رحلة ابن جبير

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي

رحلة ابن جبير

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

ضحوة على ماء الخبيب ، وهو بموضع بمرأى العين من عيذاب ، يستقي منه القوافل وأهل البلد ويعم الجميع ، وهي بئر كبيرة كأنها الجب الكبير.

أحفل مراسي الدنيا

فلما كان عشي يوم السبت دخلنا عيذاب ، وهي مدينة على ساحل بحر جدّة غير مسورة ، أكثر بيوتها الأخصاص ، وفيها الآن بناء مستحدث بالجص. وهي من أحفل مراسي الدنيا بسبب أن مراكب الهند واليمن تحط فيها وتقلع منها زائدا الى مراكب الحجاج الصادرة والواردة. وهي في صحراء لا نبات فيها ولا يؤكل فيها شيء الا مجلوب ، لكن أهلها بسبب الحجاج تحت مرفق كثير ولا سيما مع الحاج ، لأن لهم على كل حمل طعاما يحملونه ضريبة معلومة خفيفة المؤونة بالإضافة الى الوظائف المكوسية التي كانت قبل اليوم التي ذكرنا رفع صلاح الدين لها ، ولهم أيضا من المرافق من الحجاج اكراء الجلاب منهم وهي المراكب. فيجتمع لهم من ذلك مال كثير في حملهم الى جدة وردهم وقت انفضاضهم من أداء الفريضة. وما من أهلها ذوي اليسار الا من له الجلبة والجلبتان ، فهي تعود عليهم برزق واسع. فسبحان قاسم الارزاق على اختلاف أسبابها ، لا اله سواه.

وكان نزولنا فيها بدار تنسب لمونح أحد قوادها الحبشيين الذين تأثلوا بها الديار والرباع والجلاب ، وفي بحر عيذاب مغاص على اللؤلؤ في جزائر على مقربة منها ، وأوان الغوص عليه في هذا التاريخ المقيدة فيه هذه الأحرف ، وهو شهر يونيه العجمي والشهر الذي يتلوه ، ويستخرج منه جوهر نفيس ، له قيمة سنية ، يذهب الغائصون عليه الى تلك الجزائر في الزوارق ويقيمون فيها الأيام فيعودون بما قسم الله لكل واحد منهم بحسب حظه من الرزق.

والمغاص منها قريب القعر ليس ببعيد. ويستخرجونه في أصداف لها أزواج كأنها نوع من الحيتان أشبه شيء بالسلحفاة. فاذا شقت ظهرت الشقتان من داخلها

٤١

كأنهما محارتا فضة ، ثم يشقون عليها فيجدون فيها الحبة من الجوهر قد غطى عليها لحم الصدف. فيجتمع لهم من ذلك بحسب الحظوظ والأرزاق. فسبحان مقدرها لا اله سواه. لكنهم ببلدة لا رطب فيها ولا يابس قد الفوا بها عيش البهائم ؛ فسبحان محبب الأوطان الى أهلها ، على أنهم أقرب الى الوحش منهم الى الأنس.

آفة الحجاج

والركوب من جدة اليها آفة للحجاج عظيمة الا الأقل منهم ممن يسلمه الله عزوجل ، وذلك ان الرياح تلقيهم على الأكثر في مراس بصحارى تبعد منها مما يلي الجنوب ، فينزل اليهم البجاة ، وهم نوع من السودان ساكنون بالجبال ، فيكرون منهم الجمال ويسلكون بهم غير طريق الماء. فربما ذهب اكثرهم عطشا وحصلوا على ما يخلفهم من نفقة او سواها. وربما كان من الحجاج من يتعسف تلك المجهلة على قدميه فيضل ويهلك عطشا. والذي يسلم منهم يصل الى عيذاب كأنه منشر من كفن ، شاهدنا منهم مدة مقامنا أقواما قد وصلوا على هذه الصفة في مناظرهم المستحيلة وهيئاتهم المتغيرة ، آية للمتوسمين.

وأكثر هلاك الحجاج بهذه المراسي. ومنهم من تساعده الريح الى أن يحط بمرسى عيذاب ، وهو الأقل.

والجلاب التي يصرّفونها في هذا البحر الفرعوني ملفقة الإنشاء لا يستعمل فيها مسمار البتة انما هي مخيطة بأمراس من القنبار ، وهو قشر جوز النارجيل يدرسونه الى ان يتخيط ويفتلون منه أمراسا يخيطون بها المراكب ويخللونها بدسر من عيدان النخل ، فاذا فرغوا من انشاء الجلبة على هذه الصفة سقوها بالسمن او بدهن الخروع أو بدهن القرش ، وهو أحسنها ، وهذا القرش حوت عظيم في البحر يبتلع الغرقى فيه. ومقصدهم في دهان الجلبة ليلين عودها ويرطب لكثرة الشعاب المعترضة في هذا البحر.

ولذلك لا يصرفون فيه المركب المسماري.

وعود هذا الجلاب مجلوب من الهند واليمن ، وكذلك القنبار المذكور.

٤٢

ومن اعجب أمر هذه الجلاب أن شرعها منسوجة من خوص شجر المقل. فمجموعها متناسب في اختلال البنية ووهنها ، فسبحان مسخرها على تلك الحال والمسلم فيها لا اله سواه.

ولأهل عيذاب في الحجاج احكام الطواغيت (١) وذلك انهم يشحنون بهم الجلاب حتى يجلس بعضهم على بعض وتعود بهم كأنها أقفاص الدجاج المملوءة ، يحمل أهلها على ذلك الحرص والرغبة في الكراء حتى يستوفي صاحب الجلبة منهم ثمنها في طريق واحدة ولا يبالي بما يصنع البحر بها بعد ذلك ، ويقولون : علينا بالألواح ، وعلى الحجاج بالأرواح. وهذا مثل متعارف بينهم. فأحق بلاد الله بحسبة يكون السيف درتها هذه البلدة ، والأولى بمن يمكنه ذلك ان لا يراهما وأن يكون طريقه على الشام الى العراق ، ويصل مع أمير الحاج البغدادي ، وان لم يمكنه ذلك اولا فيمكنه آخرا عند انفضاض الحاج ، يتوجه مع أمير الحاج المذكور الى بغداد ومنها الى عكة ، فان شاء دخل منها الى الاسكندرية ، وان شاء الى صقلية أو سواهما. ويمكن أن يجد مركبا من الروم يقلع الى سبتة أو سواها من بلاد المسلمين. وان طال طريقه بهذا التحليق فيهون لما يلقى بعيذاب ونحوها.

