خطط الشام - ج ١

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ١

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٨

من هناك الى قنسرين والعواصم فقتلا الأهلين ونهبا وخربا المساكن ولم يعفيا أحدا من أتباع بطريرك الموارنة ، ثم انتهى جيشهما الى طرابلس فخضع لهم أهل الكورة ، ثم قوي الجبليون على عسكر الروم ثم قتلوا أكثرهم وانهزم الباقون. دعا الروم الى قتال الموارنة لقولهم بالطبيعتين والمشيئتين ثم وفد وفد منهم مع لاون القائد يبيح أن يحارب الجيش الموجه عليهم ، فلما عرف الجبليون وأهل العواصم بهذا انهالوا على الأروام من أعالي الجبل فقاتلوهم حتى قتلوا أكثرهم وانهزم الباقون. قال الدويهي : وبسبب هذه الحملة على يوحنا مارون ولا سيما بسبب الوقعة التي جرت بين أهل الكورة وجبة بشري كان بدء التفرقة بين الموارنة والملكية. لأن الذين اتبعوا جيش الروم وانقادوا لرأيهم سموا ملكية تبعا للملك ، والذين ثبتوا في الأمانة تحت طاعة البطريرك يوحنا مارون سموا موارنة.

وقال ابن القلاعي : إن الموارنة في دخول المسلمين الى الشام كانوا يسكنون جبل لبنان ، ويتولون الجبال والسواحل التي تجاورهم ، وبلادهم من حدود الشوف الى بلاد الدريب ، وأميرهم يسكن قرية بسكنتا نزل الى البقاع في رجاله ونهبها وقتل كثيرين ولبث أياما في قب الياس ، فلما انتهى خبره الى عبد الملك بن مروان أرسل اليه هدية ولم يزل يمكر به حتى قتله وقتل كثيرين من عسكره ، وأحرق القرى وأبعد الموارنة من البقاع ، ولم تزل الحروب منذ ذلك الحين ثائرة بين المسلمين والموارنة الى نحو ثلاثين سنة ثم ابتنى الموارنة حصنا فوق نهر الكلب جرت عنده موقعة هائله.

عهد الوليد :

توفي عبد الملك في سنة ٨٦ بعد أن ولي الخلافة منذ قتل ابن الزبير ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر ، وكان من الحزم وسعة الصدر وجمال العلم والأدب على جانب عظيم ، ويعد من فقهاء المدينة وهو أول من حولت الدواوين في أيامه الى العربية ، وفي عهده نقشت الدنانير والدراهم بالعربية (٧٦) وكان قبل ذلك نقش الدنانير بالرومية ونقش الدراهم

١٢١

بالفارسية ، وهو أول من نهى عن الكلام بحضرة الخلفاء ، وكان الناس قبل ذلك يراجعون ويعترضون عليهم.

وبويع للوليد بن عبد الملك. وكانت أيامه من أبرك أيام بني أمية عمّر الجوامع العظام ، وكتب الى الأمصار بهدم المساجد والزيادة فيها ، وبث في الأمة روح العمران ، فكان الناس إذا التقوا في زمانه ، يسأل بعضهم بعضا عن الأبنية والعمارات في كل مكان ، وكان أول من عمل أعمالا جسيمة ابتدعها في الصدقات والقربات ، هذا مع أن الخراج انكسر في أيامه فلم يحمل كثير شيء من العراق وغيره ، فاضطر الى إحصاء أهل الديوان ، وألقى منهم بشرا كثيرا بلغت عدتهم عشرين ألفا ، وأجرى الوليد على زمنى أهل الشام كالمجذّمين والعميان وكساهم وأمر لكل منهم بخادم ، وأخرج لعيالات الناس الطيب والكسوة ، وزاد الناس جميعا في العطاء عشرة عشرة ، ثم زاد أهل الشام بعد زيادة العشرات عشرة عشرة لأهل الشام خاصة ، وزاد من وفد إليه من أهل بيته في جوائزهم الضعف ، وكان وهو وليّ عهد ، يطعم من وفد إليه من أهل الصائفة قافلا ، ويطعم من صدر عن الحج بمنزل زيزاء في البلقاء ثلاثة أيام ، ويعلف دوابهم ، ولم يقل في شيء يسأله : لا. فقيل له : إن في قولك أنظر عدة ما ، يقيم عليها الطالب فقال : لا أعوّد لساني شيئا لم أعتده وقال :

ضمنت لكم إن لم تعقني عوائق

بأن سماء الضر عنكم ستقلع

سيوشك إلحاق معا وزيادة

وأعطية مني عليكم تبرّع

محرّمكم ديوانكم وعطاؤكم

به يكتب الكتاب شهرا وتطبع

وقد بلغ بنو أمية في عهد الوليد أقصى درجات عزهم ، واعتز بحكمه الإسلام والمسلمون ، وفتحت الفتوح العظام وتغلغلت جيوشه في أرض الترك والروم والهند ، وفتحت الأندلس وجاء فاتحها موسى بن نصير الى دمشق يضع بين يدي الخليفة الأموال والجواهر ، ويعرض أبناء ملوك البربر والجزائر والروم والإسبان والإفرنج يلبسون تيجانهم ، ويقف أبناء ملوك أوروبا في باب الخليفة الأموي بحالة الأسر. وبعث الوليد أخاه مسلمة

١٢٢

لغزو الروم فقتل منهم أربعين ألف رجل ، وغزا قلقية وفتح فيها حصونا كثيرة بالأمان ، وحمل أهلها الى الشام وفتح أمسية وحصونا كثيرة.

سليمان بن عبد الملك :

توفي الوليد سنة ٩٦ فبويع أخوه سليمان بن عبد الملك سابعهم ، وكان حسن السيرة فصيحا مفوّها ، أتته بيعة الأجناد وهو بالبلقاء فأتى القدس وأتته الوفود بالبيعة ، فلم ير الناس وفادة أحسن منها ، جلس في قبة صحن المسجد ، وقد بسطت البسط لديه والنمارق عليها والكراسي ، فجلس وأذن للناس أن يجلسوا على الكراسي والوسائد ، والى جانبه الأموال والكساوي وآنية الذهب والفضة والدواوين ، فيدخل وفد الجند ويتقدم صاحبهم فيتكلم عنهم وعمن قدموا من عنده ويقول : إن من جندنا كذا ومن حاجتهم كذا وكذا ومما يصلحهم كذا ، فيأمر سليمان بذلك كله.

