رحلة ابن جبير

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي

رحلة ابن جبير

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

أمر يوم فتح مكة بكسر الأصنام واحراقها. وهذا الذي نقل الينا غير صحيح وانما تلك التي على الباب حجارة منقولة وعني القوم بتشبيهها الى الأصنام لعظمها.

ومن جبال مكة المشهورة ، بعد جبل أبي قبيس ، جبل حراء ، وهو في الشرق على مقدار فرسخ أو نحوه مشرف على منى ، وهو مرتفع في الهواء عالي القنة ، وهو جبل مبارك ، كان النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كثيرا ما ينتابه ويتعبد فيه ، واهتز تحته فقال له النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اسكن حراء ، فيما عليك الا نبي وصديق وشهيد» ، وكان معه أبو بكر وعمر ، رضي‌الله‌عنهما. ويروى : «أثبت فما عليك الا نبي وصديق وشهيدان» ، وكان عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، معهم ، واول آية نزلت من القرآن على النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في الجبل المذكور وهو آخذ من الغرب الى الشمال ، ووراء طرفه الشمالي جبانة الحجون التي تقدم ذكرها. وسور مكة انما كان من جهة المعلى وهو مدخل الى البلد ، ومن جهة المسفل وهو مدخل ايضا اليه. ومن جهة باب العمرة وسائر الجوانب جبال لا يحتاج معها الى سور. وسورها اليوم منهدم الا آثاره الباقية وأبوابه القائمة.

بعض مشاهدها

مكة ، شرفها الله ، كلها مشهد كريم ، كفاها شرفا ما خصها الله به من مثابة بيته العظيم وما سبق لها من دعوة الخليل ابراهيم وانها حرم الله وأمنه ، وكفاها أنها منشأ النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذي آثره الله بالتشريف والتكريم وابتعثه بالآيات والذكر الحكيم ، فهي مبدأ نزول الوحي والتنزيل وأول مهبط الروح الأمين جبريل ، وكانت مثابة أنبياء الله ورسله الاكرمين ، وهي أيضا مسقط رؤوس جماعة من الصحابة القرشيين المهاجرين الذين جعلهم الله مصابيح الدين ونجوما للمهتدين.

فمن مشاهدها التي عايناها قبة الوحي ، وهي في دار خديجة أم المؤمنين ، رضي‌الله‌عنها ، وبها كان ابتناء النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بها ، وقبة صغيرة

٨١

أيضا في الدار المذكورة فيها كان مولد فاطمة الزهراء ، رضي‌الله‌عنها ، وفيها أيضا ولدت سيّدي شباب أهل الجنة : الحسن والحسين ، رضي‌الله‌عنهما ، وهذه المواضع المقدسة المذكورة مغلقة مصونة قد بنيت بناء يليق بمثلها.

ومن مشاهدها الكريمة أيضا مولد النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتربة الطاهرة التي هي أول تربة مست جسمه الظاهر ، بني عليها مسجد لم ير أحفل بناء منه ، أكثره ذهب منزل به. والموضع المقدس الذي سقط فيه ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ساعة الولادة السعيدة المباركة التي جعلها الله رحمة للأمة أجمعين محفوف بالفضة. فيا لها تربة شرفها الله بأن جعلها مسقط أطهر الأجسام ومولد خير الأنام ، صلى الله عليه وعلى آله وأهله وأصحابه الكرام وسلم تسليما. يفتح هذا الموضع المبارك فيدخله الناس كافة متبركين به في شهر ربيع الأول ويوم الاثنين منه ، لأنه كان شهر مولد النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي اليوم المذكور ولد ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتفتح المواضع المقدسة المذكورة كلها. وهو يوم مشهود بمكة دائما.

ومن مشاهدها الكريمة أيضا دار الخيزران ، وهي الدار التي كان النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعبد الله فيها سرا مع الطائفة الكريمة المبادرة للإسلام من أصحابه ، رضي‌الله‌عنهم ، حتى نشر الله الإسلام منها على يدي الفاروق عمر ابن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، وكفى بهذه الفضيلة.

ومن مشاهدها أيضا دار أبي بكر الصديق ، رضي‌الله‌عنه ، وهي اليوم دارسة الأثر ، ويقابلها جدار فيه حجر مبارك يتبرك الناس بلمسه ، يقال : إنه كان يسلم على النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، متى اجتاز عليه. وذكر انه جاء يوما ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الى دار ابي بكر ، رضي‌الله‌عنه فنادى به ولم يكن حاضرا فأنطق الله عزوجل الحجر المزكور ، وقال : يا رسول الله ليس بحاضر. وكانت احدى آياته المعجزات ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومن مشاهدها قبة بين الصفا والمروة تنسب لعمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، وفي وسطها بئر يقال انه كان يجلس فيها للحكم ، رضي‌الله‌عنه.

٨٢

والصحيح في هذه القبة انها قبة حفيده عمر بن عبد العزيز ، رضي‌الله‌عنه ، وبإزاء داره المنسوبة اليه ، وفيها كان يجلس للحكم ايام توليه مكة. كذلك حكى لنا أحد أشياخنا الموثوقين. ويقال ان البئر كانت في القديم فيها ، ولا بئر فيها الآن لانا دخلناها فالفيناها مسطحة ، وهي حفيلة الصنعة.

وكانت بمقربة من الدار التي نزلنا فيها دار جعفر بن أبي طالب ، رضي‌الله‌عنه ، ذي الجناحين.

وبجهة المسفل ، وهو آخر البلد ، مسجد منسوب لأبي بكر الصديق ، رضي‌الله‌عنه ، يحف به بستان حسن فيه النخيل والرمان وشجر العناب ، وعاينا فيه شجر الحناء. وأمام المسجد بيت صغير فيه محراب ، يقال : انه كان مختبأ له ، رضي‌الله‌عنه ، من المشركين الطالبين له.