أهل عيذاب

واهلها الساكنون بها من قبيل السودان يعرفون بالبجاة ، ولهم سلطان من أنفسهم يسكن معهم في الجبال المتصلة بها. وربما وصل في بعض الأحيان واجتمع بالوالي الذي فيها من الغز اظهارا للطاعة. ومستنابه مع الوالي في البلد ، والفوائد كلها له الا البعض منها.

وهذه الفرقة من السودان المذكورين فرقة أضل من الأنعام سبيلا واقل عقولا

__________________

(١) الطواغيت مفردها طاغوت. كل معتد.

٤٣

لا دين لهم سوى كلمة التوحيد التي ينطقون بها اظهارا للإسلام ، ووراء ذلك من مذاهبهم الفاسدة وسيرهم ما لا يرضى ولا يحل ، ورجالهم ونساؤهم يتصرفون عراة الا خرقا يسترون بها عوراتهم ، وأكثرهم لا يسترون. وبالجملة فهم أمة لا أخلاق لهم ، ولا جناح على لاعنهم.

أهوال بحر فرعون

وفي يوم الاثنين الخامس والعشرين لربيع الأول المذكور ، وهو الثامن عشر من يوليه ، ركبنا الجلبة للعبور الى جدة. فأقمنا يومنا ذلك بالمرسى لركود الريح ومغيب النواتية ، فلما كان صبيحة يوم الثلاثاء اقلعنا على بركة الله ، عزوجل ، وحسن عونه المأمول. فكانت مدة المقام بعيذاب ، حاشا يوم الاثنين المذكور ، ثلاثة وعشرين يوما ، محتسبة عند الله ، عزوجل ، لشظف العيش وسوء الحال واختلال الصحة لعدم الاغذية الموافقة ، وحسبك من بلد كل شيء فيه مجلوب حتى الماء ، والعطش أشهى الى النفس منه. فأقمنا بين هواء يذيب الأجسام وماء يشغل المعدة عن اشتهاء الطعام ، فما ظلم من غنى عن هذه البلدة بقوله :

ماء زعاق وجو كله لهب

فالحلول بها من أعظم المكاره التي حف بها السبيل الى البيت العتيق ، زاده الله تشريفا وتكريما ، وأعظم أجور الحجاج على ما يكابدونه ولا سيما في تلك البلدة الملعونة ، ومما لهج الناس بذكره قبائحها حتى يزعمون أن سليمان ابن داود ، على نبينا وعليه‌السلام ، كان اتخذها سجنا للعفارتة ، أراح الله الحجاج منها بعمارة السبيل القاصدة الى بيته الحرام ، وهي السبيل التي من مصر على عقبة أيلة الى المدينة المقدسة ، وهي مسافة قريبة يكون البحر منها يمينا وجبل الطور المعظم يسارا ، لكن للإفرنج بمقربة منها حصن مندوب يمنع الناس من سلوكه والله

٤٤

ينصر دينه ويعز كلمته بمنه.

فتمادى سيرنا في البحر يوم الثلاثاء السادس والعشرين لربيع الأول المذكور ويوم الأربعاء بعده بريح فاترة المهب. فلما كان العشاء الآخرة من ليلة الخميس ونحن قد استبشرنا برؤية الطير المحلقة من بر الحجاز ، لمع برق من جهة البر المذكور ، وهي جهة الشرق ، ثم نشأ نوء أظلم له الأفق الى أن كسا الآفاق كلها ، وهبت ريح شديدة صرفت المركب عن طريقه راجعا وراءه ، وتمادى عصوف الرياح واشتدت حلكة الظلمة وعمت الآفاق ، فلم ندر الجهة المقصودة منها ، الى أن ظهر بعض النجوم فاستدل بها بعض الاستدلال وحط القلع الى اسفل الدقل ، وهو الصاري.

واقمنا ليلتنا تلك في هول يؤذن باليأس ، وارانا بحر فرعون بعض اهواله الموصوفة ، الى ان أتى الله بالفرج مقترنا مع الصباح. فهدأ قياد الريح وأقشع الغيم وأصحت السماء ولاح لنا بر الحجاز على بعد لا نبصر منه الا بعض جباله ، وهي شرق من جدة ، زعم ربان المركب وهو الرّائس ، أن بين تلك الجبال التي لاحت لنا وبر جدّة يومين ، والله يسهل لنا كل صعب وييسر لنا كل عسير بعزته وكرمه.

فجرينا يومنا ذلك ، وهو يوم الخميس المذكور ، بريح رخاء طيبة ، ثم ارسينا عشية في جزيرة صغيرة في البحر على مقربة من البر المذكور بعد أن لقينا شعابا كثيرة يكثر فيها الماء ويضحل علينا ، فتخللنا أثناءها على حذر وتحفظ.

وكان الربان بصيرا بصنعته حاذقا فيها ، فخلصنا الله منها ، حتى أرسينا بالجزيرة المذكورة ، ونزلنا اليها وبتنا بها ليلة الجمعة التاسع والعشرين لربيع الأول المذكور ، واصبح الهواء راكدا والريح غير متنفسة الا من الجهة التي لا توافقنا فأقمنا بها يوم الجمعة المذكور. فلما كان يوم السبت الموفي ثلاثين تنفست الريح بعض التنفس ، فاقلعنا بذلك النفس نسير سيرا رويدا. وسكن البحر حتى

٤٥

خيل لناظره انه صحن زجاج ازرق. فأقمنا على تلك الحال نرجو لطيف صنع الله عزوجل.

