خطط الشام - ج ١

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ١

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٨

ابن أسد البجلي ، وعلى أهل فلسطين رجل من خثعم ، ومعاوية بن حديج على الخارجة ، وأبو الأعور السّلمى على أهل الأردن ، فساروا حتى قدموا مصر فاقتتلوا بالمسناة وعلى أهل مصر محمد بن أبي بكر فهزم أهل مصر بعد قتل في الفريقين جميعا. قال عمرو : شهدت أربعة وعشرين زحفا فلم أر كيوم المسناة ولم أر الأبطال إلا يومئذ. فلما هزم أهل مصر تغيب محمد بن أبي بكر فأخبر معاوية بن حديج بمكانه فمشى إليه فقتله.

ومن الأحداث مع الروم غزوة معاوية بن أبي سفيان (سنة ٢١) وصلح أبي هاشم ابن عتبة على قليقية وأنطاكية ومعرة مصرين. وجاشت الروم (٢٤) حتى استمد من بالشام من جيوش المسلمين من عثمان مددا فأمدهم بثمانية آلاف رجل من أهل الكوفة ، فدخلوا مع أهل الشام الى أرض الروم وشنوا الغارات فأصاب الناس ما شاءوا من سبي وملأوا أيديهم من المغنم وافتتحوا بها حصونا كثيرة ، وغزا قبرس (٢٨) فصالحه أهلها على جزية سبعة آلاف دينار كل سنة. وخرج أهل الشام (٣١) وعليهم معاوية وعلى البحر عبد الله بن سعيد ، وخرج عامئذ قسطنطين بن هرقل لما أصاب المسلمون منهم بإفريقية في جمع لم يجتمع للروم مثله قط مذ كان الإسلام فخرجوا في خمس مائة مركب ، فربط المسلمون سفنهم بعضها الى بعض حتى كان يضرب بعضهم بعضا على سفن المسلمين وسفن الروم وقاتلوهم أشد قتال ، ووثبت الرجال على الرجال يضطربون بالسيوف على السفن ويتواجأون بالخناجر حتى رجعت الدماء الى الساحل تضربها الأمواج ، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركاما. ثم انتصر المسلمون وانهزم قسطنطين مدبرا فما انكشف إلا لما أصابه من القتل والجرح.

وافتتح معاوية جزيرة أرواد في السنة الثالثة لعثمان وهدم سورها وأحرقها وجلا أهلها الى الشام. ووجه ملك الروم الى معاوية يسأله الصلح ، فأجاب إليه على أن يكون عنده عدة من أهل بيته رهائن. وفي السنة الثامنة لعثمان وجه معاوية بجيوش الى جزيرة رودس فأخذوها ورتبوا بها المسالح وجعلوها منظرة للعرب. وفي السنة الثالثة لمعاوية كانت غزوة بسر بن أرطاة الروم دفعة ثانية وسبى بها وهزمت الروم حتى بلغت القسطنطينية ، وفي سنة ٤٨

١٠١

سير معاوية جيشا كثيفا الى القسطنطينية مع سفيان بن عوف ، وتوفي في مدة الحصار أبو أيوب الأنصاري ودفن بالقرب من سورها. وفي سنة ثلاث عشرة لمعاوية غزا بسر بن أرطاة الروم فقتل وأخرج معه سبيا كثيرا. وفي السنة الرابعة عشرة لمعاوية غزت العرب الروم في البحر وصاروا الى لوقية فخرج إليهم ثلاثة بطارقة فقتل الروم من العرب ثلاثين ألفا ومن بقي منهم ركب البحر ، فلما توسطوه لحقهم بعض الروم في سفينة فألقى النار في سفن فاحترقت كلها وفازت الروم وهم أول من أخرج النار وصارت لهم عادة. وفي السنة السابعة عشرة ركب الروم السفن وأقبلوا فيها في البحر حتى أتوا ساحل صور وصيدا ثم خرجوا من السفن واستولوا على جبل لبنان ، وكان الناس يسمونهم الجراجمة وانتشروا من جبل الجليل الى الجبل الأسود ، وذلك أن قسطنطين دسهم ليشغلوا العرب عن الغزو.

ولم يكد معاوية يتولى الأمر بالشام حتى أخذ بما أوتيه من عقل وحلم يضع أساس الملك ويسير في رعيته سيرة حسنة حببته إليهم ، وكان يتأنى الأمور ويداري الناس على منازلهم ، ويرفق بهم على طبقاتهم ، فأوسع الناس من أخلاقه ، وأفاض عليهم من بره وعطائه ، وشملهم من إحسانه ، فاجتذب القلوب واستدعى النفوس ، حتى آثروه على الأهل والقرابات وعدّ «مربي دول وسائس أمم وداعي ممالك».

إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس ولطالما أفضل على أشراف قريش مثل عبد الله بن العباس وعبد الله ابن الزبير وعبد الله بن جعفر الطيار وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وأبان بن عثمان وناس من آل أبي طالب يفدون عليه بدمشق فيكرم مثواهم ، ومنهم عقيل بن أبي طالب شقيق علي بن أبي طالب قدم على معاوية بالشام فأمر له معاوية بثلاثمائة ألف دينار وقال له : هذه مائة ألف تقضي بها ديونك ومائة ألف تصل بها رحمك ومائة ألف توسع بها على نفسك. وكان عقيل قدم من قبل على أخيه في الكوفة فشكا له الضائقة فوعده بأن يعطيه عطاءه إذا خرج فقال عقيل : وإنما شخوصي من الحجاز إليك من أجل عطائك وماذا يبلغ مني عطاؤك وما يدفع من

١٠٢

حاجتي؟ وكان معاوية مدة حكمه في الشام أميرا نحو عشرين سنة ، وخليفة مثلها يعمد الى المال فينفقه إذا رأى هناك مصلحة ، وما ينحسم بالمال وحسن التدبير لا يحله بإهراق الدماء إلا بعد الاضطرار الشديد.

