رحلة ابن جبير

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي

رحلة ابن جبير

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

وجل : مشهد معاذ بن جبل رضي‌الله‌عنه ، مشهد عقبة بن عامر الجهني حامل راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مشهد صاحب بردة صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مشهد أبي الحسن صائغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مشهد سارية الجبل رضي‌الله‌عنه ، مشهد محمد بن أبي بكر الصّدّيق رضي‌الله‌عنهما ، مشهد أسماء ابنة أبي بكر الصّديق رضي‌الله‌عنهما ، مشهد ابن الزّبير بن العوّام رضي‌الله‌عنهما ، مشهد عبد الله بن حذافة السّهمي صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مشهد ابن حليمة رضيع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

مشاهد الأئمة العلماء الزهاد

مشهد الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه ، وهو من المشاهد العظيمة احتفالا واتساعا. وبني بإزائه مدرسة لم يعمر بهذه البلاد مثلها ، لا أوسع مساحة ولا أحفل بناء ، يخيل لمن يطوف عليها أنها بلد مستقل بذاته ، بإزائها الحمّام ، الى غير ذلك من مرافقها ، والبناء فيها حتى الساعة ، والنفقة عليها لا تحصى. تولى ذلك بنفسه الشيخ الإمام الزاهد العالم المعروف بنجم الدين الخبوشاني وسلطان هذه الجهات صلاح الدين يسمح له بذلك كله ، ويقول : زد احتفالا وتأنقا وعلينا القيام بمؤونة ذلك كله ، فسبحان الذي جعله صلاح دينه كاسمه.

ولقينا هذا الرجل الخبوشاني المذكور تبركا بدعائه لأنه قد كان ذكر لنا امره بالأندلس. فألفيناه في مسجده بالقاهرة وفي البيت الذي يسكنه داخل المسجد المذكور ، وهو بيت ضيق الفناء ، فدعا لنا ، وانصرفنا ولم نلق من رجال مصر سواه. مشهد المزني صاحب الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه ، مشهد أشهب صاحب مالك رضي‌الله‌عنه ، مشهد عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك رضي‌الله‌عنهما ، مشهد أصبغ صاحب مالك رضي‌الله‌عنهما ، مشهد القاضي عبد الوهاب رضي‌الله‌عنه ، مشهد عبد الله بن عبد الحكم ومحمد بن عبد الله بن

٢١

عبد الحكم رضي‌الله‌عنهما ، مشهد الفقيه الواعظ الزاهد أبي الحسن الدينوري رضي‌الله‌عنه ، مشهد بنان العابد رضي‌الله‌عنه ، مشهد الرجل الصالح العابد الزاهد المعروف بصاحب الإبريق ، وقصته عجيبة في الكرامة ، مشهد بأبي مسلم الخولاني رضي‌الله‌عنه ، مشهد المرأة الصالحة المعروفة بالعيناء رضي‌الله‌عنها ، مشهد الروذباري رضي‌الله‌عنه ، مشهد محمد بن مسعود بن محمد بن هارون الرشيد المعروف بالسبتي رضي‌الله‌عنه ، مشهد الرجل الصالح مقبل الحبشي رضي‌الله‌عنه ، مشهد ذي النون بن ابراهيم المصري رضي‌الله‌عنه ، مشهد القاضي الأنباري ، قبر الناطق الذي سمع عند وضعه في لحده يقول : اللهم انزلني منزلا مباركا وانت خير المنزلين ، رضي‌الله‌عنه ، مشهد العروس ولها أثر من الكرامة في حال جلوتها على زوجها لم يسمع أعجب منه ، مشهد الصامت الذي يحكى عنه انه لم يتكلم أربعين سنة ، مشهد العصافيري ، مشهد عبد العزيز بن أحمد بن علي بن الحسن الخوارزمي ، مشهد الفقيه الواعظ الأفضل الجوهري ومشاهد أصحابه بازائه رضي‌الله‌عنهم أجمعين ، مشهد شقران شيخ ذي النون المصري ، مشهد الرجل الصالح المعروف بالأقطع المغربي ، مشهد المقرئ ورش ، مشهد الطبري ، مشهد شيبان الراعي.

والمشاهد الكريمة بها أكثر من أن تضبط بالتقييد أو تتحصل بالإحصاء وانما ذكرنا منها ما أمكنتنا مشاهدته.

وبقبلة القرافة المذكورة بسيط متسع يعرف بموضع قبور الشهداء ، وهم الذين استشهدوا مع سارية رضي الله عن جميعهم. والبسيط المذكور مسنم كله للعيان على مثال أسنمة القبور دون بناء. ومن العجب أن القرافة المذكورة كلها مساجد مبنية ومشاهد معمورة يأوي اليها الغرباء والعلماء والصلحاء والفقراء ، والاجراء على كل موضع منها متصل من قبل السلطان في كل شهر ، والمدارس التي بمصر والقاهرة كذلك ، وحقق عندنا أن الإجراء على ذلك كله نيف على الفي دينار مصرية في الشهر ، وهي أربعة آلاف دينار مؤمنية.

٢٢

وذكر لنا أن لجامع عمرو بن العاص بمصر من الفائد نحو الثلاثين دينارا مصرية في كل يوم تتفرق في مصالحه ومرتبات قومته وسدنته (١) وأئمته والقراء فيه. ومما شاهدناه بالقاهرة أربعة جوامع حفيلة البنيان أنيقة الصنعة الى مساجد عدة.

