رحلة ابن جبير

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي

رحلة ابن جبير

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

الشرق. وسائر البلاطات تحت جداراتها مصاطب دون حنايا عليها ، والبنيان فيها الآن على أكمل ما يكون. وعند باب ابراهيم مدخل آخر من البلاط الآخذ من الغرب الى الجنوب فيه أيضا سوار جصية. ووجدت بخط أبي جعفر بن علي الفنكي القرطبي الفقيه المحدث : أن عدد سواريه أربع مئة وثمانون ، لأني لم أحسب التي خارج باب الصفا.

وللمهدي محمد بن أبي جعفر المنصور العباسي في توسعة المسجد الحرام والتأنق في بنائه آثار كريمة. وجدت في الجهة التي من الغرب الى الشمال مكتوبا في أعلى جدار البلاط : «أمر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين ، أصلحه الله ، بتوسعة المسجد الحرام ، لحجاج بيت الله وعماره ، في سنة سبع وستين ومئة».

وللحرم سبع صوامع : أربع في الاربعة جوانب ، وواحدة في دار الندوة ، وأخرى على باب الصفا ، وهي اصغرها ، وهي علم لباب الصفا ، وليس يصعد اليها لضيقها ، وعلى باب ابراهيم صومعة قد ذكرت عند باب ابراهيم فيما بعد.

وباب الصفاء يقابل الركن الأسود بالبلاط الذي من الجنوب الى الشرق ، وفي وسط البلاط المقابل للباب ساريتان مقابلتان الركن المذكور فيهما منقوش : «أمر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين ، أصلحه الله ، بإقامة هاتين الأسطوانتين علما لطريق رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الى الصفا ليتأسى به حاج بيت الله وعمّاره ، على يدي يقطين بن موسى وابراهيم بن صالح ، في سنة سبع وستين ومئة».

وفي باب الكعبة المقدسة نقش بالذهب رائق الخط طويل الحروف غليظها ، يرتمي الأبصار برونقه وحسنه ، مكتوب فيه : «مما أمر بعمله عبد الله وخليفته الإمام أبو عبد الله محمد المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين ، صلى الله عليه وعلى الأئمة آبائه الطاهرين ، وخلد ميراث النبوة لديه ، وجعلها كلمة باقية في عقبه الى يوم الدين ، في سنة خمسين وخمس مئة» في صفحتي البابين على هذا النص المذكور.

٦١

ويكتنف البابين الكريمين عضادة غليظة من الفضة المذهبة البديعة النقش ، تصعد الى العتبة المباركة تشف عليها وتستدير بجانبي البابين. ويعترض أيضا بين البابين عند اغلاقهما شبه العضادة الكبيرة من الفضة المذهبة هي بطول البابين متصلة بالواحد منهما الذي عن يسار الداخل الى البيت.

وكسوة الكعبة المقدسة من الحرير الأخضر ، حسبما ذكرناه. وهي أربع وثلاثون شقة : في الصفح الذي بين الركن اليماني والشامي منها تسع وفي الصفح الذي يقابله بين الركن الأسود والعراقي تسع أيضا ، وفي الصفح بين العراقي والشامي ثمان ، وفي الصفح بين اليماني والأسود ثمان أيضا ، وقد وصلت كلها فجاءت كأنها ستر واحد يعم الأربعة جوانب. وقد احاط بها من أسفلها تكفيف مبني بالجص ، في ارتفاعه أزيد من شبر ، وفي سعته شبران أو أزيد قليلا ، في داخله خشب غير ظاهر ، وقد سمرت فيه أوتاد حديد في رؤوسها حلقات حديد ظاهرة قد ادخل فيها مرس من القنّب غليظ مفتول. واستدار بالجوانب الأربعة بعد أن وضع في أذيال الستور شبه حجز السراويلات وادخل فيها ذلك المرس وخيط عليه بخيوط من القطن المفتولة الوثيقة.

ومجتمع الستور في الأركان الأربعة مخيط الى أزيد من قامة ، ثم منها الى أعلاها تتصل بعرى من حديد يدخل بعضها في بعض. واستدار أيضا بأعلاها على جوانب السطح تكفيف ثان وقعت فيه أعالي الستور في حلقات حديد على تلك الصفة المذكورة. فجاءت الكسوة المباركة مخيطة الأعلى والأسفل ، وثيقة الأزرار ، لا تخلع الا من عام الى عام عند تجديدها ، فسبحان من خلد لها الشرف الى يوم القيامة ، لا اله سواه.

وباب الكعبة الكريم يفتح كل يوم اثنين ويوم جمعة الا في رجب فانه يفتح في كل يوم. وفتحه أول بزوغ الشمس ، يقبل سدنة البيت الشيبيون ، فيبادر منهم من ينقل كرسيا كبيرا شبه المنبر الواسع له تسعة أدراج مستطيلة قد وضعت له

٦٢

قوائم من الخشب متطأمنة من الأرض لها أربع بكرات كبار مصفحة بالحديد لمباشرتها الأرض ، يجري الكرسي عليها حتى يصل الى البيت الكريم. فيقع درجه الأعلى متصلا بالعتبة المباركة من الباب. فيصعد زعيم الشيبيين اليه ، وهو كهل جميل الهيئة والشارة ، وبيده مفتاح القفل المبارك ، ومعه من السدنة من يمسك في يده سترا أسود يفتخ (١) يديه به أمام الباب خلال ما يفتحه الزعيم الشيبي المذكور ، فاذا فتح القفل قبل العتبة ثم دخل البيت وحده وسد الباب خلفه وأقام قدر ما يركع ركعتين. ثم يدخل الشيبيون ويسدون الباب أيضا ويركعون. ثم يفتح الباب ويبادر الناس بالدخول ، وفي أثناء محاولة فتح الباب الكريم يقف الناس مستقبلين اياه بأبصار خاشعة وأيد مبسوطة الى الله ضارعة واذا انفتح الباب كبّر الناس وعلا ضجيجهم ونادوا بألسنة مستهلة : «اللهم افتح لنا أبواب رحمتك ومغفرتك ، يا أرحم الراحمين». ثم دخلوا بسلام آمنين.

