خطط الشام - ج ١

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ١

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٨

خلفاؤه من صلبه أو من بني مروان يعمدون الى القسوة على القائمين بالدعوة لآل البيت تارة والى الإغضاء زمن العجز طورا ، وكان شيعة عليّ مقهورين ، وأقاموا على شأنهم وانتظار أمرهم والدعاء لهم في النواحي ، يدعون للرضا من آل محمد ولا يصرحون بمن يدعون له حذرا عليه من أهل الدولة.

وكان شيعة محمد بن الحنفية أكثر شيعة أهل البيت يرون أن الأمر بعده لابنه أبي هشام عبد الله وكان كثيرا ما يغدو على سليمان بن عبد الملك في الشام. فمرّ في بعض أسفاره بمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس بمنزله بالحميمة فنزل عليه وأدركه المرض عنده فمات وأوصى له بالأمر. وقد كان أعلم شيعته بالعراق وخراسان أن الأمر صائر الى ولد محمد ابن علي هذا ، فلما مات قصدت الشيعة محمد بن علي وبايعوه سرا وبعث الدعاة منهم الى الآفاق فأجابه عامة أهل خراسان ، وبعث عليهم النقباء وتداول أمرهم هنالك ، وتوفي محمد سنة أربع وعشر ومئة وعند لابنه إبراهيم وأوصى الدعاة بذلك ، وكانوا يسمونه الإمام وهو الذي دعا إليه أبو مسلم الخراساني صاحب الدعوة.

عند تمام المئة سنة صحت نية بني العباس على تأليف جمعية سرية تدعو لهم ، وبثت في الآفاق بغض بني مروان وبلفظ أعم بني أمية. وكانت الدعوة مقبولة في العراق وخراسان عند كل من تعرض عليه. ورأس الدعوة في أرض الشام مهد عصبية الأمويين وفروعها في خراسان. فانبثت دعوة العباسيين من قطر وسط بين الأقطار العربية وهو الشام لقرب اتصالها مع الأقطار الأخرى ولا سيما بالعراق ثم بخراسان ، ولم تقم الدولة من الحجاز لأنه بعيد عن القاصية تحيط به من جهاته الثلاث صحار وبواد محرقة ، والاستناد على أهل الحجاز كالاستناد على أهل العراق لا يخلو من أخطار. فقد أراد أهل المدينة أن لا يبايعوا يزيد بن معاوية بالخلافة ، فضربهم ضربة قاضية ، ولم يستطع أن ينجدهم أحد من العراق أو اليمن لبعد الشقة. وخذل أهل العراق عليا وابنه الحسين ، فلم يتمكن أهل الحجاز واليمن أن ينجدوا آل البيت فوقع ما وقع.

١٤١

كان دعاة آل البيت يغدون من الحميمة وقيل : من كرار من جبال الشراة في الشام وبنو أمية غافلون عنهم وخليفة المستقبل الذي يدعى له على أيام من دار ملكهم كبعض الرعية ، والناس في خراسان يصدرون عن أمره ويقدسون خلافته ، وكأن الأقدار خصت الشام بقيام دولتين عظيمتين فيه الأموية والعباسية ، وكانت عصبية الأمويين أهل الشام وعرب الحجاز واليمن ، وعصبية العباسيين أهل خراسان والعراق وقيس ، ومن أهم العوامل في نجاح بني هاشم في دعوتهم الجديدة ، اتفاقهم مع الطالبيين على هذا المقصد ، وهو نزع الخلافة من بني مروان ، فكان البيتان لأول الأمر كأنهما بيت واحد ، ولذلك أثمرت الدعوة سريعا.

بعد نيف وثلاثين سنة من الدعوة لأبناء العباس وربما قبل ذلك بقليل انتبه الأمويون في الشام الى مقاصد أعدائهم ، وأنهم في صدد تأسيس دولة للقضاء على دولة الأمويين ، وفي ذلك دليل ظاهر على ضعف أصحاب الأخبار في أيامهم ، وعلى تساهلهم وعنايتهم بتدويخ الأقاصي والغفلة عن أحوال الدواني ، أبلغ ذلك مروان بن محمد الجعدي آخر خلفاء بني أمية عامله على خراسان نصر بن سيار وقد كتب إليه :

أرى تحت الرماد وميض جمر

ويوشك أن يكون له ضرام

فإن النار بالعودين تذكى

وإن الشر مبدؤه الكلام

وقلت من التعجب ليت شعري

أأيقاظ أمية أم نيام

فإن يقظت فذاك بقاء ملك

وإن رقدت فإني لا ألام

فإن يك أصبحوا وثووا نياما

فقل قوموا فقد حان القيام

فكتب مروان الى عامله بدمشق الوليد بن معاوية يأمره بتوجيه أحد ثقاته الى الحميمة أو كرار ليأتيه بإبراهيم الإمام ، فحمله الى مروان فحبسه في المحرم من سنة ١٣٢ وقتل في محبسه بعد شهرين ، وعهد بالأمر بعده الى أخيه أبي العباس عبد الله بن محمد وهو ابن الحارثية أول خلفاء بني العباس نسبة الى جده الأعلى علي أبو محمد السجاد بن عبد الله بن العباس عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قتل إبراهيم الإمام فكان قتله داعيا الى التعجل بالمناداة علنا بالخلافة العباسية. وذلك أن إبراهيم الإمام لما قبض

١٤٢

عليه مروان نعى نفسه الى أهل بيته ، وأمرهم بالسير الى أهل الكوفة مع أخيه السفاح وبالسمع له والطاعة ، وأوصى بالخلافة الى أخيه السفاح وأوصاه بالقيام بالدولة والجد والحركة ، وأن لا يكون له بعده بالحميمة لبث ولا عرجة حتى يتوجه الى الكوفة ، فإن هذا الأمر صائر إليه لا محالة ، وأنه بذلك أتتهم الرواية وأظهره على أمر الدعاة بخراسان والنقباء ، رسم له في ذلك رسما أوصاه أن يعمل عليه ولا يتعداه. فسار السفاح بأهل بيته منهم أخوه أبو جعفر المنصور وغيره الى الكوفة فأقام فيها شهرا مستخفيا ثم ظهر وسلموا عليه بالخلافة وعزوه في أخيه إبراهيم الإمام ودخل دار الإمارة. وفي خلال ذلك زاد نفور المتطلعين الى العباسيين من أهل خراسان والعراق ، وذكر الناس شدة بني مروان في الضرب على أيدي كل من خالفهم ، وكان الناس منذ أمد طويل يتمنون لو يديلهم الله بغيرهم وإن كانوا دونهم ، فكيف ببني العباس ومنزلتهم من الشرف منزلتهم. والبشر ميال الى التجدد ولكل جديد طلاوة.