مقتل عثمان بن عفان :

وبينا كان معاوية في الشام مستقلا بعض الاستقلال بعيدا عن كل شغب أخذ الناس ينقمون في الحجاز وغيره على عثمان لست سنين من خلافته وتكلم فيه من تكلم. «فاجتمع ناس من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كتبوا كتابا ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان سنة رسول الله وسنة صاحبيه ، وما كان من هبته خمس إفريقية لمروان وفيه حق الله ورسوله ومنهم ذوو القربى واليتامى والمساكين ، وما كان من تطاوله في البنيان حتى عدوا سبع دور بناها بالمدينة دارا لنائلة ودارا لعائشة وغيرهما من أهله وبناته ، وبنيان مروان القصور بذي خشب وعمارة الأموال بها من الخمس الواجب لله ورسوله ، وما كان من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمه من بني أمية أحداث وغلمة لا صحبة لهم من الرسول ولا تجربة لهم بالأمور». هذه خلاصة دعواهم عليه وقد دفع عن نفسه كل ذلك فما اقتنعوا ولا كفوا عن النيل منه.

وما زال عثمان على شيخوخته مغلوبا لمروان وبني أمية وأهم ما عدوا عليه توسيده الأمور لهم ، حتى قتل في المدينة وتولى الخلافة علي بن أبي طالب. وكان معاوية على مثل اليقين من أن عليا لا يقره على الشام فكان كما ظن ، وهنا ظهر نبوغ معاوية السياسي حتى بلغ ما أراد وقسم الأمة شطرين له وعليه وكانت كفته الراجحة. ولما بعث عليّ عماله على الأمصار كان من جملة من بعث سهل بن حنيف الى الشام ، فأما سهل فإنه لما انتهى الى تبوك وهي تخوم أرض الشام استقبلته خيول لمعاوية فردوه فانصرف الى عليّ فعلم عليّ عند ذلك أن معاوية قد خالف وأن أهل الشام بايعوه. واختلفت الآراء في تبعة معاوية من مقتل عثمان فقال فريق : إن عثمان كتب الى معاوية : «إن أهل المدينة قد كفروا وخلعوا الطاعة وتكثوا البيعة

١٠٣

فابعث اليّ من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول». فتربص به معاوية وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول الله وقد علم اجتماعهم فأبطأ أمره على عثمان حتى قتل فيما قيل.

آمال علي بن أبي طالب في الخلافة :

ولم يتخلف معاوية عن مبايعة علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) فقط ، بل قام يطالب بدم عثمان ويتهم عليا بقتله لأن عليا كان يحتج على الصحابة منذ يوم البيعة لأبي بكر ويقول : أنا أجدر بهذا الأمر منكم لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي حتى قال له أبو عبيدة بن الجراح : «يا ابن عم إنك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور ، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك ، وأشد احتمالا واضطلاعا فسلّم لأبي بكر ، فإنك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق وحقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك». وقد وقعت لعلي تأوهات في المطالبة بالخلافة وأنه بغي عليه في ذلك وغمط حقه في عهد الثلاثة الخلفاء ، ولذلك كان في تساهله بالدفاع عن عثمان وجه عند بعضهم على حين ثبت أن عليا قرّع عثمان على التفريط وأنذره بأن عاقبته تكون القتل بقوله : أحذرك أن تكون إمام هذه الأمة الذي يقتل فيفتح عليها القتل والقتال الى يوم القيامة.

وذكر ابن حزم أن امتناع معاوية من بيعة عليّ كامتناع علي من بيعة أبي بكر ، فما حارب أبو بكر ولا أكرهه وأبو بكر أقدر على عليّ من عليّ على معاوية ، ومعاوية في تأخره عن بيعة عليّ أعذر وأفسح مغارا من عليّ في تأخره عن بيعة أبي بكر ، لأن عليا لم يمتنع من بيعة أبي بكر أحد من المسلمين غيره بعد أن بايعه الأنصار والزبير ، وأما بيعة علي فإن جمهور الصحابة تأخروا عنها إما عليه وإما لا له ولا عليه ، وما تابعهم فيه الا الأقل سوى أزيد من مائة ألف مسلم بالشام والعراق ومصر والحجاز كلهم امتنع من بيعته ، فهل معاوية إلا كواحد من هؤلاء في ذلك؟ الى أن

١٠٤

قال بشأن البيعة : فصح أن عليا هو صاحب الحق الإمام المفترضة طاعته ومعاوية مخطىء مأجور مجتهد قال : ولم يقاتل عليّ معاوية لإمتناعه من بيعته لأنه كان يسعه في ذلك ما وسع ابن عمر وغيره ولكن قاتله لامتناعه من إنفاذ أوامره في جميع أرض الشام وهو الإمام الواجبة طاعته ، فعليّ المصيب في هذا ولم ينكر معاوية قط فضل عليّ واستحقاقه الخلافة ، لكن اجتهاده أداه الى رأي تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي‌الله‌عنه على البيعة ، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه عن ولد عثمان وولد الحكم بن أبي العاص لسنه ولقوته على الطلب بذلك.

اتفاق معاوية وعمرو بن العاص على المطالبة بدم عثمان :

اغتنم معاوية هذه الفرصة السانحة في مقتل عثمان ليعيد الأمر الى بني أمية ويصبحوا أمراء في الإسلام كما كانوا أمراء في الجاهلية. وكان النعمان ابن بشير أتاه الى دمشق من المدينة بقميص عثمان الذي قتل فيه مخضبا بدمه وبأصابع نائلة زوجته فوضع القميص على منبر دمشق ، وكتب بالخبر الى الأجناد ، وثاب اليه الناس وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع معلقة في أردانه ، وتعاهد الرجال من أهل الشام على قتل قتلة عثمان ومن عرض دونهم بشيء أو تفنى أرواحهم ، وكان ستون ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان.

وكان عمرو بن العاص لما نشب الناس في أمر عثمان في ضيعة له بالسبع من حيز فلسطين قد اعتزل الفتنة ، فاستدعاه معاوية يسترشد برأيه ووعده بملك مصر إن هو ظفر بعلي. فارتأى عمرو أن يجلب معاوية شرحبيل بن السمط الكندي رأس أهل الشام ، فسار هذا يستقري مدنها مدينة مدينة يحرض الناس على الأخذ بدم عثمان ، فأجابه الناس كلهم إلا نفرا من أهل حمص نساكا فإنهم قالوا : نلزم بيوتنا ومساجدنا وأنتم أعلم منا.

وذكر المؤرخون أن معاوية قدم بيت المقدس وقدم عليه عمرو بن العاص فبايعه على دم عثمان وكتبا كتابا بينهما كانت صورته : «بسم الله الرحمن الرحيم». هذا ما تعاهد عليه معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص

١٠٥

ببيت المقدس بعد قتل عثمان وحمل كل واحد منهما صاحبه الأمانة أن بيننا عهد الله على التناصر والتخالص والتناصح في أمر الله والإسلام ، ولا يخذل أحدنا صاحبه بشيء ولا يتخذ من دونه وليجة ولا يحول بيننا ولد ولا والد أبدا ما حيينا فيما استطعنا».