وفي أحد الجوامع الخطبة اليوم ، ويأخذ الخطيب فيها مأخذ سنّي يجمع فيها الدعاء للصحابة ، رضي‌الله‌عنهم ، وللتابعين ومن سواهم ولأمهات المؤمنين زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولعميه الكريمين حمزة والعباس ، رضي‌الله‌عنهما ، ويلطف الوعظ ويرقق التذكير حتى تخشع القلوب القاسية وتتفجر العيون الجامدة. ويأتي للخطبة لابسا السواد على رسم العباسية. وصفة لباسه بردة سوداء عليها طيلسان شرب (٢) أسود ، وهو الذي يسمى بالمغرب الإحرام ، وعمامة سوداء ، متقلدا سيفا. وعند صعوده المنبر يضرب بنعل سيفه المنبر في أول ارتقائه ضربة يسمع بها الحاضرين كأنها ايذان بالإنصات ، وفي توسطه أخرى ، وفي انتهاء صعوده ثالثة. ثم يسلم على الحاضرين يمينا وشمالا ويقف بين رايتين سوداوين فيهما تجزيع بياض قد ركزتا في أعلى المنبر.

ودعاؤه في هذا التاريخ للإمام العباسي أبي العباس أحمد الناصر لدين الله ابن الإمام أبي محمد الحسن المستضيء بالله ابن الإمام أبي المظفّر يوسف المستنجد بالله ، ثم لمحيي دولته أبي المظفر يوسف بن أيوب صلاح الدين ، ثم لأخيه ولي عهده أبي بكر سيف الدين.

قلعة القاهرة

وشاهدنا أيضا بنيان القلعة وهو حصن يتصل بالقاهرة حصين المنعة ، يريد السلطان أن يتخذه موضع سكناه ، ويمد سوره حتى ينتظم بالمدينتين مصر والقاهرة. والمسخّرون في هذا البنيان والمتولون لجميع امتهاناته ومؤونته العظيمة

__________________

(١) السدنة ، جمع سادن : خادم المسجد أو المعبد.

(٢) الشرب : ضرب من الحرير.

٢٣

كنشر الرخام وتحت الصخور العظام وحفر الخندق المحدق بسور الحصن المذكور وهو خندق ينقر بالمعاول نقرا في الصخر عجبا من العجائب الباقية الآثار ، العلوج الاسارى من الروم ، وعددهم لا يحصى كثرة ، ولا سبيل أن يمتهن في ذلك البنيان احد سواهم.

وللسلطان أيضا بمواضع أخر بنيان والأعلاج يخدمونه فيه ، ومن يمكن استخدامه من المسلمين في مثل هذه المنفعة العامة مرفه عن ذلك كله ولا وظيفة في شيء من ذلك على أحد.

مارستان المجانين

ومما شاهدناه أيضا من مفاخر هذا السلطان المارستان الذي بمدينة القاهرة. وهو قصر من القصور الرائقة حسنا واتساعا أبرزه لهذه الفضيلة تأجرا واحتسابا وعيّن قيّما من أهل المعرفة وضع لديه خزائن العقاقير ومكنه من استعمال الأشربة واقامتها على اختلاف أنواعها. ووضعت في مقاصير ذلك القصر أسرة يتخذها المرضى مضاجع كاملة الكسى. وبين يدي ذلك القيم خدمة يتكفلون بتفقد احوال المرضى بكرة وعشية ، فيقابلون من الاغذية والاشربة بما يليق بهم.

وبازاء هذا الموضع موضع مقتطع للنساء المرضى. ولهن أيضا من يكفلهن. ويتصل بالموضعين المذكورين موضع آخر متسع الفناء فيه مقاصير عليها شبابيك الحديد اتخذت محابس للمجانين.

ولهم أيضا من يتفقد في كل يوم أحوالهم ويقابلها بما يصلح لها. والسلطان يتطلع هذه الاحوال كلها بالبحث والسؤال ويؤكد في الاعتناء بها والمثابرة عليها غاية التأكيد. وبمصر مارستان آخر على مثل ذلك الرسم بعينه.

٢٤

مسجد ابن طولون

وبين مصر والقاهرة المسجد الكبير المنسوب الى ابي العباس أحمد بن طولون ، وهو من الجوامع العتيقة الانيقة الصنعة الواسعة البنيان ، جعله السلطان مأوى للغرباء من المغاربة يسكنونه ويحلّقون فيه ، وأجرى عليهم الارزاق في كل شهر. ومن أعجب ما حدثنا به أحد المتخصّصين منهم أن السلطان جعل أحكامهم اليهم ولم يجعل يدا لأحد عليهم. فقدموا من أنفسهم حاكما يمتثلون أمره ويتحاكمون في طوارىء أمورهم عنده ، واستصحبوا الدعة والعافية ، وتفرغوا لعبادة ربهم ، ووجدوا من فضل السلطان أفضل معين على الخير الذي هم بسبيله.

مآثر السلطان ومفاخره

وما منها جامع من الجوامع ولا مسجد من المساجد ولا روضة من الروضات المبنية على القبور ولا محرس من المحارس ولا مدرسة من المدارس الا وفضل السلطان يعم جميع من يأوي اليها ويلزم السكنى فيها ، تهوّن عليه في ذلك نفقات بيوت الاموال.

ومن مآثره الكريمة المعربة عن اعتنائه بأمور المسلمين كافة أنه أمر بعمارة محاضر ألزمها معلمين لكتاب الله ، عزوجل ، يعلمون أبناء الفقراء والايتام خاصة وتجرى عليهم الجراية الكافية لهم.

ومن مفاخر هذا السلطان وآثاره الباقية المنفعة للمسلمين القناطر التي شرع في بنائها بغربي مصر ، وعلى مقدار سبعة أميال منها ، بعد رصيف ابتدئ به من حيز النيل بازاء مصر كأنه جبل ممدود على الارض ، تسير فيه مقدار ستة أميال حتى يتصل بالقنطرة المذكورة ، وهي نحو الاربعين قوسا من أكبر ما يكون من قسيّ القناطر. والقنطرة متصلة بالصحراء التي يفضى منها الى الإسكندرية ، له في ذلك تدبير عجيب من تدابير الملوك الحزمة اعدادا لحادثة تطرأ من عدو

٢٥

يدهم جهة ثغر الإسكندرية عند فيض النيل وانغمار الارض به وامتناع سلوك العساكر بسببه. فأعد ذلك مسلكا في كل وقت ان احتيج الى ذلك. والله يدفع عن حوزة المسلمين كل متوقع ومحذور بمنه.

