رحلة ابن جبير

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي

رحلة ابن جبير

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

١
٢
٣
٤

الكتاب والمؤلف

بسم الله الرّحمن الرّحيم مؤلف هذا الكتاب هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني ، الأندلسي ، الشاطبي البلنسي. ولد في بلنسة سنة ٥٣٩ ه‍. وقد شغف أول ما شغف بعلوم الدين فسمعها من أبيه في شاطبة ، وأخذ القرآن عن أبي الحسن بن أبي العيش.

وقد قامت شهرته عن كتابه الذي عرف باسمه (رحلة ابن جبير) اذ أنه جاء ثمرة لرحلات ثلاث قام بها ، أهمها رحلة استغرقت أكثر من ثلاث سنوات وقد بدأها في يوم الاثنين في التاسع عشر من شهر شوال سنة ٥٧٨ ه‍. وختمها في يوم الخميس في الثاني والعشرين من شهر محرم سنة ٥٨١ ه‍.

وقد جاء هذا الكتاب حافلا بالمشاهد والتجارب التي اكتسبها اثناء تجواله في عجائب البلدان والمدن ، ورؤيته لغرائب المشاهد ، واطلاعه على الشؤون والأحوال السياسية والاجتماعية والأخلاقية التي كانت سائدة في تلك الحقبات من الزمن.

وقد استرعى اهتمام المستشرقين لما له من قيمة نفيسة. فترجموا أول شيء القسم المختص منه بصقليّة الى الفرنسية وطبع في عام ١٨٤٦ م ، ثم طبع كله

٥

ولأول مرة في ليدن عام ١٨٥٢ م. باضافة مقدمة اليه وضعها المستشرق رايت. ثم أعيد طبعه عام ١٩٠٧ م. مع ترجمة لمؤلفه.

وقد كانت وفاة ابن جبير في سنة ٦١٤ ه‍. في آخر رحلة قام بها الى مصر والإسكندرية حيث أقام هنالك محدثا.

لجنة تحقيق التراث

بدار ومكتبة الهلال

٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار

ابتدئ بتقييدها يوم الجمعة الموفي ثلاثين لشهر شوّال سنة ثمان وسبعين وخمس مئة على متن البحر بمقابلة جبل شلير (١) عرّفنا الله السلامة بمنّه.

وكان انفصال أحمد بن حسان ومحمد بن جبير من غرناطة ، حرسها الله للنية الحجازية المباركة ، قرنها الله بالتيسير والتسهيل وتعريف الصنع الجميل ، أول ساعة من يوم الخميس الثامن لشوال المذكور وبموافقة اليوم الثالث لشهر فبرير الأعجمي. وكان الاجتياز على جيّان (٢) لقضاء بعض الأسباب ، ثم كان الخروج منها أول ساعة من يوم الاثنين التاسع عشر لشهر شوّال المذكور وبموافقة اليوم الرابع عشر لشهر فبرير المذكور أيضا.

وكانت مرحلتنا الأولى منها الى حصن القبذاق (٣) ثم منه الى حصن قبرة (٤)

__________________

(١) شلير : جبل بالأندلس.

(٢) جيان : من مدن الاندلس.

(٣) قبذان : مدينة في الأندلس.

(٤) قبرة : من أعمال الأندلس.

٧

ثم منه الى مدينة استجة ثم منها الى حصن أشونة (١) ثم منه الى شلبر ثم منه الى حصن أركش ثم منه الى قرية تعرف بقرية القشمة من قرى مدينة ابن السليم ثم منها الى جزيرة طريف ، وذلك يوم الاثنين السادس والعشرين من الشهر المؤرخ.

فلما كان ظهر يوم الثلاثاء من اليوم الثاني ، يسر الله علينا في عبور البحر الى قصر مصمودة (٢) تيسيرا عجيبا ، والحمد لله. ونهضنا منه الى سبتة غدوة يوم الأربعاء الثامن والعشرين منه ، وألفينا بها مركبا للروم الجنويّين مقلعا الى الإسكندرية بحول الله ، عزوجل ، فسهّل الله علينا في الركوب فيه.

