رحلة ابن جبير

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي

رحلة ابن جبير

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

سيكون الذي قضي

سخط العبد أو رضي

وفي أثناء ذلك انبسطت الشمس ، ولان البحر قليلا ، وصممنا نروم أخذ مرسى في البر المذكور إلى أن يقضي الله قضاءه وينفذ حكمه ، ولكل سفر أوان ، وسفر البحر إنما هو في إبانه ، والمعهود من زمانه ، لا أن يعتسف في فصول أشهر الشتاء اعتسافنا له ، والأمر لله من قبل ومن بعد فالحذر الحذر ، من ركوب مثل هذا الخطر ، وان كان المحذور لا يغني عن المقدور شيئا ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ثم ان الريح ساعدت عند استقبالنا البر بعض مساعدة ، فانصرفنا عنه وتركناه يمينا وعدنا الى قريب من المجرى المقصود ، وجرينا بعض ليلة الثلاثاء الثالث عشر منه ، وقد ثم لنا على ظهر المركب أربعة وثلاثون يوما ، والشرع مصلبة ، وهو عندهم أعدل جري لأنه لا يكون الا بالريح التي تتلقى مؤخر المركب في مجراه ، فأصبحنا يوم الثلاثاء المذكور على مثل تلك الحال ، وساعدت الريح ، ففرحنا وسررنا ، وطلعت علينا مراكب قاصدة مقصدنا فاستبشرنا بها وعلمنا أنا على مجرى مقصود ، ولله الحمد والشكر على كل حال من الأحوال.

ثم انقلبت الريح غربية ، وهبت عاصفا ، فألجأتنا اضطرارا بعد أن جرت لنا بعض ليلة الأربعاء ويوم الأربعاء الى مرسى من مراسي جزائر الرمانية ، وهو رأس الجزيرة ، ومنه الى الأرض الكبيرة مجاز فيه الاثنا عشر ميلا ، فأصبحنا به يوم الخميس الخامس عشر لشعبان المكرم ، والثاني والعشرين لنونبر ، فحمدنا الله عزوجل على ما من به من السلامة ، وتوافت بعدنا الى ذلك المرسى خمسة مراكب ، منها اثنان كانا قد أقلعا من بر الاسكندرية عن عهد نحو خمسين يوما فأسقطتهما الريح ، فأقمنا بذلك المرسى أربعة أيام ، وجدد الناس به الماء والزاد لأن العمارة كانت منا قريبا ، فنزل أهل الجزيرة وبايعوا أهل المركب في الخبز واللحم والزيت وما كان عندهم من الأدم. ولم يكن خبزهم برا خالصا انما كان خليطا بالشعير وكان يضرب للسود. فتهافت الناس عليه على غلائه ، ولم يكن بالرخيص في سومه ، وشكروا لله على ما من به عليهم.

وفي هذا المرسى كمل لنا على ظهر البحر أربعون يوما ، والحمد لله على كل حال ، ومدة مقامنا بالمرسى لم يفتر عصوف الريح الغربية ، وعادت أشد ما

٢٦١

يكون هبوبا. فحمدنا الله تعالى على أن لم تأخذنا ونحن على ظهر البحر جارين ، والحمد لله على جميل صنعه.

وأقلعنا من المرسى المذكور يوم الاثنين التاسع عشر لشعبان المذكور ، والسادس والعشرين لنونبر ، بريح طيبة موافقة ، فاستبشرنا بها واستطلعنا جميل صنع الله عزوجل ولطف قضائه ، لا رب سواه. وتمادى سيرنا الى يوم الخميس الثاني والعشرين لشعبان ، والتاسع لنونبر ، ثم انقلبت الريح غربية وأنشأت سحابة فيها رعد قاصف ، وزجتها ريح عاصف ، وتقدمها برق خاطف ، فأرسلت حاصبا من البرد صبته علينا في المركب شآبيب متداركة ، فارتاعت له النفوس ، ثم أسرع انقشاعها ، وانجلى عن الأنفس ارتياعها ، وبتنا ليلة الجمعة مبيت وحشة وطالعنا بها اليأس من مكمنه ، فلما أسفر الصبح وطلع النهار أبصرنا بر صقلية لائحا أمامنا. فيا لها بشرى ومسرة ، لو لم تعد حسرة في كرة! فأمسينا ليلة السبت ، وهو أول يوم من دجنبر ، ونحن على ادراكه في أقل من ثلثها أو منتصفها ، ولكل أجل كتاب وميقات ، وكم أمل تعترض دونه الآفات ، فما كان الا كلا ولا حتى ضربت في وجوهنا ريح أنكصتنا على الأعقاب ، وحالت بين الابصار والارتقاب. وما زالت تعصف ، حتى كادت تنسف وتقصف ، فحطت الشرع عن صواريها ، واستسلمت النفوس لباريها ، وتركنا بين السفينة ومجريها ، وتتابعت علينا عوارض ديم ، حصلنا منها ومن الليل والبحر في ثلاث ظلم ، وعباب الموج تتوالى صدماته ، وتطفر الألباب رجفاته. فنبذت نفوسنا كل أمنية ، وتأهبت للقاء المنية.