ولاهل مصر في شأن هذه القنطرة انذار من الانذارات الحدثانية يرون أن حدوثها ايذان باستيلاء الموحدين عليها وعلى الجهات الشرقية ، والله أعلم بغيبه ، لا إله سواه.

معجزة البناء

وبمقربة من هذه القنطرة المحدثة الاهرام القديمة ، المعجزة البناء ، الغريبة المنظر ، المربعة الشكل ، كأنها القباب المضروبة قد قامت في جو السماء ، ولا سيما الاثنان منها ، فانهما يغص الجو بهما سموا ، في سعة الواحد منها من أحد أركانه الى الركن الثاني ثلاث مئة خطوة وست وستون خطوة. قد اقيمت من الصخور العظام المنحوتة. وركبت تركيبا هائلا بديع الإلصاق دون أن يتخللها ما يعين على الصاقها ، محددة الأطراف في رأي العين ، وربما أمكن الصعود اليها على خطر ومشقة فتلفى أطرافها المحددة كأوسع ما يكون من الرحاب ، لو رام أهل الأرض نقض بنائها لأعجزهم ذلك.

للناس في أمرها اختلاف : فمنهم من يجعلها قبورا لعاد وبنيه ، ومنهم من يزعم غير ذلك. وبالجملة فلا يعلم شأنها الا الله عزوجل.

ولأحد الكبيرين منها باب يصعد اليه على نحو القامة من الأرض أو أزيد ويدخل منه الى بيت كبير سعته نحو خمسين شبرا وطوله نحو ذلك. وفي جوف ذلك البيت رخامة طويلة مجوفة شبه التي تسميها العامة البيلة يقال انها قبر والله أعلم بحقيقة ذلك.

ودون الكبير هرم سعته من الركن الواحد الى الركن الثاني مئة واربعون

٢٦

خطوة. ودون هذا الصغير خمسة صغار وثلاثة متصلة والاثنان على مقربة منها متصلان.

وعلى مقربة من هذه الأهرام بمقدار غلوة صورة غريبة من حجر قد قامت كالصومعة على صفة آدمي هائل المنظر ، وجهه الى الأهرام وظهره الى القبلة مهبط النيل ، تعرف بأبي الأهوال.

وبمدينة مصر المسجد الجامع المنسوب لعمر بن العاص رضي‌الله‌عنه. وله أيضا بالإسكندرية جامع آخر هو مصلى الجمعة للمالكيين. وبمدينة مصر آثار من الخراب الذي أحدثه الإحراق الحادث بها وقت الفتنة عند انتساخ دولة العبيديين (١) ، وذلك سنة أربع وستين وخمس مئة ، وأكثرها الآن مستجدّ والبنيان بها متصل. وهي مدينة كبيرة والآثار القديمة حولها ، وعلى مقربة منها ظاهرة تدل على عظمة اختطاطها فيما سلف.

روضة النيل

وعلى شط نيلها مما يلي غربيها ، والنيل معترض بينهما ، قرية كبيرة حفيلة البنيان تعرف بالجيزة. لها كل يوم احد سوق من الأسواق العظيمة يجتمع اليها. ويعترض بينها وبين مصر جزيرة فيها مساكن حسان وعلالي مشرفة وهي مجتمع اللهو والنزهة ، وبينها وبين مصر خليج من النيل يذهب بطولها نحو الميل ولها مخرج له. وبهذه الجزيرة مسجد جامع يخطب فيه. ويتصل بهذا الجامع المقياس الذي يعتبر فيه قدر زيادة النيل عند فيضه كل سنة. واستشعار ابتدائه في شهر يونيه ، ومعظم انتهائه أغشت (٢) ، وآخره أول شهر أكتوبر. وهذا المقياس عمود رخام أبيض مثمن في موضع ينحصر فيه الماء عند انسيابه اليه ، وهو مفصل

__________________

(١) العبيديون : الفاطميون.

(٢) أغشت : شهر آب.

٢٧

على اثنتين وعشرين ذراعا مقسمة على أربعة وعشرين قسما تعرف بالأصابع. فاذا انتهى الفيض عندهم الى أن يستوفي الماء تسع عشرة ذراعا منغمرة فيه فهي الغاية عندهم في طيب العام. وربما كان الغامر منه كثيرا بعموم الفيض. والمتوسط عندهم ما استوفى سبع عشرة ذراعا ، وهو الأحسن عندهم من الزيادة المذكورة. والذي يستحق به السلطان خراجه في بلاد مصر ست عشرة ذراعا فصاعدا ، وعليها يعطي البشارة الذي يراعي الزيادة في كل يوم والزيادة في أقسام الذراع المذكورة ويعلم بها مياومة حتى تستوفي الغاية التي يقضى بها. وان قصر عن ست عشرة ذراعا فلا مجبى للسلطان في ذلك العام ولا خراج.

وذكر لنا أن بالجيزة المذكورة قبر كعب الأحبار رضي‌الله‌عنه. وفي صدر الجيزة المذكورة أحجار رخام قد صورت فيها التماسيح ، فيقال : إن بسببها لا تظهر التماسيح فيما يلي البلد من النيل مقدار ثلاثة أميال علوا وسفلا ، والله أعلم بحقيقة ذلك.