وهذه الجزيرة تعرف بجزيرة عائقة السفن ، فعصمنا الله عزوجل من فأل اسمها المذموم ، وله الحمد والشكر على ذلك.

شهر ربيع الآخر

استهل هلاله ليلة السبت ونحن بالجزيرة المذكورة ولم يظهر تلك الليلة للأبصار بسبب النوء لكن ظهر في الليلة الثانية كبيرا مرتفعا ، فتحققنا اهلاله ليلة السبت المذكور ، وهو الثالث والعشرون من شهر يوليه ، وفي عشيّ يوم الأحد ثانية أرسينا بمرسى يعرف بأبحر ، وهو على بعض يوم من جدة ، وهو من أعجب المراسي وضعا ، وذلك أن خليجا من البحر يدخل الى البر والبر مطيف به من كلتا حافتيه فترسي الجلاب منه في قرارة مكنّة هادئة.

فلما كان سحر يوم الاثنين بعده أقلعنا منه على بركة الله تعالى بريح فاترة ، والله الميسر لا رب سواه فلما جن الليل أرسينا على مقربة من جدة وهي بمرأى العين منا. وحالت الريح صبيحة يوم الثلاثاء بعده بيننا وبين دخول مرساها ، ودخول هذه المراسي صعب المرام بسبب كثرة الشعاب والتفافها. وأبصرنا من صنعة هؤلاء الرؤساء والنواتية في التصرف بالجلبة أثناءها أمرا ضخما ، يدخلونها على مضايق ويصرّفونها خلالها تصريف الفارس للجواد الرطب العنان السلس القياد ، ويأتون في ذلك بعجب يضيق الوصف عنه.

وفي ظهر يوم الثلاثاء الرابع من شهر ربيع الآخر المذكور ، وهو السادس والعشرون من شهر يوليه ، كان نزولنا بجدة حامدين لله عزوجل وشاكرين على السلامة والنجاة من هول ما عايناه في تلك الثمانية الأيام طول مقامنا على البحر ، وكانت اهوالا شتى ، عصمنا الله منها بفضله وكرمه ، فمنها ما كان يطرأ من

٤٦

البحر واختلاف رياحه وكثرة شعابه المعترضة فيه. ومنها ما كان يطرأ من ضعف عدة المركب واختلالها واقتصامها المرة بعد المرة عند رفع الشراع أو حطه أو جذب مرساة من مراسيه ، وربما سنحت الجلبة بأسفلها على شعب من تلك الشعاب أثناء تخللها فنسمع لها هدا يؤذن باليأس ، فكنا فيها نموت مرارا ونحيا مرارا ، والحمد لله على ما منّ به من العصمة وتكفل به من الوقاية والكفاية حمدا يبلغ رضاه ويستهدي المزيد من نعماه ، بعزته وقدرته ، لا اله سواه.

وكان نزولنا فيها بدار القائد عليّ وهو صاحب جدة من قبل أمير مكة المذكور ، في صرح من تلك الصروح الخوصية التي يبنونها في أعالي ديارهم ويخرجون منها الى سطوح يبيتون فيها. وعند احتلالنا جدة المذكورة عاهدنا الله عزوجل ، سرورا بما أنعم الله به من السلامة ، الا يكون انصرافنا على هذا البحر الملعون الا ان طرأت ضرورة تحول بيننا وبين سواه من الطرق ، والله وليّ الخيرة في جميع ما يقضيه ويسنيه بعزته.

جدة

وجدة هذه قرية على ساحل البحر المذكور اكثر بيوتها اخصاص ، وفيها فنادق مبنية بالحجارة والطين وفي اعلاها بيوت من الأخصاص كالغرف ، ولها سطوح يستراح فيها بالليل من أذى الحر. وبهذه القرية آثار قديمة تدل على أنها كانت مدينة قديمة ، وأثر سورها المحدق بها باق الى اليوم. وبها موضع فيه قبة مشيدة عتيقة يذكر أنه كان منزل حواء أم البشر ، صلى الله عليها ، عند توجهها الى مكة ، فبني ذلك المبنى عليه تشهيرا لبركته وفضله ، والله أعلم بذلك.

وفيها مسجد مبارك منسوب الى عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، ومسجد آخر له ساريتان من خشب الآبنوس ينسب ايضا إليه ، رضي‌الله‌عنه ، ومنهم من ينسبه الى هارون الرشيد ، رحمة الله عليه.

٤٧

واكثر سكان هذه البلدة مع ما يليها من الصحراء والجبال أشراف علويون : حسنيون وحسينيون وجعفريون ، رضي الله عن سلفهم الكريم. وهم من شظف العيش بحال يتصدع له الجماد اشفاقا ، ويستخدمون انفسهم في كل مهنة من المهن : من اكراء جمال ان كانت لهم ، او مبيع لبن او ماء ، الى غير ذلك من تمر يلتقطونه أو حطب يحتطبونه. وربما تناول ذلك نساءهم الشريفات بأنفسهن ، فسبحان المقدر لما يشاء. ولا شك أنهم أهل بيت ارتضى الله لهم الآخرة ولم يرتض لهم الدنيا. جعلنا الله ممن يدين بحب أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

وبخارج هذه البلدة مصانع قديمة تدل على قدم اختطاطها ، ويذكر أنها كانت من مدن الفرس. وبها جباب منقورة في الحجر الصلد يتصل بعضها ببعض تفوت الإحصاء كثرة وهي داخل البلد وخارجه ، حتى انهم يزعمون ان التي خارج البلد ثلاث مئة وستون جبا ومثل ذلك داخل البلد. وعاينا نحن جملة كثيرة لا يأخذها الإحصاء. وعجائب الموضوعات كثيرة ، فسبحان المحيط علما بها.