وهكذا أخذ معاوية يحرك النفوس ويطالب بثأر عثمان ومما كتب به الى عليّ : «ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين وخذلت عنه الأنصار فأطاعك الجاهل وقوي بك الضعيف وقد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان». فأجابه عليّ : «زعمت أنه إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان ، ولعمري ما كنت إلا رجلا من المهاجرين أوردت كما أوردوا وأصدرت كما أصدروا ، وما كان الله ليجمعهم على ضلال ولا ليضربهم بالعمى ، وما أمرت فيلزمني خطيئة عثمان ، ولا قتلت فيلزمني قصاص القاتل ... وأما قولك ندفع إليك قتلة عثمان ، فما أنت وعثمان؟ إنما أنت رجل من بني أمية وبنو عثمان أولى بعثمان منك».

حرب صفّين :

وما برحت الحزازات تشتد بين عليّ ومعاوية يريد الأول أن يبايع له الثاني ، ويطالب الثاني بدم عثمان وهو مستقل بالشام ، حتى التقيا سنة ٣٧ في صفّين من أرض الشام بجيشيهما وكانت بينهما وقائع سالت فيها الدماء كالأنهار ، فقتل من أهل الشام جيش معاوية خمسة وأربعون ألفا ، ومن أهل العراق والحجاز جيش عليّ خمسة وعشرون ألفا ، وكان معاوية في مائة وعشرين ألفا ، وعلي في تسعين ألفا ، وجسّر عليّ الجنود «حتى قتل من أبطال الإسلام في تلك المعارك ألوف ولم يكترث بقتلهم» «وإن عليا لينغمس في القوم فيضرب بسيفه حتى ينثني ثم يخرج متخضبا بالدم حتى يسوى له سيفه ثم يرجع فينغمس فيهم». ويقول الدينوري : كان أهل الشام أيام صفين إذا انصرفوا من الحرب يدخل كل فريق منهم في الفريق الآخر فلا يعرض أحد لصاحبه ، وكانوا يطلبون قتلاهم فيخرجونهم من المعركة ويدفنونهم. وروى ابن سعد قال : «اقتتل الناس بصفين قتالا

١٠٦

شديدا لم يكن في هذه الأمة مثله قط حتى كره أهل الشام وأهل العراق القتال وملوه من طول تبادلهم السيف. فقال عمرو بن العاص وهو يومئذ على القتال لمعاوية : أنت مطيعي فتأمر رجلا بنشر المصاحف ، ثم يقولون : يا أهل العراق ندعوكم الى القرآن والى ما في فاتحته الى خاتمته ، فإنك إن تفعل ذلك يختلف أهل العراق ولا يزيد ذلك أمر أهل الشام إلا استجماعا ، فأطاعه معاوية ففعل ، وأمر عمرو رجالا من أهل الشام فقرىء المصحف ثم نادى يا أهل العراق ندعوكم الى القرآن ، فاختلف أهل العراق فقالت طائفة : أولسنا على كتاب الله وبيعتنا؟ وقال آخرون كرهوا القتال : أجبنا الى كتاب الله ، فلما رأى علي عليه‌السلام وهنهم وكراهتهم للقتال قارب معاوية فيما يدعوه اليه واختلف بينهم الرسل فقال علي عليه‌السلام : قد قبلنا كتاب الله فمن يحكم بكتاب الله بيننا وبينك ، قال : تأخذ رجلا منا نختاره ونأخذ منكم رجلا تختاره ، فاختار معاوية عمرو بن العاص ، واختار علي أبا موسى الأشعري». وجرت المهادنة بين علي ومعاوية على وضع الحرب بينهما ويكون لعلي العراق. ولمعاوية الشام ، فلا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزو ، فأقام معاوية بالشام يجبيها وكان ذلك سنة ٤٠.

كانت حرب صفّين من أشأم الحروب على الأمة ، وهي في أول شبابها ، التقى فيها المسلم بالمسلم بالسلاح ، واقتتلا قتالا شديدا ، وهلكت من الفريقين نفوس زكية ، فيهم الصحابة والقراء والعلماء ، ولو لم يشغل بال معاوية بمقتل عثمان ثم بمدافعة عليّ لكان تفرغ للقضاء على الدولة البيزنطية آخر الدهر. خصوصا وقد كان من أكبر همه أن يغادي الروم القتال ويراوحهم منذ استقل بإمارة الشام. يغزوهم برا وبحرا ويصيب منهم وقلما يصيبون منه ، وربما توفق معاوية وآله لو لا هذه الغائلة الأهلية الى استصفاء معظم أقطار الأرض ونشر الدين واللغة فيها ، واضطرت حوادث عليّ معاوية أن يهادن صاحب الروم ويرضيه بمال عظيم ريثما يتفرغ له. وقال عمرو بن العاص لمعاوية : كما بدأت الفتنة اكتب الى قيصر الروم تعلمه أنك ترد عليه جميع من في يديك من أسارى الروم وتسأله المواءمة والمصالحة تجده سريعا الى ذلك راضيا بالعفو منك.

١٠٧

صلح الحسن مع معاوية :

ومن أهم الأحداث في زمن معاوية قيام الحسن بن علي في العراق عقيب مقتل أبيه علي بن أبي طالب ، فسار معاوية الى الموصل والتقى العسكران ، فوجه معاوية الى قيس بن سعد أمير جيش الحسن يبذل له ألف ألف درهم على أن يصير معه أو ينصرف فأبى ، ويقال : إنه أرسل الى عبد الله بن عباس وبذل له مثل هذا المال فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه وهم من شيعة الحسن ، وأقام قيس على محاربته حتى اضطر الحسن الى صلح معاوية بعد أن رأى أصحابه تفرقوا عنه وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال : «أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا وقد سالمت معاوية وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع الى حين».