وأقلعنا ظهر يوم الخميس التاسع والعشرين منه ، وبموافقة الرابع والعشرين من فبرير المذكور ، بحول الله تعالى وعونه ، لا ربّ غيره. وكان طريقنا في البحر محاذيا لبر الأندلس. وفارقناه يوم الخميس السادس لذي القعدة بعده عندما حاذينا دانية. وفي صبيحة يوم الجمعة السابع من السهر المذكور آنفا قابلنا بر جزيرة يابسة (٣) ثم يوم السبت بعده قابلنا بر جزيرة سيورقة ثم يوم الأحد بعده قابلنا جزيرة منورقة. ومن سبتة اليها نحو ثمانية بحار ، والمجرى مئة ميل. وفارقنا بر هذه الجزيرة المذكورة ، وقام معنا بر جزيرة سردانية أول ليلة الثلاثاء الحادي عشر من الشهر المذكور ، وهو الثامن من مارس ، دفعة واحدة على نحو ميل أو أقل. وبين الجزيرتين سردانيه ومنورقة نحو الأربع مئة ميل ، فكان قطعا مستغربا في السرعة.

__________________

(١) أشونة : حصن بالاندلس من نواحي استجة.

(٢) قصر مصمودة : وهو رأس شمال افريقية المواحه للأندلس.

(٣) يابسة : جزيرة في البحر نحو الأندلس.

٨

أهوال البحر

وطرأ علينا من مقابلة البر في الليل هول عظيم ، عصم الله منه بريح أرسلها الله تعالى في الحين من تلقاء البر ، فأخرجنا عنه ، والحمد لله على ذلك. وقام علينا نوء هال له البحر صبيحة يوم الثلاثاء المذكور ، فبقينا مترددين بسببه حول برّ سردانية الى يوم الأربعاء بعده فأطلع الله علينا في حال الوحشة وانغلاق الجهات بالنوء فلا نميز شرقا من غرب ، مركبا للروم قصدنا الى أن حاذانا ، فسئل عن مقصده ، فأخبر أنه يريد جزيرة «صقلية» وأنه من قرطاجنة عمل مرسية وقد كنا استقبلنا طريقه التي جاء منها من غير علم ، فأخذنا عند ذلك في اتباع أثره ، والله الميسّر لارب سواه. فخرج علينا طرف من بر سردانية المذكور ، فأخذنا في الرجوع عودا على بدء الى أن وصلنا طرفا من البر المذكور يعرف بقوسمركة ، وهو مرسى معروف عندهم. فأرسينا به ظهر يوم الأربعاء المذكور والمركب المذكور معنا. وبهذا الموضع المذكور أثر لبنيان قديم ذكر لنا أنه كان منزلا لليهود فيما سلف.

ثم إنّا أقلعنا منه ظهر يوم الأحد السادس عشر من الشهر المذكور ، وفي مدة مقامنا بالمرسى المذكور جددنا فيه الماء والحطب والزاد. وهبط واحد من المسلمين ممن يحفظ اللسان الرومي مع جملة من الروم الى أقرب المواضع المعمورة منا فأعلمنا أنه رأى جملة من أسرى المسلمين نحو الثمانين بين رجال ونساء يباعون في السوق. وكان ذلك عند وصول العدو ، دمره الله ، بهم من سواحل البحر ببلاد المسلمين ، والله يتداركهم برحمته. ووصل الى المرسى المذكور ، يوم الجمعة الثالث من يوم أرسينا فيه ، سلطان الجزيرة المذكورة ، مع جملة من الخيل.

٩

فنزل اليه أشياخ المركب من الروم واجتمعوا به ، وطال مقامهم عنده ، ثم انصرفوا وانصرف الى موضع سكناه. وتركنا المركب المذكور في موضع ارسائه ، بسبب مغيب بعض أصحابه في البلد ، عند هبوب الريح الموافقة لنا.

وفي ليلة الثلاثاء الثامن عشر لذي القعدة المذكور والخامس عشر من شهر مارس المذكور أيضا ، وفي الربع الباقي منها ، فارقنا بر سردانية المذكورة ، وهو بر طويل جرينا بحذائه نحو المئتي ميل. ومنتهى دور الجزيرة ، على ما ذكر لنا ، الى أزيد من خمس مئة ميل ، ويسر الله علينا في التخلص من بحرها ، لأنه أصعب ما في الطريق ، والخروج منه يتعذر في أكثر الأحيان ، والحمد لله على ذلك.