استغلال الحجاج

وأكثر هذه الجهات الحجازية وسواها فرق وشيع لا دين لهم قد تفرقوا على مذاهب شتى. وهم يعتقدون في الحاج ما لا يعتقد في أهل الذمة ، قد صيروهم من أعظم غلاتهم التي يستغلونها : ينتهبونهم انتهابا ، ويسببون لاستجلاب ما بأيديهم استجلابا. فالحاج معهم لا يزال في غرامة ومؤونة الى أن ييسر الله رجوعه الى وطنه. ولو لا ما تلافى الله به المسلمين في هذه الجهات بصلاح الدين لكانوا من الظلم في امر لا ينادى وليده ولا يلين شديده. فانه رفع ضرائب المكوس عن الحاج وجعل عوض ذلك مالا وطعاما يأمر بتوصيلهما الى مكثر أمير مكة ، فمتى أبطأت عنهم تلك الوظيفة المترتبة لهم عاد هذا الأمير الى ترويع الحاج واظهار تثقيفهم بسبب المكوس. واتفق لنا من ذلك أن وصلنا

٤٨

جدة ، فأمسكنا بها خلال ما خوطب مكثر الأمير المذكور. فورد أمره أن يضمن الحاج بعضهم بعضا ويدخلوا الى حرم الله ، فان ورد المال والطعام اللذان برسمه من قبل صلاح الدين والا فهو لا يترك ماله قبل الحاج. هذا لفظه ، كأن حرم الله ميراث بيده محلل له اكتراؤه من الحاج. فسبحان مغير السنن ومبدلها.

والذي جعل له صلاح الدين ، بدلا من مكس الحاج ، ألفا دينار اثنان وألفا اردب من القمح ، وهو نحو الثمانمائة قفيز بالكيل الإشببلي عندنا ، حاشا اقطاعات أقطعها بصعيد مصر وبجهة اليمن لهم بهذا الرسم المذكور. ولو لا مغيب هذا السلطان العادل صلاح الدين بجهة الشام في حروب له هناك مع الإفرنج لما صدر عن هذا الأمير المذكور ما صدر في جهة الحاج. فأحق بلاد الله بأن يطهرها السيف ويغسل أرجاسها وأدناسها بالدماء المسفوكة في سبيل الله هذه البلاد الحجازية لما هم عليه من حل عرى الإسلام واستحلال أموال الحاج ودمائهم.

فمن يعتقد من فقهاء أهل الأندلس اسقاط هذه الفريضة عنهم فاعتقاده صحيح لهذا السبب وبما يصنع بالحاج مما لا يرتضيه الله عزوجل. فراكب هذا السبيل راكب خطر ومعتسف غرر. والله قد أوجد الرخصة فيه على غير هذه الحال ، فكيف وبيت الله الآن بأيدي أقوام قد اتخذوه معيشة حرام وجعلوه سببا الى استلاب الأموال واستحقاقها من غير حل ومصادرة الحجاج عليها وضرب الذلة والمسكنة الدنية عليهم ، تلافاها الله عن قريب بتطهير يرفع هذه البدع المجحفة عن المسلمين بسيوف الموحدين أنصار الدّين ، وحزب الله أولي الحق والصدق ، والذابين عن حرم الله عزوجل ، والغائرين على محارمه ، والجادين في اعلاء كلمته واظهار دعوته ونصر ملته ، انه على ما يشاء قدير ، وهو نعم المولى ونعم النصير.

لا اسلام إلا في المغرب

وليتحقق المتحقق ويعتقد الصحيح الاعتقاد أنه لا اسلام الا ببلاد المغرب ،

٤٩

لأنهم على جادة واضحة لا بنيات لها. وما سوى ذلك مما بهذه الجهات المشرقية فأهواء وبدع ، وفرق ضالة وشيع ، الا من عصم الله عزوجل من اهلها. كما أنه لا عدل ولا حق ولا دين على وجهه الا عند الموحدين ، أعزهم الله ، فهم آخر أئمة العدل في الزمان. وكل من سواهم من الملوك في هذا الأوان فعلى غير الطريقة يعشرون تجار المسلمين كأنهم أهل ذمة لديهم ، ويستجلبون أموالهم بكل حيلة وسبب ، ويركبون طرائق من الظلم لم يسمع بمثلها ، اللهم الا هذا السلطان العادل صلاح الدين ، الذي قد ذكرنا سيرته ومناقبه ، لو كان له أعوان على الحق ... مما أريد الله عزوجل يتلافى المسلمين بجميل نظره ولطيف صنعه.

الدعوة المؤمنية الموحدية

ومن عجيب ما شاهدناه في أمر الدعوة المؤمنية الموحدية وانتشار كلمتها بهذه البلاد واستشعار أهلها لملكتها أن أكثر أهلها بل الكل منهم يرمزون بذلك رمزا خفيا حتى يؤدي ذلك بهم الى التصريح ، وينسبون ذلك لآثار حدثانية وقعت بأيدي بعضهم أنذرت بأشياء من الكوائن فعاينوها صحيحة.

فمن بعض الآثار المؤذنة بذلك عندهم أن بين جامع ابن طولون والقاهرة برجين مقتربين عتيقي البناء ، على أحدهما تمثال ناظر الى جهة المغرب وكان على الآخر تمثال ناظر الى المشرق ، فكانوا يرون أن أحدهم اذا سقط أنذر بغلبة أهل الجهة التي كان ناظرا اليها على ديار مصر وسواها. وكان من الاتفاق العجيب أن وقع التمثال الناظر الى المشرق فتلا وقوعه استيلاء الغز (١) على الدولة العبيدية وتملكهم ديار مصر وسائر البلاد. وهم الآن متوقعون سقوط التمثال الغربي وحدثان ما يؤملونه من ملكة أهله لهم ان شاء الله.

ولم يبق الا الكائنة السعيدة من تملك الموحدين لهذه البلاد ، فهم يستطلعون بها صبحا جليا ويقطعون بصحتها ، ويرتقبونها ارتقاب الساعة التي لا يمترون في

__________________

(١) جنس من الترك.