يقول الدينوري : لما رأى الحسن من أصحابه الفشل أرسل الى عبد الله ابن عامر بشرائط اشترطها على معاوية على أن يسلم له الخلافة ، وكانت الشرائط ألا يأخذ أحدا من أهل العراق بإحنة وأن يؤمن الأسود والأحمر ويحتمل ما يكون من هفواتهم ، ويجعل له خراج الأهواز مسلما في كل عام ، ويحمل الى أخيه الحسين بن علي في كل عام ألفي ألف درهم ، ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس ، فكتب عبد الله بن عامر بذلك الى معاوية فكتب معاوية جميع ذلك بخطه وختمه بخاتمه وبذل له. العهود المركبة والأيمان المغلظة وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل الشام ، ووجه الى عبد الله بن عامر فأوصله الى الحسن (رض) فرضي به وكتب الى قيس بن سعد بالصلح ويأمره بتسليم الأمر الى معاوية والانصراف الى أعدائه ، فلما وصل الكتاب بذلك الى قيس بن سعد قام في الناس فقال : أيها الناس اختاروا أحد أمرين : القتال بلا إمام أو الدخول في طاعة معاوية فاختاروا الدخول في طاعة معاوية. فسار حتى وافى المدائن وسار الحسن بالناس في المدائن حتى وافى الكوفة ووافاه معاوية بها فالتقيا فوكد عليه الحسن (رض) تلك الشروط والأيمان اه. قال الأحنف بن قيس وقد أتاه كتاب الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما يستنصره : قد بلونا الحسن

١٠٨

وآل الحسن فلم نجد عندهم إيالة الملك ولا صيانة المال ولا مكيدة الحرب. لم يجبه الى ما طلبه إليه.

ولما مات الحسن بعد شهرين وقيل أربعة أشهر من استيلائه على العراق صفا الجو لمعاوية وبايع له الناس فملك العراق والحجاز ومصر ، وأجمعت القلوب على مبايعته طوعا أو كرها. وكان ممن مالأ معاوية على تحقيق رغائبه عمرو بن العاص عامله على مصر ، والمغيرة بن شعبة عامله على الكوفة.

خلافة يزيد ورأي ابن خلدون :

أوعز معاوية سرا الى ولاة الأمصار أن يوفدوا الوفود اليه يزينون له إعطاء العهد لابنه يزيد ، حتى استوثق له أكثر الناس وبايعوه والسيوف مسلولة فيما قيل على رقاب الصحابة في مسجد الرسول. وبذلك أخرج معاوية الخلافة عن أصولها ، وكانت بالعهد لأفضل الصحابة أو بالشورى بينهم لمن يقع اختيارهم عليه ، وجعلها كالملك يورثها الأب ابنه أو من يراه أهلا لها من خاصته ، أو كسروية أو قيصرية على سنة كسرى وقيصر كما قالوا. وبذلك نقم على معاوية بعض الصحابة والتابعين من الأنصار والمهاجرين.

والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه ـ كما قال ابن خلدون ـ إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية ، إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع وأهل الغلب منهم ، فآثره بذلك دون غيره مما يظن أنه أولى بها وعدل عن الفاضل الى المفضول حرصا على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع ، وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك ، وحضور الأكابر لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه فليسوا ممن تأخذهم في الحق هوادة ، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق ، فإنهم كلهم أجلّ من ذلك وعدالتهم مانعة منه ، وفرار عبد الله ابن عمر من ذلك إنما هو محمول على تورعه من الدخول في شيء من

١٠٩

الأمور مباحا كان أو محظورا. كما هو معروف عنه ، ولم يبق في المخالفة لهذا العهد الذي اتفق عليه الجمهور إلا ابن الزبير. وندور المخالف معروف.

ثم قال : إنه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الذين كانوا يتحرون الحق ويعملون به مثل عبد الملك وسليمان من بني أمية ، والسفاح والمنصور والمهدي والرشيد من بني العباس ، وأمثالهم ممن عرفت عدالتهم وحسن رأيهم للمسلمين والنظر لهم ، ولا يعاب عليهم إيثارهم أبناءهم وإخوانهم وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء ، فإنهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك. وكان الوازع دينيا فعند كل أحد وازع من نفسه ، فعهدوا الى من يرتضيه الدين فقط وآثروه على غيره. ووكلوا كل من يسمو ذلك الى وازعه ، وأما من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملك ؛ والوازع الديني قد ضعف واحتيج الى الوازع السلطاني والعصباني ، فلو عهد الى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد وانتقض أمره سريعا وصارت الجماعة الى الفرقة والاختلاف.

ومن جملة وصايا معاوية لابنه يزيد في أهل الشام : «أنظر أهل الشام فليكونوا بطانتك ورعيتك ، فإن رابك من عدوك شيء فانتصر بهم ، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام الى بلادهم فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم تغيرت أخلاقهم. ولما قدم مشيخة أهل الكوفة على معاوية كان فيما سألهم عنه رأيهم في أهل الأحداث من الأمصار فقال أحدهم : وأما أهل الشام فأطوع الناس لمرشدهم وأعصاهم لمغويهم.

غزوات معاوية وأعماله ووصيته :

ومما يجب أن يذكر لمعاوية أنه مع اشتغال ذهنه بالملك لم يغفل قط عن إنشاء أسطول عظيم غزا به الروم وغزا القسطنطينية غير مرة وأغزى الروم مرارا ، وكان يغزو الصوائف والشواتي أي غزوات الصيف والشتاء ، وخص قوما من رجاله بتولي هذه الغزوات وبلغه أن الروم سنة ٤١ قد زحفت

١١٠

في جموع كثيرة فخاف أن يشغلوه عما يحتاج الى تدبيره وأحكامه خصوصا بعد خروجه من وقعة صفين فوجه إليهم فصالحهم على مائة ألف دينار. وكان معاوية أول من صالح الروم ، فلما استقام له الأمر أغزى أمراء الشام على الصوائف فسبوا في الروم سنة بعد سنة ، وطلب صاحب الروم الصلح على أن يضعف المال فلم يجبه ، ورضي مرة بصلح ملك الروم على أن يكون عنده من أهل بيت ملكهم رهائن.