ردّ المظالم وعزل عمال الحجاج ، وأخرج من كان في سجن العراق ، وأعتق سبعين ألف مملوك ومملوكة وكساهم ، وكانت أيامه ذات فتوح متوالية ، جاء الخبر الى سليمان بن عبد الملك أن الروم خرجت على ساحل حمص ، فسبت امرأة وجماعة ، فغضب سليمان وقال : والله لأغزونهم غزوة افتتح بها القسطنطينية أو أموت دون ذلك ، فأغزى جماعة أهل الشام والجزيرة والموصل في البر في نحو مائة وعشرين ألفا ، وأغزى أهل مصر وإفريقية في البحر في ألف مركب ، وعلى جماعة الناس مسلمة بن عبد الملك ، وأغزى داود بن سليمان في جماعة من أهل بيته ، وقدم سليمان من القدس الى دمشق ، ومضى حتى نزل مرج دابق فأمضى البعث وأقام بالمرج. واتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز وزيرا وأوصى له سليمان بالخلافة ، فسمي سليمان مفتاح الخير لاستخلافه عمر بن عبد العزيز.

عهد عمر بن عبد العزيز وسيرته :

لما تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز أوائل سنة تسع وتسعين أبطل سب علي رضي‌الله‌عنه على المنابر ، وكان من العادة سبه عقيب كل خطبة

١٢٣

منذ عهد معاوية بن أبي سفيان الذي قدم الخطبة على صلاة الجمعة ، لأن الناس كانوا يكرهون سماع اللعن ، فكانوا إذا أدوا الصلاة خرجوا من المسجد. أراد معاوية من ذلك كما قال ابن أبي الحديد : «تشييد الملك وتأكيد ما فعله الأسلاف ، وأن يقرر في أنفس الناس أن بني هاشم لاحظ لهم في هذا الأمر ، وأن سيدهم الذي به يصولون ، وبفخره يفخرون ، هذا حاله وهذا مقداره ، فيكون من ينتمي إليه ويدلي به عن الأمر أبعد ، وعن الوصول إليه أشحط وأنزح». على أن الطالبيين كانوا يقنتون عقيب كل صلاة ويلعنون أيضا بني أمية.

وكتب عمر بن عبد العزيز الى نوابه بإبطال السب وكانوا يقولون : لعن الله أبا تراب. ولما خطب يوم الجمعة ، أبدل السب في الخطبة بقوله تعالى : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا ، رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ). وقيل: بل جعل مكان ذلك قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). فاستمر الخطباء على قراءتها الى هذا اليوم ، وشكر سعيه كل عاقل. وردّ عمر بن عبد العزيز المظالم ، وسار سيرة عمر بن الخطاب جده لأمه ، واستعمل أصلح من قدر عليه ، فسلك عماله طريقته ، واستدعى الجيش الإسلامي من حصار القسطنطينية ساعة ولي الخلافة حقنا لدماء المسلمين ، وكان قد بلغ منهم الجهد ، ولم يغفل مع ذلك عن غزو الروم عند الاقتضاء الشديد. ولو طال أجله لأجلى المسلمين عن الأندلس لأنه رأى مقامهم فيها غير طبيعي لإحاطة الأعداء بهم ، وردّ جيوش المسلمين من الشرق ومنعهم من التوغل فيه قائلا : يكفي ما فتح الله على المسلمين من الفتوح.

ويرجع الفضل في العهد لعمر بن عبد العزيز الى سليمان بن عبد الملك الذي عرف بحكمته أن ابن عبد العزيز أعدل رجل وأعقل رجل في بني أمية ، فعهد إليه بالخلافة فأحسن للأمة وأي إحسان ، وحنق عليه بعض المتلاعبين من أهل بيته فسقوه السم فيما قيل فهلك سنة ١٠١ ، وخلافته

١٢٤

سنتان وخمسة اشهر. وكانت سيرة عمر بن عبد العزيز مضرب الأمثال في القاصية والدانية ، وقدوة السلف للخلف في كل عصر ومصر. قال عمرو ابن ميمون : كانت العلماء مع عمر بن عبد العزيز تلامذة.

بعث عمر بن عبد العزيز وفدا الى ملك الروم في أمر من مصالح المسلمين وحق يدعوه إليه ، فلما دخلوا إذا ترجمان يفسر عليه ، وهو جالس على سرير ملكه والتاج على رأسه ، والبطارقة عن يمينه وشماله ، والناس على مراتبهم بين يديه ، فأدى إليه ما قصدوا له فتلقاهم بجميل وأجابهم بأحسن جواب وانصرفوا عنه في ذلك اليوم ، فلما كان في غداة غد أتاهم رسوله فدخلوا عليه ، فإذا هو قد نزل عن سريره ووضع التاج عن رأسه ، وقد تغيرت صفاته التي شاهدوه عليها كأنه في مصيبة فقال : هل تدرون لما ذا دعوتكم؟ قالوا لا : قال : إن صاحب مسلحتي التي تلي العرب جاءني كتابه في هذا الوقت أن ملك العرب الرجل الصالح قد مات ، فما ملكوا أنفسهم أن بكوا فقال : لا تبكوا له وابكوا لأنفسكم ما بدا لكم. فإنه قد خرج الى خير مما خلف. قد كان يخاف أن يدع طاعة لله فلم يكن الله ليجمع عليه مخافة الدنيا والآخرة. لقد بلغني من بره وفضله وصدقته ما لو كان أحد بعد عيسى يحيي الموتى لظننت أنه يحيى الموتى ، ولقد كانت تأتيني أخباره باطنا وظاهرا فلا أجد أمره مع ربه إلا واحدا ، بل باطنه أشد حين خلوته بطاعة مولاه. ولم أعجب لهذا الراهب الذي قد ترك الدنيا وعبد ربه على رأس صومعة ، ولكني عجبت لهذا الراهب الذي صارت الدنيا تحت قدمه فزهد فيها حتى صار مثل الراهب ، إن أهل الخير لا يبقون مع أهل الشر إلا قليلا.