وفي الصفح المقابل للداخل فيه ، الذي هو من الركن اليماني الى الركن الشامي ، خمس رخامات منتصبات طولا كأنها أبواب تنتهي الى مقدار خمسة أشبار من الأرض ، وكل واحدة منها نحو القامة ، الثلاث منها حمر والاثنان خضراوان. في كل واحدة منها تجزيع بياض لم ير أحسن منظرا منه كأنه فيها تنقيط. فيتصل بالركن اليماني منها الحمراء ثم تليها بخمسة أشبار الحضراء ، والموضع الذي يقابلها متقهقرا عنها بثلاث أذرع هو مصلى النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيزدحم الناس على الصلاة فيه تبركا به. ووضعهن على هذا الترتيب ، وبين كل واحدة وأخرى القدر المذكور. ويتصل بينهما رخام أبيض صافي اللون ناصع البياض ، قد أحدث الله ، عزوجل ، في أصل خلقته أشكالا غريبة مائلة الى الزرقة مشجرة مغصنة وفي التي تليها مثل ذلك بعينه من الأشكال كأنها مقسومة ، فلو انطبقتا لعاد كل شكل يصافح شكله ، فكل واحدة شقة الأخرى لا محالة عند ما نشرت انشقت على تلك الأشكال فوضعت كل واحدة بإزاء أختها. والفاصل منها بين كل خضراء وحمراء رخامتان ، سعتهما خمسة أشبار لأعداد الأشبار المذكورة. والأشكال

__________________

(١) يفتخ : يثني.

٦٣

فيها تختلف هيئاتها ، وكل أخت منها بإزاء اختها. وقد شدت جوانب هذه الرخامات تكافيف غلظها قدر اصبعين من الرخام المجزع من الأخضر والأحمر المنقطين والابيض ذي الخيلان كأنها انابيب مخروطة يحار الوهم فيها. فاعترضت في هذا الصفح المذكور من فرج الرخام الابيض ست فرج.

وفي الصفح الذي عن يسار الداخل ، وهو من الاسود الى الركن اليماني ، اربع رخامات : اثنتان خضراوان ، واثنتان حمراوان. وبينهما خمس فرج من الرخام الابيض. وكل ذلك على الصفة المذكورة.

وفي الصفح الذي عن يمين الداخل ، وهو من الركن الاسود إلى العراقي ، ثلاث : اثنتان حمراون ، وواحدة خضراء. ويتصل بها ثلاث فرج من الرخام الابيض وهذا الصفح هو المتصل بالركن الذي فيه باب الرحمة ، وسعته ثلاث اشبار ، وطوله سبعة ، وعضادته التي عن يمينك اذا استقبلته رخامة خضراء في سعة ثلثي شبر.

وفي الصفح الذي من الشامي الى العراقي ثلاث : اثنتان حمراوان ، وواحدة خضراء. ويتصل بها ثلاث فرج من الرخام الابيض على الصفة المذكورة.

ويكلل هذا الرخام المذكور طرتان : واحدة على الاخرى ، سعة كل واحدة منهما قدر شبرين ، ذهب مرسوم في اللازورد قد خط فيه خط بديع. وتتصل الطرتان بالذهب المنقوش على نصف الجدار الاعلى. والجهة التي عن يمين الداخل لها طرة واحدة ، وفي هاتين الطرتين بعض مواضع دراسة.

وفي كل ركن من الاركان الاربعة مما يلي الارض رخامتان خضراوان صغيرتان تكتنفان الركن ، وتكتنف ايضا كل بابين من الفضة ، اللذين في كل ركن كأنهما طاقان ، عضادتان من الرخام الاخضر صغيرتان على قدر نقبيهما. وفي أول كل صفح من الصفحات المذكورة رخامة حمراء وفي آخره مثلها ، والخضراء بينهما على الترتيب المذكور الا الصفح الذي عن يسار الداخل ، فأول

٦٤

رخامة تجدها متصلة بالركن الاسود رخامة خضراء ، ثم حمراء الى كمال الترتيب الموصوف.

وبإزاء المقام الكريم منبر الخطيب ، وهو ايضا على بكرات أربع شبه التي ذكرناها. فاذا كان يوم الجمعة وقرب وقت الصلاة ضم الى صفح الكعبة الذي يقابل المقام ، وهو بين الركن الاسود والعراقي ، فيسند المنبر اليه. ثم يقبل الخطيب داخلا على باب النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يقابل المقام في البلاط الآخذ من الشرق الى الشمال لابسا ثوب سواد مرسوما بذهب ومتعمما بعمامة سوداء مرسومة أيضا وعليه طيلسان شرب رقيق ، كل ذلك من كسا الخليفة التي يرسلها الى خطباء بلاده يرفل فيها وعليه السكينة والوقار ، يتهادى رويدا بين رايتين سوداوين يمسكهما رجلان من قومة المؤذنين ، وبين يديه ساعيا أحد القومة ، وفي يده عود مخروط احمر قد ربط في رأسه مرس من الأديم المفتول رقيق طويل في طرفه عذبة صغيرة ينفضها بيده في الهواء نفضا فتأتي بصوت عال يسمع من داخل الحرم وخارجه كأنه ايذان بوصول الخطيب ، ولا يزال في نفضها الى ان يقرب من المنبر ، ويسمونها الفرقعة. فاذا قرب من المنبر عرج الى الحجر الأسود فقبله ودعا عنده ثم سعى الى المنبر والمؤذن الزمزمي ، رئيس المؤذنين بالحرم الشريف ، ساع أمامه لابسا ثياب السواد أيضا وعلى عاتقه السيف يمسكه بيده دون تقلد له ، فعند صعوده في أول درجة قلده المؤذن المذكور السيف. ثم ضرب بنعلة سيفه فيها ضربة أسمع بها الحاضرين ثم في الثانية. ثم في الثالثة. فاذا انتهى الى الدرجة العليا ضرب ضربة رابعة ووقف داعيا مستقبل الكعبة بدعاء خفي. ثم انفتل عن يمينه وشماله وقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فيرد الناس عليه‌السلام. ثم يقعد ويبادر المؤذنون بين يديه في المنبر بالأذان على لسان واحد. فاذا فرغوا قام للخطبة فذكر ووعظ وخشع فأبلغ. ثم جلس الجلسة الخطيبية وضرب بالسيف ضربة خامسة. ثم قام للخطبة الثانية فأكثر بالصلاة على محمد ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى آله ورضّى عن أصحابه واختص الأربعة الخلفاء بالتسمية ، رضي الله عن جميعهم ، ودعا لعمي النبي ،