وحدث سنة ٣٤ أن معاوية كان يستعد لقصد القسطنطينية ويعد السفن الكثيرة بمدينة طرابلس ويحمل من السلاح أمرا عظيما أن أخوين لرجل يقال له بقنطر ، وكانا في خدمة العرب ، فلما نظرا ما أعده معاوية أخذتهما الغيرة فأتيا السجن ففتحاه وأخرجا من فيه من الروم وقتلوا عامل البلد وأحرقوا السفن والعدة وركبوا البحر. فلما بلغ معاوية ذلك جهز جيوشا كثيرة الى الروم فافتتح أرضا كثيرة وسبى من أهلها مئة ألف إنسان وبعث أخاه على البحر فانهزم الروم بحرا أيضا ، ثم تعددت وقائعه مع الروم. ومن وقائعه وقعة سنة ٣١. ولو لا النار التي اخترعها الروم لإحراق السفن ، وبها حرقت سفن كثيرة للعرب وهلك ألوف من رجال بحريتهم ، لامتدت الفتوحات ولسهل على معاوية فتح القسطنطينية كما سهل عليه غزو الروم لتحصينه سواحل الشام وإقامته الصناعة في صور وعكا وغيرها من مدن الشام.

توفي معاوية سنة ٦٠ بعد أن وطأ أكناف الملك وابتكر في الدولة أشياء لم يسبقه أحد إليها ، منها أنه أول من وضع الحشم للملوك ورفع الحراب بين أيديهم ، ووضع المقصورة التي يصلي الملك أو الخليفة بها في الجامع منفردا عن الناس ، وهو أول من وضع البريد ، واخترع ديوان الخاتم واستخدم النصارى في مصالح الدولة ، فعهد بنظارة المالية الى منصور وسرجون من نصارى العرب الشاميين. أوصى معاوية بني أمية فقال : إنه لما قرب مني ما كان بعيدا ، وخفت إن يسبق الموت إليّ ويسبقكم بي سبقته اليكم بالموعظة لأبلغ عذرا ، وإن لم أردّ قدرا ، إن الذي أخلفه لكم من دنياي أمر تشاركون فيه أو تقبلون عليه ، وإن الذي أخلف لكم من

١١١

رأيي مقصور عليكم نفعه إن فعلتموه ، مخوف عليكم ضرره إن ضيعتموه ، فاجعلوا مكافأتي، قبول نصيحتي ، وإن قريشا شاركتكم في أنسابكم ، وتفردتم دونها بأفعالكم ، فقدمكم ما تقدمتم فيه إذا أخر غيركم ما تأخروا له ، ولقد جهر لي فعلمت ، وفهم لي ففهمت ، حتى كأني أنظر الى أولادكم بعدكم كنظري الى آبائهم قبلهم ، إن دولتكم ستطول ، وكل طويل مملول ، وكل مملول مخذول ، فإذا انقضت مدتكم كان أول ذلك اختلافكم بينكم ، واتفاق المختلفين عليكم ، فيدبر الأمر بضد ما أقبل به ، فلست أذكر عظيما ينال منكم ، ولا حرمة تنتهك لكم ، إلا وما أكف عن ذكره أعظم منه ، فلا معوّل عليه عند ذلك أفضل من الصبر ، واحتساب الأجر ، فيا لها دولة أنست أهلها الدول في الدنيا والعقوبة في الآخرة ، فيمادّكم القوم دولتكم تمادّ العنانين في عنق الجواد ، فإذا بلغ الأمر مداه ، وجاء الوقت الذي حده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ضعفت الحيلة ، وعزب الرأي ، وصارت الأمور الى مصايرها ، فأوصيكم عندها بتقوى الله عزوجل الذي يجعل لكم العاقبة إن كنتم متقين.

خلافة يزيد ومقتل الحسين ووقعة الحرة :

تولى يزيد بن معاوية الخلافة بعد أبيه ثلاث سنين وستة أشهر ، وسار على خطته في جهاد الروم وكان جلدا صبورا ، ولم تمنعه فتن ابن الزبير وشيعة العراق عن قتالهم ، وأهم الأحداث في زمانه قتل الحسين بن علي (رضي‌الله‌عنهما) في كربلاء من العراق ، وحمل رأسه الشريف الى الشام ، وإهانة أسرته الطاهرة ، وقتل بعض رجالها. فارتكب ابن زياد عامل العراق ليزيد من ذلك أمرا نكرا أكبره أهل الإسلام وزادت بذلك شيعة علي وآله حنقا وشدة. ولم يكن يزيد يريد قتل الحسين عملا بوصية والده له ، فإن زحر بن قيس لما حمل من العراق الى الشام أهل بيت الحسين ودخل على يزيد وبشره بذلك دمعت عينه وقال : قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين لعن الله ابن سميّة (يعني ابن زياد) ،

١١٢

أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه فرحم الله الحسين. ومن الأحداث في أيام يزيد تسييره بالجيش الى نواحي حماة وتصدي أهل لبنان له وهزيمته. وغزا الروم في ولايته للعهد ثم غزاهم في خلافته وعد ذلك من مزاياه ومزايا أبيه.

واتفق أهل المدينة سنة ٦٢ على خلع يزيد فأخرجوا عماله وآله فجهز جيشا مع مسلم بن عقبة وأمره بقتال أهل المدينة فإذا ظفر بها أباحها للجند ثلاثه أيام ، وأن يبايعهم على أنهم خول وعبيد ليزيد. فقاتل جند الشام أهل المدينة في الحرّة واستباح مسلم المدينة ، وكان قتلى الحرة سبعمائة من وجوه الناس من قريش والمهاجرين والأنصار وعشرة آلاف من وجوه الموالي ، ثم بايع من بقي من الناس.

حنقت نفوس الأمة من وقعة الحرة لأن فتنتها التهمت بضع مئات من علية قريش ، وكانت غلطة زياد في قتل الحسين وسبي آله الطاهرين ذريعة أكبر للنيل من يزيد وآل يزيد ، فتقولوا عليه وحطوا من كرامته ، مع أنه سار بسيرة أبيه في الملك من التوسع في الفتوح وقتال أعداء المملكة من الروم. أما وقعة الحرة فإن أهل المدينة استطاعوا على يزيد وحاسنهم فخاشنوه وأحرجوه حتى أخرجوه.

عهد معاوية الصغير :

توفي يزيد بن معاوية سنة ٦٤ وبويع ابنه معاوية بن يزيد ثالث خلفاء بني أمية ، ولما استخلف لبث شهرين وليالي محجوبا لا يرى ، ثم خرج بعد ذلك فجمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إني نظرت فيما صار اليّ من أمركم ، وقلدته من إمارتكم ، فوجدت ذلك لا يسعني فيما بيني وبين ربي أن أتقدم على قوم وفيهم من هو خير مني ، وأحقهم بذلك وأقوى على ما قلدته ، فاختاروا مني إحدى خصلتين إما أن أخرج منها وأستخلف عليكم من أراه لكم رضى ومقنعا ، ولكم الله عليّ لا آلوكم نصحا في الدين والدنيا ، وإما أن تختاروا لأنفسكم وتخرجوني

١١٣

منها ، فأنف الناس من قوله ، وأبوا من ذلك وخافت بنو أمية أن تزول الخلافة منهم وماج أمرهم واختلفوا.