وفي ليلة الأربعاء بعدها من أولها عصفت علينا ريح هال لها البحر وجاء معها مطر ترسله الرياح بقوة ، كأنه شآبيب (١) سهام. فعظم الخطب واشتد الكرب وجاءنا الموج من كل مكان أمثال الجبال السائرة. فبقينا على تلك الحال الليل كله ، واليأس قد بلغ منا مبلغه ، وارتجينا مع الصباح فرجة تخفف عنا بعض ما نزل بنا ، فجاء النهار ، وهو يوم الأربعاء التاسع عشر من ذي القعدة ، بما هو اشد هولا وأعظم كربا ، وزاد البحر اهتياجا واربدت الآفاق سوادا ، واستشرت الريح والمطر عصوفا ، حتى لم يثبت معها شراع. فلجىء الى استعمال الشّرع الصّغار. فأخذت الريح أحدها ومزقته وكسرت الخشبة التي ترتبط الشرع فيها ، وهي المعروفة عندهم بالقرّية. فحينئذ تمكن اليأس من النفوس وارتفعت أيدي المسلمين بالدعاء الى الله عزوجل. وأقمنا على تلك الحال النهار كله. فلما جن الليل فترت الحال بعض فتور ، وسرنا في هذه الحال كلها بريح الصواري سيرا سريعا.

وفي ذلك اليوم حاذينا بر جزيرة صقلية. وبتنا تلك الليلة ، التي هي ليلة الخميس التالية لليوم المذكور ، مترددين بين الرجاء واليأس. فلما أسفر الصبح

__________________

(١) الشآبيب : مفردها شؤبوب. الدفعة من المطر.

١٠

نشر الله رحمته ، وأقشعت السحاب وطاب الهواء وأضاءت الشمس وأخذ في السكون البحر. فاستبشر الناس وعاد الأنس وذهب اليأس ، والحمد لله الذي أرانا عظيم قدرته ، ثم تلافى بجميل رحمته ولطيف رأفته ، حمدا يكون كفاء لمنته ونعمته.

وفي هذا الصباح المذكور ظهر لنا بر صقيلة وقد أجزنا أكثره ولم يبق منه الا الأقل. وأجمع من حضر من رؤساء البحر من الروم وممن شاهد الأسفار والأهوال في البحر من المسلمين أنهم لم يعاينوا قط مثل هذا الهول فيما سلف من أعمارهم ، والخبر عن هذه الحال يصغر في خبرها.

وبين البرين المذكورين بر سردانية وبر صقيلة نحو الاربع مئة ميل. واستصحبنا من برصقلية ازيد من مئتي ميل ، ثم ترددنا بحذائه بسبب سكون الريح. فلما كان عصر يوم الجمعة الحادي والعشرين من الشهر المذكور أقلعنا من الموضع الذي كنا أرسينا فيه ، وفارقنا البر المذكور أول تلك الليلة. وأصبحنا يوم السبت وبيننا وبينه مسافة بعيدة ، وظهر لنا اذ ذاك الجبل الذي كان فيه البركان (١) ، وهو جبل عظيم مصعد في جو السماء قد كساه الثلج. وأعلمنا أنه يظهر في البحر مع الصحو على أزيد من مسيرة مئة ميل. فأخذنا ملججين وأقرب ما نؤمله من البر الينا جزيرة أقريطش (٢) ، وهي من جزائر الروم ونظرها الى صاحب القسطنطينية ، وبينها وبين جزيرة صقيلة مسيرة سبع مئة ميل ، والله كفيل بالتيسير والتسهيل بمنّه. وفي طول هذه الجزيرة ، جزيرة أقريطش المذكورة ، نحو من ثلاث مئة ميل.

وفي ليلة الثلاثاء الخامس والعشرين من الشهر المذكور ، وهو الثاني والعشرون من شهر مارس ، حاذينا البر المذكور تقديرا لا عيانا. وفي صبيحة اليوم المذكور فارقناه متوجهين لقصدنا. وبين هذه الجزيرة المذكورة وبين الإسكندرية ست مئة ميل أو نحوها.

__________________

(١) هو بركان أتنا في صقلية.

(٢) اقريطش : الجزيرة المعروفة اليوم بكريت.