٦٥

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حمزة والعباس وللحسن والحسين ووالى الترضّي عن جميعهم. ثم دعا لأمهات المؤمنين زوجات النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورضّى عن فاطمة الزهراء وعن خديجة الكبرى بهذا اللفظ. ثم دعا للخليفة العباسي أبي العباس أحمد الناصر ، ثم لأمير مكة مكثر بن عيسى بن فليتة بن قاسم بن محمد بن جعفر بن أبي هاشم الحسني ، ثم لصلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب ولولي عهده أخيه أبي بكر بن ايوب. وعند ذكر صلاح الدين بالدعاء تخفق الألسنة بالتأمين عليه من كل مكان.

واذا أحب الله يوما عبده

القى عليه محبة للناس

وحق ذلك عليهم لما يبذله من جميل الاعتناء بهم وحسن النظر لهم ولما رفعه من وظائف المكوس عنهم.

وفي هذا التاريخ أعلمنا بأن كتابه وصل الى الامير مكثر ، وأهم فصوله التوصية بالحاج والتأكيد في مبرتهم وتأنيسهم ورفع أيدي الاعتداء عنهم والايعاز في ذلك الى الخدام والاتباع والاوزاع ، وقال : انه انما نحن وأنت متقلبون في بركة الحاج. فتأمل هذا المنزع الشريف والمقصد الكريم. واحسان الله يتضاعف الى من احسن الى عباده ، واعتناؤه الكريم موصول لمن جعل همه الاعتناء بهم ، والله عزوجل كفيل بجزاء المحسنين ، انه ولي ذلك لا رب سواه.

وفي أثناء الخطبة تركز الرايتان السوداوان في أول درجة من المنبر ويمسكهما رجلان من المؤذنين ، وفي جانبي باب المنبر حلقتان تلقى الرايتان فيهما مركوزتين. فإذا فرغ من الصلاة خرج والرايتان عن يمينه وشماله والفرقعة أمامه على الصّفة التي دخل عليها ، كأن ذلك أيضا ايذان بانصراف الخطيب والفراغ من الصلاة ثم أعيد المنبر الى موضعه بإزاء المقام.

وليلة أهلّ هلال الشهر المذكور ، وهو جمادى الأول ، بكر أمير مكة مكثر المذكور في صبيحتها الى الحرم الكريم مع طلوع الشمس ، وقواده يحفون به والقراء يقرءون أمامه ، فدخل على باب النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورجاله

٦٦

السودان الذين يعرفونهم بالحرّابة يطوفون أمامه وبأيديهم الحراب. وهو في هيئة اختصار عليه السكينة والوقار وسمت سلفه الكريم ، رضي‌الله‌عنهم ، لابسا ثوب بياض متقلّدا سيفه مختصرا متعمّما بكرزية صوف بيضاء رقيقة ، فلمّا انتهى بإزاء المقام الكريم وقف وبسط له وطاء كتّان فصلّى ركعتين. ثم تقدّم الى الحجر الأسود فقبّله وشرع في الطواف ، وقد علا في قبة زمزم صبي ، هو أخو المؤذن الزمزمي ، وهو أول المؤذنين أذانا ، به يقتدون وله يتبعون ، وقد لبس أفخر ثيابه وتعمم ، فعندما يكمل الأمير شوطا واحدا ويقرب من الحجر يندفع الصبي في اعلى القبة رافعا صوته بالدعاء ويستفتحه بصبّح الله مولانا الأمير بسعادة دائمة ونعمة شاملة. ويصل ذلك بتهنئة الشهر بكلام مسجوع مطبوع حفيل الدعاء والثناء. ثم يختم ذلك بثلاثة أبيات أو أربعة من الشعر في مدحه ومدح سلفه الكريم وذكر سابقة النبوّة ، رضي‌الله‌عنهم ، ثم يسكت ، فإذا أطل من الركن اليماني يريد الحجر اندفع بدعاء على ذلك الاسلوب ، ووصله بأبيات من الشعر غير الابيات الأخر في ذلك المعنى بعينه كأنها منتزعة من قصائد مدح بها. هكذا في السبعة الأشواط الى أن يفرغ منها. والقرّاء في اثناء طوافه أمامه. فينتظم من هذه الحال والأبهة وحسن صوت ذلك الداعي على صغره لأنه ابن إحدى عشرة سنة أو نحوها ، وحسن الكلام الذي يورده نثرا ونظما ، وأصوات القرّاء وعلوّها بكتاب الله ، عزوجل ، مجموع يحرك النفوس ويشجيها ويستوكف العيون ويبكيها ، تذكّرا لأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهرهم تطهيرا. فإذا فرغ من الطواف ركع عند الملتزم ركعتين ثم جاء وركع خلف المقام ايضا ثمّ ولّى منصرفا وحلبته تحف به. ولا يظهر في الحرم إلّا لمستهل هلال آخر ، هكذا دائما.

والبيت العتيق مبني بالحجارة الكبار الصم السمر قد رصّ بعضها على بعض والصقت بالعقد الوثيق إلصاقا لا تحيله الأيام ولا تقصمه الأزمان. ومن العجيب أن قطعة انصدعت من الركن اليماني فسمّرت بمسامير فضّة واعيدت كأحسن ما كانت ، والمسامير فيها ظاهرة.