وقيل : إنه خطب الناس وقال : «ما كنت أتقلدكم حيا وميتا فو الله لئن كانت الدنيا مغنما فقد نلنا منها حظا ، وإن تكن شرا فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها». فقال له مروان بن الحكم : سنّها فينا سيرة عمرية قال : ما كنت أتقلدكم حيا وميتا. ولما حضرته الوفاة بعد خلافته بأربعة أشهر وقيل أقل من ذلك ، وله عشرون سنة وقيل إحدى وعشرون سنة ، لم يرض أن يعهد بالأمر من بعده. وقال : أتفوز بنو أمية بحلاوتها ، وأبوء بوزرها وأمنعها أهلها ، كلا إني لبريء منها. قال المسعودي : إنه أراد أن يجعلها الى نفر من أهل الشورى ينصبون من يرونه أهلا لها. وقيل : إن معاوية بن يزيد كان قدريا ، لأن عمر المقصوص كان علمه ذلك ، فدان به وتحققه ، فلما بايعه الناس قال للمقصوص : ما ترى؟ قال : إما أن تعتدل أو تعتزل. فخطب الناس يستعفي من بيعتهم ، فوثب بنو أمية على عمر المقصوص وقالوا : أنت أفسدته وعلمته فطمروه ودفنوه حيا. ويقول الطبري : وكان معاوية بن يزيد بن معاوية فيما بلغني أمر بعد ولايته فنودي الصلاة جامعة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإني قد نظرت في أمركم فضعفت عنه ، فابتغيت لكم رجلا مثل عمر بن الخطاب رحمة الله عليه حين فزع إليه أبو بكر فلم أجده ، فابتغيت لكم ستة في الشورى مثل ستة عمر فلم أجدها ، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم. ثم دخل منزله ولم يخرج الى الناس وتغيب حتى مات. فقال بعض الناس : دس إليه فسقي سما وقال بعضهم : طعن.

قيام ابن الزبير وخلافة مروان بن الحكم ووقعة مرج راهط :

وكان عبد الله بن الزبير قد تغلب على مكة وتسمى بأمير المؤمنين ومال إليه أكثر النواحي. ابتدأ أمره في أيام يزيد بن معاوية فلما توفي يزيد مال الناس الى ابن الزبير. وكان بفلسطين ناتل بن قيس الجذامي ، وبدمشق الضحاك بن قيس الفهري ، وبحمص النعمان بن بشير الأنصاري ،

١١٤

وبقنسرين والعواصم زفر بن الحارث الكلابي ، وثب على سعيد بن بدل الكلبي وأخرجه منها، ولم تبق ناحية إلا مالت الى ابن الزبير خلا الأردن ورئيسها يومئذ حسان بن بحدل الكلبي بمعنى أن الناس افترقوا «ثلاثا : فرقة بحدلية وهو اسم لبني حرب ، وفرقة زبيرية ، وفرقة لا يبالون لمن كان الأمر».

وقدم مروان بن الحكم ، وأمر الشام مضطرب ومعظم أجنادها مبايعة لابن الزبير ، فدعا مروان الى نفسه وهو من أعظم رجال أمية عقلا ودهاء وسياسة وحنكة. واجتمع الناس بالجابية من أرض حوران فتناظروا في ابن الزبير وفيما تقدم من بني أمية عندهم ، وتناظروا في خالد بن يزيد بن معاوية ، وفي عمرو بن سعيد بن العاص بعده ، فكان روح ابن زنباع الجذامي يميل مع مروان فقام خطيبا فقال : يا أهل الشام هذا مروان بن الحكم شيخ قريش ، والمطالب بدم عثمان ، والمقاتل لعلي بن أبي طالب يوم الجمل ويوم صفين ، فبايعوا الكبير واستنيبوا للصغير. فلما عقدوا البيعة جمعوا من كان في ناحيتهم ، ثم تناظروا في أي بلد يقصدون فقال : نقصد دمشق فإنها دار الملك ومنزل الخلفاء ، وقد تغلب بها الضحاك بن قيس فلقوا الضحاك بمرج راهط ، وكان مع الضحاك من أهل دمشق وفتيتهم جماعة ، وقد أمده النعمان بن بشير عامل حمص بشرحبيل بن ذي الكلاع في أهل حمص ، وأمده زفر بن الحارث الكلابي بقيس بن طريف بجيش من شمالي الشام ، فكان في ثلاثين ألفا ، ومروان في ثلاثة عشر ألفا أكثرهم رجالة ، والتقوا بمرج راهط فاقتتلوا قتالا شديدا ودام القتال عشرين يوما فقتل الضحاك بن قيس وخلق من أصحابه ، وهرب من بقي من جيشه. وبلغ الخبر النعمان بن بشير وهو بحمص فخرج هاربا ، فتبعه قوم من حمير وباهلة ، وقيل من أهل حمص فقتلوه في البرية ، وكان من أخطب أهل الدنيا ، وهرب زفر بن الحارث الكلابي والخيل تتبعه حتى أتى قرقيسيا على الخابور.

وأقام مروان بن الحكم بالشام في أيام ابن الزبير واجتمعت إليه بنو أمية بعد وقعة مرج راهط التي انقسمت بها الشام فرقتين قيسية ويمانية ،

١١٥

وغلب اليمانية وكان بنو أمية يبغضون اليمانية. قال المسعودي : وكانت هذه الوقعة سبب رد ملك بني أمية ، وقد كان زال عنهم الى بني أسد ابن عبد العزّى ، ولذلك رأى قوم أن مروان أول من أخذ الخلافة بالسيف. وهذه الوقعة من الوقائع المشهورة التي تفتخر بها اليمانية على النزارية ، وقد أكثرت شعراؤها الافتخار بذلك. ولما بويع لمروان بن الحكم اشترط حسان بن مالك ، وكان رئيس قحطان وسيدها بالشام ، على مروان ما كان لهم من الشروط على معاوية وابنه يزيد وابنه معاوية بن يزيد ، منها أن يفرض لهم لألفي رجل ، ألفين ألفين ، وإن مات قام ابنه أو ابن عمه مكانه ، وعلى أن يكون لهم الأمر والنهي وصدر المجلس ، وكل ما كان من حل وعقد فعن رأي منهم ومشورة ، فرضي مروان بذلك وانقاد إليه. وكان هذا أول قانون عربي وضع للتشريفات (بروتوكول) وضع أساسه القحطانية ، وكانوا اصطلحوا على ذلك منذ عهد معاوية ، أرضاهم بهذا التصدر فدخل مصطلحهم في طور الدساتير المعمول بها.