يزيد بن عبد الملك وهشام والوليد بن يزيد :

تولى الخلافة يزيد بن عبد الملك تاسع الأمويين ، وقد لقب الوليد وسليمان ويزيد وهشام أبناء عبد الملك بالأكبش الأربعة ، ولم يل الخلافة من بني أمية ولا من غيرهم أربعة إخوة إلا هؤلاء. فعزل يزيد عمال عمر بن عبد العزيز جميعا وأعاد سب عليّ على المنابر ، ودام ذلك الى

١٢٥

انقضاء أمر بني مروان ، يربو عليها الصغير ويهرم الكبير ، ولم يكن يزيد بن عبد الملك بالخليفة الذي تحمد سيرته كثيرا ، وتوفي بعد أن تولى الخلافة أربع سنين وشهرا وعهد بها الى أخيه هشام وهو عاشرهم ، وكان هشام يحب جمع المال وعمارة الأرض واصطناع الرجال وتقوية الثغور وإقامة البرك والقني في طريق مكة وغير ذلك. وكان لا يدخل بيت ماله مال حتى يشهد أربعون قسامة لقد أخذ من حقه وأعطي لكل ذي حق حقه. وظهر في أيامه بخراسان سليمان بن كثير الخزاعي وأصحابه يدعون الى بني هاشم سنة ١١١ فانتشرت دعوتهم وكثر من يجيبهم ، وأرادوا خلع بني أمية وبيعة بني هاشم ، فقاتلهم وقاتل الخوارج على ملكه في أقطار أخرى ، وكان قد بلغ ملك بني أمية فارس والسند وشمالي إفريقية والأندلس.

وغزا هشام وهو من أحزم بني أمية الروم مرات وأسر قسطنطين ملكهم وحارب الترك كما حاربهم من قبله من الخلفاء وتوفي سنة ١٢٥ فبويع بعده للوليد بن يزيد فاضطربت المملكة في عهده ، لأنه كان مهملا قليل العناية بأطرافه وقيل : إنه كان صاحب ملاه «وضم ذلك الى ما ارتكبه من إغضاب أكابر أهله والإساءة إليهم وتنفيرهم فاجتمعوا عليه مع أعيان رعيته وهجموا عليه وقتلوه» بعد سنة وخمسة أشهر من ولايته «وكانت تتابعت منه فعال أنكرها الناس عليه فدب يزيد بن الوليد في الدعاء الى خلعه فأجابته اليمن بأسرها وعاضدوه ووثبوا معه على عامل الوليد بدمشق فأجابوه وبايعوا يزيد ثم ساروا الى الوليد فقتلوه».

وكان اجتمع من بأقطار الشام من اليمانية فخرج اليهم الوليد بمضر واقتتلوا ، وأثخنت اليمانية القتل في مضر فانهزمت مضر وأخذوا نحو دمشق ، ودخل الوليد قصره فتحصن فيه فبايعوا يزيد بن الوليد وبايعه أشراف المضريين طوعا وكرها وخلعوا الوليد بن يزيد فلبث مخلوعا أياما كثيرة وهو خليع بني أمية ثم قتلوه.

وفي سنة ١٢٦ اضطرب أمر بني أمية وهاجت الفتنة ، فكان من ذلك وثوب سليمان بن هشام بن عبد الملك بعد قتل الوليد بعمان ، وكان قد حبسه الوليد بها ، فخرج من الحبس وأخذ ما كان بها من الأموال وأقبل

١٢٦

الى دمشق. وفي هذه السنة أمّر الوليد بن يزيد على جيوش البحر ، الأسود بن بلال المحاذي وسيره الى قبرس ليخير أهلها بين المسير الى الشام أو الى الروم ، فاختارت طائفة جوار المسلمين فسيرهم الى الشام ، واختار آخرون الروم فسيرهم إليهم وأسكنهم الماحوز (١) على ساحل البحر بين صور وصيدا.

يزيد بن الوليد :

وكان من أمر يزيد بن الوليد وهو ثاني عشر خلفائهم أن نقص الناس من عطائهم فسمي يزيد الناقص ، وكان الخليفة من بني أمية إذا مات وقام آخر زاد في أرزاقهم وعطاياهم عشرة دراهم فيقولون : عير بعير وزيادة عشرة.

اضطربت البلدان على يزيد ولما قتل خرج أهل حمص وأغلقوا أبواب المدينة وأقاموا النوائح والبواكي عليه وطالبوا بدمه ، وقتلوا مروان بن عبد الله بن عبد الملك وكان عامل الوليد على حمص وهو من سادة بني مروان نبلا وكرما وعقلا وجمالا ، ولما أجمع الحمصيون على محاربة يزيد بدمشق جهز جيشا قاتلهم قريبا من ثنيّة العقاب فانهزم الحمصيون واستولى على المدينة وأخذ البيعة عليهم. قال الدينوري معللا سر قيام الحمصيين : إن المضرية تلاومت فيما كان من غلبة اليمانية عليها ، وقتلهم الخليفة الوليد بن يزيد فدبّ بعضهم الى بعض ، واجتمعوا من أقطار الأرض ، وساروا حتى وافوا مدينة حمص وبها مروان بن محمد بن مروان ابن الحكم وكان يومئذ شيخ بني أمية وكبيرهم وكان ذا أدب كامل ، ورأي فاضل ، فاستخرجوه من داره وبايعوه وقالوا له : أنت شيخ

__________________

(١) في الحديث : فلم نزل مفطرين حتى بلغنا ماحوزنا (بالزاي) قيل : هو موضعهم الذي أرادوه. وأهل الشام يسمون المكان الذي بينهم وبين العدو وفيه أساميهم ومكاتبهم ماحوزا قاله في النهاية ويقول المقدسي : إن رباطات هذه الكورة (اي فلسطين) التي يقع بينهن الغداء غزة ميماس عسقلان ماحوز أزدود ماحوز يبنا يافه ارسوف.

١٢٧

قومك وسيدهم فاطلب بثأر ابن عمك الوليد بن يزيد. فاستعد مروان بجنوده في تميم وقيس وكنانة وسائر قبائل مضر وسار نحو مدينة دمشق.

ولما بويع يزيد بن الوليد خطب وذكر الوليد بن يزيد فقال على رواية ابن الطقطقي : إن سيرته كانت خبيثة وكان منتهكا لحرمات الله فقتلته ثم قال : أيها الناس إن لكم عليّ أن لا أضع حجرا فوق حجر ، ولا لبنة على لبنة ، ولا أكري نهرا ، ولا أكنز مالا ، ولا أنقل مالا من بلد الى بلد حتى أسد ثغره ، وخصاصة أهله بما يغنيهم ، فما فضل منه نقلته الى البلد الآخر الذي يليه ، ولا أغلق بابي دونكم ، ولكم أعطياتكم في كل سنة ، وأرزاقكم كل شهر ، حتى يكون أقصاكم كأدناكم ، فإن وفيت لكم ما قلت فعليكم بالسمع والطاعة وحسن المؤازرة ، وإن لم أف فلكم أن تخلعوني ، إلا أن أتوب ، وإن كنتم تعلمون أن أحدا ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه ما قد بذلت لكم ، وأردتم أن تبايعوه ، فأنا أول من يبايعه معكم ، إنه لا طاعة لمخلوق ، في معصية الخالق.