ومن الغريب على ما قال الطقطقي أنه لما قدر انتقال الملك الى بني العباس ، هيئت لهم جميع الأسباب ، فكان إبراهيم الإمام بالحجاز أو بالشام جالسا على مصلاه مشغولا بنفسه وعبادته ومصالح عياله ، وليس عنده من الدنيا طائل ، وأهل خراسان يقاتلون عنه ، ويبذلون نفوسهم وأموالهم دونه ، وأكثرهم لا يعرفه ، ولا يفرق بين اسمه وشخصه ، لا ينفق عليهم مالا ، ولا يعطي أحدهم دابة ولا سلاحا ، بل يجبون إليه الأموال ، ويحملون إليه الخراج كل سنة ، ولما خذل مروان وأشرف ملك بني أمية على الانقراض ، كان مروان خليفة مبايعا ومعه الجنود والأموال والسلاح ، والدنيا بأجمعها عنده ، والناس يتفرقون عنه ، وأمره يضعف ، وحبله يضطرب ، فما زال يضمحل حتى هزم وقتل.

والثوب إن أنهج فيه البلى

أعيى على ذي الحيلة الصانع

فتح العباسيين عاصمة الأمويين :

اضطرب نظام المملكة الأموية على عهد مروان بن محمد ، وكانت

١٤٣

كلما عراها الضعف والانحلال ، يزيد خصوم الأمويين شدة وقوة. ولما بويع بالخلافة لأبي العباس بالكوفة كانت جيوش خراسان تطارد جيوش الأمويين مطاردة ، وينتثر سلك الملك على صورة مستغربة. ولم يكد العراق يدخل في طاعة العباسيين ، حتى ولى أبو العباس عمه عبد الله بن علي الشام فسار من حران الى منبج وقد سوّد أهلها ، وبعث إليه أهل قنسرين ببيعتهم ثم سار حتى نزل حمص ثم سار الى بعلبك ثم جاء عين جر ، وكان مروان بن محمد آخر الأمويين لما انهزم على الزاب أتى من حرّان الى حمص بأهله ، فجاء عبد الله بن علي الى حمص فرحل مروان عنها الى دمشق ، فتبعه فهرب الى فلسطين في بقايا جيشه ، وهناك جيش جيشا آخر ، وكان اجتمع للأمويين في دمشق جيش قدّر بخمسين ألف مقاتل. وكان جيش عبد الله بن علي لا يمر ببلد إلا ويخرج أهلها مسوّدين أي حاملين شعار العباسيين وهو السواد يبايعونهم عن رضى ، هذا وجيشه أقل من ثلث جيش مروان المنهزم وربما كان الربع. فلما جاء عبد الله بن علي دمشق من ناحية المزّة نزل بها يومين ، ثم جاءه أخوه صالح بن علي في ثمانية آلاف مددا من السفاح على طريق السماوة ، فنزل صالح بمرج عذراء ثم نزل على باب الجابية ، ونزل عبد الله بن علي على الباب الشرقي ، ونزل أبو عون على باب كيسان ، وبسام على الباب الصغير ، وحميد بن قحطبة على باب توماء ، وعبد الصمد ويحيى ابن صفوان والعباس بن يزيد على باب الفراديس ، فحاصروها أياما ثم افتتحها يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان (١٣٢) ، أي بعد ستة أشهر من مبايعة أبي العباس السفاح بالخلافة في مدينة الكوفة.

أباح الفاتح دمشق ثلاث ساعات ، وقيل : أنهبها ثلاثة أيام ، ووضع السيف في أهلها ، ولم يزل جماعته يحزون الرؤوس في الطرق والمنازل ، ويأخذون الأموال ، حتى جاء الظهر فأمر برفع السيف ، وقتل والي المدينة فيمن قتل من الأمراء والعلماء في المسجد الجامع. وممن صلب عبد الله بن عبد الجبار. ودخلت أباعر العباسيين الى صحن الجامع الأموي وظل إصطبلا لدوابهم وجمالهم سبعين يوما ، وقتل يومئذ على رواية

١٤٤

المنبجي من النصارى واليهود خلق كثير ، ونبشت قبور بني أمية في دمشق وغيرها وأحرقوهم بالنار ، ولم يبقوا على غير قبر عمر بن عبد العزيز في دير سمعان ، اعترافا بفضله وتقواه ، ونقضوا سور دمشق حجرا حجرا.

قيل : إن أهل دمشق لما حاصرهم عبد الله بن علي ، اختلفوا فيما بينهم ما بين عباسي وأموي ، وقيل : وقعت بينهم العصبية في فضل اليمن على نزار ، ونزار على اليمن ، حتى اقتتلوا ، فقتل بعضهم بعضا ، وذكروا أنه قتل فيها في هذه المدة نحو من خمسين ألفا. ولما جاءها عبد الله ابن علي وحاصرها فضيق حصارها ، بلغ بالناس الجهد فاستغاثوا ، ووجهوا إليه يحيى بن بحر يطلب لهم الأمان ، فخرج إليه فسأله الأمان ، فأجابه إليه فدخل فنادى في الناس بالأمان ، ثم قال له يحيى بن بحر : اكتب لنا أيها الأمير كتاب الأمان ، فدعا بدواة وقرطاس ، ثم ضرب ببصره نحو المدينة ، وإذا بالسور قد غشيه المسوّدة عسكر بني العباس فقال له : قد دخلتها قسرا. فقال يحيى : لا والله ولكن غدرا. فقال عبد الله : لو لا ما أعرف من مودتك لنا أهل البيت لضربت عنقك ، إذ استقبلتني بهذا ، ثم ندم فقال : يا غلام خذ هذا العلم فأركزه في داره ، وناد من دخل دار يحيى بن بحر فهو آمن ، فانحشر الناس إليها ، فما قتل فيها ، ولا في الدور التي تليها أحد ، ونادى المنادي بعد أن قتل خلق كثير : الناس آمنون إلا خمسة : الوليد بن معاوية ، ويزيد بن معاوية ، وأبان ابن عبد العزيز ، وصالح بن محمد ، ومحمد بن زكريا.

وصار عبد الله بن علي الى المسجد فخطبهم خطبته المشهورة ، التي يذكر فيها بني أمية ، وجورهم وعداوتهم ، ويصف ما استحلوا من المحارم والمظالم والمآثم ، قال ما يقوله العدو في عدوه. وأي عداوة أعظم من عداوة المتنازعين على الملك والسلطان ، وبينهم الطوائل والأحقاد القديمة والجديدة؟ وهذه الخطبة أشبه بكلام العلويين في الأمويين ، والأمويين في العلويين ، يقصد بها إثارة النفوس ، لينزع منها حب الدولة السالفة ، ويفسح مجال الأماني للناس ويرغبوا في الدولة الخالفة.