٦٧

ومن آيات البيت العتيق أنه قائم وسط الحرم كالبرج المشيد وله التنزيه الأعلى. وحمام الحرم لا تحصى كثرة ، وهي من الأمن بحيث يضرب بها المثل ، ولا سبيل أن تنزل بسطحه الأعلى حمامة ولا تحل فيه بوجه ولا على حال. فترى الحمام يتجلى على الحرم كله ، فإذا قربت من البيت عرجت عنه يمينا أو شمالا. والطيور سواها كذلك. وقرأت في أخبار مكة أنه لا ينزل عليه طائر إلا عند مرض يصيبه ، فإما أن يموت في حينه أو يبرأ. فسبحان من أورثه التشريف والتكريم.

ومن آياته أن بابه الكريم يفتح في الأيام المعلومة المذكورة ، والحرم قد غص بالخلق ، فيدخله الجميع ولا يضيق عنهم بقدرة الله ، عزوجل ، ولا يبقى فيه موضع الا ويصلي فيه كل احد. ويتلاقى الناس عند الخروج منه ، فيسأل بعضهم بعضا : هل دخل البيت ذلك اليوم؟ فكل يقول : دخلت وصليت في موضع كذا وموضع كذا حيث صلى الجميع. ولله الآيات البينات والبراهين المعجزات ، سبحانه وتعالى.

ومن عجائب اعتناء الله تبارك وتعالى به أنه لا يخلوا من الطائفين ساعة من النهار ولا وقتا من الليل. فلا تجد من يخبر أنه رآه دون طائف به ، فسبحان من كرّمه وعظّمه وخلد له التشريف إلى يوم القيامة.

وفي أعلى بلاطات الحرم سطح يطيف بها كلها من الجوانب الأربعة ، وهو مشرّف كله بشرفات مبسوطة مركّنة ، في كل جانب من الشرفة ثلاثة اركان كأنها أيضا شرفات أخر صغار. والركن الأسفل منها متّصل بالركن الذي يليه من الشرفة الأخرى. وتحت كل صلة منها ثقب مستدير في دور الشبر منفوذ يخترقه الهواء يضرب فيه شعاع الشمس أو القمر فيلوح كأنها أقمار مستديرة ، يتصل ذلك بالجوانب الأربعة كلها ، كأن الشرفات المذكورة بنيت شقة واحدة ثم احدثت فيها هذه التقاطيع والتراكين فجاءت عجيبة المنظر والشكل.

وفي النصف من كل جانب من الجوانب الأربعة المذكورة شقّة من الجص

٦٨

معترضة بين الشرفات مخرّمة فرجيّة طولها نحو الثلاثين شبرا تقديرا ، تقابل كل شقة منها صفحا من صفحات الكعبة المقدسة قد علت على الشرفات كالتاج. وللصوامع أيضا اشكال بديعة ، وذلك أنها ارتفعت بمقدار النصف ، مركنة من الأربعة جوانب بحجارة رائعة النقش عجيبة الوضع ، قد أحاط بها شباك من الخشب الغريب الصنعة ، وارتفع عن الشباك عمود في الهواء كأنه مخروط مختم كله بالآجر تختيما يتداخل بعضه على بعض بصنعة تستميل الأبصار حسنا. وفي أعلى ذلك العمود الفحل وقد استدار به أيضا شباك آخر من الخشب على تلك الصنعة بعينها. وهي متميزة الأشكال كلها لا يشبه بعضها بعضا. لكنّها على هذا المثال المذكور ، من كون نصفها الأول مركنا ونصفها الأعلى عمودا لا ركن له.

وفي النصف الأعلى من قبة زمزم والقبة العباسية التي تسمى السقاية والقبة التي تليها منحرفة عنها يسيرا المنسوبة لليهودية ، صنعة من قرنصة الخشب عجيبة ، قد تأنق الصانع فيها وأحدق بأعلاها شباك مشرجب من الخشب رائق الخلل والتأريج وداخل شباك قبة زمزم سطح وقد قام في وسطه شبه فحل الصومعة. وفي ذلك السطح يؤذن الزمزمي ، وقد انخرط من ذلك الفحل عمود من الجص واستقر في رأسه صفحة حديد تتخذ مشعلا في شهر رمضان المعظم.

وفي الصفح الناظر إلى البيت العتيق من القبة سلاسل فيها قناديل من زجاج معلقة توقد كل ليلة. وفي الصفح الذي عن يمينه كذلك ، وهو الناظر إلى الشمال. وفي كل جانب منها ثلاثة شراجيب مقومة كأنها أبواب قد قامت على سوار من الزجاج صغار لم ير أبدع منها صنعة ، منها ما هو مفتول فتل السوار ولا سيّما الجانب الذي يقابل الحجر الاسود من قبة زمزم ، فإن سواريه في نهاية من اتقان الصنعة ، قد أدير بكل سارية منها رؤوس ثلاثة أو أربعة ، وتحت ما بين كل رأس ورأس ... وأحدثت فيه صنائع من النقش عجيبة المنظر ، وربما فتل بعضها عن الصفة السواريّة.

٦٩

وهذا الجانب الذي يقابل الحجر الأسود من القبة المذكورة تتصل به مصطبة من الرخام دائرة بالقبة يجلس الناس فيها معتبرين بشرف ذلك الموضع لأنه أشرف مواضع الدنيا المذكورة بشرف مواضع الآخرة ، لأن الحجر الأسود أمامك والباب الكريم مع البيت قبالتك والمقام عن يمينك وباب الصفا عن يسارك وبئر زمزم وراء ظهرك. وناهيك بهذا!

وينطبق على كل شرجب من تلك الشراجيب أعمدة حديد قد تركّب بعضها على بعض كأنها شراجيب أخر. وأحد أركان شباك الخشب المحدق بالقبة العباسية يتصل بأحد أركان شباك القبة اليهودية حتى يتماسا. فمن يكون في أعلى سطح هذه ينفتل إلى سطح الأخرى من الركنين المذكورين. وداخل هذه القباب صنعة من القرنصة الجصّية رائقة الحسن.

وللحرم أربعة أئمة سنية وإمام خامس لفرقة تسمى الزيدية. واشراف أهل هذه البلدة على مذهبهم ، وهم يزيدون في الأذان : «حيّ على خير العمل» إثر قول المؤذن : «حي على الفلاح» ، وهم روافض سبابون ، والله من وراء حسابهم وجزائهم ، ولا يجمعون مع الناس إنما يصلون ظهرا أربعا ، ويصلون المغرب بعد فراغ الأئمة من صلاتها.