عدل صلاح الدين

ومن مفاخر هذا السلطان المزلفة من الله تعالى وآثاره التي أبقاها ذكرا جميلا للدين والدنيا : إزالته رسم المكس المضروب وظيفة على الحجاج مدة دولة العبيديين. فكان الحجاج يلاقون من الضغط في استيدائها عنتا مجحفا ويسامون فيها خطة خسف باهظة. وربما ورد منهم من لا فضل لديه على نفقته أو لا نفقة عنده فيلزم أداء الضريبة المعلومة ، وكانت سبعة دنانير ونصف دينار من الدنانير المصرية التي هي خمسة عشر دينارا مؤمنية على كل رأس ، ويعجز عن ذلك ، فيتناول بأليم العذاب بعيذاب. فكانت كاسمها مفتوحة العين.

وربما اخترع له من أنواع العذاب التعليق من الأنثيين أو غير ذلك من الأمور الشنيعة ، نعوذ بالله من سوء قدره. وكان بجدّة أمثال هذا التنكيل وأضعافه لمن لم يؤدّ مكسه بعيذاب ووصل اسمه غير معلم عليه علامة الأداء. فمحا هذا

٢٨

السلطان هذا الرسم اللعين ودفع عوضا منه ما يقوم مقامه من أطعمة وسواها ، وعيّن مجبى موضع معيّن بأسره لذلك ، وتكفل بتوصيل جميع ذلك الى الحجاز لأن الرسم المذكور كان باسم ميرة مكة والمدينة ، عمّرهما الله ، فعوض من ذلك أجمل عوض ، وسهل السبيل للحجاج ، وكانت في حيز الانقطاع وعدم الاستطلاع ، وكفى الله المؤمنين على يدي هذا السلطان العادل حادثا عظيما وخطبا أليما. فترتب الشكر له على كل من يعتقد من الناس أن حج البيت الحرام احدى القواعد الخمس من الإسلام ، حتى يعم جميع الآفاق ويوجب الدعاء له في كل صقع من الأصقاع وبقعة من البقاع ، والله من وراء مجازاة المحسنين ، وهو ، جلت قدرته ، لا يضيع أجر من أحسن عملا. الى مكوس كانت في البلاد المصرية وسواها ضرائب على كل ما يباع ويشترى مما دق أو جل ، حتى كان يؤدّى على شرب ماء النيل المكس فضلا عما سواه. فمحا هذا السلطان هذه البدع اللعينة كلها وبسط العدل ونشر الأمن.

ومن عدل هذا السلطان وتأمينه للسبل أن الناس في بلاده لا يخلعون لباس الليل تصرفا فيما يعنيهم ، ولا يستشعرون لسواده هيبة تثنيهم. على مثل ذلك شاهدنا أحوالهم بمصر والإسكندرية حسبما تقدم ذكره.

شهر محرم سنة تسع وسبعين

استهل هلاله ليلة الثلاثاء ، وهو اليوم السادس والعشرون من أبريل ، ونحن بمصر ، يسر الله علينا مرامنا.

وفي صبيحة يوم الأحد السادس من محرم المذكور كان انفصالنا من مصر وصعودنا في النيل على الصعيد قاصدين الى قوص. عرفنا الله عادته الجميلة من التيسير وحسن المعونة بمنه ، ووافق يوم اقلاعنا المذكور أول يوم من مايه (١)

__________________

(١) مايه : شهر آيار.

٢٩

بحول الله عزوجل. والقرى في طريقنا متصلة في شطي النيل والبلاد الكبار حسبما يأتي ذكره ، ان شاء الله. فمنها قرية تعرف بأسكر في الضفة الشرقية من النيل مياسرة للصاعد فيه. ويذكر أن فيها كان مولد النبي موسى الكليم ، صلى الله على نبينا وعليه ، ومنها القته أمه في اليم ، وهو النيل حسبما ذكر.

وعاينا أيضا بغربي النيل ميامنا لنا ، وذلك كله يوم اقلاعنا المذكور وفي الثاني منه ، المدينة القديمة المنسوبة ليوسف الصديق صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبها موضع السجن الذي كان فيه ، وهو الآن ينقض وينقل أحجاره الى القلعة المبتناة الآن على القاهرة ، وهو حصن حصين المنعة.

وبهذه المدينة المذكورة مخازن الطعام التي اختزنها يوسف ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي مجوفة على ما يذكر.

ومنها الموضع المذكور بمنية ابن الخصيب وهو بلد على شط النيل ميامنا للصاعد فيه كبير فيه الأسواق والحمامات وسائر مرافق المدن ، اجتزنا عليه ليلة الأحد الثالث عشر لمحرم المذكور ، وهو الثامن من يوم اقلاعنا من مصر ، لأن الريح سكنت عنا فتربصنا في الطريق.

ولو ذهبنا الى رسم كل موضع يعترضنا في شطي النيل يمينا وشمالا لضاق الكتاب عنه ، لكن نقصد من ذلك الى الأكبر الأشهر.

وقابلنا على مقربة من هذا الموضع مياسرا لنا المسجد المبارك المنسوب لإبراهيم خليل الرحمن ، صلوات الله عليه وعلى نبينا ، وهو مسجد مذكور مشهور معلوم بالبركة مقصود ، ويقال : إن بفنائه أثر الدابة التي كان يركبها الخليل ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومنها موضع يعرف بأنصنا مياسرا لنا ، وهي قرية فسيحة جميلة بها آثار قديمة ، وكانت في السالف مدينة عتيقة ، وكان لها سور عتيق هدمه صلاح الدين وجعل على كل مركب منحدر في النيل وظيفة من حمل صخره الى القاهرة ، فنقل

٣٠

بأسره اليها.

وفي صبيحة يوم الاثنين الرابع عشر من محرم المذكور ، وهو التاسع من اقلاعنا من مصر ، اجتزنا بالجبل المعروف بجبل المقلة وهو بالشط الشرقي من النيل مياسرا للصاعد فيه ، وهو نصف الطريق الى قوص ، من مصر اليه ثلاثة عشر بريدا ، ومنه الى قوص مثلها.