١٤٥

فتح فلسطين وإهلاك رجال الأمويين :

أقام عبد الله بن علي في دمشق خمسة عشر يوما ، رويت خلالها سيوفه من أعداء دولته ، ثم سار وراء مروان بن محمد في خمسين ألف مقاتل ، وأخذ الوليد بن معاوية بن عبد الملك وعبد الجبار بن يزيد بن عبد الملك ، فحملهما الى أبي العباس السفاح ، فقتلهما وصلبهما بالحيرة ، وأمر أبو العباس عمه عبد الله بن علي أن يجدّ السير نحوها ، وهنأه بما أصاب من أموال بني أمية ، فسار يريد فلسطين فنزل نهر الكسوة ووجه منها يحيى بن جعفر الهاشمي الى المدينة ، ثم ارتحل الى الأردن فأتوه وقد سودوا ، ثم نزل بيسان ، ومنها سار الى مرج الروم فنهر أبي فطرس ، ولما قدم فلسطين أظهر للناس أن أمير المؤمنين وصاه ببني أمية ، وأمره بصلتهم وإلحاقهم في ديوانه وردّ أموالهم عليهم ، فقدم عليه من أكابر بني أمية وخيارهم ثلاثة وثمانون رجلا ، وفي رواية الطبري أنهم كانوا اثنين وسبعين رجلا وقد أعد لهم مجلسا على نهر العوجاء فيه أضعافهم من الرجال ومعهم السيوف والأجرزة ، فأخرجهم عليهم فقتلهم وسحبوا ، وطرحت عليهم البسط وجلس عليها ، ودعا بالطعام فأكل وجماعته ، وما زال بعض القتلى يئن ، وقال : يوم كيوم الحسين بن علي ولا سواء. وكان في جملة قتلاه عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك ، وكان قد بذّ العابدين في زمانه ، وسبق المجتهدين في عصره ، واتخذ أموالا معجبة ، تطرد فيها المياه والعيون ، فقتله ، ثم استقصى ماله ومال من قتل من سادات بني أمية وصناديدهم ، ومنهم من قتلوا لأنهم أبوا أن يصيروا أموالهم الى السفاح. وقد قتل في قلنسوة شمالي العوجاء بعض بني أمية. وقصارى القول أن فاتح الشام للعباسيين بطش في الأمويين ومن والاهم من أهل هذه الديار بطش الجبارين. وسار من الجور سيرة لم يسرها أحد قبله.

تتبع العباسيون بني أمية في الحجاز والعراق فقتلوا منهم أناسا كثيرين ولم يفلت إلا أفراد ، منهم عبد الرحمن بن معاوية الذي فر الى الأندلس وهناك أقام الخلافة الأموية الغربية ، فدامت مائتين وثماني وستين سنة ،

١٤٦

ولم تطل إليه ولا إلى آله أيدي العباسيين حتى انقرضت دولتهم. ومنهم من فرّ الى الحبشة ، وبقي فيها هو وذريته الى خلافة المهدي العباسي. وبعد مقتل بني أمية واشتداد خوفهم ، وتشتت شملهم ، واختفاء من قدر على الاستتار منهم ، أصدر السفاح الى سليمان بن علي كتابا عاما الى البلدان يعطي فيه الأمان للأمويين. فكان هذا أول أمان بني أمية. وكان سليمان بن علي كتب الى السفاح أنه وفد وافد من بني أمية علينا ، وأنا إنما قتلناهم على عقوقهم لا على أرحامهم ، فإننا يجمعنا وإياهم عبد مناف والرحم تبلّ (توصل) ولا تقطع ، وترفع ولا توضع.

انتقاض الجنوب والشمال والاعتقاد بالسفياني :

لما أفنى بنو العباس بني أمية في فلسطين ندمت عرب الشام على ما فعلت لما ركبهم من العار ، وتسليط العجم من أبناء خراسان عليهم ، ينزلون منازلهم ، ويأخذون أموالهم ، فهاجت لذلك واضطربت ، وامتنعوا من البيعة. وفي السنة التي دخل فيها العباسيون أرض الشام ، بيّض حبيب ابن مرة المريّ ، وأهل حوران والبثنيّة ، ومدينتها أذرعات ، أي لبس شعار الأمويين وهو البياض ، ونصب رجلا من بني أمية ، فقاتلهم عبد الله ابن علي بأرض البلقاء والبثنّية وحوران ، وكان بينه وبينهم وقعات. وحبيب بن مرة من قواد مروان وفرسانه. وكان سبب تبييضه الخوف على نفسه وقومه ، فبايعه قيس وغيرهم ممن يليهم من أهل تلك الكور ، فلما بلغ عبد الله بن علي تبييض أهل قنسرين في الشمال ، دعا حبيب بن مرة الى الصلح وأمنه ومن معه.

وكان الداعي الى خلع قنّسرين طاعة بني العباس ، قائد من قواد مروان أيضا اسمه أبو الورد الكلابي وكان دخل في طاعتهم ، ثم نزع الطاعة لما قدم أحد قواد عبد الله بن علي الى بالس والناعورة ، وأنشأ يعبث بولد مسلمة بن عبد الملك ونسائهم ، فشكا بعضهم ذلك الى أبي الورد ، وكان قد اجتمع معه جماعة من أهل قنّسرين وكاتبوا من يليهم من أهل حمص وتدمر ، فقدم منهم ألوف عليهم أبو محمد زياد بن عبد الله بن

١٤٧

خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ودعوا إليه. وقالوا هذا السفياني الذي كان يذكر.

والغالب أن أنصار الأمويين وضعوا بعد سقوط دولتهم ملحمة زعموا فيها أنهم يعرفون ما يحدث في المستقبل من الزمان والآتي من الأيام ، من ظهور أمرهم ورجوع دولتهم ، وظهور السفياني في الوادي اليابس من أرض الشام ، في غسان وقضاعة ولخم وجذام وغاراته وحروبه ، ومسير الأمويين من بلاد الأندلس الى الشام ، وأنهم أصحاب الخيل الشهب والرايات الصفر ، وما يكون لهم من الوقائع والحروب والغارات والزحوف ، على ما نقله المسعودي. والاعتقاد بظهور السفياني كما قال صديقنا أحمد تيمور باشا يشبه الاعتقاد بظهور المهدي ويروون فيه أحاديث وأقاصيص الله أعلم بها. وفي البدء والتاريخ أن الروايات بشأن السفياني فيها حشو كثير ومحالات مردودة. ومسألة السفياني تدبير للأمويين حتى لا ينقطع الأمل من رجوع دولتهم ويخيفوا أعداءهم على الدوام. وربما كانت دعوى قرب ظهور السفياني أيضا واسطة لفتك العباسيين بكل من توهموا فيه شيئا من الرائحة السفيانية ولم تكد تنقطع هذه النغمة في الشام. وفي سنة ٢٩٤ زعم رجل أنه السفياني فحمل هو وجماعة معه من الشام الى باب السلطان فقيل إنه موسوس.