وقطعنا هذه الليلة البهماء في مصادمة أهوال ، ومكابدة أوجال ، ومقاساة أحوال ، يا لها من أحوال! ثم أصبحنا يوم السبت ليوم عصيب ، أخذ من هول ليلة بأوفر نصيب ، والأمواج والرياح تترامى بنا حيث شاءت ، وقد استسلمنا للقضاء ، وتمسكنا بأسباب الرجاء. ثم تداركنا صنع الله تعالى مع المساء ففترت الريح ولان متن البحر وأسفر وجه الجو. وأصبحنا يوم الاحد ثاني دجنبر ، والخامس والعشرين لشعبان ، وقد بدل لنا من الخوف الأمان وتطلعت الوجوه كأنها انتشرت من الأكفان ، وساعدت الريح بعض مساعدة. فعدنا

٢٦٢

نطلب من البر أثرا بعد عين ، ونرجم الظنون بين متى وأين ، والله عزوجل لطيف بعباده ، وكفيل بمعهود صنعه الجميل ومعتاده ، لا رب سواه.

شهر رمضان المعظم

استهل هلاله ليلة الجمعة السابع لشهر دجنبر ونحن بإزاء الأرض الكبيرة على متن البحر مترددين ، وقد من الله علينا بريح شرقية فاترة المهب سرنا بها سيرا رويدا حتى وصلنا هذا الموضع من ازاء الأرض الكبيرة المذكورة ، وأبصرنا فيها ضياعا وعمارة كثيرة ، أعلمنا أنها من قلورية ، وهي من بلاد صاحب صقلية ، لأن بلاده في الأرض الكبيرة تتصل نحو شهرين. وبهذا الموضع نزل كثير من البلغريين فائزين بأنفسهم لمسغبة مست أهل المركب لعدم الزاد ونفاده. وحسبك أنا كنا نقتصر على مقدار رطل من الخبز اليابس نتقسمه بين أربعة منا نبله بيسير من الماء فنتبلغ به. وكل من نزل من البلغريين باع فضلة زاده ، فترفق المسلمون بابتياع ما أمكن منه على غلائه وانتهى الى مقدار خبزة بدرهم من الخالص ، فما ظنك بمدة شهرين على ظهر البحر في مسافة ظن الناس أنهم يقطعونها في عشرة أيام او خمسة عشر يوما الغاية ، فالحازم من أدخل زاد ثلاثين يوما ، وسائر الناس لعشرين يوما ، ولخمسة عشر يوما.

ومن العجب في الاتفاقات في الأسفار البحرية أنا استطلعنا على ظهر البحر أهلة ثلاثة أشهر. : هلال رجب ، وهلال شعبان ، وهلال رمضان هذا. وفي يوم مستهله مع الصباح أبصرنا أمامنا جبل النار ، وهو جبل البركان المشهور بصقيلة ، فاستبشرنا بذلك ، والله تعالى يعظم أجورنا على ما كابدناه ، ويختم لنا بأجمل الصنع وأسناه ، ويوزعنا في كل حال شكر ما اولاه ، بمنه وكرمه.

ثم حركتنا من ذلك الموضع ريح موافقة ، فلما كان عشي يوم السبت ثاني الشهر المذكور اشتد هبوبها فزجت المركب تزجية سريعة ، فلم يكن الا كلا ولا حتى أدتنا الى أول المضيق والليل قد جن ، وهذا المضيق ينحصر فيه البحر الى مقدار ستة أميال ، وأضيق موضع فيه ثلاثة أميال يعترض من بر الأرض الكبيرة الى بر جزيرة صقلية ، والبحر بهذا المضيق ينصب انصباب السيل العرم ، ويغلي غليان المرجل ، لشدة انحصاره وانضغاطه ، وشقه صعب على

٢٦٣

المراكب. فاستمر مركبنا في سيره ، والريح الجنوبية تسوقه سوقا عنيفا ، وبر الأرض الكبيرة عن يميننا ، ، وبر صقلية عن يسارنا.