وعلى مقربة من دار خديجة ، رضي‌الله‌عنها ، المذكورة ، وفي الزقاق الذي الدار المكرمة فيه مصطبة فيها متكأ يقصد الناس اليها ويصلون فيها ويتمسحون بأركانها ، لأن في موضعها كان موضع قعود النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومن الجبال التي فيها أثر كريم ومشهد عظيم الجبل المعروف بأبي ثور ، وهو في الجهة اليمنية من مكة على مقدار فرسخ او ازيد. وفيه الغار الذي آوى اليه النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع صاحبه الصديق ، رضي‌الله‌عنه ، حسبما ذكر الله تعالى في كتابه العزيز. وقرأت في كتاب أخبار مكة لابي الوليد الازرقي : إن الجبل نادى النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : الي يا محمد! الي يا محمد! فقد آويت قبلك نبيا. وخص الله ، عزوجل ، نبيه فيه بايات فمنها أنه ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، دخل مع صاحبه على شق فيه ثلثا شبر وطوله ذراع ، فلما اطمأنّا فيه ، أمر الله العنكبوت فأتخذت عليه بيتا ، والحمام فصنعت عليه عشا وفرخت فيه. فانتهى المشركون اليه بدليل قصّاص للأثر مستاف أخلاق الطريق ، فوقف لهم على الغار وقال : ههنا انقطع الاثر ، فاما صعد بصاحبكم من ههنا الى السماء أو غيض به في الارض. ورأوا العنكبوت ناسجة على فم

٨٣

الغار والحمام مفرخة فيه ، فقالوا : ما دخل هنا أحد. فأخذوا في الانصراف. فقال الصديق ، رضي‌الله‌عنه. يا رسول الله! لو ولجوا علينا من فم الغار ما كنا نصنع؟ فقال رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو ولجوا علينا منه كنا نخرج من هناك ، وأشار بيده المباركة الى الجانب الآخر من الغار ، ولم يكن فيه شق ، فانفتح للحين فيه باب ، بقدرة الله عزوجل ، وهو سبحانه قدير على ما يشاء.

وأكثر الناس ينتابون هذا الغار المبارك ويتجنبون دخوله من الباب الذي احدث الله عزوجل فيه ، ويرومون دخوله من الشق الذي دخل النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منه تبركا به. فيمتد المحاول لذلك على الارض ويبسط خده بإزاء الشق ويولج يديه ورأسه أولا ثم يعالج ادخال سائر جسده. فمنهم من يتأتى له ذلك بحسب قضافة بدنه ، ومنهم من يتوسط بدنه فم الغار فيعضه فيروم الدخول أو الخروج فلا يقدر فينشب ويلاقي مشقة وصعوبة ، حتى يتناول بالجذاب العنيف من ورائه.

فالعقلاء من الناس يجتنبونه لهذا السبب ، ولا سيما ويتصل به سبب آخر مخجل فاضح ، وذلك أن عوام الناس يزعمون أن الذي لا يسع عليه ويمتسك فيه ولا يلجه ليس لرشدة (١). جرى هذا الخبر على السنتهم حتى عاد عندهم قطعا على صحته لا يشكون. فبحسب المنتشب فيه المتعذر ولوجه عليه ما يكسوه هذا الظن الفاضح المخجل ، زائدا الى ما يكابده بدنه من اللز في ذلك المضيق واشرافه منه على المنية توجعا وانقطاع نفس وبرح ألم. فالبعض من الناس يقولون في مثل : ليس يصعد جبل أبي ثور الاثور.

وعلى مقربة من هذا الغار في الجبل بعينه عمود منقطع من الجبل ، قد قام شبه الذراع المرتفعة بمقدار شبه القامة ، وانبسط له في أعلاه شبه الكف ، خارجا عن الذراع ، كأنه القبة المبسوطة ، بقدرة الله عزوجل ، يستظل تحتها نحو

__________________

(١) ليس لرشدة : ابن زنى.

٨٤

العشرين رجلا ، وتسمى قبة جبريل ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومما يجب أن يثبت ويؤثر ، لبركة معاينته وفضل مشاهدته : أن في يوم الجمعة التاسع عشر من جمادى الأولى ، وهو التاسع من شتنبر ، أنشأ الله بحرية فتشاءمت فانهلت عينا غديقة ، كما قال رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أثر صلاة العصر ومع العشي من اليوم المذكور ، فجاءت بمطر جود. وتبادر الناس الى الحجر فوقفوا تحت الميزاب المبارك متجردين عن ثيابهم ، يتلقون الماء الذي يصبه الميزاب برءوسهم وأيديهم وأفواههم مزدحمين عليه ازدحاما عظيما ، أحدث ضوضاء عظيمة ، كل يحرص على أن ينال جسمه من رحمة الله نصيبا ، ودعاؤهم قد علا ، ودموع أهل الخشوع منهم تسيل ، فلا تسمع الا ضجيج دعاء ، أو نشيج بكاء. والنساء قد وقفن خارج الحجر ينظرن بعيون دوامع ، وقلوب خواشع ، يتمنين ذلك الموقف لو ظفرن به.

وكان بعض الحجاج المتأجرين المشفقين يبل ثوبه بذلك الماء المبارك ويخرج اليهن ويعصره في أيدي البعض منهن ، فيتلقينه شربا ومسحا على الوجوه والأبدان.

وتمادت تلك السحابة المباركة الى قريب المغرب ، وتمادى الناس على تلك الحال من الازدحام على تلقي ماء الميزاب بالايدي والوجوه والافواه ، وربما رفعوا الاواني ليقع فيها. فكانت عشية عظيمة استشعرت النفوس فيها الفوز بالرحمة ثقة بفضله وكرمه ولما اقترن بها من القرائن المباركة ، فمنها : أنها كانت عشية الجمعة وفضل اليوم فضله ، والدعاء فيها يرجى من الله تعالى قبوله ، لما ورد فيها من الأثر الصحيح ، وأبواب السماء تفتح عند نزول المطر. وقد وقف الناس تحت الميزاب ، وهو من المواضع التي يستجاب فيها الدعاء ، وطهرت أبدانهم رحمة الله النازلة من سمائه الى سطح بيته العتيق الذي هو حيال البيت المعمور ، وكفى بهذا المجتمع الكريم والمنتظم الشريف ، جعلنا الله ممن طهر فيه من أرجاس الذنوب ، واختص من رحمة الله تعالى

٨٥

بذنوب ، ورحمته سبحانه واسعة تسع عباده المذنبين ، انه غفور رحيم.