كان أتباع زياد في نحو أربعين ألفا فعسكروا بمرج الأخرم بنواحي سلمية ودنا منهم عبد الله بن علي ووجه إليهم أخاه عبد الصمد بن علي في عشرة آلاف. وكان أبو الورد هو المدبر لعسكر قنّسرين وصاحب القتال ، فناهضهم وكثر القتل في الفريقين ، وانكشف عبد الصمد ومن معه وقتل منهم ألوف ، ولحق بأخيه عبد الله فأقبل عبد الله معه وجماعته القواد ، فالتقوا ثانية بمرج الأخرم فاقتتلوا قتالا شديدا وثبت عبد الله فانهزم أصحاب أبي الورد وثبت هو في نحو من خمسمائة من قومه وأصحابه فقتلوا جميعا ، وهرب أبو محمد ومن معه حتى لحقوا بتدمر ، وأمّن عبد الله أهل قنّسرين وسوّدوا وبايعوه ودخلوا في طاعته ، ثم رجع الى دمشق وكان قد خرج من بها عن الطاعة أيضا ، ونهبوا أهل عبد الله بن علي ، فلما

١٤٨

دنا عبد الله من دمشق هربوا ثم أمّنهم ، قال المؤرخون : إن العباسيين قتلوا من الشاميين ما لا يحصى ، ثم أذكوا العيون على الأمويين يقتلون رجالهم ونساءهم ، وينبشون عن قبورهم فيحرقونهم ، فمن ثم سمي عبد الله ابن محمد بن علي السفاح وفيه يقول الشاعر :

وكانت أمية في ملكها

تجول وتظهر طغيانها

فلما رأى الله أن قد طغت

ولم تطق الأرض عدوانها

رماها بسفاح آل الرسول

فجزّ بكفيه أذقانها

انتقاض العباسيين على أنفسهم :

هذا ما كان من أمر من خلعوا طاعة بني العباس من عصبية بني أمية في الجنوب والشمال ، ولم يكن أثر تلك العصبية قد زال على شدة العباسيين في قطع شأفة الأمويين. ولما هلك أبو العباس السفاح ، قام عمه عبد الله ابن علي عامل الشام ، يدعو الى نفسه بالخلافة ، وقد استمال من معه من جنود خراسان فمالوا معه ، وكان صالح بن علي بمصر على طاعة أبي جعفر ، فلما بلغه أن عبد الله بن علي ، قد خلع أبا جعفر وأنه قد عزم على حربه أقبل بمن معه من أهل خراسان ، منكرا لفعل عبد الله بن علي ، حتى لقي الحكم بن ضبعان الجذامي ، ومع الحكم خلق كثير من أهل الشام في طاعة عبد الله بن علي ، فهزمهم صالح باللجون وقتل منهم ناسا كثيرا وأفلت الحكم حتى أخذه بعد يزيد بن روح اللخمي بأرض بعلبك ، وكان يزيد عاملا لصالح بن علي ببعلبك ، فضرب عنق الحكم وبعث برأسه الى صالح بن علي ، ونقل يزيد بن روح عند قتله الحكم بن ضبعان الى ولاية دمشق. هذه رواية ابن عساكر ، وقال غيره : إن صالح بن علي لما جاء فلسطين من مصر طلب أحياء العرب ، وجعل يذبحهم حتى أتى على آخرهم وانتهب أموالهم ومواشيهم.

وعلل صاحب البدء والتاريخ خروج عبد الله بن علي ، على أبي جعفر بقوله : إنه لما مات أبو العباس ، ادعى الخلافة عبد الله بن علي وبايعه أهل الشام والجزيرة ، وذلك أن أبا العباس لما ظهر أمره ، وضع سيفا

١٤٩

وقال : من تقلد هذا السيف وسار الى مروان فقاتله فله الخلافة بعدي ، فتحاماه الناس وقام عبد الله بن علي فتقلده ، وسار فقاتل مروان فقتله ، فلما مات أبو العباس قام بالخلافة وبايعه الناس على ذلك ، وكان أجلدهم وأشجعهم ، فهال ذلك أبا جعفر واستشار أبا مسلم فقال :الرأي أن تعاجله ولا تتأنى به ، وكان عبد الله بن علي في مائة ألف مقاتل ومائة ألف من الفعلة ، وحفر الخندق من جبل نصيبين الى نهرها ، وجعل فيه ما يحتاج إليه من العدة والآلة ، ونصب المجانيق والعرّادات وبث الحسك ، وسدّ الطريق على من يقصده من العراق ، وجعل الخصب والقرى وراءه.

ولما وجه أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني قال له : أيها الرجل إنما هو أنا أو أنت. فإما أن تسير الى الشام ، فتصلح أمرها أو أسير أنا. قال أبو مسلم : بل أسير أنا. فاستعد في اثني عشر ألفا من أبطال جنود خراسان ، حتى إذا وافى الشام انحاز إليه من كان بها من الجنود جميعهم ، وبقي عبد الله بن علي وحده ، فعفا أبو مسلم عنه ، ولم يؤاخذه بما كان منه وقيل : بل أسره وحمله الى أبي جعفر ، فخلّده الحبس الى أن مات ، وهذا هو الأصح ؛ وأبو مسلم من أقرب الناس الى سفك الدماء ، وقد قتل في دولته ستمائة ألف إنسان ، ولكنه تحامى أن يقتل عم الخليفة ، واكتفى من عقوبة الثائر بالاستيلاء على خزائنه ، وكانت عظيمة ، لأنه استولى كما تقدم على ذخائر خلفاء بني أمية ونعمتهم ، وذلك بعد حروب كثيرة في أرجاء نصيبين في الموضع المعروف بدير الأعور ، وصبر الفريقان شهورا على حروبها. ومع هذا تعاقب على حلب كثير من ولد عبد الله بن علي بن العباس نحو مئة سنة. وكان هوى أهل الشام مع عبد الله بن علي يوم قام على المنصور ، فلما هزم عبد الله عفا المنصور عن الشاميين ، وكان العباسيون كالأمويين يولون في مبدإ أمرهم الولايات لآل بيتهم وأولياء عهد الخلافة.