الإشراف على الغرق

فلما كان مع نصف ليلة الأحد الثالث للشهر المبارك ، وقد شارفنا مدينة مسينة من الجزيرة المذكورة ، دهمتنا زعقات البحريين بأن المركب قد أمالته الريح بقوتها الى أحد البرين وهو ضارب فيه ، فأمر رئيسهم بحط الشرع للحين ، فلم ينحط شراع الصاري المعروف بالأردمون ، وعالجوه فلم يقدروا عليه لشدة ذهاب الريح به ، فلما أعياهم مزقه الرائس بالسكين قطعا قطعا طمعا في توقيفه ، وفي أثناء هذه المحاولة سنح المركب بكلكله على البر ، والتقاه بسكانيه ، وهما رجلاه اللتان يصرف بهما ، وقامت الصيحة الهائلة في المركب ، فجاءت الطامة الكبرى ، والصدعة التي لم نطق لها جبرا ، والقارعة الصماء التي لم تدع لنا صبرا ، والتدم النصارى التداما ، واستسلم المسلمون لقضاء ربهم استسلاما ، ولم يجدوا سوى حبل الرجاء استمساكا واعتصاما.

وتعاورت الريح والامواج صفح المركب حتى تكسرت رجله الواحدة فألقى الرائس مرسى من مراسيه طمعا في تمسكه به ، فلم يغن شيئا ، فقطع حبله وتركه في البحر ، فلما تحققنا أنها هي قمنا فشددنا للموت حيازيمنا ، وأمضينا على الصبر الجميل عزائمنا ، وأقمنا نرتقب الصباح أو الحين المتاح ، وقد علا الصياح ، وارتفع الصراخ من أطفال الروم ونسائهم ، والقى الجميع عن يد الإذعان ، وقد حيل بين العير والنزوان. ونحن قيام نبصر البر قريبا ، ونتردد بين أن نلقي بأنفسنا اليه سبحا ، أو ننتظر لعل الفرج من الله يطلع صبحا. فأحضرنا نية الثبات ، والبحريون قد ضموا العشاري لإخراج المهم من رجالهم ونسائهم وأسبابهم ، فساروا به الى البر دفعة واحدة ، ثم لم يطيقوا رده ، وقذفه الموج مكسرا على ظهر البر ، فتكمن حينئذ اليأس من النفوس ، وفي أثناء مكابدة هذه الأحوال أسر الصبح ، فجاء نصر الله والفتح ، وحققنا النظر فاذا بمدينة مسينة أمامنا على أقل من نصف الميل وقد حيل بيننا وبينها ، فعجبنا من قدرة الله عزوجل في تصريف أقداره ، وقلنا : رب مجلوب اليه حتفه في عتبة داره.

٢٦٤

الزوارق المغيثة

ثم تمكن الشروق فجاءتنا الزوارق مغيثة ، ووقعت الصيحة في المدينة ، فخرج ملك صقلية غليام بنفسه في جملة من رجاله متطلعا لتلك الحال : وبادرنا الى النزول في الزوارق والأمواج لشدتها لا تمكنها الوصول الى المركب. فكان نزولنا فيها خاتمة الهول العظيم ، ونجونا الى البر منجى أبي نصر عن قدر. وتلف للناس بعض أسبابهم فتسلوا عن الغنيمة بإيابهم.

ومن العجب ، على ما أخبرنا به ، أن هذا الملك الرومي المذكور أبصر فقراء من المسلمين يتطلعون من المركب وليس لهم شيء يؤدونه نزولهم لأن أصحاب الزوارق أغلوا على الناس في تخليصهم ، فسأل عنهم ، فاعلم بقصتهم ، فأمر لهم بمائة رباعي من سكته ينزلون بها ، وخلص جميع المسلمين عن سلام ، وقيل : الحمد لله رب العالمين.