وذكروا أن الامام أبا حامد الغزالي دعا الله عزوجل بدعوات ، وهو في حرمه الكريم ، في رغبات رفعها الى الله جل وتعالى ، فأعطي بعضا ومنع بعضا. وكان مما منع نزول المطر وقت مقامه بمكة ، وكان تمنى أن يغتسل به تحت الميزاب ويدعو الله عزوجل عند بيته الكريم في الساعة التي أبواب سمائه فيها مفتوحة فمنع ذلك واجيب دعاؤه في سائر ما سأله. فله الحمد وله الشكر على ما أنعم به علينا. ولعل عبدا من عباده الصالحين الوافدين على بيته الكريم خصه الله بهذه الكرامة ، فدخلنا ، جميع المذنبين ، في شفاعته ، والله ينفعنا بدعاء المخلصين من عباده ولا تجعلنا ممن شقي بدعائه ، إنه منعم كبير.

ما خص الله تعالى به مكة

هذه البلدة المباركة سبقت لها ولأهلها الدعوة الخليلية الإبراهيمية ، وذلك أن الله عزوجل يقول حاكيا عن خليله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فأجعل أفئدة من الناس تهوي اليهم ، وارزقهم من الثمرات ، لعلهم يشكرون» ، وقال عزوجل : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ). فبرهان ذلك فيها ظاهر متصل إلى يوم القيامة ، وذلك أن أفئدة الناس تهوي اليها من الاصقاع النائية والاقطار الشاحطة. فالطريق اليها ملتقى الصادر والوارد ممن بلغته الدعوة المباركة. والثمرات تجبى اليها من كل مكان ، فهي أكثر البلاد نعما وفواكه ومنافع ومرافق ومتاجر.

ولو لم يكن لها من المتاجر إلا أوان الموسم ففيه مجتمع أهل المشرق والمغرب ، فيباع فيها في يوم واحد ، فضلا عما يتبعه ، من الذخائر النفيسة كالجواهر ، والياقوت ، وسائر الأحجار ، ومن انواع الطيب : كالمسك ، والكافور ، والعنبر والعود ؛ والعقاقير الهندية ، إلى غير ذلك من جلب الهند والحبشة ، الى الامتعة العراقية واليمانية ، الى غير ذلك من السلع الخراسانية ، والبضائع

٨٦

المغربية ، الى مالا ينحصر ولا ينضبط ، ما لو فرق على البلاد كلها لأقام لها الأسواق النافقة ولعم جميعها بالمنفعة التجارية ، كل ذلك في ثمانية أيام بعد الموسم ، حاشا ما يطرأ بها من طول الأيام من اليمن وسواها فما على الأرض سلعة من السلع ولا ذخيرة من الذخائر الا وهي موجودة فيها مدة الموسم. فهذه بركة لا خفاء بها وآية من آياتها التي خصها الله بها.

وأما الأرزاق والفواكه وسائر الطيبات فكنا نظن أن الاندلس اختصت من ذلك بحظ له المزية على سائر حظوظ البلاد حتى حللنا بهذه البلاد المباركة فألفيناها تغص بالنعم والفواكه : كالتين ، والعنب ، والرمان ، والسفرجل ، والخوخ ، والاترج ، والجوز ، والمقل ، والبطيخ ، والقثاء ، والخيار ، الى جميع البقول كلها : كالباذنجان ، واليقطين ، والسلجم ، والجزر ، والكرنب ، الى سائرها ، الى غير ذلك من الرياحين العبقة والمشمومات العطرة. وأكثر هذه البقول كالباذنجان والقثاء والبطيخ لا يكاد ينقطع مع طول العام ، وذلك من عجيب ما شاهدناه مما يطول تعداده وذكره. ولكل نوع من هذه الانواع فضيلة موجودة في حاسة الذوق يفضل بها نوعها الموجود في سائر البلاد ، فالعجب من ذلك يطول.

ومن أعجب ما اختبرناه من فواكهها البطيخ والسفرجل ، وكل فواكهها عجب ، لكن للبطيخ فيها خاصة من الفضل عجيبة ، وذلك لأن رائحته من أعطر الروائح وأطيبها ، يدخل به الداخل عليك فتجد رائحته العبقة قد سبقت اليك ، فيكاد يشغلك الاستمتاع بطيب رياه عن أكلك اياه ، حتى اذا ذقته خيل اليك أنه شيب بسكر مذاب أو يحنى النحل اللباب ، ولعل متصفح هذه الاحرف يظن أن في الوصف بعض غلو ، كلا لعمر الله! انه لأكثر مما وصفت وفوق ما قلت ، وبها عسل أطيب من الماذيّ المضروب به المثل يعرف عندهم بالمسعودي.

وأنواع اللبن بها في نهاية من الطيب ، وكل ما يصنع منها من السمن ، فإنه لا تكاد تميزه من العسل طيبا ولذاذة. ويجلب اليها قوم من اليمن يعرفون بالسرو

٨٧

نوعا من الزبيب الأسود والاحمر في نهاية الطيب ، ويجلبون معه من اللوز كثيرا.

وبها قصب السكر أيضا كثير ، يجلب من حيث تجلب البقول التي ذكرناها والسكر بها كثير مجلوب وسائر النعم والطيبات من الرزق ، والحمد لله.

وأما الحلوى فيصنع منها أنواع غريبة من العسل والسكر المعقود على صفات شتى ، انهم يصنعون بها حكايات جميع الفواكه الرطبة واليابسة. وفي الاشهر الثلاثة : رجب ، وشعبان ، ورمضان ، يتصل منها أسمطة بين الصفا والمروة ، ولم يشاهد أحد اكمل منظرا منها لا بمصر ولا بسواها ، قد صورت منها تصاوير إنسانية وفاكهية وجليت في منصات كأنها العرائس ونضدت بسائر أنواعها المنضدة الملونة ، فتلوح كأنها الازاهر حسنا ، فتقيد الأبصار وتستنزل الدرهم والدينار.

وأما لحوم ضأنها فهناك العجب العجيب ، قد وقع القطع من كل من تطوف على الآفاق وضرب نواحي الأقطار أنها أطيب لحم يؤكل في الدنيا. وما ذاك ، والله أعلم ، إلا لبركة مراعيها ، هذا على افراط سمنه ، ولو كان سواه من لحوم البلاد ينتهي ذلك المنتهى في السمن للفظته الأفواه زهما ولعافته وتجنبته.