١٥٠

نزع اللبنانيين والفلسطينيين طاعة العباسيين :

ومن كوائن هذا الدور ما وقع في سنة ١٣٥ من نهب المقدم الياس في لبنان البقاع ونهب قراها وأهلها ، فأرسل والي الشام من قبل أبي العباس إليه رسلا لعقد الصلح ، ثم هاجمه في قرية المرج وقتله ، وبعد رجوع عسكر الشام ، رجع أصحابه ودفنوه بقرب الجامع الذي في القرية. ثم أقيم مقدما على الجيش سمعان ابن أخت المقتول فسارت إليه عساكر الشام ، وكانت الحرب بينهم في قرية الشوير ، فانكسر العسكر الشامي وارتد راجعا ، ودام القتال على ما في تواريخ الموارنة بين عساكر المسلمين ونصارى تلك الكورة مدة طويلة.

ويقول البلاذري : إنه خرج قوم بجبل لبنان شكوا عامل خراج بعلبك ، فوجه صالح بن علي من قتل مقاتلتهم وأقرّ من بقي منهم على دينهم ، وردهم الى قراهم ، وأجلى قوما من أهل لبنان. وقد كتب الإمام الأوزاعي الى صالح رسالة طويلة في تخطئته في طريقته التي سار عليها في مقاتلة اللبنانيين ، حفظ منها ما يأتي : وقد كان من إجلاء أهل الذمة من جبل لبنان ، ممن لم يكن لهم ممالئا لمن خرج على خروجه ، ممن قتلت بعضهم ورددت باقيهم الى قراهم ، ما قد علمت ، فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة ، حتى يخرجوا من ديارهم وأموالهم؟ وحكم الله تعالى (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وهو أحق ما وقف عنده ، واقتدي به وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه قال : من ظلم معاهدا وكلفه فوق طاقته فأنا حجيجه. ثم ذكر كلاما.

روى ابن عساكر أن الروم دخلوا طرابلس في زمان واليها رباح بن عثمان لصالح بن علي أمير الشام ومصر ، ثم ظهر رجل من أهل المنيطرة ، وذلك في سنة اثنتين أو سنة ثلاث وأربعين ومائة ، وسمى نفسه الملك ، ولبس التاج وأظهر الصليب واجتمع عليه أنباط جبل لبنان وغيرهم ، ثم استفحل أمرهم فسبوا بعض قرى البقاع ، فقتلوا المسلمين وأخذوا ما وجدوا وكتب بندار (١)

__________________

(١) البنادرة : تجار يلزمون المعادن أو هم الذين يخزنون البضائع للغلاء جمع بندار بالضم رجل بندري ومبندر ومتبندر وهو كثير المال.

١٥١

الملك الى أهل بعلبك يعلمهم بمصيرهم ويأمرهم بقتالهم ، فتأهبوا وقاتلوهم في أسفل جبل لبنان ، ثم أظهروا الهزيمة فأمعنوا في الطلب ، فلما بعدوا عن الجبل كرّت عليهم خيل بعلبك ، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وانهزم بقيتهم ، ثم هاجموهم في قلعتهم فظهروا عليهم وامتلكوها منهم ، وهرب بندار الى ملك الروم ، فكتب حينئذ صالح بن علي يأمر بإخراج من بقي في الجبل ، وتفريقهم في كور الشام. وصالح بن علي من أعظم رجال العباسيين هو الذي كسر الروم في نوبة مرج دابق وكانوا في مئة ألف أو يزيدون. وبعد صالح بن علي وجه أبو جعفر المنصور محمد بن الأشعث الى الشام ، وكتب إليه أن يخرج عمال صالح بن علي ، فجهزه وعقد له وضم إليه من قواده جماعة ، وكتب أمير المؤمنين الى صالح بن علي أن يسلم دمشق الى محمد بن الأشعث ، فأتاها فأقام بها مدة ، ثم أتاه كتاب أمير المؤمنين يأمره أن يسير الى الأردن ويخرج عمال صالح بن علي من الأردن والبلقاء وفلسطين فأخرجهم.

قيس ويمن والفتن الداخلية والخارجية :

وفي سنة ١٦٨ نقض الروم الصلح ، فوجه علي بن سليمان وهو يومئذ على الجزيرة وقنّسرين يزيد بن بدر في سرية الى الروم ، فغنموا وظفروا. ولم يغفل العباسيون عن غزو الروم الصوائف وغيرها على مثال بني أمية. وفي هذه السنة رد المهدي ديوان أهل بيته من دمشق الى المدينة. ومن الفتن فتنة سنة ١٧٦ هاجت بدمشق بين المضريين واليمانيين ، وكان على دمشق عبد الصمد ، فسعى الرؤساء في الصلح فأجاب بنو القين ، واستمهلت اليمانية ثم ساروا الى بني القين وقتلوا نحو ستمائة ، فاستنجدت بنو القين قضاعة وسليحا فأبوا ، فاستنجدوا قيسا فساروا معهم الى الصواليك ، من أرض البلقاء ، فقتلوا من اليمانية ثمانمائة ، وكثر القتل منهم ، ثم عزل الرشيد عبد الصمد عن دمشق ، وولاها إبراهيم بن صالح ، وكان هواه مع اليمانيين ، واستخلف إبراهيم على دمشق ابنه إسحاق فحبس جماعة من قيس وضربهم ، ثم وثبت غسان برجل من ولد قيس العبسي فقتلوه ، واستنجد

١٥٢

أخوه بالزواقيل (اللصوص) من حوران فأنجدوه ، وقتلوا من اليمانية نفرا. قال ابن كثير في حوادث سنة ١٧٦ إنه وقعت فتنة بين النزارية واليمانية ، وهذا كان بدء العشران بحوران وهم قيس ويمن ، أعادوا ما كانوا عليه في الجاهلية في هذا الأوان ، فقتل منهم بشر كثير ، فلما تفاقم الأمر بعث الرشيد من جهته موسى بن يحيى ومعه جماعة من القواد ورؤوس الكتاب ، فأصلحوا بين الناس وهدأت الفتنة ، واستقام أمر الشام ، وحملوا جماعات من رؤساء الفتنة الى مدينة السلام ، فرد أمرهم الرشيد الى عامله خالد فعفا عنهم وأطلقهم ففي ذلك يقول بعض الشعراء :

قد هاجت الشام هيجا

يشيب رأس وليده

وصبّ موسى عليها

بخيله وجنوده

فدانت الشام لما

أتى نسيج وحيده

دامت هذه الفتنة نحو سنتين ، وسببها فيما قيل أن رجلا من بني القين قطع بطيخة من حائط بالبلقاء لرجل من لخم أو جذام. وفي رواية أن الفتنة لما هاجت بالشام بين النزارية واليمانية ، وولى الرشيد سنة ١٧٦ موسى بن يحيى الشام جميعه ، أقام به سنتين حتى أصلح بينهم. قال ابن الأثير : إن سبب هذه الفتنة بين المضرية واليمانية ، ورأس المضرية أبو الهيذام عامر بن عمارة أحد فرسان العرب المشهورين ، أن عاملا للرشيد بسجستان قتل أخا لأبي الهيذام فخرج أبو الهيذام بالشام وجمع جمعا عظيما. وهذا السبب أرجح إذ لا يعقل أن تنشب الفتنة بين قبيلين من أجل بطيخة قطعت من بستان. أما أبو الهيذام فاستولى على دمشق ، وقاتل في قومه فهزم أكثر الجيوش التي قابلته ، وكان معه فريق كبير من أعراب الشام.