ومما يجب ذكره على جهة التعجب أن من حيّز مصر في شط النيل الشرقي مياسرا للصاعد فيه حائطا متصلا قديم البنيان ، منه ما قد تهدم ومنه ما بقي أثره ، يتمادى على الشط المذكور الى أسوان آخر صعيد مصر ، وبين أسوان وبين قوص ثمانية برد. والأقوال في أمر هذا الحائط تتشعب وتختلف ، وبالجملة فشأنه عجيب ولا يعلم سره الا الله عزوجل. وهو يعرف بحائط العجوز ، ولها خبر مذكور ، أظن هذه العجوز هي الساحرة المذكور خبرها في المسالك والممالك التي كانت لها المملكة بها مدة.

ذكر ما استدرك خبره

وذلك أنّا لما حللنا الإسكندرية في الشهر المؤرخ أولا عاينا مجتمعا من الناس عظيما بروزا لمعاينة أسرى من الروم أدخلوا البلد راكبين على الجمال ووجوههم الى اذنابها وحولهم الطبول والأبواق. فسألنا عن قصتهم ، فأخبرنا بأمر تتفطر له الأكباد اشفاقا وجزعا. وذلك أن جملة من نصارى الشام اجتمعوا وأنشأوا مراكب في أقرب المواضع التي لهم من بحر القلزم (١) ثم حملوا أنقاضها على جمال العرب المجاورين لهم بكراء اتفقوا معهم عليه ، فلما حصلوا بساحل البحر سمروا مراكبهم وأكملوا انشاءها وتأليفها ودفعوها في البحر وركبوها قاطعين بالحجاج ، وانتهوا الى بحر النعم فأحرقوا فيه نحو ستة عشر مركبا. وانتهوا الى عيذاب فأخذوا فيها مركبا كان يأتي بالحجاج من جدة ، واخذوا أيضا في البر قافلة كبيرة تأتي من قوص الى عيذاب ، وقتلوا الجميع ولم يحيوا أحدا. وأخذوا مركبين

__________________

(١) بحر القلزم : البحر الأحمر.

٣١

كانا مقبلين بتجار من اليمن ، وأحرقوا أطعمة كثيرة على ذلك الساحل كانت معدة لميرة مكة والمدينة أعزهما الله ، وأحدثوا حوادث شنيعة لم يسمع مثلها في الإسلام ، ولا انتهى رومي الى ذلك الموضع قطّ.

ومن أعظمها حادثة تسد المسامع شناعة وبشاعة ، وذلك انهم كانوا عازمين على دخول مدينة الرسول ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واخراجه من الضريح المقدس. أشاعوا ذلك وأجروا ذكره على ألسنتهم. فآخذهم الله باجترائهم عليه وتعاطيهم ما تحول عناية القدر بينهم وبينه. ولم يكن بينهم وبين المدينة أكثر من مسيرة يوم. فدفع الله عاديتهم بمراكب عمرت من مصر والإسكندرية دخل فيها الحاجب المعروف بلؤلؤ مع أنجاد المغاربة البحريين. فلحقوا العدو وهو قد قارب النجاة بنفسه فأخذوا عن آخرهم. وكانت آية من آيات العنايات الجبارية ، وأدركوهم عن مدة طويلة كانت بينهم من الزمان نيف على شهر ونصف أو حوله. وقتلوا واسروا ، وفرق من الأسارى على البلاد ليقتلوا بها ، ووجه منهم الى مكة والمدينة. وكفى الله بجميل صنعه الإسلام والمسلمين أمرا عظيما ، والحمد لله رب العالمين.

رجع الذكر

ومن المواضع التي اجتزنا عليها في الصعيد بعد جبل المقلة الذي ذكرنا أنه نصف الطريق من مصر الى قوص ، حسبما تقدم ذكره ، موضع يعرف بمنفلوط بمقربة من الشط الغربي ميامنا للصاعد في النيل ، فيه الأسواق وسائر ما يحتاج اليه من المرافق ، وهي بلدة في نهاية من الطيب ليس في الصعيد مثلها ، وقمحها يجلب الى مصر لطيبه ورزانة حبته ، قد اشتهر عندهم بذلك. فالتجار يصعدون في المراكب لاستجلابه.

ومنها مدينة أسيوط ، وهي من مدن الصعيد الشهيرة ، بينها وبين الشط الغربي من النيل مقدار ثلاثة أميال. وهي جميلة المنظر ، حولها بساتين النخل ،

٣٢

وسورها سور عتيق.

ومنها موضع يعرف بأبي تيج ، وهو بلد فيه الأسواق وسائر مرافق المدن ، وهو في الشط الغربي من النيل.

ومنها مدينة اخميم ، وهي أيضا من مدن الصعيد الشهيرة المذكورة بشرقي النيل وبشطه ، قديمة الاختطاط عتيقة الوضع ، فيها مسجد ذي النون المصري ، ومسجد داود أحد الصالحين المشتهرين بالخير والزهادة ، وهما مسجدان موسومان بالبركة ، دخلنا اليهما متبركين بالصلاة فيهما ، وذلك يوم السبت التاسع عشر لمحرم المذكور.