والأمر في هذا بالضد ، كلما ازداد سمنا زادت النفوس فيه رغبة والنفس له قبولا ، فتجده هنيئا رخصا يذوب في الفم قبل أن يلاك مضغا ، ويسرع لخفته عن المعدة انهضاما. وما أرى ذلك الا من الخواص الغريبة ، وبركة البلد الأمين قد تكلفت بطيبه لا شك فيه. والخبر عنه يضيق عن الخبر له ، والله يجعل فيه رزقا لمن تشوق بلدته الحرام ، وتمنى هذه المشاهد العظام ، والمناسك الكرام ، بعزته وقدرته.

وهذه الفواكه تجلب اليها من الطائف ، وهي على مسيرة ثلاثة أيام منها ، على الرفق والتّؤدة ، ومن قرى حولها. وأقرب هذه المواضع يعرف بأدم ، هو من مكة على مسيرة يوم أو أزيد قليلا ، وهو من بطن الطائف ، ويحتوي على قرى كثيرة ، ومن بطن مرّ ، وهو على مسيرة يوم أو أقل ؛ ومن نخلة ، وهي على مثل

٨٨

هذه المسافة ؛ ومن أودية بقرب من البلد كعين سليمان وسواها ، قد جلب الله اليها من المغاربة ذوي البصارة بالفلاحة والزراعة فأحدثوا فيها بساتين ومزارع ، فكانوا أحد الأسباب في خصب هذه الجهات ، وذلك بفضل الله ، عزوجل ، وكريم اعتنائه بحرمه الكريم ، وبلده الأمين.

ومن أغرب ما الفيناه فاستمتعنا بأكله وأجرينا الحديث باستطابته ، ولا سيما لكوننا لم نعهده ، الرّطب ، وهو عندهم بمنزلة التين الأخضر في شجره يجنى ويؤكل ، وهو في نهاية من الطيب واللذاذة ، لا يسأم التفكه به ، وابّانه عندهم عظيم ، يخرج الناس اليه كخروجهم الى الضّيعة أو كخروج أهل المغرب لقراهم أيام نضج التين والعنب ، ثم بعد ذلك عند تناهي نضجه يبسط على الأرض قدر ما يجف قليلا ثم يركم بعضه على بعض في السلال والظروف ويرفع.

ومن صنع الله الجميل وفضله العميم علينا أنّا وصلنا الى هذه البلدة المكرمة فألفينا كل من بها من الحجاج المجاورين ممن قدم عهده فيها وطال مقامه بها يتحدث على جهة العجب بأمنها من الحرابة المتلصصين فيها على الحاج المختلسين ما بأيديهم والذين كانوا آفة الحرم الشريف ، لا يغفل أحد عن متاعه طرفة عين الا اختلس من يديه أو من وسطه بحيل عجيبة ولطافة غريبة ، فما منهم الا أحذّ يد القميص ، فكفى الله في هذا العام شرهم الا القليل ، وأظهر أمير البلد التشديد عليهم فتوقف شرهم ، وبطيب هوائها في هذا العام ، وفتور حمارّة قيظها المعهود فيها ، وانكسار حدة سمومها. وكنا نبيت في سطح الموضع الذي كنا نسكنه ، فربما يصيبنا من برد هواء الليل ما نحتاج معه الى دثار يقينا منه. وذلك أمر مستغرب بمكة.

وكانوا أيضا يتحدثون بكثرة نعمها في هذا العام ، ولين سعرها ، وأنها خارقة للعوائد السالفة عندهم. كان سوم الحنطة أربعة اصواع بدينار مؤمني ، وهي أوبتان من كيل مصر وجهاتها ، والأوبتان قدحان ونصف قدح من الكيل المغربيّ. وهذا السعر في بلد لا ضيعة فيه ولا قوام معيشة لأهله الّا بالميرة المجلوبة

٨٩

اليه سعر لا خفاء بيمنه وبركته على كثرة المجاورين فيها في هذا العام وانجلاب الناس اليها وترادفهم عليها. فحدثنا غير واحد من المجاورين الذين لهم بها سنون طائلة أنهم لم يروا هذا الجمع بها قط ، ولا سمع بمثله فيها. والله يجعله جمعا مرحوما معصوما بمنّه.

وما زال الناس فيها يسلسلون أوصاف أحوالها في هذه السنة وتمييزها عمّا سلف من السنين ، حتى لقد زعموا أن ماء زمزم المبارك زاد عذوبة ولم يكن قبل بصادقها.

وهذا الماء المبارك في أمره عجب ، وذلك أنك تشربه عند خروجه من قرارته ، فتجده في حاسة الذوق كاللبن عند خروجه من الضرع دفيئا ، وتلك فيه من الله تعالى آية وعناية ، وبركته أشهر من أن تحتاج لوصف واصف ، وهو لما شرب له كما قال ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أروى الله منه كل ظامىء اليه ، بعزّته وكرمه.

ومن الأمور المجرّبة في هذا الماء المبارك أن الإنسان ربما وجد مس الإعياء وفتور الأعضاء اما من كثرة الطواف أو من عمرة يعتمرها على قدميه أو من غير ذلك من الأسباب المؤدية الى تعب البدن ، فيصب من ذلك الماء على بدنه فيجد الراحة والنشاط لحينه ويذهب عنه ما كان أصابه.

شهر جمادى الآخرة

استهل هلاله ليلة الأربعاء ، وهو الحادي والعشرون من شهر شتنبر العجمي ، ونحن بالحرم المقدس ، زاده الله تعظيما وتشريفا. وفي صبيحة الليلة المذكورة وافى الأمير مكثر باتباعه وأشياعه ، على العادة السالفة المذكورة في الشهر الأول ، وعلى ذلك الرسم بعينه ، والزمزميّ المغرد بثنائه والدعاء له فوق قبة زمزم ، يرفع عقيرته بالدعاء والثناء عند كل شوط يطوفه الأمير ، والقرّاء أمامه ، الى أن فرغ من طوافه ، وأخذ في طريق انصرافه.