وخرج على يزيد بن الوليد بشر بن الوليد بقنسرين وعمر بن الوليد ويزيد بن سليمان بفلسطين ، ووجه الى الأردن أخاه إبراهيم ولي عهده ، وقد أمروا عليهم محمد بن عبد الملك فاستمال الثائرين بالمال فتفرقوا ، وكانت ولايته خمسة أشهر والفتنة في جميع الملكة عامة ، وقتل أهل حمص عاملهم عبد الله بن شجرة الكندي وكانوا انتخبوه واليا على جندهم ، ولما توفي يزيد بن الوليد ملك إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك فامتنع أهل حمص من البيعة فجاءهم الجند من دمشق وحاصرهم.

مروان بن محمد :

وقدم مروان بن محمد بن مروان من إرمينية خالعا ليزيد بن الوليد ، فلما صار بحران دعا الى نفسه فبايع له أهل الجزيرة سرا ، وأقبل في جموع من أهل الجزيرة ، فلقي بشرا ومسرورا ابني الوليد بن عبد الملك معسكرين بحلب فهزم عسكريهما وأسرهما ، ثم مضى حتى أتى حمص ، وبلغ إبراهيم الخبر فوجه إليه سليمان بن هشام ، وكان سليمان في مائة وعشرين ألفا ،

١٢٨

فلقي مروان وكان في ثمانين ألفا ومن معه من أهل الجزيرة وقنسرين وحمص فالتقوا بعين الجر فتناوشوا القتال (١٢٧) وانصرف بعضهم عن بعض ، فلما كان من الغد انهزم سليمان بن هشام وأصحابه فلحقوا بإبراهيم وأقبل مروان فبايع له أهل دمشق ودخلها فخلع إبراهيم نفسه وبايع لمروان. وقد قتل في وقائع عين جر وما تقدمها وتأخر عنها ثمانية عشر ألف مقاتل. وروى الطبري أنه لما قيل قد دخلت خيل مروان دمشق هرب إبراهيم بن الوليد وتغيب ، فأنهب سليمان ما كان في بيت المال وقسمه فيمن معه من الجند ، وخرج من المدينة ، وثار من فيها من موالي الوليد بن يزيد الى دار عبد العزيز بن الحجاج فقتلوه ، ونبشوا قبر يزيد بن الوليد وصلبوه على باب الجابية ، ودخل مروان دمشق فنزل دير العالية من ضواحيها.

ولما ملك مروان بن محمد كتب الى عمال البلدان فأتته كتبهم بالسمع والطاعة ، ولم يلبث إلا ثلاثة أشهر حتى أتاه الخبر أن أهل حمص مقيمون على المعصية ، فسار إليهم فحاصرهم حتى فتح المدينة ، وقاتل الثائرين وقتل خمسمائة أو ستمائة صلبوا حول مدينة حمص ، وهدم من حائطها نحوا من غلوة. وثار أهل الغوطة فولوا عليهم يزيد بن خالد القسري وحصروا دمشق وأميرها زامل بن عمرو ، فوجه إليهم مروان من حمص أبا الورد بن الكوثر في عشرة آلاف ، فلما دنوا من المدينة خرج عليهم من فيها فانهزموا واستباح أهل مروان عسكرهم وأحرقوا المزة وقرى من اليمانية ، وأخذ يزيد بن خالد فقتل ، وخرج ثابت بن نعيم الجذامي بناحية الأردن فوجه إليه جيشا. وكان مروان عند دخوله دمشق ترك لأهل كل جند من أجناد الشام أن يختاروا عمالهم فوقع اختيارهم على هؤلاء العمال الذين ثاروا بهم بعد على مروان ، وممن ثار سليمان بن هشام في أهل حمص وقنسرين ، وقصد حمص فحصنها فبايعه أصحابه بالخلافة ، وخرجوا قاصدين مروان وكمنوا له في طريقه في قرية تعرف بتل مير من عمل معرة النعمان فالتقى العسكران وقتل منهما خلق كثير فانهزم سليمان الى حمص ، فجاء مروان

١٢٩

إليها وحاصرها ثانية عشرة أشهر ثم صالحها وتسلمها ، وكان سليمان بن هشام في سبعين ألفا وقتل زهاء ثلاثين ألفا.

إدبار الأمويين :

وما زالت الحال على ذلك حتى استقامت لمروان الشام كلها ، ثم قوي أمر أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة العباسية بخراسان ، ودعا علنا لبني هاشم وقتل عسكر الأمويين ، ولما بايعوا بالخلافة في الكوفة لأبي العباس سرا وجه عمه عبد الله بن علي لقتال مروان ، وكان مع مروان مئة ألف مقاتل ولا يكون مع عبد الله بن علي إلا الأقل من ذلك ، فلقيه بالزاب قرب الموصل ، فحاربه عبد الله بن علي فهزمه ، ثم لم يزل في إثره وهو منهزم لا يلوي على شيء حتى أخرجه الى الجزيرة ، ثم أخرجه من الجزيرة الى الشام ، فجعل مروان لا يمرّ بجند من أجناد الشام إلا انتهبوه ، فلما اجتاز بقنسرين وحاضر حلب أوقعت تنوخ القاطنة بقنسرين بساقته ووثب أهل حمص وقالوا : مرعوب منهزم ، فاتبعوه بعدما رحل عنهم فلحقوه على أميال فناشدهم فأبوا إلإ مكاثرته وقتاله ، فنشب القتال وأثار كمينين من خلفهم وكان قد نصبهما فهزمهم وقتلتهم خيله.

وسار مروان الى دمشق فوثب به الحارث بن عبد الرحمن الحرشي ، ثم أتى الأردن فوثب به هاشم بن عمر العنسي والمذحجيون أي اليمانيون جميعا ، ثم مرّ بفلسطين فوثب به الحكم بن ضبعان بن روح بن زنباع لما رأوا من إدبار الأمر عنه. قال الدينوري : جعل مروان يستقري مدن الشام فيستنهضهم فيروغون عنه ويهابون الحرب فلم يسر معه منهم إلا قليل.