١١

وفي صبيحة يوم الأربعاء السادس والعشرين منه ظهر لنا البر الكبير المتصل بالإسكندرية المعروف ببر الغرب ، وحاذينا منه موضعا يعرف بجزائر الحمّام (١) على ما ذكر لنا ، وبينه وبين الاسكندرية نحو الأربع مئة ميل على ما ذكر لنا فأخذنا في السير والبر المذكور منا يمينا.

البشرى بالسلامة

وفي صبيحة يوم السبت التاسع والعشرين من الشهر المذكور أطلع الله علينا البشرى بالسلامة بظهور منار الاسكندرية على نحو العشرين ميلا ، والحمد لله على ذلك حمدا يقتضي المزيد من فضله وكريم صنعه.

وفي آخر الساعة الخامسة منه كان ارساؤنا بمرسى البلد ، ونزولنا اثر ذلك ، والله المستعان فيما بقي بمنّه. فكانت اقامتنا على متن البحر ثلاثين يوما ، ونزلنا في الحادي والثلاثين ، لأن ركوبنا إياه كان يوم الخميس التاسع والعشرين من شهر شوّال ، ونزولنا عنه في يوم السبت التاسع والعشرين من شهر ذي القعدة ، وبموافقة السادس والعشرين من مارس ، والحمد لله على ما منّ به من التيسير والتسهيل ، وهو سبحانه المسؤول بتتميم النعمة علينا ببلوغ الغرض من المقصود ، وتعجيل الإياب الى الوطن على خير وعافية ، انه المنعم بذلك لا رب سواه. وكان نزولنا بها بفندق يعرف بفندق الصّفار بمقربة من الصّبانة.

شهر ذي الحجة من السنة المذكورة

أوله يوم الأحد ، ثاني يوم نزولنا بالإسكندرية.

فمن أول ما شاهدنا فيها يوم نزولنا أن طلع أمناء الى المركب من قبل السلطان بها لتقييد جميع ما جلب فيه. فاستحضر جميع من كان فيه من المسلمين

__________________

(١) جزائر الحمام : تقع بين السلوم وطبرق.

١٢

واحدا واحدا وكتبت أسماؤهم وصفاتهم وأسماء بلادهم ، وسئل كل واحد عما لديه من سلع أو ناضّ (١) ليؤدي زكاة ذلك كله دون أن يبحث عما حال عليه الحول من ذلك أو ما لم يحل. وكان أكثرهم متشخصين لأداء الفريضة لم يستصحبوا سوى زاد لطريقهم ، فلزّموا أداء زكاة ذلك دون أن يسأل احال عليه الحول أم لا واستنزل احمد بن حسان منا ليسأل عن أنباء المغرب وسلع المركب. فطيف به مرقّبا على السلطان أولا ثم على القاضي ثم على أهل الديوان ثم على جماعة من حاشية السلطان. وفي كلّ يستفهم ثم يقيد قوله. فخلي سبيله ، وأمر المسلمون بتنزيل أسبابهم وما فضل من أزودتهم ، وعلى ساحل البحر أعوان يتوكلون بهم وبحمل جميع ما أنزلوه الى الديوان. فاستدعوا واحدا واحدا وأحضر ما لكل واحد من الأسباب ، والديوان قد غص؟. فوقع التفتيش لجميع الأسباب ، ما دق منها وما جل ، واختلط بعضها ببعض ، وادخلت الأيدي الى أوساطهم بحثا عما عسى أن يكون فيها. ثم استحلفوا بعد ذلك هل عندهم غير ما وجدوا لهم أم لا.

وفي أثناء ذلك ذهب كثير من أسباب الناس لاختلاط الأيدي وتكاثر الزحام ، ثم أطلقوا بعد موقف من الذل والخزي عظيم ، نسأل الله أن يعظم الأجر بذلك. وهذه لا محالة من الامور الملبّس فيها على السلطان الكبير المعروف بصلاح الدين ، ولو علم بذلك على ما يؤثر عنه من العدل وايثار الرفق لأزال ذلك ، وكفى الله المؤمنين تلك الخطة الشاقة واستؤدوا (٢) الزكاة على أجمل الوجوه. وما لقينا ببلاد هذا الرجل ما يلم به قبيح لبعض الذكر سوى هذه الاحدوثة التي هي من نتائج عمال الدواوين.