٩٠

ولأهل هذه الجهات المشرقيّة كلها سيرة حسنة ، عند مستهل كل شهر من شهور العام يتصافحون ويهنئ بعضهم بعضا ويتغافرون ويدعو بعضهم لبعض ، كفعلهم في الأعياد ؛ هكذا دائما. وتلك طريقة من الخير واقعة في النفوس ، تجدد الإخلاص وتستمد الرحمة من الله ، عزوجل ، بمصافحة المؤمنين بعضهم بعضا وبركة ما يتهادونه من الدعاء. والجماعة رحمة ، ودعاؤهم من الله بمكان.

جمال الدين وآثاره السنية

ولهذه البلدة المباركة حمّامان : أحدهما ينسب للفقيه الميانشي ، أحد الأشياخ المحلقين بالحرم المكرّم ؛ والثاني ، وهو الاكبر ، ينسب لجمال الدين ، وكان هذا الرجل كصفته جمال الدين ، له ، رحمه‌الله ، بمكة والمدينة ، شرّفهما الله ، من الآثار الكريمة والصنائع الحميدة والمصانع المبنية في ذات الله المشيدة ما لم يسبقه أحد اليه فيما سلف من الزمان ولا أكابر الخلفاء فضلا عن الوزراء.

وكان ، رحمه‌الله ، وزير صاحب الموصل ، تمادى على هذه المقاصد السنية المشتملة على المنافع العامة للمسلمين في حرم الله تعالى وحرم رسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أكثر من خمس عشرة سنة ، ولم يزل فيها باذلا أموالا لا تحصى في بناء رباع بمكة مسبلة في طرق الخير والبرّ ، مؤبدة ، محبسة ، واختطاط صهاريج للماء ، ووضع جباب في الطرق يستقر فيها ماء المطر ، الى تجديد آثار من البناء في الحرمين الكريمين.

وكان من أشرف أفعاله أن جلب الماء الى عرفات وقاطع عليه العرب بني شعبة ، سكان تلك النواحي المجلوب منها الماء ، بوظيفة من المال كبيرة على أن لا يقطعوا الماء عن الحاج ، فلما توفي الرجل ، رحمة الله عليه ، عادوا الى عادتهم الذميمة من قطعه.

ومن مفاخره ومناقبه أيضا أنه جعل مدينة الرسول ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٩١

تحت سورين عتيقين أنفق فيهما أموالا لا تحصى كثرة. ومن أعجب ما وفّقه الله تعالى اليه أنه جدّد ابواب الحرم كلّها.

وجدّد باب الكعبة المقدسة وغشاه فضة مذهبة ، وهو الذي فيها الآن حسبما تقدم وصفه ، وجلّل العتبة المباركة بلوح ذهب ابريز ، وقد تقدم ذكره أيضا. فأخذ الباب القديم وأمر بأن يصنع له منه تابوت يدفن فيه ، فلما حانت وفاته أوصى بأن يوضع في ذلك التابوت المبارك ويحج به ميتا. فسيق الى عرفات ووقف به على بعد وكشف عن التابوت ، فلما افاض الناس افيض به وقضيت له المناسك كلها وطيف به طواف الافاضة ، وكان الرجل ، رحمه‌الله ، لم يحجّ في حياته. ثم حمل الى مدينة الرسول ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وله فيها من الآثار الكريمة ما قدمنا ذكره ، وكاد أشرافها يحملونه على رؤوسهم. وبنيت له روضة بإزاء روضة المصطفى ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفتح فيها موضع يلاحظ الروضة المقدسة ، وأبيح له ذلك على شدة الضنانة بمثله لسابق أفعاله الكريمة ، ودفن في تلك الروضة ، وأسعده الله بالجوار الكريم ، وخصّه بالمواراة في تربة التقديس والتعظيم ، والله لا يضيع أجر المحسنين ، وسنذكر تاريخ وفاته اذا وقفنا عليه من التاريخ الثابت في روضته ، ان شاء الله عزوجل ، وهو ولي التيسير ، لا رب غيره.

ولهذا الرجل ، رحمه‌الله ، من الآثار السنية والمفاخر العلية التي لم يسبقه اليها الأكابر الأجواد وسراة الأمجاد فيما سلف من الزمان ما يفوت الإحصاء ويستغرق الثناء ويستصحب طول الأيام من الألسنة الدعاء ، وحسبك أنه اتسع اعتناؤه بإصلاح عامة طرق المسلمين بجهة المشرق من العراق الى الشام الى الحجاز ، حسبما نذكره ، واستنبط المياه ، وبنى الجباب ، واختط المنازل في المفازات ، وأمر بعمارتها مأوى لأبناء السبيل وجميع المسافرين ، وابتنى بالمدن المتصلة من العراق الى الشام فنادق عيّنها لنزول الفقراء أبناء السبيل الذين يضعف أحدهم عن تأدية الأكرية ، وأجرى على قومة تلك الفنادق والمنازل ما يقوم بمعيشتهم ،

٩٢

وعين لهم ذلك في وجوه تأبدت لهم ، فبقيت تلك الرسوم الكريمة ثابتة على حالها الى الآن. فسارت بجميل ذكر هذا الرجل الرّفاق ، وملئت ثناء عليه الآفاق.

وكان مدّة حياته بالموصل ، على ما اخبرنا به غير واحد من ثقات الحجاج التجار ممن شاهد ذلك ، قد اتخذ دار كرامة واسعة الفناء فسيحة الأرجاء يدعو اليها كل يوم الجفلى من الغرباء فيعمهم شبعا وريا ، ويرد الصادر والوارد من ابناء السبيل في ظله عيشا هنيئا ، لم يزل على ذلك مدة حياته ، رحمه‌الله. فبقيت آثاره مخلدة ، واخباره بألسنة الذكر مجددة ، وقضى حميدا سعيدا ، والذكر الجميل للسعداء حياة باقية ، ومدة من العمر ثانية ، والله الكفيل بجزاء المحسنين الى عباده ، فهو أكرم الكرماء ، وأكفل الكفلاء.