فأوّل الأئمة السنية الشافعي ، رحمه‌الله ، وإنما قدّمنا ذكره لأنه المقدّم من الإمام العبّاسي. وهو أول من يصلي ، وصلاته خلف مقام إبراهيم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى نبينا الكريم ، إلا صلاة المغرب فإن الأربعة الأئمة يصلونها في وقت واحد مجتمعين لضيق وقتها : يبدأ مؤذن الشافعيّ بالإقامة ، ثم يقيم مؤذّنو سائر الأئمة. وربما دخل في هذه الصلاة على المصلين سهو وغفلة لاجتماع التكبير فيها من كل جهة. فربما ركع المالكيّ بركوع الشافعي أو الحنفيّ أو سلّم أحدهم بغير سلام إمامه. فترى كل أذن مصيخة لصوت إمامها أو صوت مؤذنه مخافة السهو. ومع هذا فيحدث السهو على كثير من الناس. ثم المالكيّ ، رحمه‌الله ، وهو يصلي قبالة الركن اليماني ، وله محراب حجر يشبه محاريب الطرق

٧٠

الموضوعة فيها. ثم الحنفيّ ، رحمه‌الله ، وصلاته قبلة الميزاب تحت حطيم مصنوع له. وهو أعظم الأئمة أبهة وأفخرهم آلة من الشمع وسواها بسبب أن الدولة الأعجمية كلها على مذهبه ، فالاحتفال له كثير ، وصلاته آخرا. ثم الحنبلي ، رحمه‌الله ، وصلاته مع صلاة المالكيّ في حين واحد ، موضع صلاته يقابل ما بين الحجر الأسود والركن اليماني. ويصلي الظهر والعصر قريبا من الحنفي في البلاط الآخذ من الغرب الى الشمال ، والحنفيّ يصليهما في البلاط الآخذ من الغرب الى الجنوب قبالة محرابه ولا حطيم له. والشافعيّ بازاء المقام حطيم حفيل.

وصفة الحطيم خشبنان موصول بينهما بأذرع شبه السلم تقابلهما خشبتان على تلك الصفة ، قد عقدت هذه الخشب على رجلين من الجص غير بائنة الارتفاع. واعترض في أعلى الخشب خشبة مسمرة فيها قد نزلت منها خطاطيف حديد فيها قناديل معلّقة من الزجاج. وربما وصل بالخشبة المعترضة العليا شباك مشرجب بطول الخشبة.

وللحنفي بين الرجلين الجصيتين المتعقدتين على الخشب محراب يصلى فيه. وللحنبليّ حطيم معطل هو قريب من حطيم الحنفيّ ، وهو منسوب لرامشت أحد الأعاجم ذوي الثراء ، وكانت له في الحرم آثار كريمة من النفقات ، رحمه‌الله. ويقابل الحجر حطيم معطل أيضا ينسب للوزير المقدم بهذا اللفظ المجهول.

ويطيف بهذه المواضع كلها ، دائر البيت العتيق وعلى بعد منه يسيرا ، مشاعيل توقد في صحاف حديد فوق خشب مركوزة فيتقد الحرم الشريف الشريف كله نورا. ويوضع الشمع بين ايدي الأئمة في محاريبهم. والمالكيّ أقلهم شمعا وأضعفهم حالا لأن مذهبه في هذه البلاد غريب. والجمهور على مذهب الشافعي وعليه علماء البلاد وفقهاؤها ، إلا الإسكندرية وأكثر أهلها مالكيون وبها الفقيه ابن عوف ، وهو شيخ كبير من أهل العلم ، بقية الأئمة المالكية.

وفي إثر كل صلاة مغرب يقف المؤذن الزمزمي في سطح قبة زمزم ، ولها مطلع على أدراج من عود في الجهة التي تقابل باب الصفا ، رافعا صوته بالدعاء للإمام العباسي أحمد الناصر لدين الله ثم للأمير مكثر ثم لصلاح الدين امير الشام

٧١

وجهات مصر كلها واليمن ، ذي المآثر الشهيرة والمناقب الشريفة ، فإذا انتهى الى ذكره بالدعاء ارتفعت أصوات الطائفين بالتأمين بألسنة تمدها القلوب الخالصة والنيات الصادقة. وتخفق الألسنة بذلك خفقا يذيب القلوب خشوعا لما وهب الله لهذا السلطان العادل من الثناء الجميل وألقى عليه من محبة الناس وعباد الله شهدائه في أرضه. ثم يصل ذلك بدعاء لأمراء اليمن من جهة صلاح الدين ثم لسائر المسلمين والحجاج والمسافرين ، وينزل. هكذا دأبه دائما أبدا.

وفي القبة العباسية المذكورة خزانة تحتوي على تابوت مبسوط متسع وفيه مصحف أحد الخلفاء الأربعة أصحاب رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبخط يد زيد بن ثابت ، رضي‌الله‌عنه ، منتسخ سنة ثماني عشرة من وفاة رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وينقص منه ورقات كثيرة. وهو بين دفتي عود مجلد بمغاليق من صفر ، كبير الورقات واسعها ، عايناه وتبركنا بتقبيله ومسح الخدود فيه. نفع الله بالنية في ذلك.

وأعلمنا صاحب القبة المتولي لعرضه علينا : أن أهل مكة متى أصابهم قحط أو نالتهم شدة في أسفارهم أخرجوا المصحف المذكور وفتحوا باب البيت الكريم ووضعوه في القبة المباركة مع المقام الكريم : مقام الخليل ابراهيم ، صلى الله على نبينا وعليه ، واجتمع الناس كاشفين رؤوسهم داعين متضرعين ، وبالمصحف الكريم والمقام العظيم الى الله متوسلين. فلا ينفصلون عن مقامهم ذلك الا ورحمة الله عزوجل قد تداركتهم ، والله لطيف بعباده ، لا اله سواه.