قالوا : ولما صار مروان الى دمشق وهو مضمر أن يتحصن بها لو لا ما انتهبه أهلها ووثب عليه من بها من قيس فدخلها عبد الله بن علي العباسي عنوة ، ومضى مروان الى فلسطين هاربا حتى جاء مصر ، فقاتل مروان في قرية بوصير قرب القاهرة حتى قتل وذلك في ذي الحجة ١٣٢ ، وبموته انقرض ملك بني أمية في المشرق وهو الرابع عشر من خلفائهم. وكان من رأيه أن

١٣٠

يقطع الدرب وينزل بعض حصون الروم ويكاتب ملكها ويجمع عليه رجاله وشيعته الى أن يرتئي في أمره ، ولكن حمّ القضاء ولا رادّ لحكمه.

دولة بني مروان وحسناتها :

انقضت دولة بني مروان ، وكانت دولة عربية صرفة سارت مع المدنية أشواطا مع انشغالها بالفتح وقيام الخارجين عليها ، ولم يبطلوا في كل دور غزو الروم ، وكانوا على الأكثر يسبون ويقتلون ويغنمون ويخربون حصونهم ، والروم يغزون الشام وآسيا الصغرى وقد يصلون الى أنطاكية ودلوك (مرعش). وكان أكثر ملوك الأمويين من الحزم والعلم وحسن السياسة والإدارة على جانب عظيم ، والسواس منهم معاوية وعبد الملك وهشام ، وليس كالوليد في باب الاضطلاع بإقامة المصانع ، ولا مثل عمر ابن عبد العزيز في تطهير المملكة من المظالم وإحياء سنن العدل والمراحم ، ولا كسليمان ببعد النظر ، وما منهم إلا العالم والشاعر والخطيب والسياسي ، وقد فتحت عليهم الأقطار فنشروا فيها اللغة والدين على أيسر سبيل ، وهذا مما لم يوفق إلى مثله غيرهم ، ووضعوا أسس النظام في الممالك التي دوخوها وعرفوا ما يصلحها ، وكانت إرادتهم أشبه باللامر كزية في عهدنا ، يبعثون بالعامل فيحل المسائل باجتهاده على رأي أهل الشرف والمكانة في القطر الذي يتولاه ، ولا يفاوض مقر الخلافة إلا في عويص الأمور ، وقد نصب علم الأمويين الأبيض في المشارق والمغارب ، نصب في الصين كما نصب في بواتيه في فرنسا ، هذا وقد كثر المخلصون لدولتهم الى أواخر أيامهم وقل المنتقضون عليهم المتوثبون على خلافتهم.

للدول كما للأفراد أعمار طبيعية. وملك بني أمية لم يطل أكثر من ألف شهر كاملة لأنهم ملكوا تسعين سنة وأحد عشر شهرا وثلاثة عشر يوما ، يوضع من ذلك أيام الحسن بن علي وهي خمسة أشهر وعشرة أيام ، وأيام عبد الله بن الزبير الى الوقت الذي قتل فيه وهي سبع سنين وعشرة أشهر وثلاثة أيام ، فيصير الباقي بعد ذلك ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر.

ذهب بنو أمية بالفضل في جمع الشمل ، ولو لا قيامهم هذا القيام

١٣١

المحمود يحدوه الانتباه لكل ما يعلي شأن دولتهم. لما ثبتت الدولة الإسلامية هذا الثبات الذي استغرب منه الخبر والخبر. قال المقريزي : أظهر الرسول بني أمية لجميع الناس بتوليتهم أعماله مما فتح الله عليه من البلاد ، فقوي ظنهم وانبسط رجاؤهم وامتد في الولاية أملهم ، وضعف أمل بني هاشم وانقبض رجاؤهم وقصر أملهم. قال : وقد ظهر لي أن ولاية رسول الله بني أمية الأعمال كانت إشارة منه الى أن الأمر سيصير إليهم. قال : إنه عليه‌السلام توفي وثلاثة أرباع عماله منهم.

وطد مؤسس ملك الأمويين السلطان بالشام وبجند من أهله قاتل هو وأخلافه ، واشتهر جند الشام بالطاعة حتى تمنى علي بن أبي طالب لو يقايض على عشرة من جنده بواحد من جند معاوية ، فقال في إحدى خطبه : «لوددت والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم ، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلا منهم». فتحت هذه الفتوح بنفس قوية وعقول راجحة وسياسة حازمة ، وقاتل زعماؤهم وأبناؤهم بل بناتهم ونساؤهم حتى فتحوا الشام. وكان من جملة توفيق معاوية أنه عرف طبائع هذا القطر وخصائصه من أبيه وآله وكانت لهم به علائق كثيرة في الجاهلية ، ثم درس أحواله بنفسه فكان يعرف قوته معرفة حقيقية ، ولذلك لم ينل منه علي بن أبي طالب منالا لأنه كان أخذ لهذا الأمر عدته وتدبره ودبّره كان يأخذ بآراء أشراف القوم والنزول على حكم وفود الأرجاء ، وكانت وفودهم تشبه ما يسميه الإفرنج بمجالس الولايات ، وكان لمعاوية وآل بيته مجالس يعقدونها في المسجد الجامع تدور حول سياسة الأمة في الأكثر ، وخطاب الخليفة يوم الجمعة بمثابة ما نسميه في عرف سياسة اليوم خطاب العرش ، ومجالسهم أشبه بمجالس النواب والشيوخ والولايات ، فلم يكونوا الى الاستبداد بالرأي في معظم حالاتهم.

وفي الحق أن معاوية بن أبي سفيان أورث الإسلام مجدا ، وأولى العرب عزّة ومنعة ، وكان العربي حيث نزل من الأرض محترما ، مرعي الجانب آمنا على نفسه وحقه ، ولم يوفق الى ذلك إلا بحسن السياسة وصائب التدبير. ذكر المسعودي ، وهو من المنحرفين عن بني أمية ، أن