وفي سنة ١٨٠ تفاقم أمر هذه الفتن ، فعقد الرشيد ، أيام عصبية أبي الهيذام ، لجعفر بن يحيى البرمكي على الشام ، فأتاهم وأصلح بينهم وقتل المتلصصة منهم ، ولم يدع بها محاربا ولا فارسا ، فعادوا الى الأمن والطّمأنينة وقال بعض الشعراء في ذلك :

١٥٣

لقد أوقدت بالشام نيران فتنة

فهذا أوان الشام تخمد نارها

إذا جاش موج البحر من آل جعفر

عليها جنت شهبانها وشرارها

رماها أمير المؤمنين بجعفر

وفيه تلاقى صدعها وانجبارها

رماها بميمون النقيبة ماجد

تراضى به قحطانها ونزارها

وفي سنة ١٨٧ ثارت العصبية أيضا بالشام بين المضرية والنزارية وجمعوا جموعا كثيرة ، وكانت بينهم في ذلك فتن قتل فيها من المضرية نحو من خمسمائة ، والوالي على دمشق شعيب بن حازم ، قال ابن عساكر : وذكروا منه تعصبا فوجه أمير المؤمنين الرشيد محمد بن منصور بن زياد الى أهل دمشق ، وأمره بدعاء الفريقين جميعا الى الرجوع عما هم عليه ، على أن يحمل من بيت ماله ما كان بينهم من الدماء ويعفو عنهم ويولي من أحب الفريقان ، فأطفئت الفتنة. وفي سنة ١٨٨ كان غزو إبراهيم بن جبريل الصائفة ، أدرب (١) من درّب الصفصاف فيما ذكر أربعون ألفا وسبعمائة.

الحمصيون وفتنة السفياني :

وفي سنة ١٩٠ وثب أهل حمص بواليهم فخرج الرشيد نحوهم ، فلما صار بمنبج لقيه وفدهم يعطون بأيديهم فعفا عنهم. وفي سنة ١٩١ خرج أبو النداء بالشام ، فوجه الرشيد في طلبه يحيى بن معاذ ، وعقد له على الشام. وفيها نقض أهل قبرس العهد فغزاهم معيوف بن يحيى فسبى أهلها. وفي سنة ١٩٤ اختلف أهل حمص مع عاملهم إسحاق بن سليمان ، فانتقل عنهم الى سلمية فعزله الأمين ، واستعمل مكانه عبد الله بن سعيد الحرشي ، فقاتل أهل حمص حتى سألوا الأمان فأمنهم ، ثم هاجوا فضرب أعناق عدة منهم. وفي سنة ١٩٥ أي في أيام الخليفة الأمين ، ظهر بالشام السفياني علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية الملقب بأبي العميطر (كسفرجل) لأنه زعم أنها كنية الحرذون فلقبوه به ، وكان من بقايا بني أمية بالشام ، ومن أهل العلم والرواية ، فدعا الى نفسه وسمي خليفة ، وكان أصحابه يوم ادعى الخلافة يدورون في أسواق دمشق ويقولون للناس :

__________________

(١) أدرب : دخل الدرب. والدرب : كل مدخل الى الروم.

١٥٤

«قوموا بايعوا مهدي الله». وكان يفتخر بقوله : أنا ابن شيخي صفين يعني عليّا ومعاوية ، لأنه كان ينتسب لبني أمية من جهة أبيه ولآل أبي طالب من جهة أمه ، وكان أكثر أصحابه من كلب ، وتعصب له اليمانية ، وقاومه القيسية فنهب دورهم وأحرقها وقتلهم وفتك بأهل دمشق ، وطرد منها سليمان بن أبي جعفر المنصور عاملها بعد حصره إياه ، وكان عامل الأمين عليها ، فلم يفلت منها إلا بعد اليأس ، وأعانه الخطاب بن وجه الفلس مولى بني أمية ، وكان قد تغلب على صيدا ، وقاومه محمد بن صالح بن بيهس الكلابي فخرج الى قرية الحرجلة ، فقتل من ظفر به من بني سليم ونهبها وأحرقها ، وجعل يطلب من بدمشق من القيسية. وكان القرشيون وأصحابه من اليمن يمرون بالدار من دور دمشق فيقولون : ريح قيسي نشم من هذه الدار ، فيضربونها بالنار ، فهرب القيسية من دمشق ، وكان من لم يبايعه سمّر عليه بابه ، وكان إذا خرج من الخضراء وهو راكب يمشي بين يديه خمسمائة رجل على رؤوسهم القلانس الشاميات وفي أيديهم المقارع.

كتب أبو العميطر الى ابن بيهس الكلابي : «بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فالعجب كل العجب لتخلفك عن بيعة أمير المؤمنين ، (يعني نفسه) وجحدانك نعم آبائه عليك ، ولست ولا أحد من سلفك إلا في نعمته ، وأنت تعلم مكان حرمتك بقرية تلفياثا ، وأن عشيرتك بالغوطة كرش منثورة ، وأمير المؤمنين يحلف لك بالله لئن سمعت وأطعت ، ليبلغن بك أقصى غاية الشرف ، وليولينك ما خلف بابه ، ولئن تخلفت وتأخرت ليبعثن إليك ما لا قبل لك به من الزحوف ، التي تتلوها الحتوف ، بشاهد السلاح المعدّ لأهل الخلاف والمعصية. وقد بعث إليك أمير المؤمنين شعرا فتدبره» وكتب في أسفل كتابه :