وبإزاء الحرم الشريف ديار كثيرة لها أبواب يخرج منها اليه. وناهيك بهذا الجوار الكريم! كدار زبيدة ودار القاضي ودار تعرف بالعجلة وسواها من الديار ، وحول الحرم أيضا ديار كثيرة تطيف به لها مناظر وسطوح يخرج منها الى سطح الحرم فيبيت اهلها فيه ويبردون ماءهم في اعالي شرفاته ، فهم من النظر الى البيت العتيق دائما في عبادة متصلة ، والله يهنئهم ما خصهم به من مجاورة بيته الحرام بمنه وكرمه.

٧٢

وألفيت بخط الفقيه الزاهد الورع أبي جعفر الفنكي القرطبيّ : أن ذرع المسجد الحرام في الطول والعرض ما أثبته أولا ، وطول مسجد رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثلاث مئة ذراع ، وعرضه مئتان ، وعدد سواريه ثلاث مئة ، ومناراته ثلاث ، فيكون تكسيره أربعة وعشرين مرجعا من المراجع المغربية ، وهي خمسون ذراعا في مثلها ، وطول مسجد بيت المقدس ، أعاده الله للإسلام ، سبع مئة وثمانون ذراعا ، وعرضه اربع مئة وخمسون ذراعا ، وسواريه اربع مئة وأربع عشرة سارية ، وقناديله خمس مئة ، وأبوابه خمسون بابا ، فيكون تكسيره من المراجع المذكورة مئة مرجع وأربعين مرجعا وخمسي مرجع.

أبواب الحرم الشريف

للحرم تسعة عشر بابا أكثرها مفتح على ابواب كثيرة ، حسبما يأتي ذكره إن شاء الله.

باب الصفا : يفتح على خمسة أبواب ، وكان يسمى قديما بباب بني مخزوم.

باب الخلقيين. ويسمى بباب جياد الأصغر مفتح على بابين ، هو محدث.

باب العباس ، رضي‌الله‌عنه : هو يفتح على ثلاثة أبواب.

باب علي ، رضي‌الله‌عنه : مفتح على ثلاثة أبواب.

باب النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يفتح على بابين.

باب صغير أيضا بإزاء باب بني شيبة المذكور : لا اسم له.

باب بني شيبة : وهو يفتح على ثلاثة أبواب ، وهو باب بني عبد شمس ، ومنه كان دخول الخلفاء.

باب دار الندوة : ثلاثة ، البابان من دار الندوة منتظمان ، والثالث في الركن الغربي من الدار.

فيكون عدد أبواب الحرم بهذا الباب المنفرد عشرين بابا.

٧٣

باب صغير بإزاء بني شيبة شبه خوخة الأبواب : لا اسم له ، وقيل : انه يسمى باب الرباط ، لأنه يدخل منه لرباط الصوفية.

باب صغير لدار العجلة : محدث.

باب السّدّة : واحد.

باب العمرة : واحد.

باب حزورة : على بابين.

باب ابراهيم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم : واحد.

باب ينسب لحزورة أيضا : على بابين.

باب جياد الأكبر : على بابين.

باب جياد الأكبر أيضا : على بابين.

باب ينسب لجياد أيضا : على بابين. ومنهم من ينسب البابين من هذه الأبواب الأربعة الجيادية الى الدقّاقين ، والروايات فيها تختلف ، لكنّا اجتهدنا في اثبات الاقرب من اسمائها الى الصحة ، والله المستعان لا رب سواه.

وباب ابراهيم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هو في زاوية كبيرة متسعة فيها دار المكناسي الفقيه الذي كان إمام المالكية في الحرم ، رحمه‌الله. وفيها ايضا غرفة هي خزانة للكتب المحبسة على المالكية في الحرم. والزاوية المذكورة متصلة بالبلاط الآخذ من الغرب الى الجنوب وخارجة عنه. وبازاء الباب المذكور عن يمين الداخل عليه صومعة على غير اشكال الصوامع المذكورة. فيها تخاريم في الجص ، مستطيلة الشكل كأنها محاريب ، قد حفّت بها قرنصة غريبة الصنعة. وعلى الباب قبة عظيمة بائنة العلو يقرب من الصومعة ارتفاعها ، قد ضمن داخلها غرائب من الصنعة الجصية والتخاريم القرنصية يعجز عنها الوصف. وظاهرها ايضا تقاطيع في الجص كأنها أرجل مدورة قد تركبت دائرة على دائرة. وفحل الصومعة المذكورة على أرجل من الجص مفتّح ما بين كل رجل ورجل. وخارج

٧٤

باب ابراهيم بئر تنسب اليه ، عليه‌السلام.

وانما بدىء بباب الصفا لأنه أكبر الأبواب ، وهو الذي يخرج عليه الى السعي. وكل وافد الى مكة ، شرّفها الله ، يدخلها بعمرة فيستحب له الدخول على باب بني شيبة ثم يطوف سبعا ويخرج على باب الصفا ويجعل طريقه بين الاسطوانتين اللتين أمر المهديّ ، رحمه‌الله ، بإقامتهما علما لطريق رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الى الصفا ، حسبما تقدّم ذكره. وبين الركن اليماني ست واربعون خطوة ، ومنهما الى باب الصفا ثلاثون خطوة. ومن باب الصفا الى الصفا ستّ وسبعون خطوة. وللصفا أربعة عشر درجا ، وهو على ثلاثة أقواس مشرّفة ، والدرجة العليا متسعة كأنها مصطبة ، وقد أحدقت به الديار ، وفي سعته سبع عشرة خطوة.