ولم يلبث مروان أن وجه جيشا الى الحجاز لمحاربة ابن الزبير ثم خرج يريد مصر ، فلما سار الى فلسطين وجد ناتل بن قيس متغلبا على البلد فحاربه ، فهرب ولحق بابن الزبير ، وسار مروان الى مصر فصالحه أهلها. وأرسل عبيد الله بن زياد الى العراق لقتال الشيعة ، ولما صار مروان الى الصّنبرة من أرض الأردن منصرفا من مصر بلغه أن حسان بن بحدل قد بايع عمرو بن سعيد بن العاص ، فأحضره فأنكر وبايع لعبد الملك ، ثم بعده لعبد العزيز بن مروان ، وكانت ولاية مروان تسعة أشهر وقيل ثمانية وقيل ستة. وبايع أهل الشام بعده لابنه عبد الملك «وكان مروان أول من أخذ الخلافة بالسيف كرها ، على ما قيل بغير رضى من عصبة من الناس ، بل كل خوّفه إلا عدد يسير حملوه على وثوبه عليها ، وقد كان غيره ممن سلف أخذها بعدد وأعوان». لا جرم أن مروان سيد بني عبد مناف في عصره كان من الرجال العظام وكان مولعا بالشورى في إمارته المدينة وكان يجمع في ولايته عليها أصحاب رسول الله يستشيرهم ويعمل بما يجمعون له عليه ، ومثل هذا الرجل بطول تجربته وحنكته

١١٦

وأخذه بالآراء السديدة ينجح ولا شك في عمله ، فهو مفخرة من مفاخر الأمويين وبنو أمية مدينة بالخلافة له.

خلافة عبد الملك بن مروان :

كان عبد الملك بن مروان بعد مهلك أبيه بعيدا عن دمشق فأقبل مسرعا خوفا من وثوب عمرو بن سعيد ، وكان عمرو بن سعيد من أحب الناس الى أهل الشام يسمعون له ويطيعون. واجتمع الناس على عبد الملك فقال لهم : إني أخاف أن يكون في أنفسكم مني شيء فقام جماعة من شيعة مروان فقالوا : والله لتقومنّ الى المنبر أو لنضر بن عنقك ، فصعد المنبر وبايعوه.

وتفرغ عبد الملك لاستصفاء العراق من شيعة علي فاستخلصها منهم بعد أن قتل من الطرفين جمهور كبير ، وقتل أشراف أهل الشام وكان جيشهم ثلاثين ألفا. وذكر اليعقوبي وأكد روايته غير واحد من المؤرخين أن عبد الملك منع أهل الشام من الحج وذلك أن ابن الزبير كان يأخذهم إذا حجوا بالبيعة. ووجه وجوه الناس الى مسجد بيت المقدس فبنى على الصخرة قبة وعلق عليها ستور الديباج وأقام لها سدنة ، وأخذ الناس بالطواف حولها كما تطوف حول الكعبة. قلنا : وكذلك فعل بنو أمية في الأندلس في الغرب ، فإنهم منعوا الناس عن الحج مدة ملكهم أوائل عهد بني العباس مخافة أن يأخذهم العباسيون بالبيعة لهم.

ومن الأحداث في أيام عبد الملك تجهيز يوحنا أمير جبل لبنان اثني عشر ألف فارس وذهابه الى البقاع ونزوله في قب الياس ، وغزوه الجبل الشرقي وشنه الغارات على الحجاج حتى ضاقت به الرعية وقطعت الطرق وخربت المسالك. وكان أمير لبنان مرتبطا مع صاحب الروم بعهود فسار قائد جيوشهم لاون سنة ٦٥ وضم إليه عساكر الجبل ، وغزا أرض العرب واسترد منهم ما كانوا أخذوه ، فاضطر عبد الملك بن مروان الى تجديد الهدنة مع ملك الروم على أن يدفع له كل يوم ألف دينار وفرسا ومملوكا

١١٧

ويقاسمه على خراج قبرس وإرمينية على شرط أن يخرج اللبنانيين من جبلهم ، فأجابه ملك الروم الى ذلك.

الجراجمة والمردة في جبل لبنان :

ويؤخذ مما قاله ابن عساكر أن طاغية الروم لما رأى ما صنع الله للمسلمين من منعه مدائن الساحل ، كاتب أنباط جبل لبنان واللكام فخرج الجراجمة وعسكروا بالجبل ، ووجه ملك الروم قلقط البطريق في جماعة من الروم في البحر فسار بهم حتى أرسى بهم بوجه الحجر وخرج بمن معه حتى علا بهم على جبل لبنان ، وبث قواده في أقصى الجبل حتى بلغ أنطاكية وغيرها من الجبل الأسود ، فأعظم ذلك المسلمون بالساحل حتى لم يكن أحد يخرج في ناحية من رجال ولا غيرها إلا بالسلاح ، فغلبت الجراجمة على الجبال كلها من لبنان وسنير وجبل الثلج وجبال الجولان ، فكانت بالسبل مسلحة لنا ، وفي الرقاد وعقربا الجولان مسلحة ، حتى جعلوا ينادون عبد الملك بن مروان من جبل دير مران من الليل ، وبعث إليهم عبد الملك بالأموال ليكفوا حتى يفرغ إليهم ، وكان مشغولا بقتال أهل العراق ومصعب بن الزبير وغيره. قال : ثم كتب عبد الملك الى سحيم بن المهاجر في مدينة طرابلس وكان أميرها يتواعده ويأمره بالخروج إليهم ، فلم يزل سحيم ينتظر الفرصة منهم ويسأل عن أخبارهم وأمورهم حتى بلغه أن قلقط في جماعة من أصحابه ، وتهيأ بهيئة الروم في لباسه وهيئته وشعره وسلاحه ، متشبها ببطريق من بطارقة الروم قد بعثه ملك الروم الى جبل اللكام في جماعة من الروم فغلب على ما هنالك ، فلما دنا من القرية خلّف أصحابه فقال : انتظروني الى مطلع كوكب الصبح فدخل على قلقط وأصحابه وهم في كنيسة يأكلون ويشربون ، فمضى الى مقدم الكنيسة فصنع ما يصنعه النصارى من الصلاة والقول عند دخولهم كنائسها ، ثم جلس الى قلقط فقال له : من أنت فانتمى الى الرجل الذي يشبه به فصدقه ، وقال له : إنما جئتك لما بلغني عن جهاد سحيم وما اجتمع عنده من العساكر للخروج إليك ، فأتيت لأخبرك به وأكفيك أمره ، إياك أن