١٣٢

المسلمين غزوا في أيام معاوية فأسر جماعة منهم ، فأوقفوا بين يدي الملك فتكلم بعض أسارى المسلمين ، فدنا منه بعض البطارقة ممن كان واقفا بين يدي الملك فلطم حرّ وجهه فآلمه ، وكان رجلا من قريش فصاح : وا إسلاماه ، أين أنت عنا يا معاوية إذ أهملتنا ، وضيعت ثغورنا ، وحكمت العدو في ديارنا ودمائنا وأعراضنا. فنمي الخبر الى معاوية وغضب وأقام الفداء بين المسلمين والروم وفادى بذلك الرجل ، فلما صار الى دار الإسلام دعاه فبرّه وأحسن اليه. وبعث الى رجل من ساحل دمشق من مدينة صور وكان به عارفا كثير الغزوات في البحر ، صملّ (١) من الرجال مرطان بالرومية ، وأعطاه كل ما طلب ، وهيأ له مركبا وأوعز إليه أن يتظاهر بأنه يتاجر مع روم القسطنطينية ، وما زال على ذلك سنين حتى أسر الصوريّ البطريق الرومي الذي كان لطم القرشي وأتى به الى معاوية في قصة طويلة. فقال معاوية : عليّ بالرجل القرشي فأتي به وقد حضر خواص المسلمين وقال له : قم واقتص من هذا البطريق الذى لطم وجهك على بساط معظم الروم فإنا لم نضيعك ولا أبحنا دمك وعرضك ، فقام القرشي ودنا من البطريق فقال له معاوية : انظر لا تتعدّ ما جرى عليك منه. وانقلب القرشي على يدي معاوية وأطرافه يقبلها وقال : ما أضاعك من سوّدك ، ولا خاب فيك أمل من أمّلك ، أنت ملك لا تستضام ، تمنع حماك وتصون رعيتك. وأحسن معاوية الى البطريق وحمل معه هدايا الى الملك وقال له : ارجع الى ملكك وقل له : تركت ملك العرب يقيم الحدود على بساطك ، ويقتص لرعيته في دار مملكتك وسلطانك ، فقال ملك الروم : هذا أمكر الملوك وأدهى العرب. ولهذا قدمته العرب عليها فساس أمورها والله لو همّ بأخذي لتمت له الحيلة عليّ.

قواد الأمويين وأسباب انقراضهم :

نشأ للأمويين رجال عظام في الحرب والسياسة والحكم ، مثل زياد بن

__________________

(١) الصمل : كعتل الرجل الشديد الخلق العظيم. والرطانة (بالفتح ويكسر) الكلام بالعجمية ورطن له رطانة وراطنه كلمه بها وتراطنوا تكلموا بها والمرطان الذي يتكلم بالعجمية.

١٣٣

أبي سفيان وعتبة بن أبي سفيان وموسى بن نصير وطارق بن زياد وقتيبة بن مسلم وعقبة بن نافع الفهري وبسر بن أبي أرطاة وشرحبيل بن السمط وحبيب بن مسلمة ومسلمة بن عبد الملك وأسد بن عبد الله وعبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي ومالك بن عبد الله الذي كان أميرا على الجيوش في غزوة الروم أربعين سنة أيام معاوية وقبلها وأيام يزيد وأيام عبد الملك بن مروان ولما مات كسر على قبره أربعون لواء لكل سنة غزاها لواء. وروح بن زنباع وزفر بن الحارث الكلابي والجراح بن عبد الله الحكمي وحبيش بن دلجة القيني وحسان بن مالك بن بحدل الكلبي وميمون بن مهران وخالد ابن عبد الله بن خالد بن أسيد وعمر بن عبيد الله بن معمر وخالد بن عبد الله القسري وعثمان بن الوليد ويزيد بن المهلب والمهلب بن أبي صفرة وعمرو بن هبيرة الفزاري وعبد الله بن أبي بكرة والقاسم بن محمد الثقفي والعباس بن الوليد ومروان بن الوليد وخالد بن كيسان وعبد الله ابن عقبة بن نافع ومعاوية بن هشام وعبد الرحمن بن معاوية بن خديج وإسحاق بن مسلم العقيلي ونصر بن سيار وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ومعاوية بن حديج وعبد الرحمن بن حبيب وزهير بن قيس البهلوي وحسان بن النعمان وميسرة بن مسروق العبسي وعبد الله بن قيس ومالك ابن هبيرة السكوني وفضالة بن عبيد الأنصاري وسفيان بن عوف وعبد الله ابن مسعدة الفزاري وجنادة بن أمية الأزدي ومحمد بن مالك وعمرو بن مرة الجهني وعلقمة بن يزيد الأنصاري والضحاك بن قيس ويزيد بن شجرة وعياض بن الحارث والمخارق بن الحارث الزّبيدي وزامل بن عمر العذري وأبو الأعور السلمي عمرو بن سفيان وسبيع بن يزيد الأنصاري ويزيد بن الحر العبسي وعلقمة بن حكيم الكناني ويوسف بن عمر ومحمد بن القاسم الثقفي ومالك بن عبد الله الخثعمي وحمزة بن مالك الهمداني وغيرهم.

دوّخ هؤلاء القواد الأقطار على بعد المواصلات مع مركز الخلافة وفتحوا الفتوح العظام بهمة لم تعرف الملل ، وأدخلوا فيها نظامهم وعاداتهم وأداروها أي إدارة ، فامتد ملك الأمويين كما قال أحد كتاب الإفرنج من أقاصي جبال هملايا في الشرق الى أداني جبال الألب في الغرب ، ثم انحلت هذه

١٣٤

المملكة المساوية تقريبا لمملكة قياصرة رومية على وجه غريب من السرعة.

وكان مروان بن محمد الجعدي الذي لقب بالحمار لصبره على الحرب من أمثل خلفائهم وكان «سديد الرأي ميمون النقيبة حازما ، فلما ظهرت المسوّدة ولقيهم كان ما يدبّر أمرا إلا كان فيه خلل». فما السريا ترى في انحلال هذا الملك الضخم والقوة تدعمه وفيه أفراد أفذاذ مثلوا النبوغ العربي أجمل تمثيل لا تستطيع دولة من دول الحضارة الحديثة أن تقوم بأحسن منه ، مع اعتبار الفرق بين عصر الدولة الأموية وهذا العصر؟. نظن السر في ذلك أن بني العباس كانوا قد أجمعوا أمرهم وهيأوا أسباب قيام دولتهم على صورة متينة جدا ، وكان منشؤها من خراسان والعراق وهما القطران اللذان أفحش القتل فيهما الحجاج بن يوسف الثقفي حتى قتل من أهل العراق مئة وعشرين ألفا مدة حكمه ، واشمأز الناس من بني أمية بسببه وسبب من يستسهلون من قوادهم إهراق الدماء فكثرت الأحقاد والحفائظ ونغلت نيات الأمة ، واختلف الأمويون بينهم وأصبحوا في هرج يقتل بعضهم بعضا.