ذكر بعض أخبار الاسكندرية وآثارها

فأول ذلك حسن وضع البلد واتساع مبانيه ، حتى إنّا ما شاهدنا بلدا أوسع

__________________

(١) المال.

(٢) استؤدوا : اعيدت لهم الزكاة.

١٣

مسالك منه ولا أعلى مبنى ولا أعتق ولا أحفل منه ، وأسواقه في نهاية من الاحتفال أيضا. ومن العجب في وصفه أن بناءه تحت الأرض كبنائه فوقها وأعتق وأمتن ، لأن الماء من النيل يخترق جميع ديارها وأزقتها تحت الأرض فتتصل الآبار بعضها ببعض ويمد بعضها بعضا.

وعاينا فيها ايضا من سواري الرخام وألواحه كثرة وعلوا واتساعا وحسنا ما لا يتخيل بالوهم ، حتى انك تلفي في بعض الممرات بها سواري يغص الجو بها صعودا لا يدرى ما معناه ولا لم كان أصل وضعها. وذكر لنا أنه كان عليها في القديم مبان للفلاسفة خاصة ولأهل الرئاسة في ذلك الزمان ، والله أعلم ، ويشبه أن يكون ذلك للرصد.

منار الاسكندرية

ومن أعظم ما شاهدناه من عجائبها المنار الذي قد وضعه الله عزوجل على يدي من سخّر لذلك آية للمتوسمين وهداية للمسافرين ، لولاه ما اهتدوا في البحر الى بر الإسكندرية ، يظهر على أزيد من سبعين ميلا. ومبناه في غاية العتاقة والوثاقة طولا وعرضا ، يزاحم الجو سموا وارتفاعا ، يقصر عنه الوصف وينحسر دونه الطرف ، الخبر عنه يضيق والمشاهدة له تتسع.

ذرعنا أحد جوانبه الأربعة فألفينا فيه نيفا وخمسين باعا ويذكر ان في طوله أزيد من مئة وخمسين قامة. وأما داخله فمرأى هائل ، اتساع معارج ومداخل وكثرة مساكن ، حتى ان المتصرف فيها والوالج في مسالكها ربما ضلّ. وبالجملة لا يحصّلها القول ، والله لا يخليه من دعوة الإسلام ويبقيه.

وفي أعلاه مسجد موصوف بالبركة يتبرك الناس بالصلاة فيه ، طلعنا اليه يوم الخميس الخامس لذي الحجة المورخ وصلينا في المسجد المبارك المذكور.

١٤

وشاهدنا من شأن مبناه عجبا لا يستوفيه وصف واصف.

مناقب الاسكندرية

ومن مناقب هذا البلد ومفاخره العائدة في الحقيقة الى سلطانه : المدارس والمحارس (١) الموضوعة فيه لأهل الطب والتعبد ، يفدون من الاقطار النائية فيلقى كل واحد منهم مسكنا يأوي اليه ومدرّسا يعلمه الفن الذي يريد تعلمه واجراء يقوم به في جميع احواله. واتسع اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء الطارئين حتى أمر بتعيين حمّامات يستحمون فيها متى احتاجوا الى ذلك ، ونصب لهم مارستانا لعلاج من مرض منهم ، ووكل بهم اطباء يتفقدون احوالهم ، وتحت أيديهم خدام يأمرونهم بالنظر في مصالحهم التي يشيرون بها من علاج وغذاء. وقد رتب ايضا فيه اقوام برسم الزيارة للمرضى الذين يتنزهون عن الوصول للمارستان المذكور من الغرباء خاصة ، وينهون الى الاطباء أحوالهم ليتكفلوا بمعالجتهم.

ومن اشرف هذه المقاصد أيضا ان السلطان عين لأبناء السبيل من المغاربة خبزتين لكل انسان في كل يوم بالغا ما بلغوا ، ونصب لتفريق ذلك كل يوم انسانا امينا من قبله. فقد ينتهي في اليوم الى ألفي خبزة او ازيد بحسب القلة والكثرة ، وهكذا دائما ، ولهذا كله اوقاف من قبله حاشا ما عيّنه من زكاة العين لذلك. وأكد على المتولين لذلك متى نقصهم من الوظائف المرسومة شيء أن يرجعوا الى صلب ماله. وأما أهل بلده ففي نهاية من الترفيه واتساع الأحوال لا يلزمهم وظيف البتة. ولا فائد للسلطان بهذا البلد سوى الأوقاف المحبسة المعينة من قبله لهذه الوجوه وجزية اليهود والنصارى وما يطرأ من زكاة العين خاصة ، وليس له منها سوى ثلاثة اثمانها والخمسة الأثمان مضافة للوجوه المذكورة.