١١٨

تتناول من طعامهم. ثم قال لقلقط وأصحابه : إنكم لم تأتوا هنا للطعام والشراب ، ثم قال لقلقط : ابعث معي عشرة من هؤلاء من أهل النجدة والبأس حتى نحرسك الليلة ، فإني كئيب أن تأتيك بلية ، فبعث معه عشرة وأمرهم بطاعته ، فخرج بهم إلى أقصى القرية وقام بهم على الطريق الذي يتخوفون أن يدخل عليهم منه ، فأقام حارسا منهم وأمر أصحابه فناموا ، فأمر الحارس إذا هو أراد النوم أن يوقظ حارسا منهم وينام هو ، فحرس الأول ثم أقام الثاني ثم قام سحيم ثم قال : أنا أحرس فنم فلما ثقل نومهم قتلهم بذبابة سيفه رجلا بعد رجل ، فاضطرب التاسع ، فأصاب العاشر برجله ، فوثب إلى سحيم فأخذه وصرعه الرومي وجلس على صدره وأخرج سحيم سكينا ومقلها في نحره فقتله ، ثم أتى الكنيسة فقتل قلقط وأصحابه رجلا بعد رجل ، ثم خرج الى أصحابه العشرين فجاء بهم وأراهم قتله وقتل الحرس وقلقط ومن في الكنيسة ووضعوا سيوفهم فيمن بقي فنذر بهم من بقي منهم ، وخرجوا هرابا حتى أتوا سفنهم بوجه الحجر فركبوها ، ولحقوا بأرض الروم ورجع أنباط جبل لبنان الى قراهم.

ورواية البلاذري في هذه الوقعة هكذا : وأقبل طاغية الروم يريد الشام وخرج أيضا قائد قواد الضواحي في جبل اللكام فاتبعه خلق من الجراجمة والأنباط وأبّاق عبيد المسلمين وغيرهم ، ثم صار الى لبنان فأقبل عبد الملك مغذا للسير حين أتاه كتاب ابن أم الحكم بذلك ، فلما ورد دمشق وجه حميد بن خريث بن بحدل الكلبي بهدايا وألطاف الى طاغية الروم وكتب إليه معه يسأله الموادعة على إتاوة وأعطاه إياها كما فعل معاوية حين أراد ، إتيان العراق فقبل الطاغية الهدايا وما بذل له عبد الملك من الإتاوة وأعطاه رهناء من أبناء الروم وصيرهم ببعلبك ، ووادع عبد الملك الذين خرجوا بلبنان وجعل لهم في كل جمعة ألف دينار فركنوا الى ذلك ولم يعيثوا بفساد ، ثم دس إليهم سحيم بن المهاجر فتلطف حتى وصل الى رئيسهم متنكرا فأظهر ممالأته وتقرّب إليه بذم عبد الملك وشتمه ووعده أن يدله على عوراته وما هو خير له من الصلح الذي بذل له ، ثم عطف عليه وهو وأصحابه غارون غافلون بجيش من موالي عبد الملك وبني أمية وجند من

١١٩

ثقات جنده وكماتهم كان أعدهم لمحاربته وأكمنهم في مكان بالقرب منه خفيّ فقتل أولئك الروم وبشرا من الجراجمة وغيرهم ثم أذن بالأمان فيمن بقي من الجراجمة ومن سواهم فتفرقوا في قراهم ومواضعهم ، فلما أصلح عبد الملك أموره استخلف ابنه الوليد على دمشق ومعه سعيد بن مالك بن بحدل. قال : وأمر عبد الملك فنادى من أتانا من العبيد يعني الذين كانوا مع أولئك القوم فهو حر وله أن أثبته في الديوان ، فانفض إليه خلق منهم كانوا ممن قاتل مع سحيم وقد وفى لهم وجعل لهم ربعا على حدة فهم يسمون الفتيان الى الآن.

ولما كانت سنة ٨٩ اجتمع الجراجمة الى مدينتهم وأتاهم قوم من الروم من قبل الإسكندرونة ومرسين ، فوجه الوليد بن عبد الملك إليهم مسلمة ابن عبد الملك فأناخ عليهم في خلق فافتتحها ، على أن ينزلوا بحيث أحبوا من الشام ، ويجري على كل امرىء منهم ثمانية دنانير وعلى عيالاتهم القوت من القمح والزيت وهو مدان من قمح ، وقسطان من زيت ، وعلى أن لا يكرهوا ولا أحد من أولادهم ونسائهم على ترك النصرانية ، وعلى أن يلبسوا لباس المسلمين ولا يؤخذ منهم ولا من أولادهم ونسائهم جزية ، وعلى أن يغزوا مع المسلمين فينفلوا أسلاب من يقتلونه مبارزة ، وعلى أن يؤخذ من تجاراتهم وأموال موسريهم ما يؤخذ من أموال المسلمين ، فأخرب مدينتهم وأنزلهم فأسكنهم جبل الحوّار وسنح اللولون(؟)وعمق تيزين وصار بعضهم الى حمص ونزل بعضهم بطريق الجرجومة في جماعة معه من أنطاكية ثم هرب الى الروم. قال ياقوت : واستعان المسلمون بالجراجمة في مواطن كثيرة في أيام بني أمية وبني العباس وأجروا عليهم الجرايات وعرفوا منهم المناصحة.

قتل ابن الزبير في مكة بعد أن كانت خلافته تسع سنين والفتنة بينه وبين عبد الملك سبع سنين ، فبويع لعبد الملك بالحجاز واليمن وصفا له ملك مصر والشام والحجاز والعراق واليمن وغيرها. وفي سنة ٧٥ وصل موريق وموريقان من قواد الروم الى الشام وحملا بجيوشهما على دير القديس مارون في جهات حماة وقتلا منه خمسمائة راهب وهدما بنيانه ، ثم تحولا

١٢٠