وبين الصفا والميل الأخضر ما يأتي ذكره. والميل سارية خضراء ، وهي خضرة صباغية. وهي التي الى ركن الصومعة التي على الرّكن الشرقي من الحرم على قارعة المسيل الى المروة وعن يسار الساعي اليها. ومنها يرمل في السعي الى الميلين الأخضرين ، وهما أيضا ساريتان خضراوان على الصفة المذكورة ، الواحدة منها بإزاء باب علي في جدار الحرم وعن يسار الخارج من الباب ، والميل الآخر يقابله في جدار دار تتصل بدار الامير مكثر. وعلى كل واحدة منهما لوح قد وضع على رأس السارية كالتاج ألفيت فيه منقوشا برسم مذهب : «ان الصفا والمروة من شعائر الله» ... الآية. وبعدها «أمر بعمارة هذا الميل عبد الله وخليفته أبو محمد المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين ، أعزّ الله نصره ، في سنة ثلاث وسبعين وخمس مئة». وبين الصفا والميل الأول ثلاث وتسعون خطوة ، وهي مسافة الرمل جائيا وذاهبا من الميل الى الميلين. ثم من الميلين الى الميل ومن الميلين الى المروة ثلاث مئة وخمس وعشرون خطوة. فجميع خطا الساعي من الصفا الى المروة أربع مئة خطوة وثلاث وتسعون خطوة.

وادراج المروة خمسة ، وهي بقوس واحد كبير ، وسعتها سعة الصفا سبع

٧٥

عشر خطوة. وما بين الصفا والمروة مسيل هو اليوم سوق حفيلة بجميع الفواكه وغيرها من الحبوب وسائر المبيعات الطعامية ، والساعون لا يكادون يخلصون من كثرة الزحام ، وحوانيت الباعة يمينا وشمالا ، وما للبلدة سوق منتظمة سواها الا البزازين والعطارين ، فهم عند باب بني شيبة تحت السوق المذكورة وبمقربة تكاد تتصل بها.

وعلى الحرم الشريف جبل أبي قبيس ، وهو في الجهة الشرقية ، يقابل ركن الحجر الأسود ، وفي أعلاه رباط مبارك فيه مسجد وعليه سطح مشرف على البلدة الطيبة ، ومنه يظهر حسنها وحسن الحرم واتساعه وجمال الكعبة المقدسة القائمة وسطه. وقرأت في اخبار مكة لأبي الوليد الأزرقيّ أنه اول جبل خلقه الله عزوجل ، وفيه استودع الحجر زمن الطوفان ، وكانت قريش تسميه الأمين لأنه أدى الحجر الى ابراهيم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيه قبر آدم ، صلوات الله عليه ، وهو أحد أخشبي مكة ، والاخشب الثاني الجبل المتصل بقعيقعان في الجهة الغربية. صعدنا الى جبل أبي قبيس المذكور وصلينا في المسجد المبارك. وفيه موضع موقف النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عند انشقاق القمر له بقدرة الله عزوجل. وناهيك بهذه الفضيلة والبركة! والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء حتى الجمادات من مخلوقاته ، لا اله سواه.

وفي أعلاه آثار بناء جص مشيّد كان اتخذه معقلا أمير البلد عيسى أبو مكثر المذكور ، فهدمه عليه أمير الحاج العراقي لمخالفة صدرت عنه ، فغادره خرابا.

وألفيت منقوشا على سارية خارج باب الصفا تقابل السارية الواحدة من اللتين أقيمتا عاما لطريق النبيّ ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الى الصفا داخل الحرم المتقدمتي الذكر : «أمر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين ، أصلحه الله تعالى ، بتوسعة المسجد الحرام مما يلي باب الصفا ، لتكون الكعبة في وسط المسجد ، في سنة سبع وستين ومئة». فدلّ ذلك المكتوب على أن الكعبة المقدسة في وسط المسجد ، وكان يظن بها الانحراف الى جهة باب الصفا ، فاختبرنا جوانبها المباركة بالكيل ،

٧٦

فوجدنا الأمر صحيحا حسبما تضمّنه رسم السارية.

وتحت ذلك النقش في أسفل السارية منقوش أيضا : «امر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين ، أصلحه الله ، بتوسعة الباب الاوسط ، الذي بين هاتين الأسطوانتين ، وهو طريق رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الى الصفا».

وفي أعلى السارية التي تليها منقوش أيضا : «أمر عبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين ، أصلحه الله ، بصرف الوادي الى مجراه على عهد أبيه ابراهيم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتوسعته بالرحاب التي حول المسجد الحرام الحاجّ بيت الله وعمّاره». وتحتها أيضا منقوش ما تحت الأول من ذكر توسعة الباب الأوسط. والوادي المذكور هو الوادي المنسوب لإبراهيم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومجرا على باب الصفا المذكور ، وكان السيل قد خالف مجراه فكان يأتي على المسيل بين الصفا والمروة ويدخل الحرم ، فكان مدة مدّه بالامطار يطاف حول الكعبة سبحا ، فأمر المهدي ، رحمه‌الله ، برفع موضع في أعلى البلد يسمّى رأس الرّدم ، فمتى جاء السيل عرّج عن ذلك الردم الى مجراه واستمر على باب ابراهيم الى الموضع الذي يسمّى المسفلة ويخرج عن البلد ولا يجري الماء فيه الّا عند نزول ديم المطر الكثير. وهو الوادي الذي عنى ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بقوله حيث حكى الله تبارك وتعالى عنه : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) ، فسبحان من أبقى له الآيات البيّنات.

ذكر مكة المكرمة واثارها

هي بلدة قد وضعها الله عزوجل بين جبال محدقة بها ، وهي بطن واد مقدس ، كبيرة مستطيلة ، تسع من الخلائق ما لا يحصيه إلا الله عزوجل.

ولها ثلاثة أبواب : أولها باب المعلى ، ومنه يخرج إلى الجبانة المباركة ، وهي بالموضع الذي يعرف بالحجون. وعن يسار المار إليها جبل في أعلاه ثنية

٧٧

عليها علم شبيه البرج ، يخرج منها إلى طريق العمرة ، وتلك الثنية تعرف بكداء ، وهي التي عنى حسان بقوله في شعره :

تثير النّقع موعدها كداء

فقال النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يوم الفتح : ادخلوا من حيث قال حسان. فدخلوا من تلك الثنية. وهذا الموضع الذي يعرف بالحجون هو الذي عناه الحارث بن مضاض الجرهمي بقوله :

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بل نحن كنا أهلها فأبادنا

صروف الليالي والجدود العواثر

وبالجبانة المذكورة مدفن جماعة من الصحابة والتابعين والأولياء والصالحين قد دثرت مشاهدهم المباركة وذهبت عن أهل البلد أسماؤهم. وفيه الموضع الذي صلب فيه الحجاج بن يوسف ، جازاه الله ، جثة عبد الله بن الزبير ، رضي‌الله‌عنهما. وعلى الموضع بقية علم ظاهر إلى اليوم ، وكان عليه مبنى مرتفع ، فهدمه أهل الطائف غيرة منهم على ما كان يجدد من لعنة صاحبهم الحجاج المذكور. وعن يمينك ، إذا استقبلت الجبانة المذكورة ، مسجد في مسيل بين جبلين ، يقال إنه المسجد الذي بايعت فيه الجن النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وكرم.