٥٠

انجاز وعدها. شاهدنا من ذلك بالإسكندرية ومصر وسواهما مشافهة وسماعا أمرا غريبا يدل على أن ذلك الأمر العزيز أمر الله الحق ودعوته الصدق. ونمي الينا أن بعض فقهاء هذه البلاد المذكورة وزعمائها قد حبّر خطبا أعدها للقيام بها بين يدي سيدنا أمير المؤمنين ، أعلى الله أمره ، وهو يرتقب ذلك اليوم ارتقاب يوم السعادة وينتظره انتظار الفرج بالصبر الذي هو عبادة ، والله عزوجل يبسطها من كلمة ، ويعليها من دعوة ، انه على ما يشاء قدير.

من جدة إلى حرم الشريف

وفي عشيّ يوم الثلاثاء الحادي عشر من الشهر المذكور ، وهو الثاني من شهر أغشت ، كان انفصالنا من جدة بعد أن ضمن الحجاج بعضهم بعضا ، وثبتت أسماؤهم في زمام عند قائد جدة عليّ بن موفق ، حسبما نفذ اليه ذلك من سلطانه صاحب مكة مكثر بن عيسى المذكور وهذا الرجل مكثر من ذرية الحسن بن عليّ ، رضوان الله عليهما ، لكنه ممن يعمل غير صالح ، فليس من أهل سلفه الكريم ، رضي‌الله‌عنهم.

وأسرينا تلك الليلة الى ان وصلنا القرين مع طلوع الشمس. وهذا الموضع هو منزل الحاج ومحط رحالهم ، ومنه يحرمون وبه يريحون اليوم الذي يصبحونه. فاذا كان في عشية رفعوا وأسروا ليلتهم وصبحوا الحرم الشريف ، زاده الله تشريفا وتعظيما. والصادرون من الحج ينزلون به ايضا ويسرون منه الى جدة وبهذا الموضع المذكور بئر معينة عذبة ، والحاج بسببها لا يحتاجون الى تزود الماء غير ليلة اسرائهم اليه. فأقمنا بياض يوم الأربعاء المذكور مريحين بالقرين. فلما حان العشي رحنا منه محرمين بعمرة ، فأسرينا ليلتنا تلك ، فكان وصولنا مع الفجر الى قريب الحرم. فنزلنا مرتقبين لانتشار الضوء.

ودخلنا مكة ، حرسها الله ، في الساعة الأولى من يوم الخميس الثالث عشر

٥١

لربيع المذكور ، وهو الرابع من شهر أغشت ، على باب العمرة ، وكان إسراؤنا تلك الليلة المذكورة ، والبدر قد القى على البسيطة شعاعه ، والليل قد كشف عنا قناعه ، والأصوات تصك الآذان بالتلبية من كل مكان ، والألسنة تضج بالدعاء وتبتهل الى الله بالثناء ، فتارة تشتد بالتلبية ، وآونة تتضرع بالأدعية.

فيا لها ليلة كانت في الحسن بيضة العقر ، فهي عروس ليالي العمر وبكر بنيات الدهر. الى أن وصلنا ، في الساعة المذكورة من اليوم المذكور ، حرم الله العظيم ومبوّأ الخليل ابراهيم. فألفينا الكعبة الحرام عروسا مجلوة مزفوفة الى جنة الرضوان محفوفة بوفود الرحمن ، فطفنا طواف القدوم ، ثم صلينا بالمقام الكريم وتعلقنا بأستار الكعبة عند الملتزم ، وهو بين الحجر الأسود والباب ، وهو موضع استجابة الدعوة. ودخلنا قبة زمزم وشربنا من مائها وهو لما شرب له ، كما قال ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم سعينا بين الصفا والمروة ، ثم حلقنا واحللنا. فالحمد لله الذي كرمنا بالوفادة عليه وجعلنا ممن انتهت الدعوة الإبراهيمية اليه ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وكان نزولنا فيها بدار تعرف بالنسبة الى الحلال قريبا من الحرم ، ومن باب السدة احد ابوابه في حجرة كثيرة المرافق المسكنية مشرفة على الحرم وعلى الكعبة المقدسة.

شهر جمادى الأول

استهل هلاله ليلة الاثنين الثاني والعشرين لأغشت ، وقد كمل لنا بمكة ، شرفها الله تعالى ، ثمانية عشر يوما ، فهلال هذا الشهر أسعد هلال اجتلته أبصارنا فيما سلف من اعمارنا. طلع علينا وقد تبوأنا مقعد الجدار الكريم وحرم الله العظيم والقبة التي فيها مقام ابراهيم ، مبعث الرسول ومهبط الروح الأمين جبريل بالوحي والتنزيل ، فأوزعنا الله شكر هذه المنة وعرّفنا قدر ما خصنا به من نعمة ، وختم لنا بالقبول ، وأجرانا على كريم عوائده من الصنع الجميل ولطيف

٥٢

التيسير والتسهيل بعزته وقدرته ، لا اله سواه.

المسجد الحرام والبيت العتيق

البيت المكرّم له اربعة أركان. وهو قريب من التربيع. واخبرني زعيم الشيبيين الذين اليهم سدانة البيت ، وهو محمد بن اسماعيل بن عبد الرحمن من ذرية عثمان بن طلحة بن شيبة بن طلحة بن عبد الدار صاحب رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصاحب حجابة البيت : أن ارتفاعه في الهواء من الصفح الذي يقابل باب الصفا ، وهو من الحجر الأسود ، الى الركن اليماني ، تسع وعشرون ذراعا وسائر الجوانب ثمان وعشرون ، بسبب انصباب السطح الى الميزاب. فأول أركانه الركن الذي فيه الحجر الأسود ، ومنه ابتداء الطواف ، ويتقهقر الطائف عنه ليمر جميع بدنه به ، والبيت المكرم عن يساره ، وأول ما يلقى بعده الركن العراقي ، وهو ناظر الى جهة الشمال. ثم الركن الشامي ، وهو ناظر الى جهة الغرب. ثم الركن اليماني ، وهو ناظر الى جهة الجنوب. ثم يعود الى الركن الأسود ، وهو ناظر الى جهة الشرق. وعند ذلك يتم شوطا واحدا.