__________________

(١) المحارس (مفردها محرس) : مأوى مخصص للدارسين والزهاد والمسافرين.

١٥

وهذا السلطان الذي سن هذه السنن المحمودة ورسم هذه الرسوم الكريمة على عدمها في المدة البعيدة هو صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب ، وصل الله صلاحه وتوفيقه.

ومن أعجب ما اتفق للغرباء أن بعض من يريد التقرب بالنصائح الى السلطان ذكر ان أكثر هؤلاء يأخذون جراية الخبز ولا حاجة لهم بها رغبة في المعيشة لأنهم لا يصلون الا بزاد يقلهم. فكاد يؤثر سعي هذا المتنصح. فلما كان في احد الأيام خرج السلطان المذكور على سبيل التطلع خارج بلده ، فتلقى منهم جماعة قد لفظتهم الصحراء المتصلة بطرابلس ، وهم قد ذهبت رسومهم عطشا وجوعا. فسألهم عن وجهتهم واستطلع ما لديهم. فأعلموه أنهم قاصدون بيت الله الحرام وانهم ركبوا البر وكابدوا مشقة صحرائية. فقال : لو وصل هؤلاء وهم قد اعتسفوا هذه المجاهل التي اعتسفوها وكابدوا من الشقاء ما كابدوه وبيد كل واحد منهم زنته ذهبا وفضة لوجب ان يشاركوا ولا يقطعوا عن العادة التي اجريناها لهم ، فالعجب ممن يسعى على مثل هؤلاء ويروم التقرب الينا بالسعي في قطع ما أوجبناه لله عزوجل خالصا لوجهه.

ومآثر هذا السلطان ومقاصده في العدل ومقاماته في الذّب عن حوزة الدين لا تحصى كثرة.

ومن الغريب ايضا في أحوال هذا البلد تصرّف الناس فيه بالليل كتصرفهم بالنهار في جميع أحوالهم. وهو أكثر بلاد الله مساجد ، حتى إن تقدير الناس لها يطفّق فمنهم المكثّر والمقلّل ، ينتهي في تقديره الى اثني عشر ألف مسجد ، والمقلل ما دون ذلك لا ينضبط ، فمنهم من يقول ثمانية آلاف ومنهم من يقول غير ذلك. وبالجملة فهي كثيرة جدا تكون منها الأربعة والخمسة في موضوع وربما كانت مركبة (١) ، وكلها بأئمة مرتبين من قبل السلطان ، فمنهم من له الخمسة دنانير مصرية في الشهر ، وهي عشرة مؤمنية ، ومنهم من له فوق ذلك

__________________

(١) مركبة : مسجد ومدرسة وما إليهما.

١٦

ومنهم من له دونه. وهذه منقبة كبيرة من مناقب السلطان. إلى غير ذلك مما يطول ذكره من المآثر التي يضيق عنها الحصر.

ثم كان الانفصال عنها على بركة الله تعالى وحسن عونه صبيحة يوم الأحد الثامن لذي الحجة المذكور ، وهو الثالث لأبريل ، فكانت مرحلتنا منه الى موضع يعرف بدمنهور ، وهو بلد مسور في بسيط من الأرض أفيح ، متصل من الإسكندرية اليه الى مصر. والبسيط كله محرّث يعمه النيل بفيضه ، والقرى فيه يمينا وشمالا لا تحصى كثرة.

ثم في اليوم الثاني وهو يوم الاثنين ، أجزنا النيل بموضع يعرف بصا في مركب تعدية. واتصل سيرنا الى موضع يعرف ببرمة فكان مبيتنا بها ، وهي قرية كبيرة فيها السوق وجميع المرافق. ثم بكرنا منها يوم الثلاثاء ، وهو يوم عيد النحر من سنة ثمان وسبعين وخمس مئة المؤرخة ، فشاهدنا الصلاة بموضع يعرف بطندتة (١) ، وهي من القرى الفسيحة الآهلة ، فأبصرنا بها مجمعا حفيلا ، وخطب الخطيب بخطبة بليغة جامعة. واتصل سيرنا الى موضع يعرف بسبئك وكان مبيتنا بها.