وقد نسب الخضري أسباب سقوط دولة بني أمية الى استيلائهم على الخلافة بالقهر والغلبة لا عن رضا ومشورة ، فإن معاوية بن أبي سفيان استعان بأهل الشام الذين كانوا شيعته ، على من خالفه من أهل العراق والحجاز حتى تم له الأمر ورضي الناس عنه ، والقلوب منطوية على ما فيها من كراهية ولايته ، وكان في الأمة فريقان لا يرضيان عنه : الخوارج وشيعة بني هاشم ، واستعمل ضروب السياسة مع رؤساء العشائر وكبار الشيعة فألان شكيمتهم وأسكن ثورتهم. ومن رأيه أن معاوية زل زلة كبرى قللت من قيمة عمله وهي اهتمامه بالغض من علي بن أبي طالب على منابر الأمصار هو وأمراؤه حتى تأججت النيران في صدور شيعته وأن عدة عيوب كانت سببا في القضاء عليهم. الأول : مسألة ولاية العهد ، فإن بني مروان اعتادوا أن يولوا عهدهم اثنين يلي أحدهما الآخر ، فانشق بيتهم على نفسه. الثاني : إحياء العصبية الجاهلية التي جاء الإسلام مشددا النعيّ عليها. الثالث : تحكيم بعض الخلفاء من بني أمية آهواءهم في أمر قوادهم

١٣٥

وذوي الأثر الصالح من شجعان دولتهم ، ففسدت قلوب الناس ، حتى كانوا ينتظرون من يجمع كلمتهم على الانتقام من بني أمية.

وعلل رفيق العظم سقوط الدولة الأموية بارتكاب الأمويين أغلاطا منها المبالغة باضطهاد العلويين ، وتسميم أبي هاشم بأمر سليمان بن عبد الملك ، ومنها أنهم فقدوا أعاظم الرجال الذين كانوا يخدمون بإخلاص ، فأخرجوا خالد بن عبد الله وقتيبة بن مسلم ويزيد بن المهلب وموسى بن نصير ففقدت الدولة بفقدهم وفقد أمثالهم جانبا لا يقدر من قيمتها وانحطت هيبتها ، ومنها تباعد أطراف مملكتهم حتى تعذر ضبطها مع صعوبة المواصلات ، وأن الأمويين حافظوا على خشونتهم الى خلافة هشام ، وأخذ الخلفاء بعد الوليد بن يزيد يميلون الى الترف والراحة ، يضاف الى ذلك انقسام العرب في خراسان الى مضرية ويمانية وتنازع رؤسائهم. قال : إن ما يقوله بعض المؤرخين من ظلم الدولة الأموية ويعزى إليه دمارها فمبالغ فيه وما كان منه صحيحا فهو في نظر المؤرخ ثانوي. والحقيقة أن الخلفاء الأمويين كانوا أشداء على خصومهم دون سائر الناس ، وكانوا في منزلة من العناية بالرعية والاهتمام بالعدل بين الناس فوق منزلة كثير من الحكومات المطلقة.

سئل بعض شيوخ بني أمية عقيب زوال الملك عنهم ، ما كان سبب زوال ملككم؟ فقال : جار عمالنا على رعيتنا فتمنوا الراحة منا ، وتحومل على أهل خراجنا فجلوا عنا ، وخربت ضياعنا فخربت بيوت أموالنا ، ووثقنا بوزرائنا فآثروا مرافقهم على منافعنا ، وأمضوا أمورا دوننا أخفوا علمها عنا ، وتأخر عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا ، واستدعاهم عدونا فظاهروه على حربنا ، وطلبنا أعداؤنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا ، وكان استتار الأخبار عنا من أوكد أسباب زوال ملكنا.

قد يغتر بعض من لم يساعدهم الوقت أن يمحصوا الحقائق ليصلوا الى لباب التاريخ الصحيح ، فيأخذون روايات بعض المؤرخين الذين كتبوا بعوامل المذاهب السياسية أو نقلوا الأخبار على علاتها كما رأوها في مصادر ضعيفة وأخذوها قضية مسلّمة ، من ذلك الطعن في أخلاق يزيد بن معاوية ، فإن الروايات المنقولة في هذا الشأن لو نقدت نقدا صحيحا لرأينا أنها مدخولة

١٣٦

على الأكثر أملتها أهواء الخصماء ، ولطالما رأينا الناس إذا أرادوا النيل من أحد العظماء ينخدعون بأقوال يلفقها عليهم خصومهم ، وربما نسبوا لبعضهم الفسق والفجور وأكل الأموال بالباطل ، وهم من أكمل الناس أخلاقا وفضلا. إذا سلمنا أن معاوية أخطأ بحسب ما يقوله الفريق المعتدل بتوسيده الخلافة الى يزيد وفي العرب يومئذ من هم أفضل منه فإنه كان يعتقد أن ابنه يصلح للخلافة وأن قوة الأمة مجتمعة على آل أبي سفيان. والدليل أنه كان إذا عرض لمعاوية مشكلة من المشكلات بعث الى يزيد يستعين به على استيضاح شبهاتها واستسهال معضلاتها ، فلم يكن يزيد إذا بالصورة التي صورها بها أعداؤه. خطب معاوية فقال : «اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فضله فبلغه ما أملت وأعنه ، وإن كنت إنما حملني حب الوالد لولده وأنه ليس لما صنعت به أهلا فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك».

قال الطبري : إن يزيد كان صاحب رسلة أي كسل وتهاون ، وإنه كف عن كثير مما كان يصنع أي لما وسدت إليه الخلافة. وقال غيره : إن يزيد كان يحب الصيد ويربي القرود والكلاب مما عدوه عليه. وهذا لا يقدح في العدالة ، بل ربما كان مما يعين على الجهاد لترويضه الجسم والذهن ، أما الفسق والفجور فلم يثبت من طريق مؤتمن ، فإذا فرضنا أن معاوية أخطأ في إعطائه ولاية العهد لابنه بطرق استعمل فيها بعض الشدة ، وأن يزيد ارتكب عماله من قتل آل بيت الرسول أمرا نكرا فلا يجوز من ذلك الطعن بشخصيات كبيرة ، والعقل يستبعد التصديق بما قاله خصوم بني أمية عنهم ، ولو كان يزيد شريبا خميرا كما يزعمون أو يرتكب أمورا لا تسمح بها الشريعة ولا تليق بشأن الملك ، والدين ، وأصحاب أصحاب رسول الله أحياء ، وأعداؤهم من العلويين بالمرصاد ، لقتلته أسرته نفسها ، كما فعلت بالوليد بن يزيد بعد ستين سنة من مهلك يزيد بن معاوية. والغالب أن يزيد أدخل في العادات كأبيه أشياء أنكرها بعضهم ، ووجدوا السبيل الى الطعن فيه ، وكان تعلمها من عشرته بعض أبناء الروم في الشام.