وبهذه المدينة المذكورة آثار ومصانع من بنيان القبط وكنائس معمورة الى الآن بالمعاهدين من نصارى القبط. ومن أعظم الهياكل المتحدّث بغرائبها في الدنيا هيكل عظيم في شرقي المدينة المذكورة وتحت سورها ، طوله مئتا ذراع وعشرون ذراعا ، وسعته مئة وستون ذراعا ، يعرف عند أهل هذه الجهة بالبربا (١) وكذلك يعرف كل هيكل عندهم وكل مصنع قديم. قد قام هذا الهيكل العظيم على أربعين سارية ، حاشا حيطانه ، دور كل سارية منها خمسون شبرا ، وبين كل سارية وسارية ثلاثون شبرا ، ورؤوسها في نهاية من العظم والإتقان قد نحتت نحتا غريبا فجاءت مركنة بديعة الشكل كأن الخراطين تناولوها ، وهي كلها مرقشة بأنواع الأصبغة اللازوردية وسواها. والسواري كلها منقوشة من أسفلها الى أعلاها. وقد انتصب على رأس كل سارية منها الى رأس صاحبتها التي تليها لوح عظيم من الحجر المنحوت ، من أعظمها ما كلنا فيه ستة وخمسين شبرا طولا وعشرة أشبار عرضا وثمانية أشبار ارتفاعا وسقف هذا الهيكل كله من ألواح الحجارة المنتظمة ببديع الإلصاق ، فجاءت كأنها فرش واحد. وقد انتظمت جميعه التصاوير البديعة والأصبغة الغريبة ، حتى يخيل للناظر فيها أنها سقف من الخشب المنقوش.

__________________

(١) البربا : المقبرة.

٣٣

والتصاوير على أنواع في كل بلاط من بلاطاته ، فمنها ما قد جللته طيور بصور رائقة باسطة أجنحتها توهم الناظر اليها أنها تهمّ بالطيران ، ومنها ما قد جللته تصاوير آدمية رائقة المنظر رائعة الشكل. قد أعدت لكل صورة منها هيئة هي عليها ، كإمساك تمثال بيدها ، أو سلاح ، أو طائر ، أو كأس ، أو اشارة شخص الى آخر بيده ، أو غير ذلك ، مما يطول الوصف له ولا تتأتى العبارة لاستيفائه.

وداخل هذا الهيكل العظيم وخارجه وأعلاه وأسفله تصاوير كلها مختلفات الأشكال والصفة ، منها تصاوير هائلة المنظر خارجة عن صور الآدميين يستشعر الناظر اليها رعبا ويتملأ منها عبرة وتعجبا. وما فيه مغرز اشفى ولا ابرة الا وفيه صورة أو نقش أو خط بالمسند لا يفهم. قد عم هذا الهيكل العظيم الشأن كله هذا النقش البديع. ويتأتى في صم الحجارة من ذلك ما لا يتأتى في الرخو من الخشب ، فيحسب الناظر استعظاما له أن عمر الزمان لو شغل بترقيشه وترصيعه وتزيينه لضاق عنه. فسبحان الموجد للعجائب لا اله سواه.

وعلى أعلى هذا الهيكل سطح مفروش بألواح الحجارة العظيمة على الصفة المذكورة ، وهو في نهاية الارتفاع ، فيحار الوهم فيها ، ويضل العقل في الفكرة في تطليعها ووضعها.

وداخل هذا الهيكل من المجالس والزوايا والمداخل والمخارج والمصاعد والمعارج والمسارب والموالج ما تضل فيه الجماعات من الناس ولا يهتدي بعضهم لبعض الا بالنداء العالي ، وعرض حائطه ثمانية عشر شبرا ، وهو كله من حجارة مرصوصة على الصفة التي ذكرناها.

وبالجملة فشأن هذا الهيكل عظيم ومرآه احدى عجائب الدنيا التي لا يبلغها الوصف ولا ينتهي اليها الحد ، وانما وقع الإلماع بنبذة من وصفه دلالة عليه ، والله المحيط بالعلم فيه والخبير بالمعنى الذي وضع له. فلا يظن المتصفح لهذا المكتوب أن في الإخبار عنه بعض غلوّ ، فإن كل مخبر عنه ، لو كان قسا بيانا ، أو سحبانا

٣٤

يقف موقف العجز والتقصير ، والله المحيط بكل شيء علما ، لا اله سواه.

مواقف خزي ومهانة

وببلاد هذا الصعيد المعترضة في الطريق للحجاج والمسافرين ، كإخميم وقوص ومنية ابن الخصيب من التعرض لمراكب المسافرين وتكشفها والبحث عنها وإدخال الأيدي الى أوساط التجار ، فحصا عما تأبطوه أو احتضنوه من دراهم أو دنانير ، ما يقبح سماعه وتشنع الأحدوثة عنه ، كل ذلك برسم الزكاة دون مراعاة لمحلها او ما يدرك النصاب منها ، حسبما ذكرناه في ذكر الإسكندرية من هذا المكتوب. وربما الزموهم الأيمان على ما بأيديهم ، وهل عندهم غير ذلك ، ويحضرون كتاب الله العزيز تقع اليمين عليه. فيقف الحجاج بين أيدي هؤلاء المتناولين لها مواقف خزي ومهانة تذكرهم أيام المكوس. وهذا أمر يقع القطع على أن صلاح الدين لا يعرفه. ولو عرفه لأمر بقطعه كما أمر بقطع ما هو أعظم منه ، ولجاهد المتناول له ، فان جهادهم من الواجبات لما يصدر عنهم من التعسف وعسير الإرهاق وسوء المعاملة مع غرباء انقطعوا الى الله عزوجل ، وخرجوا مهاجرين الى حرمه الأمين ، ولو شاء الله لكانت عن الخطة مندوحة في اقتضاء الزكاة على أجمل الوجوه من ذوي البضائع في التجارات مع مراعاة رأس كل حول الذي هو محل الزكاة ، وبتجنب اعتراض الغرباء المنقطعين ممن تجب الزكاة له لا عليه ، وكان يحافظ على جانب هذا السلطان العادل الذي قد شمل البلاد عدله وسار في الآفاق ذكره ، ولا يسعى فيما يسيئ الذكر بمن قد حسن الله ذكره ، ويقبّح المقالة في جانب من اجمل الله المقالة عنه.