لئن كان هذا الجد منك لقد هوى

بك الحين في أهويّة غير طائل

أبعد اجتماع الشام سمعا وطاعة

اليّ وإذلالي جميع القبائل

وتوجيهي العمال في كل بلدة

وزحفي إليها بالقنا والقنابل

رجوت خلافي أو تمنيت جاهلا

إزالة ملك ثابت غير زائل

١٥٥

فإن تعط سمعا أو تعلق بطاعة

تقل من ملمات شداد الزلازل

وإن تعص لا تسلم وفي السيف واعظ

لذي الجهل ما لم يتعظ بالرسائل

فلم يجبه ابن بيهس على كتابه ، وأقبل أبو العميطر على طلب القيسية فكتبوا الى ابن بيهس ، فأقبل إليهم في ثلاثمائة فارس من الضباب ومواليه ، واتصل الخبر بأبي العميطر فوجه إليه يزيد بن هشام في اثني عشر ألفا فاقتتلوا ، فلم يزل القتل في أصحاب يزيد بن هشام حتى دخلوا أبواب دمشق ، فبلغ القتلى ألفي رجل وأسر ثلاثة آلاف ، فدعا بهم ابن بيهس فحلق رؤوسهم ولحاهم ، وأحلفهم بأنهم يصيرون الى باب أبي العميطر فيصيحون نحن عتقاء ابن بيهس ، فاشتدت شوكته وتوهن أمر أبي العميطر السفياني ، فجعل ابن بيهس يغير كل يوم على ناحية فيقتل ويأسر. ولما فرغ ابن بيهس من حرب يزيد بن هشام ، نزل قرية سكا ، واجتمع الى أبي العميطر وزراؤه فقالوا له : لا يهولنك محاصرة ابن بيهس إياك فإن الحرب سجال ، فكتب أبو العميطر الى السواحل والبقاع وبعلبك وحمص فأتاه خلق عظيم ، واشتبكت الحرب بين شبعا وقرحتا وتقاتلوا قتالا طويلا. واجتمعت نمير على مسلمة بن يعقوب ، وبذلوا له البيعة بالخلافة ، فقبل منهم وجمع مواليه ودخل على السفياني أبي العميطر في الخضراء فقبض عليه وقيده ، وقبض على رؤساء بني أمية فبايعوه وأدنى قيسا وجعلهم خاصته.

وجمع ابن بيهس رؤساء بني نمير فقال لهم : قد كان من علتي ما ترون فارفقوا ببني مروان بن الحكم وألطفوا بهم ، وعليكم بمسلمة بن يعقوب فبذل له بنو نمير البيعة. وبعث مسلمة الى رؤساء بني أمية عن لسان أبي العميطر يأمرهم بالحضور فجعل كل من دخل يقال له : بايع ، والسيف على رأسه فيبايع. وأدنى مسلمة القيسية ، ولبس الثياب الحمر ، وجعل أعلامه حمراء ، وأقطع بني نمير ضياع المرج ، وجعل لكل رجل من وجوه قيس بمدينة دمشق منزلا وولاهم ، ثم أقبل ابن بيهس حتى نزل قرية شبعا وأصبح منها غاديا الى دمشق ، وصاح الديدبان بالسلاح ، وخرج مسلمة وخرجت معه القيسية ، فتقاتلوا ذلك اليوم مع

١٥٦

مسلمة قتالا شديدا وكثرت الجراحات في الفريقين ، وانصرف ابن بيهس وخاف القيسية على أنفسهم ، وذهبوا الى ابن بيهس وأحكموا الأمر معه ، وصبح دمشق بالخيل والرجالة والسلالم، ونشب القتال وصعد أصحاب ابن بيهس السور بناحية باب كيسان فلم يشعر بهم أصحاب مسلمة ، واستولى ابن بيهس على دمشق لعشر خلون من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة ، ولم يزل يحارب أهل المزة وداريا وبيت لهيا إلى أن صالحه أهل بيت لهيا ، وأقام على حرب أهل المزة وداريا وهو مقيم بدمشق أميرا متغلبا عليها ، الى أن قدم عبد الله بن طاهر دمشق سنة ثمان ومائتين وخرج الى مصر ورجع الى دمشق سنة ست عشرة ومائتين ، وحمل ابن بيهس معه الى العراق. وولى الأمين (١٩٦) عبد الملك بن صالح بن علي على الشام ، وأمره بالخروج اليها. وفرض له من رجالها جنودا يقاتل بها طاهرا وهرثمة. وعبد الملك هذا هو الذي كان يقول في أهل الشام : قوم قد ضرستهم الحروب وأدبتهم الشدائد ، وإن أهل الشام أجرأ من أهل العراق ، وأعظم نكاية في العدو. ووقعت فتنة في عسكره بين الخراسانيين وأهل الشام وكثر القتل ، وأظهر عبد الملك النصرة للشاميين ، وانتصر الحسين بن علي للخراسانيين وتنادى الناس بالرجوع ، فمضى أهل حمص وقبائل كلب فانهزم أهل الشام واتصلت الحروب (١٩٨) بين سكان الشام وجماعة العباسيين ، وكان يعقوب بن صالح الهاشمي يحارب الحاضر حاضر حلب ، فلم يبق منهم وافترقوا أيدي سبا ، فصار أكثرهم الى مدينة قنّسرين ، وضرب يعقوب الحاضر وكان فيه عشرون الف مقاتل.

وذكر المسعودي أن عبد الملك بن صالح توفي بالرقة سنة ١٩٧ ، وكان العامل على الجزيرة وجند قنسرين والعواصم والثغور ، واضطربت البلدان بعد وفاته ، وتغلب كل رئيس قوم عليهم ، وصار الناس حزبين ، حزب يظاهر بمحمد ، وحزب يظاهر بالمأمون ، فلم يبق بلد إلا وفيه قوم يتحاربون ، لا سلطان يمنعهم ولا شيء يدفعهم. ولما أفضت الخلافة الى المأمون كان بقورس وما والاها من كور العواصم العباس بن زفر الهلالي ، وبالحيار وما والاها من كور قنسرين عثمان بن عثامة العبسي ،

١٥٧

وبالحاضر الذي الى جانب حلب منيع التنوخي. وقد كان يعقوب بن صالح الهاشمي يحارب الحاضر ، فهرب أهل قنسرين ، وكان بمعرة النعمان وتل منس وما والاها من إقليم حمص الحواري بن خيطان التنوخي. وبحماة وما والاها حراق البهرائي ، وبشيزر وما والاها بنو بسطام ، وبمدينة حمص بنو السمط ، وأقام بدمشق والأردن وفلسطين جماعة من رؤساء القبائل حتى ولى المأمون عبد الله بن طاهر.

