرية يقولون بقدم العالم وينكرون الرسل والشرائع كلها يميلون كما قالوا الى استباحة كل ما يميل إليه الطبع وشعارهم : ادع الناس بأن تتقرب إليهم بما يميلون إليه وأوهم كل واحد منهم بأنك منهم فمن آنست منه رشدا فاكشف له الغطاء.

١٨٠