الأمور المحظورة في الحرام

ومن الأمور المحظورة في هذا الحرم الشريف ، زاده الله تعظيما وتكريما ، أن النفقة فيه ممنوعة ، لا يجد المتاجر من ذوي اليسار اليها سبيلا في تجديد بناء أو اقامة حطيم أو غير ذلك مما يختص بالحرم المبارك. ولو كان الأمر مباحا في ذلك لجعل الراغبون في نفقات البر من أهل الجدة حيطانه عسجدا وترابه عنبرا ، لكنهم لا يجدون السبيل الى ذلك ، فمتى ذهب أحد أرباب الدنيا الى تجديد أثر من آثاره او اقامة رسم كريم من رسومه أخذ اذن الخليفة في ذلك. فإن كان مما ينقش عليه أو يرسم فيه طرز باسم الخليفة ونفوذ أمره بعمله ولم يذكر اسم المتولي لذلك. ولا بد مع ذلك من بذل حظ وافر من النفقة لأمير البلد ربما يوازي قدر المنفوق فيه. فتضاعف المؤونة على صاحبه وحينئذ يصل الى غرضه من ذلك.

ومن أغرب ما اتفق لأحد دهاة الأعاجم ، ذوي الملك والثراء ، أنه وصل الى الحرم الكريم ، مدة جدّ هذا الأمير مكثر ، فرأى تنور بئر زمزم وقبتها

٩٣

على صفة لم يرضها. فاجتمع بالأمير ، وقال : أريد أن أتأنق في بناء تنور زمزم وطيه وتجديد قبته ، وأبلغ في ذلك الغاية الممكنة ، وأنفق من صميم مالي ، ولك علي في ذلك شرط ابلغ بالتزامه لك الغرض المقصود ، وهو أن تجعل ثقة من قبلك يقيد مبلغ النفقة في ذلك ، فاذا استوفى البناء التمام ، وانتهت النفقة منتهاها ، وتحصلت محصاة ، بذلت لك مثلها جزاء على اباحتك لي ذلك.

فاهتزّ الأمير طمعا ، وعلم أن النفقة في ذلك تنتهي الى آلاف من الدنانير ، على الصفة التي وصفها له ، فأباح له ذلك ، وألزمه مقيدا يحصي قليل الإنفاق وكثيره. وشرع الرجل في بنائه واحتفل واستفرغ الوسع وتأنق وبذل المجهود ، فعل من يقصد بفعله ذات الله عزوجل ويقرضه قرضا حسنا. والمقيد يسوّد طواميره بالتقييد ، والأمير يتطلع الى ما لديه ، ويؤمل لقبض تلك النفقات الواسعة بسط يديه ، الى ان فرغ البناء على الصفة التي تقدم ذكرها أولا عند ذكر بئر زمزم وقبته ، فلما لم يبق الا ان يصبح صاحب النفقة بالحساب ويستقضي منه العدد المجتمع فيها ، خلا منه المكان ، واصبح في خبر كان ، وركب الليل جملا ، وأصبح الأمير يقلب كفيه ، ويضرب اصدريه ، ولم يمكنه أن يحدث في بناء وضع في حرم الله تعالى حادثا يحيله ، أو نقضا يزيله ، وفاز الرجل بثوابه ، وتكفل الله به في انقلابه وتحسين مآبه : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) وبقي خبر هذا الرجل مع الأمير يتهادى غرابة وعجبا ، ويدعو له كل شارب من ذلك الماء المبارك.

شهر رجب الفرد

استهل هلاله ليلة الخميس الموفي عشرين لشهر أكتوبر بشهادة خلق كثير من الحجاج المجاورين والأشراف أهل مكة ، ذكروا أنهم رأوه بطريق العمرة ومن جبل قعيقعان وجبل أبي قبيس ، فثبتت شهادتهم بذلك عند الأمير والقاضي ، واما من المسجد الحرام فلم يبصره أحد.

٩٤

وهذا الشهر المبارك عند أهل مكة موسم من المواسيم المعظمة وهو اكبر أعيادهم ، ولم يزالوا على ذلك قديما وحديثا يتوارثه خلف عن سلف متصلا ميراث ذلك الى الجاهلية لأنهم كانوا يسمونه منصل الاسنة. وهو أحد الاشهر الحرم ، وكانوا يحرّمون القتال فيه ، وهو شهر الله الأصم ، كما جاء في الحديث عن رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

العمرة الرجبية

والعمرة الرجبية عندهم أخت الوقفة العرفية ، لأنهم يحتفلون لها الاحتفال الذي لم يسمع بمثله ويبادر اليها أهل الجهات المتصلة بها ، فيجتمع لها خلق عظيم لا يحصيهم الا الله عزوجل. فمن لم يشاهدها بمكة لم يشاهد مرأى يستهدي ذكره غرابة وعجبا ، شاهدنا من ذلك أمرا يعجز الوصف عنه ، والمقصود منه الليلة التي يستهل فيها الهلال مع صبيحتها. ويقع الاستعداد لها من قبل ذلك بأيام ، فأبصرنا من ذلك ما نصف بعضه على جهة الاختصار. وذلك لأنا عاينا شوارع مكة وأزقتها ، من عصر يوم الأربعاء ، وهي العشية التي ارتقب فيها الهلال ، قد امتلأت هوادج مشدودة على الإبل مكسوة بأنواع كسا الحرير وغيرها من ثياب الكتان الرفيعة بحسب سعة احوال اربابها ووفرهم ، كل يتأنق ويحتفل بقدر استطاعته ، فأخذوا في الخروج الى التنعيم ميقات المعتمرين ، فسالت تلك الهوادج في اباطح مكة وشعابها ، والإبل قد زينت تحتها بأنواع التزيين ، واشعرت بغير هدي بقلائد رائقة المنظر من الحرير وغيره ، وربما فاضت الأستار التي على الهوادج حتى تسحب أذيالها على الأرض.

ومن أغرب ما شاهدناه من ذلك هودج الشريفة جمانة بنت فليتة عمة الأمير مكثر ، فإن اذيال سترة كانت تنسحب على الارض انسحابا ؛ وغيره من هوادج حرم الامير وحرم قواده ، الى غير ذلك من هوادج لم نستطع تقييد عدتها عجزا عن الاحصاء. فكانت تلوح على ظهور الإبل كالقباب المضروبة ، فيخيل للناظر

٩٥

اليها انها محلة قد صربت ابنيتها من كل لون رائق.