وباب البيت الكريم في الصفح الذي بين الركن العراقي وركن الحجر الأسود ، وهو قريب من الحجر بعشرة أشبار محققة. وذلك الموضع الذي بينهما من صفح البيت يسمى الملتزم ، وهو موضع استجابة الدعاء. والباب الكريم مرتفع عن الأرض بأحد عشر شبرا ونصف. وهو من فضة مذهبة ، بديع الصنعة ، رائق الصفة ، يستوقف الأبصار حسنا وخشوعا للمهابة التي كساها الله بيته. وعضادتاه كذلك ، والعتبة العليا كذلك أيضا. وعلى رأسها لوح ذهب خالص ابريز في سعته مقدار شبرين. وللباب نقارتا فضة كبيرتان يتعلق عليهما قفل الباب ، وهو ناظر للشرق ، وسعته ثمانية أشبار ، وطوله ثلاثة عشر شبرا وغلظ الحائط الذي ينطوي عليه الباب خمسة أشبار.

وداخل البيت الكريم مفروش بالرخام المجزّع ، وحيطانه رخام كلها مجزّع.

٥٣

قد قام على ثلاثة أعمدة من الساج مفرطة الطول ، وبين كل عمود وعمود أربع خطا. وهي على طول البيت متوسطة فيه. فأحد الأعمدة ، وهو أولها ، يقابل نصف الصفح الذي يحف به الركنان اليمانيان. وبينه وبين الصفح مقدار ثلاث خطا. والعمود الثالث ، وهو آخرها ، يقابل الصفح الذي يحف به الركنان العراقي والشامي.

ودائر البيت كله من نصفه الأعلى مطلي بالفضة المذهبة المستحسنة ، يخيل للناظر اليها أنها صفيحة ذهب لغلظها. وهي تحف بالجوانب الأربعة وتمسك مقدار نصف الجدار الأعلى.

وسقف البيت مجلل بكساء من الحرير الملون. وظاهر الكعبة كلها من الأربعة الجوانب مكسو بستور من الحرير الأخضر وسداها قطن وفي أعلاها رسم بالحرير الأحمر ، فيه مكتوب : «إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة» الآية ، واسم الإمام الناصر لدين الله في سعته قدر ثلاث أذرع يطيف بها كلها. قد شكل في هذه الستور من الصنعة الغريبة التي تبصرها أشكال محاريب رائقة ورسوم مقروءة مرسومة بذكر الله تعالى وبالدعاء للناصر العباسي المذكور الآمر باقامتها ، وكل ذلك لا يخالف لونها ، وعدد الستور من الجوانب الأربعة أربعة وثلاثون سترا. وفي الصفحين الكبيرين منها ثمانية عشر ، وفي الصفحين الصغيرين ستة عشر ، وله خمسة مضاوئ ، وعليها زجاج عراقي بديع النقش ، أحدها في وسط السقف ، ومع كل ركن مضوأ ، والواحد منها لا يظهر لأنه تحت القبو المذكور بعد. وبين الأعمدة أكواس من الفضة عددها ثلاث عشرة واحداها من ذهب.

واول ما يلقى الداخل على الباب عن يساره الركن الذي خارجه الحجر الأسود ، وفيه صندوقان فيهما مصاحف ، وقد علاهما في الركن بويبان من فضة كأنهما طاقان ملصقان بزاوية الركن. وبينهما وبين الأرض ازيد من قامة. وفي

٥٤

الركن الذي يليه وهو اليماني كذلك لكنهما انقلعا وبقي العمود الذي كانا ملصقين عليه. وفي الركن الشامي كذلك وهما باقيان. وفي جهة الركن العراقي كذلك. وعن يمينه الركن العراقي وفيه باب يسمى بباب الرحمة يصعد منه الى سطح البيت المكرّم. وقد قام له قبو فهو متصل بأعلى سطح البيت داخله الأدراج.

وفي أوله البيت المحتوي على المقام الكريم. فتجد للبيت الكريم بسبب هذا القبو خمسة أركان ، وفي سعة صفحيه قامتان ، وهو محتو على الركن العراقي بنصفين من كل صفح ، وثلثا قناة هذا القبو مكسوان بستر الحرير الملون كأنه قد لف فيه ثم وضع.

وهذا المقام الكريم الذي داخل هذا القبو هو مقام ابراهيم ، صلى الله على نبينا وعليه ، وهو حجر مغشى بالفضة ، وارتفاعه مقدار ثلاثة أشبار ، وسعته مقدار شبرين ، وأعلاه اوسع من اسفله ، فكأنه ، وله التنزيه والمثل الأعلى ، كانون فخار كبير اوسطه يضيق عن اسفله وعن أعلاه ، عايناه وتبركنا بلمسه وتقبيله ، وصب لنا في أثر القدمين المباركتين ماء زمزم فشربناه ، نفعنا الله به. وأثرهما بيّن وأثر الأصابع المكرمة المباركة. فسبحان من ألانه لواطئه حتى أثرت فيه ولا تأثير القدم في الرمل الوثير ، سبحان جاعله من الآيات البينات.

ولمعاينته ومعاينة البيت الكريم هول يشعر النفوس من الذهول ويطيش الأفئدة والعقول ، فلا تبصر الا لحظات خاشعة وعبرات هامعة ومدامع باكية وألسنة الى الله ، عزوجل ، ضارعة داعية.

وبين الباب الكريم والركن العراقي حوض طوله اثنا عشر شبرا ، وعرضه خمسة اشبار ونصف ، وارتفاعه نحو شبر ، متصل من قبالة عضادة الباب التي تلي الركن المذكور آخذا الى جهته ، وهو علامة موضع المقام مدة ابراهيم ، عليه‌السلام الى ان صرفه النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الى الموضع الذي هو الآن مصلّى. وبقي الحوض المذكور مصبا لماء البيت اذا غسل ، وهو موضع مبارك ، يقال :

٥٥

إنه روضة من رياض الجنة ، والناس يزدحمون للصلاة فيه. وأسفله مفروش برملة بيضاء وثيرة.