ولم تكد الشام تستريح من فتنة أبي العميطر حتى قام في أول عهد المأمون بدمشق رجل من بني أمية أيضا ، أسمه سعيد بن خالد الأموي العثماني الفدّيني ، وادعى الخلافة ، قام بعد أبي العميطر وأغار على ضياع بني شهيب (شرنبث؟) السعديين ، وتطلب القيسية وقتلهم ، وتعصب ليمن ، فجهز له محمد بن صالح ابن بيهس أخاه يحيى بن صالح ، فلما صار بالقرب من حصنه المعروف بالفدّين هرب ، فوقف يحيى حتى هدمه وخرب زيزاء ، وتحصن سعيد في قرية ماسوح ، ثم إنه جمع عليه جمعا عظيما زهاء عشرين ألفا ، فلم يجد محاربه الى أن أجلاه عن مكانه وصار بعد ذلك الى حسبان وفيه حصن حصين ، فأقام به وتفرق عنه أصحابه.

فتنة نصر بن شبث :

وهكذا لم يخل عهد السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد والأمين والمأمون من خلفاء بني العباس من فتن في هذه الديار ، وبقيت نار العصبيات تتأجج. واليمانيون مع الأمويين ، والقيسيون مع العباسيين ، والدعوة للسفياني الذي وعد بإرجاع ملك بني أمية تهب وتنام ، وقد ابتدأت أوائل خلافة المأمون بشيء من هذا القبيل. فقد عصى عليه نصر بن شبث العقيلي ، وكان يسكن كيسوم شمالي حلب ، وكان في عنقه بيعة للأمين وله فيه هوى ، فلما قتل الأمين أظهر نصر الغضب وتغلب على ما جاوره من الكور ، وملك سميساط واجتمع عليه خلق كثير من الأعراب وأهل الطمع وقويت نفسه ، وعبر الفرات الى الجانب الشرقي ،

١٥٨

وحدثته نفسه بالتغلب عليه. فلما رأى الناس ذلك منه كثرت جموعه وزادت عما كانت عليه وقوي أمره (١٩٩) بالجزيرة وأتاه نفر من شيعة الطالبيين فقالوا : قد وترت (١) بني العباس وقتلت رجالهم ، وأعلقت عنهم العرب فلو بايعت لخليفة كان أقوى لأمرك فقال : من أي الناس؟ قالوا : نبايع لبعض آل علي بن أبي طالب فقال : أبايع أولاد السوداوات ، فيقول إنه خلقني ورزقني. قالوا : فنبايع لبعض بني أمية فقال : أولئك قد أدبر أمرهم والمدبر لا يقبل أبدا ، ولو سلّم عليّ رجل مدبر لأعداني بإدباره ، وإنما هواي في بني العباس ، وإنما حاربتهم محاماة عن العرب لأنهم يقدّمون عليهم العجم.

قوي أمر نصر فأرسل عليه المأمون أحد عظام قواده طاهر بن الحسين فلقيه نصر وكسره ، فسير إليه المأمون عبد الله بن طاهر القائد العظيم ابن ذاك القائد العظيم ، فحصره في كيسوم من مدن العواصم وأخذه بعد وقائع كثيرة ، واحتوى على الشام جميعه وهدم عدة أسوار من المدن المجاورة لحلب ومنها كيسوم. وسار عبد الله بن طاهر يستقري الشام بلدا بلدا ، لا يمر ببلد إلا أخذ من رؤساء القبائل والعشائر والصعاليك اللصوص ، وهدم الحصون وحيطان المدن ، وبسط الأمان للأسود والأبيض والأحمر وضمهم جميعا ، ونظر في مصالح البلدان ، وحط عن بعضها الخراج ، فلم يبق مخالف ولا عاص إلا خرج من قلعته وحصنه ، وعاد عبد الله بن طاهر الى مدينة السلام يحمل معه المتغلبين على الشام ، أمثال ابن السرج وابن أبي الجمل وابن أبي الصقر ، ودام عصيان نصر خمس سنين.

المأمون وحكمه على قيس ويمن :

لم يطفىء الفتنة التي أثارها نصر بن شبث في الشمال والتي أثارها غيره

__________________

(١) وتر الرجل : أفزعه وأدركه بمكروه ووتره ماله : نقصه إياه وقوله : أعلقت عنهم : دفعت عنهم.

١٥٩

في الوسط والجنوب غير أعاظم قواد بني العباس ، أطفأوها بالعقل والتؤدة ، وقد رأينا أن عصبية الأمويين لم تنقطع على شدة العباسيين في استئصالها ، وكان كل حين يثور ثائر باسم السفياني ، ويثور معه جماعته ولا سيما من أهل القرى والبوادي. وكانت الأحوال أخذت تهدأ على عهد الرشيد والمأمون ، فتفرغا لإجراء الإصلاح. وكان الرشيد تولى شمال الشام أيام كونه وليا للعهد ، والمأمون زار الشام ثلاث مرات يقيم فيها نصاب العدل ، ويوطد دعائم المدنية ، وعدّ عهده وعهد أبيه من أجمل عصور التاريخ الإسلامي. المأمون الخليفة العادل ، وممثل التسامح المحمدي العجيب ، ومحكّم العقل في أحكامه ومعتقداته ، وقلما اجتمعت صفات كصفاته وعقل كعقله وعلم كعلمه لخليفة من خلفاء الإسلام.

وكأن ما وقع في أوائل عهد العباسيين من الغوائل التي غالت أهل البوادي والحواضر في هذه الديار كان عقوبة لأهلها عما قدمت أيديهم من خيانة عهد بني أمية ونفض أيديهم من مروان بن محمد لأول ظهور قوة خصمه وإدبار الأمر عنه ، حتى قاتلوه وطاردوه ، على مثل ما قاتله جيش خراسان العباسي وزيادة ، فتعجلوا انقراض دولة الأمويين معلقين آمالهم على الدولة الفتية. ولذلك زعم بعضهم أن الملك في الشام لا يثبت ، لعدم الثبات المغروس في فطرة أهله ، ولتلون الطبائع فيه تلوّن أقاليمه وسمائه وهوائه. وكان من أثر العادة التي حملها العرب معهم من جزيرتهم ، وهي عادة الغزو المتأصلة في غير سكان المدن ، أن نشبت الثورات وكثر قتل الأنفس وغرست هذه الاضطرابات في أرض الشام فنمت ، خصوصا وجبالها أكثر من سهولها على الأكثر ، وتصلح للدفاع والهزيمة والاستمرار على المشاكسة لصاحب القوة.

بالغ العباسيون في إهراق الدماء لأول أمرهم ، وقضوا على آثار بني أمية ، وهي كثيرة جدا ، ومع ذلك كان اسم الأموي والسفياني يرنّ في الآذان ، والمستعدون للثورة يمتشقون الحسام عند أول داعية يسمعهم صوته ، أو ثائر يستتبع الناس ويعدهم الوعود الخلابة. نعم إن التنازع بين القيسيين واليمانيين كان في هذا القرن على أشد حالاته ، وهذه العداوة

١٦٠