١٣٧

سئل عبد الله بن عباس عن معاوية فقال : سما بشيء أسرّه واستظهر عليه بشيء أعلنه ، فحاول ما أسر بما أعلن فناله ، وكان حلمه قاهرا لغضبه ، وجوده غالبا على منعه ، يصل ولا يقطع ، ويجمع ولا يفرق ، فاستقام له أمره وجرى الى مدته. قيل : فأخبرنا عن ابنه قال : كان في خير سبيله ، وكان أبوه قد أحكمه وأمره ونهاه فتعلق بذلك وسلك طريقا مذللا له. وسئل علي (رض) عن بني أمية فقال : أشدنا حجزا (صبرا) وأطلبنا للأمر لا ينال فينالونه.

الخلاف بين الأمويين وخصومهم من العلويين ما زال يقوى ويضعف ، وما هو إلا خلاف سياسي نشأ من النزاع على الملك ، وليس من الدين في شيء. فليس إذا من العقل أن تتسلسل هذه الأحقاد في الأمة وتتفرق شيعا ، وتظهر بمظهر النصب أو التشيع ، ويزكي فريق من يحبهم حتى يخرجهم عن طور البشر ، ويطعن في آخرين حتى يسلخ عنهم كل ما يمتازون به من الصفات الكاملة ويخرجوهم عن الملة. أهل الإسلام يحبون الخليفة الرابع ، ويعرفون له صفات غرّا يفاخرون بها على غابر الدهر ، ولكن من تحبه لا يجوز لك أن تغضي عن هفواته ، أو أن تذكر لخصمه مزاياه.

أريد أن أقول : إن مسألة الخلافة بين علي ومعاوية قد مضى عليها الزمن ، وكان لكل منهما اجتهاده ، وهي من المسائل المؤلمة في تاريخنا ينبغي لنا أن ندرسها بإنصاف لا أن نقول مع القائلين «ونسكت عما شجر بينهم» ، ولا أن نبالغ فيما وقع ونتعصب لفريق على آخر ، فالأمة يجب عليها أن تعرف مواطن الضعف والقوة من جسمها ، وتكشف حقائق ماضيها لأنها ابنة حوادث ماضية ، والواجب في البحث أن لا يثير في النفوس أحقادا ، ولا ينشىء في أجزاء الأمة فرقة متلفة ، ولا يرتكب معه سوء أدب مع عظماء أسسوا مجد الأمة على أمتن الدعائم ، ووضعوا بناءها على القومية العربية ، وكانوا مثال التساهل مع أبناء الأديان الأخرى.

أهل الإسلام في الشرق جديرون بأن يكونوا كأهل النصرانية في الغرب ، تحاربوا حروبا دينية سالت فيها الدماء أنهارا بين البابوي والبرتستانتي ، ثم

١٣٨

جاءت القرون الحديثة فقضت على التحزبات ، وصاروا في المسائل الوطنية والقومية متلازمين تلازم اللام للألف ، وإذا ذكروا ما ارتكبه أجدادهم في هذا الشأن خجلوا ووجموا. الأمويون كالعلويين بشر يخطئون ويصيبون ، فلا يليق بنا أن نغض من الأمويين لأنهم لم يتنازلوا عن ملكهم للعلويين ، ولا ننكر أن إصابتهم كانت كثيرة جدا في جنب خطيئاتهم ، وأهل الشام قبل كل شعب عربي يجب عليهم أن يفاخروا بتاريخ الأمويين ويمعنوا النظر فيه طويلا ، ويعرفوا أن لكل دولة كما لكل فرد ما يعدّ لها وعليها.

بنو أمية أسسوا دولة عظيمة وفتحوا الفتوح ونشروا كلمة التوحيد وبثوا اللغة العربية في الممالك التي دوّخوها فماذا عمل خصومهم لو أنصف المتشيعون لهم؟ لم يوفقوا من قبل ولا من بعد إلا ان يدلوا على الأمة بشرفهم ، وأنهم خير من أمية في الجاهلية والإسلام ، وأن الواجب على المسلمين أن يخضعوا لهم مهما كانت حالهم لشرف هذه النسبة فقط ، ولقد قامت لهم عدة دول في أقطار مختلفة وكان مصيرها كلها الانحلال ، ولذلك كان من المعقول أن لا يغضّ من قدر العاملين خصوصا من كانت حسناتهم تربو على سيئاتهم ، إن كان هناك ما يتجوز في تسميته سيئات. الملك لا يقوم بالزهد والتقوى ولزوم المساجد والخطب والحماسة والإدلال بصفات طبيعية اتصف بها صاحبها. الملك يحتاج كما كان الأمويون الى بذل وتسامح وتماسك وعمل نافع بعيد عن الدعوى. في الصفات الأولى تتمثل حالة العلويين ، وفي الثانية تتمثل حالة الأمويين.

١٣٩

دور الدولة العباسية

الى ظهور الدولة الطولونية

من سنة ١٣٢ ـ ٢٥٤ ه

مبدأ الدعوة العباسية :

كانت دولة الأمويين الشرقية ، كدولة الخلفاء الراشدين ، عربية إسلامية صرفة ، لم تنتشر كلمتها ، ولم تتوزع سلطتها ، أما الدولة العباسية فكانت دولة عناصر ، والحاكم فيها العنصر العربي أو من دخل في خدمته وطاعته من الفرس والترك والديلم والموالي ، ولقد قال المؤرخون : في دولة بني العباس افترقت كلمة الإسلام ، وسقط اسم العرب من الديوان ، واستولت الديلم ثم الأتراك ، وصارت لهم دولة عظيمة ، وانقسمت ممالك الأرض عدة أقسام ، وصار بكل قطر قائم يأخذ الناس بالعسف ، ويملكهم بالقهر.

كان أهل البيت بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام يعتقدون أنهم أحق بالأمر ، وأن الخلافة لرجالهم دون سواهم من قريش ، فكانوا يرون في بني أمية غاصبين حقهم في الخلافة ، فبدأوا يدعون سرا لذلك منذوقعت الحرب بين علي ومعاوية في صفين وتنازل الحسن بن علي لمعاوية بن أبي سفيان على الخلافة. فكان معاوية على ما رزق من صدر رحب «يروض من شماس أهل البيت ، ويسامحهم في دعوى تقدمهم واستحقاقهم ، ولا يهيج أحدا منهم بالتثريب عليه في ذلك». وكان

١٤٠