وموضع المقام الكريم هو الذي يصلى خلفه ، يقابل ما بين الباب الكريم والركن العراقي ، وهو الى الباب أميل بكثير ، وعليه قبة خشب في مقدار القامة أو ازيد مركنة محددة بديعة النقش ، سعتها من ركنها الواحد الى الثاني أربعة أشبار ، وقد نصبت على الموضع الذي كان فيه المقام وحوله تكفيف من حجارة نصبت على حرف كالحوض المستطيل في ارتفاعه نحو شبر ، وطوله خمس خطا ، وعرضه ثلاث خطا. وأدخل المقام الى الموضع الذي وصفناه في البيت الكريم احتياطا عليه ، وبينه وبين صفح البيت الذي يقابله سبع عشرة خطوة ، والخطوة كلها فيها ثلاثة أشبار.

ولموضع المقام أيضا قبة مصنوعة من حديد موضوعة الى جانب قبة زمزم. فاذا كان في أشهر الحج وكثر الناس ووصل العراقيون والخراسانيون رفعت قبة الخشب ووضعت قبة الحديد لتكون أحمل للازدحام.

ومن الركن الذي فيه الحجر الأسود الى الركن العراقي أربعة وخمسون شبرا محققة. ومن الحجر الأسود الى الأرض ستة أشبار ، فالطويل يتطأمن اليه والقصير يتطاول اليه. ومن الركن العراقي الى الركن الشامي ثمانية واربعون شبرا محققة ، وذلك داخل الحجر ، واما من خارج فمنه اليه أربعون خطوة ، وهو مئة وعشرون شبرا محققة ، ومن خارجه يكون الطواف. ومن الركن الشامي الى الركن اليماني ما من الركن الأسود الى العراقي لأنه الصفح الذي يقابله. ومن اليماني الى الأسود ما من العراقي الى الشامي داخل الحجر لأنه الصفح الذي يقابله.

وموضع الطواف مفروش بحجارة مبسوطة كأنه الرخام حسنا ، منها سود وسمر وبيض قد الصق بعضها الى بعض ، واتسعت عن البيت بمقدار تسع خطا الا في الجهة التي تقابل المقام ، فانها امتدت اليه حتى احاطت به. وسائر الحرم

٥٦

مع البلاطات كلها مفروش برمل ابيض ، ، وطواف النساء في آخر الحجارة المفروشة ، وبين الركن العراقي وبين أول جدار الحجر مدخل الى الحجر سعته أربع خطا وهي ست أذرع محققة كلناها باليد. وهذا الموضع الذي لم يحجر عليه هو الذي تركت قريش من البيت ، وهو ست أذرع ، حسبما وردت به الآثار الصحاح ، ويقابله عند الركن الشامي مدخل آخر على مثال تلك السعة. وبين جدار البيت الذي تحت الميزاب والذي يقابله من جدار الحجر على خط استواء يشق وسط الصحن المذكور أربعون شبرا ، وسعته من المدخل الى المدخل ست عشرة خطوة ، وهي ثمانية وأربعون شبرا ، ودور الجدار رخام كله مجزّع بديع الإلصاق ... وهناك قضبان صفر مذهبة وضع منها في صفحة أشكال شطرنجية متداخلة بعضها على بعض وصفات محاريب ، فاذا ضربت الشمس فيها لاح لها بصيص ولألاء يخيل للناظر اليها انها ذهب يرتمي بالأبصار شعاعه.

وفي ارتفاع جدار هذا الحجر الرخامي خمسة أشبار ونصف ، وسعته أربعة أشبار ونصف. وداخل الحجر بلاط واسع ينعطف عليه الحجر كأنه ثلثا دائرة ، وهو مفروش بالرخام المجزّع المقطع في دور الكف الى دور الدينار الى ما فوق ذلك ، ثم الصق بانتظام بديع وتأليف معجز الصنعة غريب الإتقان رائق الترصيع والتجزيع رائع التركيب والرصف ، يبصر الناظر فيه من التعاريج والتقاطيع والخواتم والأشكال الشطرنجية وسواها على اختلاف أنواعها وصفاتها ما يقيد بصره حسنا ، فكأنه يجليه في أزهار مفروشة مختلفات الألوان الى محاريب قد انعطف عليها الرخام انعطاف القسي وداخلها هذه الأشكال الموصوفة والصنائع المذكورة وبازائها رخامتان متصلتان بجدار الحجر المقابل للميزاب أحدث الصانع فيهما من التوريق الرقيق والتشجير والتقضيب مالا يحدثه الصنع باليدين في الكاغد قطعا بالجلمين. فمرآهما عجيب ، أمر بصنعتهما على هذه الصفة إمام المشرق أبو العباس أحمد الناصر بن المستضيء بالله أبي محمد

٥٧

الحسن بن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف العباسي ، رضي‌الله‌عنه.

ويقابل الميزاب في وسط الحجر وفي نصف جداره الرخامي رخامة قد نقشت أبدع نقش ، وحفت بها طرة منقوشة نقشا مكحلا عجيبا ، فيه مكتوب : مما أمر بعمله عبد الله وخليفته أبو العباس أحمد الناصر لدين الله أمير المؤمنين ، وذلك في سنة ست وسبعين وخمس مئة. والميزاب في اعلى الصفح الذي يلي الحجر المذكور ، وهو من صفر مذهب ، قد خرج الى الحجر بمقدار أربع أذرع ، وسعته مقدار شبر. وهذا الموضع تحت الميزاب هو ايضا مظنة استجابة الدعوة بفضل الله تعالى. وكذلك الركن اليماني ويسمى المستجار ما يليه ، وهذا الصفح المتصل به من جهة الركن الشامي.