أشنع ما شاهدناه

ومن اشنع ما شاهدناه من ذلك خروج شرذمة من مردة اعوان الزكاة ، في ايديهم المسال الطوال ذوات الأنصبة ، فيصعدون الى المراكب استكشافا لما

٣٥

فيها ، فلا يتركون عكما ولا غرارة الا ويتخللونها بتلك المسال الملعونة مخافة ان يكون في تلك الغرارة او العكم اللذين لا يحتويان سوى الزاد شيء غيّب عليه من بضاعة أو مال. وهذا أقبح ما يؤثر في الأحاديث الملعّنة ، وقد نهى الله عن التجسس ، فكيف عن الكشف لما يرجى ستر الصون دونه من حال لا يريد صاحبها ان يطلع عليها ، اما استحقارا او استنفاسا دون بخل بواجب يلزمها ، والله الآخذ على ايدي هؤلاء الظلمة بيد هذا السلطان العادل وتوفيقه ، ان شاء الله.

ما اجتزنا من المواضع

ومن المواضع التي اجتزنا عليها بعد إخميم المذكورة موضع يعرف بمنشاة السودان على الشط الغربي من النيل ، وهي قرية معمورة ، ويقال : انها كانت في القدم مدينة كبيرة. وقد قام أمام هذه القرية ، بينها وبين النيل ، رصيف عال من الحجارة كأنه السور يضرب فيه النيل ولا يعلوه عند فيضه ومده فالقرية بسببه في امن من أتيّه.

ومنها موضع يعرف بالبلينة ، وهي قرية حسنة كثيرة النخل ، بالشط الغربي من النيل ، بينها وبين قوص اربعة برد.

ومنها موضع يعرف بدشنة بالشط الشرقي من النيل ، وهي مدينة مسورة فيها جميع مرافق المدن ، وبينها وبين قوص بريدان.

ومنها موضع بغربي النيل وعلى مقربة من شطه يعرف بدندرة ، وهي مدينة من مدن الصعيد كثيرة النخل مستحسنة المنظر مشتهرة بطيب الرّطب ، بينها وبين قوص بريد. وذكر لنا ان فيها هيكلا عظيما ، وهو المعروف عند اهل هذه الجهات بالبربا ، حسبما ذكرنا عند ذكر اخميم ، وهيكلها يقال ان هيكل دندرة احفل منه واعظم.

٣٦

ومنها مدينة قنا ، وهي من مدن الصعيد ، بيضاء انيقة المنظر ذات مبان حفيلة ، ومن مآثرها المأثورة صون نساء أهلها والتزامهن البيوت ، فلا تظهر في زقاق من ازقتها امرأة البتة ، صحت بذلك الأخبار عنهن ، وكذلك نساء دشنة المذكورة قبيل هذا. وهذه المدينة المذكورة في الشط الشرقي من النيل ، وبينها وبين قوص نحو البريد.

ومنها قفط ، وهي مدينة بشرقي النيل وعلى مقدار ثلاثة أميال من شطه. وهي من المدن المذكورة في الصعيد حسنا ونظافة بنيان وإتقان وضع.

ثم كان الوصول الى قوص يوم الخميس الرابع والعشرين لمحرم المؤرخ وهو التاسع عشر من مايه ، فكان مقامنا في النيل ثمانية عشر يوما ودخلنا قوص في التاسع عشر. وهذه المدينة حفيلة الأسواق متسعة المرافق كثيرة الخلق لكثرة الصادر والوارد من الحجاج والتجار اليمنيين والهنديين وتجار أرض الحبشة ، لأنها مخطر للجميع ، ومحط للرّحال ومجتمع الرفاق ، وملتقى الحجاج المغاربة والمصريين والإسكندريين ومن يتصل بهم ، ومنها يفوّزون بصحراء عيذاب ، واليها انقلابهم في صدرهم من الحج ، وكان نزولنا فيها بفندق ينسب لأبن العجمي بالمنية ، وهي ربض كبير خارج المدينة ، على باب الفندق المذكور.

شهر صفر

استهل هلاله ليلة الأربعاء ، وهو الخامس والعشرين من شهر مايه ، ونحن بقوص نروم السفر الى عيذاب ، يسر الله علينا مرامنا بمنه وكرمه.

وفي يوم الاثنين الثالث عشر منه ، وهو السادس من يونيه ، أخرجنا جميع رحالنا من زاد وسواه الى المبرز ، وهو موضع بقبلي البلد وعلى مقربة منه ، فسيح الساحة ، محدق بالنخيل ، يجتمع فيه رحال الحاج والتجار وتشد فيه ومنه يستقلون ويرحلون ، وفيه يوزن ما يحتاج الى وزنه على الجمّالين. فلما

٣٧

كان إثر صلاة العشاء الآخرة رفعنا منه الى ماء يعرف بالحاجر فبتنا به. واصبحنا يوم الثلاثاء بعده مقيمين به بسبب تفقد بعض الجمالين من العرب لبيوتهم ، وكانت على مقربة منهم ، وفي ليلة الأربعاء الخامس عشر منه ، ونحن بالحاجر المذكور ، خسف القمر خسوفا كليا اول الليل وتمادى الى هدء منه. ثم أصبحنا يوم الأربعاء المذكور ظاعنين ، وقلنا بموضع بقلاع الضيّاع. ثم كان المبيت بموضع يعرف بمحط اللّقيطة ، كل ذلك في صحراء لا عمارة فيها.

ثم غدونا يوم الخميس فنزلنا على ماء ينسب للعبدين ، ويذكر انهما ماتا عطشا قبل ان يراده فسمي ذلك الموضع بهما ، وقبراهما به ، رحمهما‌الله. ثم تزودنا منه الماء لثلاثة ايام ، وفوّزنا سحر يوم الجمعة السابع عشر منه ، وسرنا في الصحراء نبيت منها حيث جن علينا الليل ، والقوافل العيذابية والقوصية صادرة وواردة ، والمفازة معمورة أمنا.