وعلى هذا الباب المذكور طريق الطائف وطريق العراق والصعود إلى عرفات ، جعلنا الله ممن يفوز بالموقف فيها. وهذا الباب المذكور بين الشرق والشمال ، وهو إلى المشرق أميل.

ثم باب المسفل : وهو إلى جهة الجنوب ، وعليه طريق اليمن ، ومنه كان دخول خالد بن الوليد ، رضي‌الله‌عنه ، يوم الفتح.

ثم باب الزاهر : ويعرف أيضا بباب العمرة ، وهو غربي ، وعليه

٧٨

طريق مدينة الرسول ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وطريق الشام وطريق جده ، ومنه يتوجه إلى التنعيم ، وهو أقرب ميقات المعتمرين ، يخرج من الحرم إليه على باب العمرة ، ولذلك أيضا يسمى هو بهذا الاسم.

والتنعيم من البلدة على فرسخ ، وهو طريق حسن فسيح ، فيه الآبار العذبة التي تسمى بالشبيكة.

وعندما تخرج من البلدة بنحو ميل تلقى مسجدا بإزائه حجر موضوع على الطريق كالمصطبة يعلوه حجر آخر مسند فيه نقش دائر الرسم يقال إنه الموضع الذي قعد فيه النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مستريحا عند مجيئه من العمرة.

فيتبرك الناس بتقبيله ومسح الخدود فيه ، وحق ذلك لهم ، ويستندون إليه لتنال اجسامهم بركة لمسه. ثم بعد هذا الموضع بمقدار غلوة تلقى على قارعة الطريق ، من جهة اليسار للمتوجه إلى العمرة ، قبرين قد علتهما أكوام من الصخر عظام ، يقال إنهما قبرا أبي لهب وامرأته ، لعنهما الله ، فما زال الناس في القديم إلى هلم جرا يتخذون سنة رجمهما بالحجارة حتى علاهما من ذلك جبلان عظيمان.

ثم تسير منها بمقدار ميل وتلقى الزاهر ، وهو مبتنى على جانبي الطريق ، يحتوي على دار وبساتين ، والجميع ملك أحد المكيين ، وقد أحدث في المكان مطاهر وسقاية للمعتمرين. وعلى جانب الطريق دكان مستطيل تصف عليه كيزان الماء ومراكن مملؤة للوضوء ، وهي القصاري الصغار. وفي الموضع بئر عذبة يملأ منها المطاهر المذكورة فيجد المعتمرون فيها مرفقا كبيرا للطهور والوضوء والشرب. فصاحبها على سبيل معمورة بالاجر والثواب. وكثير من الناس المتاجرين من يعينه على ما هو بسبيله. وقيل : ان له من ذلك فائدا كبيرا.

وعن جانبي الطريق في هذا الموضع جبال أربعة : جبلان من هنا ، وجبلان من هنا ، عليها اعلام من الحجارة ، وذكر لنا أنها الجبال المباركة التي جعل

٧٩

ابراهيم ، عليه‌السلام ، عليها أجزاء الطير ثم دعاهن حسبما حكى الله ، عزوجل ، سؤاله إياه جل وتعالى أن يريه كيف يحيي الموتى. وحول تلك الجبال الأربعة جبال غيرها ، وقيل : ان التي جعل ابراهيم عليها الطير سبعة منها ، والله أعلم.

وعند إجازتك الزاهر المذكور تمر بالوادي المعروف بذي طوى الذي ذكر أن النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نزل فيه عند دخوله مكة ، وكان ابن عمر ، رضي‌الله‌عنهما ، يغتسل فيه وحينئذ يدخلها. وحوله آبار تعرف بالشبيكة ، وفيه مسجد يقال انه مسجد ابراهيم ، عليه‌السلام ، فتأمل بركة هذا الطريق ومجموع الآيات التي فيه والآثار المقدسة التي اكتنفته.

وتجيز الوادي الى مضيق تخرج منه الى الأعلام التي وضعت حجزا بين الحل والحرام ، فما داخلها الى مكة حرم وما خارجها حل ، وهي كالأبراج مصفوفة كبار وصغار واحد بازاء آخر ، وعلى مقربة منه تأخذ من أعلى الجبل الذي يعترض عن يمين الطريق في التوجه الى العمرة ، وتشق الطريق الى أعلى الجبل عن يساره ، ومنه ميقات المعتمرين ، وفيها مساجد مبنية بالحجارة يصلي المعتمرون فيها ويحرمون منها.

ومسجد عائشة ، رضي‌الله‌عنها ، خارج هذه الأعلام بمقدار غلوتين ، واليه يصل المالكيون ومنه يحرمون. وأما الشافعيون فيحرمون من المساجد التي حول الأعلام المذكورة. وامام مسجد عائشة ، رضي‌الله‌عنها ، مسجد ينسب لعلي بن أبي طالب ، رضي‌الله‌عنه.

ومن عجيب ما عرض علينا بباب بني شيبة المذكور عتب من الحجارة العظام طوال كأنها مصاطب صفت أمام الأبواب الثلاثة المنسوبة لبني شيبة ، ذكر لنا أنها الأصنام التي كانت قريش تعبدها في جاهليتها ، وكبيرها هبل بينها ، قد كبت على وجوهها ، تطؤها الأقدام وتمتهنها بأنعلتها العوام ، ولم تغن عن أنفسها فضلا عن عابديها شيئا ، فسبحان المنفرد بالوحدانية لا اله سواه. والصحيح في أمر تلك الحجارة أن النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٨٠