ولم يبق ليلة الخميس المذكور بمكة الا من خرج للعمرة من اهلها ومن المجاورين ، وكنا في جملة من خرج ابتغاء بركة الليلة العظيمة ، فكدنا لا نتخلص الى مسجد عائشة من الزحام وانسداد ثنيات الطريق بالهوادج ، والنيران قد اشعلت بحافتي الطريق كله ، والشمع يتقد بين أيدي الإبل التي عليها هوادج من يشار اليه من عقائل نساء مكة.

فلما قضينا العمرة وطفنا وجئنا للسعي بين الصفا والمروة ، وقد مضى هدء من الليل ، أبصرناه كله سرجا ونيرانا وقد غص بالساعين والساعيات على هوادجهن ، فكنا لا نتلخص الا بين هوادجهن وبين قوائم الإبل لكثرة الزحام واصطكاك الهوادج بعضها على بعض. فعاينا ليلة هي أغرب ليالي الدنيا ، فمن لم يعاين ذلك لم يعاين عجبا يحدث به ولا عجبا يذكره مرأى الحشر يوم القيامة لكثرة الخلائق فيه ، محرمين ، ملبين ، داعين الى الله عزوجل ضارعين ، والجبال المكرمة التي بحافتي الطريق تجيبهم بصداها حتى سكتت المسامع ، وسكبت من هول تلك المعاينة المدامع ، وذابت القلوب الخواشع.

وفي تلك الليلة ملئ المسجد الحرام كله سرجا فتلألأ نورا. وعند ثبوت رؤية الهلال عند الأمير أمر بضرب الطبول والدبادب والبوقات إشعارا بأنها ليلة الموسم.

فلما كانت صبيحة ليلة الخميس خرج الى العمرة في احتفال لم يسمع بمثله انحشد له أهل مكة على بكرة ابيهم ، فخرجوا على مراتبهم قبيلة قبيلة وحارة حارة شاكين في الأسلحة فرسانا ورجالة ، فاجتمع منهم عدد لا يحصى كثرة ، يتعجب المعاين لهم لوفور عددهم ، فلو أنهم من بلاد جمة لكانوا عجبا ، فكيف وهم من بلد واحد وهذا أدل الدلائل على بركة البلد. فكانوا يخرجون على ترتيب عجيب ، فالفرسان منهم يخرجون بخيلهم ويلعبون بالاسلحة عليها ، والرجالة يتواثبون ويتثاقفون بالأسلحة في ايديهم حرابا وسيوفا وحجفا وهم يظهرون التطاعن بعضهم لبعض والتضارب بالسيوف والمدافعة بالحجف التي يستجنون بها. واظهروا من الحذق

٩٦

؟ كل أمر مستغرب. وكانوا يرمون بالحراب الى الهواء ويبادرون اليها لقفا بأيديهم وهي قد تصوبت اسنتها على رؤوسهم وهم في زحام لا يمكن فيه المجال ، وربما رمى بعضهم بالسيوف في الهواء فيستلقونها قبضا على قوائمها كأنها لم تفارق أيديهم ، الى أن خرج الأمير يزحف بين قواده ، وأبناؤه أمامه ، وقد قاربوا سن الشباب ، والرايات تخفق أمامه ، والطبول والدبادب بين يديه ، والسكينة تفيض عليه ، وقد امتلأت الجبال والطرق والثنيات بالنظارة من جميع المجاورين.

فلما انتهى الى الميقات وقضى غرضه أخذ في الرجوع ، وقد ترتب العسكران بين يديه على لعبهم ومرحهم والرجالة على الصفة المذكورة من التجاول. وقد ركب جملة من اعراب البوادي نجبا صهبا لم ير أجمل منظرا منها ، وركابها يسابقون الخيل بها ، بين يدي الأمير ، رافعين أصواتهم بالدعاء له والثناء عليه ، الى أن وصل المسجد الحرام ، فطاف بالكعبة ، والقراء أمامه ، والمؤذن الزمزمي يغرد في سطح قبة زمزم رافعا عقيرته بتهنئته بالموسم والثناء عليه والدعاء له على العادة ، فلما فرغ من الطواف صلى عند الملتزم ثم جاء الى المقام وصلى خلفه ، وقد أخرج له من الكعبة ووضع في قبته الخشبية التي يصلى خلفها. فلما فرغ من صلاته رفعت له القبة عن المقام فاستلمه وتمسح به ، ثم أعيدت القبة عليه ، وأخذ في الخروج على باب الصفا الى المسعى. وانجفل بين يديه ، فسعى راكبا والقواد مطيفون به ، والرجالة الحرّابة أمامه ، فلما فرغ من السعي استلت السيوف أمامه ، واحدقت الأشباع به ، وتوجه الى منزله على هذه الحالة الهائلة مزحوفا به ، وبقي المسعى يومه ذلك يموج بالساعين والساعيات.

فلما كان اليوم الثاني ، وهو يوم الجمعة ، كان طريق العمرة في العمارة قريبا من امسه ، راكبين وماشين ، رجالا ونساء والنساء الماشيات المتأجرات كثير يسابقن الرجال في تلك السبيل المباركة ، تقبل الله من جميعهم بمنه.

وفي أثناء ذلك يلاقي الرجال بعضهم بعضا فيتصافحون ويتهادون الدعاء

٩٧

والتغافر بينهم ، والنساء كذلك. والكل منهم قد لبس أفخر ثيابه واحتفل احتفال أهل البلاد للأعياد. وأما أهل البلد الأمين فهذا الموسم عيدهم ، له يعبأون وله يحتفلون ، وفي المباهاة فيه يتنافسون وله يعظمون ، وفيه تنفق أسواقهم وصنائعهم ، يقدمون النظر في ذلك والأستعداد له بأشهر.

السرو المائرون

ومن لطيف صنع الله ، عزوجل ، لهم فيه اعتناء كريم منه سبحانه بحرمه الأمين ، أن قبائل من اليمن تعرف بالسّرو ، وهم أهل جبال حصينة باليمن تعرف بالسراة ، كأنها مضافة لسراة الرجال ، على ما أخبرني به فقيه من أهل اليمن يعرف بابن أبي الصيف ، فاشتق الناس لهم هذا الاسم المذكور من اسم بلادهم ، وهم قبائل شتى كبجيلة وسواها ، يستعدون للوصول الى هذه البلدة المباركة قبل حلولها بعشرة أيام ، فيجتمعون بين النية في العمرة وميرة البلد بضروب من الأطعمة كالحنطة وسائر الحبوب الى اللوبياء الى ما دونها ، ويجلبون السمن والعسل والزبيب واللوز. فتجمع ميرتهم بين الطعام والإدام والفاكهة. ويصلون في آلاف من العدد رجالا وجمالا موقرة بجميع ما ذكر. فيرغدون معايس اهل البلد والمجاورين فيه يتقوتون ويدّخرون ، وترخص الأسعار ، وتعم المرافق. فيعد منها الناس ما يكفيهم لعامهم الى ميرة اخرى. ولو لا هذه الميرة لكان أهل مكة في شظف من العيش.