فلما كان يوم الاثنين الموفي عشرين منه نزلنا على ماء بموضع يعرف بدنقاش ، وهي بئر معينة يرد فيها من الانعام والأنام ما لا يحصيهم الا الله عزوجل ، ولا يسافر في هذه الصحراء الا على الإبل لصبرها على الظمإ. واحسن ما يستعمل عليها ذوو الترفيه الشقاديف ، وهي أشباه المحامل ، واحسن انواعها اليمانية لأنها كالأشاكيز السفرية مجلدة متسعة ، يوصل منها الاثنان بالحبال الوثيقة وتوضع على البعير ولها اذرع قد حفت بأركانها يكون عليها مظلة ، فيكون الراكب فيها مع عديله في كنّ من لفح الهاجرة ويقعد مستريحا في وطائه ومتكئا ويتناول مع عديله ما يحتاج اليه من زاد وسواه ويطالع متى شاء المطالعة في مصحف أو كتاب. ومن شاء ، ممن يستجيز اللعب بالشطرنج ، ان يلاعب عديله تفكها واجماما للنفس لاعبه. وبالجملة فانها مريحة من نصب السفر. واكثر المسافرين يركبون الإبل على أحمالها فيكابدون من مشقة سموم الحر غما ومشقة.

وفي هذا الماء وقعت بين بعض جمالي العرب اليمنيين أصحاب طريق عيذاب

٣٨

وضمّانها ، وهم من بليّ من افخاذ قضاعة (١) ، وبين بعض الأغزاز (٢) بسبب التزاحم على الماء ، مهاوشة كادت تفضي الى الفتنة ثم عصم الله منها.

والقصد الى عيذاب من قوص على طريقين : احدهما يعرف بطريق العبدين ، وهي هذه التي سلكناها ، وهي اقصر مسافة ، والآخر طريق دون قنا ، وهي قرية على شاطىء النيل. ومجتمع هاتين الطريقين على مقربة من ماء دنقاش المذكور. ولهما مجتمع آخر على ماء يعرف بشاغب أمام ماء دنقاش بيوم.

فلما كان عشاء يوم الاثنين المذكور تزودنا الماء ليوم وليلة ورفعنا الى ماء بموضع يعرف بشاغب ، فوردناه ضحوة يوم الأربعاء الثاني والعشرين لصفر المذكور وهذا الماء ثماد يحفر عليه في الأرض فتسمح به قريبا غير بعيد الا أنه زعاق. ثم رحلنا منه سحر يوم الخميس بعده وتزودنا الماء لثلاثة أيام الى ماء بموضع يعرف بأمتان ، وتركنا طريق الماء بموضع يعرف با ... يسارا ، وليس بينه وبين شاغب غير مسافة يوم ، والطريق عليه وعر للإبل.

فلما كان ضحوة يوم الأحد السادس والعشرين لصفر المذكور نزلنا بأمتان المذكور ، وفي هذا اليوم المذكور كان فراغنا من حفظ كتاب الله عزوجل له الحمد وله الشكر على ما يسر لنا من ذلك. وهذا الماء بأمتان المذكور هو في بئر معينة قد خصها الله بالبركة. وهو أطيب مياه الطريق وأعذبها ، فيلقى فيها من دلاء الوارد ما لا يحصى كثرة فتروي القوافل النازلة عليها على كثرتها وتروي من الإبل البعيدة الإظماء ما لو وردت نهرا من الانهار لأنضبته وانزفته.

ورمنا في هذه الطريق احصاء القوافل الواردة والصادرة فما تمكن لنا ، ولا سيما القوافل العيذابية المتحملة لسلع الهند الواصلة الى اليمن ، ثم من اليمن إلى عيذاب. وأكثر ما شاهدنا من ذلك أحمال الفلفل ، فلقد خيل الينا لكثرته أنه

__________________

(١) بلي : إحدى قبائل قضاعة من العرب.

(٢) الأغزاز : قوم من الترك.

٣٩

يوازي التراب قيمة. ومن عجيب ما شاهدناه بهذه الصحراء أنك تلتقي بقاعة الطريق أحمال الفلفل والقرفة وسائرها من السلع مطروحة لا حارس لها تترك بهذه السبيل إما لإعياء الإبل الحاملة لها أو غير ذلك من الأعذار ، وتبقى بموضعها الى أن ينقلها صاحبها مصونة من الآفات على كثرة المارة عليها من أطوار الناس.

ثم كان رفعنا من امتان المذكور صبيحة يوم الاثنين بعد الأحد المذكور. ونزلنا على ماء بموضع يعرف بمجاج بمقربة من الطريق ظهر يوم الاثنين المذكور. ومنه تزودنا الماء الأربعة أيام الى ماء بموضع يعرف بالعشراء على مسافة يوم من عيذاب. ومن هذه المرحلة المجاجية يسلك الوضح ، وهي رملة ميثاء تتصل بساحل بحر جدة يمشى فيها الى عيذاب ان شاء الله ، وهي أفيح من الأرض مد البصر يمينا وشمالا.

وفي ظهر يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من الشهر المذكور كان رفعنا من مجاج المذكور سالكين على الوضح.

شهر ربيع الأول

استهل هلاله ليلة الجمعة الرابع والعشرين من شهر يونيه ونحن بآخر الوضح على نحو ثلاث مراحل من عيذاب ، وفي وقت الغداة من يوم الجمعة المذكور كان نزولنا على الماء بموضع يعرف بالعشراء على مرحلتين من عيذاب ، وبهذا الموضع كثير من شجر العشر ، وهو شبيه بشجر الأترج لكن لا شوك له. وماء هذا الموضع ليس بخالص العذوبة ، وهو في بئر غير مطوية. وألفينا الرمل قد انهال عليها وغطى ماءها ، فرام الجمالون حفرها واستخراج مائها فلم يقدروا على ذلك وبقيت القافلة لا ماء عندها.

فأسرينا تلك الليلة ، وهي ليلة السبت الثاني من الشهر المذكور ، فنزلنا

٤٠