واجتزنا في ذلك اليوم على موضع حسن يعرف بمليج ، والعمارة متصلة والقرى منتظمة في طريقنا كلها. ثم بكرنا منها يوم الأربعاء بعده. فمن أحسن بلد مررنا عليه موضع يعرف بقليوب على ستة أميال من القاهرة فيه الأسواق الجميلة ومسجد جامع كبير حفيل البنيان ، ثم بعده المنية ، وهو موضع أيضا حفيل ، ثم منها الى القاهرة ، وهي مدينة السلطان الحفيلة المتسعة ، ثم منها الى مصر المحروسة. وكان دخولنا فيها إثر صلاة العصر من يوم الأربعاء ، وهو الحادي عشر من ذي الحجة المذكور والسادس من أبريل ، عرّفنا الله فيها الخير والخبرة وتمّم علينا صنعه الجميل بالوصول الى الغرض المأمول ولا أخلانا من التيسير والتسهيل بعزّته وقدرته ، انه على ما يشاء قدير.

__________________

(١) طندته : المعروفة باسم طنطا اليوم.

١٧

وفي يوم الأربعاء المذكور أجزنا القسم الثاني من النيل في مركب تعدية أيضا بموضع يعرف بدجوة ، وذلك وقت الغداة الصغرى ، وكان نزولنا في مصر بفندق أبي الثناء في زقاق القناديل بمقربة من جامع عمرو بن العاص ، رضي‌الله‌عنه ، في حجرة كبيرة على باب الفندق المذكور.

ذكر مصر والقاهرة

فأول ما نبدأ بذكره منها الآثار والمشاهد المباركة التي ببركتها يمسكها الله عزوجل :

فمن ذلك المشهد العظيم الشأن الذي بمدينة القاهرة حيث رأس الحسين بن علي بن أبي طالب ، رضي‌الله‌عنهما ، وهو في تابوت فضة مدفون تحت الأرض قد بني عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه ولا يحيط الإدراك به ، مجلل بأنواع الديباج ، محفوف بأمثال العمد الكبار شمعا أبيض ومنه ما هو دون ذلك ، قد وضع أكثرها في أتوار (١) فضة خالصة ومنها مذهبة ، وعلقت عليه قناديل فضة ، وحفّ أعلاه كله بأمثال التفافيح ذهبا في مصنع شبيه الروضة يقيد الأبصار حسنا وجمالا ، فيه من أنواع الرخام المجزّع الغريب الصنعة البديع الترصيع ما لا يتخيله المتخيلون ولا يلحق أدنى وصفه الواصفون.

والمدخل الى هذه الروضة على مسجد على مثالها في التأنق والغرابة ، حيطانه كلها رخام على الصفة المذكورة ، وعن يمين الروضة المذكورة وشمالها بيتان من كليهما المدخل اليها وهما أيضا على تلك الصفة بعينها. والأستار البديعة الصنعة من الديباج معلّقة على الجميع.

ومن اعجب ما شاهدناه في دخولنا الى هذا المسجد المبارك حجر موضوع في الجدار الذي يستقبله الداخل شديد السواد والبصيص ، يصف الأشخاص كلها

__________________

(١) اتوار ، مفردها تور : شمعدان.

١٨

كأنه المرآة الهندية الحديثة الصقل. وشاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك ، واحداقهم به وانكبابهم عليه وتمسحهم بالكسوة التي عليه وطوافهم حوله مزدحمين باكين متوسلين الى الله سبحانه وتعالى ببركة التربة المقدسة ، ومتضرّعين ما يذيب الأكباد ويصدع الجماد. والأمر فيه أعظم ، ومرأى الحال أهول ، نفعنا الله ببركة ذلك المشهد الكريم. وانما وقع الإلماع بنبذة من صفته مستدلا على ما وراء ذلك اذ لا ينبغي لعاقل أن يتصدى لوصفه لأنه يقف موقف التقصير والعجز. وبالجملة فما أظن في الوجود كله مصنعا أحفل منه ، ولا مرأى من البناء أعجب ولا ابدع ، قدّس الله العضو الكريم الذي فيه بمنّه وكرمه.