ومن العجب في أمر هؤلاء المائرين أنهم لا يبيعون من جميع ما ذكرناه بدينار ولا بدرهم ، إنما يبيونه بالخرق والعباءات والشمل ، فأهل مكة يعدّون لهم من ذلك مع الأقنعة والملاحف المتان وما أشبه ذلك مما يلبسه الأعراب ويبايعونهم به ويشارونهم. ويذكر أنهم متى اقاموا عن هذه الميرة ببلادهم تجدب ويقع الموتان في مواشيهم وانعامهم ، وبوصولهم بها تخصب بلادهم وتقع

٩٨

. ـ البركة أموالهم فمتى في قرب الوقت ووقعت منهم بعض غفلة في التأهب للخروج اجتمع نساؤهم فأخرجنهم. وكل هذا لطف من الله تعالى لحرمة البلد الأمين.

وبلادهم على ما ذكر لنا خصيبة متسعة كثيرة التين والعنب واسعة المحرث وافرة الغلات ، وقد اعتقدوا اعتقادا صحيحا أن البركة كلها في هذه الميرة التي يحلبونها ، فهم من ذلك في تجارة رابحة مع الله عزوجل.

والقوم عرب صرحاء فصحاء جفاة أصحاء ، لم تغذهم الرقة الحضرية ولا هذبتهم السير المدنية ولا سدّدت مقاصدهم السنن الشرعية ، فلا تجد لديهم من أعمال العبادات سوى صدق النية ، فهم اذا طافوا بالكعبة المقدّسة يتطارحون عليها تطارح البنين على الام المشفقة لائذين بجوارها متعلقين بأستارها فحيثما علقت أيديهم منها تمزق لشدة اجتذابهم لها وانكبابهم عليها. وفي اثناء ذلك تصدع لسنتهم بأدعية تتصدع لها القلوب وتتفجر لها الأعين الجوامد فتصوب. فترى الناس حولهم باسطي ايديهم مؤمنين على أدعيتهم متلقنين لها من السنتهم ، على أنهم طول مقامهم لا يتمكن منهم طواف ولا يوجد سبيل الى استلام الحجر.

واذا فتح الباب الكريم فهم الداخلون بسلام ، فتراهم في محاولة دخولهم يتسلسلون كأنهم بعض ببعض مرتبطون ، يتصل منهم على هذه الصفة الثلاثون والأربعون الى أزيد من ذلك ، والسلاسل منهم يتبع بعضهم بعضا ، وربما انفصمت بواحد منهم ، يميل عن المطلع المبارك الى البيت الكريم. فيقع الكل لوقوعه ، فيشاهد الناظر لذلك مرأى يؤدي الى الضحك.

وأما صلاتهم فلم يذكر في مضحكات الأعراب أظرف منها ، وذلك أنهم يستقبلون البيت الكريم فيسجدون دون ركوع وينقرون بالسجود نقرا ، ومنهم من يسجد السجدة الواحدة ومنهم من يسجد الثّنتين والثلاث والاربع ثم يرفعون رؤوسهم من الارض قليلا وأيديهم مبسوطة عليها ، ويلتفتون يمينا وشمالا التفات المروع ثم يسلمون أو يقومون دون تسليم ولا جلوس للتشهد ، وربما تكلموا في

٩٩

أثناء ذلك ، وربما رفع أحدهم رأسه من سجوده الى صاحبه وصاح به ووصاه بما شاء ثم عاد الى سجوده ، الى غير ذلك من أحوالهم الغريبة.

ولا ملبس لهم سوى أزر وسخة أو جلود يستترون بها. وهم مع ذلك أهل بأس ونجدة ، لهم القسيّ العربية الكبار كأنها قسيّ القطانين لا تفارقهم في أسفارهم ، فمتى رحلوا الى الزيارة هاب أعراب الطريق الممسكون للحاج مقدمهم وتجنبوا اعتراضهم وخلوا لهم عن الطريق. ويصحبهم الحجاج الزائرون فيحمدون صحبتهم. وعلى ما وصفنا من أحوالهم فهم أهل اعتقاد للإيمان صحيح ، وذكر أن النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكرهم واثنى عليهم خيرا ، وقال : «علموهم الصلاة يعلموكم الدعاء». وكفى بأن دخلوا في عموم قوله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإيمان يمان» الى غير ذلك من الأحاديث الواردة في اليمن واهله.

وذكر أن عبد الله بن عمر ، رضي‌الله‌عنهما ، كان يحترم وقت طوافهم ويتحرى الدخول في جملتهم تبركا بأدعيتهم. فشأنهم عجيب كله.

وشاهدنا منهم صبيا في الحجر قد جلس الى احد الحجاج يعلمه فاتحة الكتاب وسورة الإخلاص. فكان يقول له : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فيقول الصبيّ : «هو الله أحد» فيعيد عليه المعلم ، فيقول له : «ألم تأمرني بأن أقول : هو الله أحد؟ قد قلت». فكابد في تلقينه مشقة ، وبعد لأي ما علقت بلسانه. وكان يقول له : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فيقول الصبي : «بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله». فيعيد عليه المعلم ، ويقول له : «لا تقل : والحمد لله انما اقل : الحمد لله» فيقول الصبي : «اذا قلت : بسم الله الرحمن الرحيم ، اقول : والحمد لله ، للاتصال ، واذا لم أقل بسم الله ، وبدأت قلت : الحمد لله» فعجبنا من أمره ومن معرفته طبعا بصلة الكلام وفصله دون تعلم.

وأما فصاحتهم فبديعة جدا ، ودعاؤهم كثير التخشيع للنفوس ، والله يصلح أحوالهم وأحوال جميع عباده بمنه.

١٠٠