وتحت الميزاب في صحن الحجر بمقربة من جدار البيت الكريم قبر اسماعيل ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلامته رخامة خضراء مستطيلة قليلا شكل محراب تتصل بها رخامة خضراء مستديرة. وكلتاهما غريبة المنظر فيهما نكت تنفتح عن لونها الى الصفرة قليلا كأنها تجزيع ، وهي أشبه الأشياء بالنكت التي تبقى في البيدق من حل الذهب فيه. والى جانبه مما يلي الركن العراقي قبر أمه هاجر ، رضي‌الله‌عنها ، وعلامته رخامة خضراء سعتها مقدار شبر ونصف. يتبرك الناس بالصلاة في هذين الموضعين من الحجر. وحق لهم ذلك لأنهما من البيت العتيق وقد انطبقا على جسدين مقدسين مكرمين نورهما الله ونفع ببركتهما كل من صلى عليهما. وبين القبرين المقدسين سبعة أشبار.

وقبة بئر زمزم تقابل الركن ، ومنها اليه أربع وعشرون خطوة. والمقام المذكور الذي يصلى خلفه عن يمين القبة ، ومن ركنها اليه عشر خطا. وداخلها مفروش بالرخام الأبيض الناصع البياض. وتنور البئر المباركة في وسطها مائل عن الوسط الى جهة الجدار الذي يقابل البيت المكرم ، وعمقها احدى عشرة قامة حسبما ذرعناه. وعمق الماء سبع قامات على ما يذكر. وباب القبة

٥٨

ناظر الى الشرق ، وبابا قبة العباس وقبة اليهودية ناظران الى الشمال.

والركن من الصفح الناظر الى البيت العتيق من القبة المنسوبة الى اليهودية يتصل بالركن الأيسر من الصفح الأخير الناظر الى الشرق من القبة العباسية. فبينهما هذا القد من الانحراف. وتلي قبة بئر زمزم من ورائها قبة الشراب ، وهي المنسوبة للعباس ، رضي‌الله‌عنه. وتلي هذه القبة العباسية على انحراف عنها قبة تنسب لليهودية. وهاتان القبتان مخزنان لأوقاف البيت الكريم من مصاحف وكتب وأتوار شمع وغير ذلك. والقبة العباسية لم تخل من نسبتها الشرابية لأنها كانت سقاية الحاج وهي حتى الآن يبرد فيها ماء زمزم.

ويخرج مع الليل لسقي الحاج في قلال يسمونها الدوارق ، كل دورق منها ذو مقبض واحد. وتنور بئر زمزم من رخام قد الصق بعضه ببعض الصاقا لا تحيله الأيام وأفرغ في أثنائه الرصاص. وكذلك داخل التنور. وحفت به أعمدة الرصاص الملصقة اليه ابلاغا في قوة لزه ورّصه : اثنان وثلاثون عمودا قد خرجت لها رؤوس قابضة على حافة البئر دائرة بالتنور كله. ودوره أربعون شبرا ، وارتفاعه أربعة أشبار ونصف ، وغلظه شبر ونصف. وقد استدارت بداخل القبة سقاية سعتها شبر ، وعمقها نحو شبرين ، وارتفاعها عن الأرض خمسة أشبار ، تملأ ماء للوضوء ، وحولها مصطبة دائرة يرتفع الناس اليها ويتوضأون عليها.

والحجر الأسود المبارك ملصق في الركن الناظر الى جهة المشرق ، ولا يدرى قدر ما دخل في الركن ، وقيل : انه داخل في الجدار بمقدار ذراعين. وسعته ثلثا شبر ، وطوله شبر وعقد ، وفيه أربع قطع ملصقة. ويقال : ان القرمطي ، لعنه الله ، كان الذي كسره. وقد شدت جوانبه بصفيحة فضة يلوح بصيص بياضها على بصيص سواد الحجر ورونقه الصقيل فيبصر الرائي من ذلك منظرا عجيبا هو قيد الأبصار.

٥٩

وللحجر عند تقبيله لدونة ورطوبة يتنعم بها الفم حتى يود اللائم أن لا يقلع فمه عنه ، وذلك خاصة من خواص العناية الإلهية. وكفى أن النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «إنه يمين الله في أرضه». نفعنا الله باستلامه ومصافحته ، وأوفد عليه كل شيق اليه بمنه.

وفي القطعة الصحيحة من الحجر مما يلي جانبه الذي يلي يمين المستلم له اذا وقف مستقبله نقطة بيضاء صغيرة مشرقة تلوح كأنها خال في تلك الصفحة المباركة. وفي هذه الشامة البيضاء أثر : «ان النظر اليها يجلو البصر». فيجب على المقبل أن يقصد بتقبيله موضع الشامة المذكورة ما استطاع.

والمسجد الحرام يطيف به ثلاث بلاطات على ثلاث سوار من الرخام منتظمة كأنها بلاط واحد ، ذرعها في الطول اربع مئة ذراع ، وفي العرض ثلاث مئة ذراع. فيكون تكسيره محققا ثمانية وأربعين مرجعا وما بين البلاطات فضاء كبير ، وكان على عهد رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، صغيرا. وقبة زمزم خارجة عنه ، وفي مقابلة الركن الشامي ، رأس سارية ثابتة في الارض منها كان حد الحرم اولا. وبين رأس السارية وبين الركن الشامي المذكور اثنتان وعشرون خطوة ، والكعبة في وسطه على استواء من الجوانب الأربعة ، ما بين الشرق والجنوب والشمال والغرب. وعدد سواريه الرخامية التي عددتها بنفسي أربع مئة سارية واحدى وسبعون سارية حاشا الجصية التي منها في دار الندوة ، وهي التي زيدت في الحرم ، وهي داخلة في البلاط الآخذ من الغرب الى الشمال ، ويقابلها المقام مع الركن العراقي ، وقضاؤها متسع يدخل من البلاط اليه. ويتصل بجدار هذا البلاط كله مصاطب تحت قسيّ حنايا يجلس فيها النساخون والمقرئون وبعض أهل صنعة الخياطة.

والحرم محدق بحلقات المدرسين وأهل العلم. وفي جدار البلاط الذي يقابله أيضا مصاطب تحت حنايا على تلك الصفة ، وهو البلاط الآخذ من الجنوب الى

٦٠