وفي ليلة اليوم المذكور بتنا بالجبانة المعروفة بالقرافة ، وهي أيضا إحدى عجائب الدنيا لما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء صلوات الله عليهم ، وأهل البيت رضوان الله عليهم ، والصحابة والتابعين والعلماء والزّهاد والأولياء ذوي الكرامات الشهيرة والأنباء الغريبة. وإنما ذكرنا منها ما أمكنتنا مشاهدته.

فمنها قبر ابن النبي صالح ، وقبر روبيل بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم أجمعين ، وقبر آسية امرأة فرعون رضي‌الله‌عنها ، ومشاهد اهل البيت رضي‌الله‌عنهم أجمعين ، مشاهد أربعة عشر من الرجال ، وخمس من النساء. وعلى كل واحد منها بناء حفل. فهي بأسرها روضات بديعة الإتقان عجيبة البنيان ، قد وكل بها قومة يسكنون فيها ويحفظونها. ومنظرها منظر عجيب ، والجرايات متّصلة لقوامها في كل شهر.

ذكر مشاهد أهل البيت رضي‌الله‌عنهم

مشهد علي بن الحسين بن علي رضي‌الله‌عنه ، ومشهدان لإبني جعفر بن محمد الصادق ، رضي‌الله‌عنهم ، ومشهد القاسم بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد بن علي زين العابدين المذكور ، رضي‌الله‌عنهم ، ومشهدان لابنيه الحسن والحسين رضي‌الله‌عنهما ، ومشهد ابنه عند الله بن القاسم ، رضي‌الله‌عنه ، ومشهد ابنه يحيى بن

١٩

القاسم ، ومشهد علي بن عبد الله بن القاسم رضي‌الله‌عنهم ، ومشهد اخيه عيسى بن عبد الله ، رضي‌الله‌عنهما ، ومشهد يحيى بن الحسن بن زيد بن الحسن ، رضي‌الله‌عنهم ، ومشهد محمد بن عبد الله بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي ، رضي‌الله‌عنهم ، ومشهد جعفر بن محمد من ذرية علي بن الحسن ، رضي‌الله‌عنهم ، وذكر لنا أنه كان ربيب الإمام مالك ، رضي‌الله‌عنه.

مشاهد الشريفات رضي‌الله‌عنه

مشهد السيدة أم كلثوم ابنة القاسم بن محمد بن جعفر ، رضي‌الله‌عنهم ، ومشهد السيدة زينب ابنة يحيى بن زيد بن علي بن الحسين ، رضي‌الله‌عنهم ، ومشهد أم كلثوم ابنة محمد بن جعفر الصادق ، رضي‌الله‌عنهم ، ومشهد السيدة أم عبد الله بن القاسم بن محمد ، رضي‌الله‌عنهم.

وهذا ذكر ما حصّله العيان من هذه المشاهد العلوية المكرمة وهي أكثر من ذلك. وأخبرنا أن في جملتها مشهدا مباركا لمريم ابنة علي بن أبي طالب ، رضي‌الله‌عنه. وهو مشهور لكن لم نعاينه. وأسماء أصحاب هذه المشاهد المباركة انما تلقيناها من التواريخ الثابتة عليها مع تواتر الأخبار بصحة ذلك ، والله أعلم بها. وعلى كل واحد منها بناء حفيل ، فهي بأسرها روضات بديعة الإتقان عجيبة البنيان ، قد وكل بها قومة يسكنون فيها ويحفظونها. ومنظرها منظر عجيب. والجرايات متصلة لقوّامها في كل شهر.

ذكر مشاهد بعض أصحاب النبي (ص)

بالقرافة المذكورة ومشاهد التابعين والأئمة والعلماء والزهاد والأولياء المشتهرين بالكرامات رضي‌الله‌عنهم أجمعين.

والمقيّد يبرأ من القطع بصحة ذلك وانما رسم من أسمائهم ما وجده مرسوما في تواريخها ، وبالجملة فالصحة غالبة لا يشك فيها ، ان شاء الله عز

٢٠