وفرغ النصارى جميع ما كان لهم فيه ، فأصبح في اليوم الثاني وقد جعلته الأمواج جذاذا ، ورمت به الى البر أفلاذا ، فعاد عبرة للناظرين ، وآية للمتوسمين. ووقع العجب من سلامتنا منه ، وجددنا شكر الله عزوجل على ما من به من لطيف صنعه وجميل قضائه وتخليصه لنا من أن يكون هذا القدر ينفذ علينا في الأرض الكبيرة أو إحدى جزائر الروم المعمورة. فكنا ، لو سلمنا ، نستعبد للابد ، والله عزوجل يعيننا على أداء شكر هذه المنة والنعمة ، وما تداركنا به من لحظات الرأفة والرحمة ، انه على ذلك قدير ، وبعوائد الفضل والخير جدير ، لا إله سواه.

ومن جملة صنع الله عزوجل لنا ، ولطفه بنا ، في هذه الحادثة ، كون هذا الملك الرومي حاضرا فيها. ولو لا ذلك لانتهب جميع ما في المركب انتهابا ، وربما كان يستعبد جميع من فيه من المسلمين ، لأن العادة جرت لهم بذلك. وكان وصول هذا الملك لهذه البلاد ، بسبب اسطوله الذي ينشئه ، رحمة لنا ، والحمد لله على ما من به علينا من حسن نظره الكفيل بنا ، لا إله سواه.

مدينة مسينة من جزيرة صقيلة

هذه المدينة موسم تجار الكفار ، ومقصد جواري البحر من جميع الأقطار ،

٢٦٥

كثيرة الأرفاق برخاء الأسعار ، مظلمة الآفاق بالكفر لا يقر فيها لمسلم قرار ، مشحونة بعبدة الصلبان ، تغص بقاطنيها ، وتكاد تضيق ذرعا بساكنيها ، مملوءة نتنا ورجسا ، موحشة لا توجد لغريب أنسا ، أسواقها نافقة حفيلة ، وأرزاقها واسعة بإرغاد العيش كفيلة ، لا تزال بها ليلك ونهارك في أمان ، وإن كنت غريب الوجه واليد واللسان ، مستندة الى جبال قد انتظمت حضيضها وخنادقها ، والبحر يعترض أمامها في الجهة الجنوبية منها. ومرساها أعجب مراسي البلاد البحرية ، لأن المراكب الكبار تدنو فيه من البر حتى تكاد تمسه وتنصب منها الى البر خشبة يتصرف عليها ، فالحمال يصعد بحمله اليها ولا يحتاج لزوارق في وسقها ولا في تفريغها الا ما كان مرسيا على البعد منها يسيرا ، فتراها مصطفة مع البر كاصطفاف الجياد في مرابطها واصطبلاتها ، وذلك لإفراط عمق البحر فيها ، وهو زقاق معترض بينها وبين الأرض الكبيرة ، بمقدار ثلاثة أميال ، ويقابلها منه بلدة تعرف برية ، وهي عمالة كبيرة. وهذه المدينة : مسينة ، رأس جزيرة صقلية ، وهي كثيرة المدن والعمائر والضياع ، وتسميتها تطول.

وطول هذه الخزيرة : صقلية ، سبعة أيام ، وعرضها مسيرة خمسة أيام ، وبها جبل البركان المذكور ، وهو يأتزر بالسحب لإفراط سموه ويعتم بالثلج شتاء وصيفا دائما ، وخصب هذه الجزيرة أكثر من أن يوصف ، وكفى بأنها ابنة الأندلس في سعة العمارة ، وكثرة الخصب والرفاهة ، مشحونة بالأرزاق على اختلافها ، مملوءة بانواع الفواكه واصنافها ، لكنها معمورة بعبدة الصلبان ، يمشون في مناكبها ، ويرتعون في أكنافها. والمسلمون معهم على املاكهم وضياعهم ، وقد حسنوا السيرة في استعمالهم واصطناعهم ، وضربوا عليهم اتاوة في فصلين من العام يؤدونها ، وحالوا بينهم وبين سعة في الارض كانوا يجدونها ، والله عزوجل يصلح أحوالهم ، ويجعل العقبى الجميلة مآلهم ، بمنه. وجبالها كلها بساتين مثمرة بالتفاح والشاه بلوط والبندق والإحاص وغيرها من الفواكه.

المسلمون في صقلية

وليس في مسينه هذه من المسلمين الا نفر يسير من ذوي المهن ، ولذلك يستوحش بها المسلم الغريب ، وأحسن مدنها قاعدة ملكها ، والمسلمون يعرفونها

٢٦٦

بالمدينة ، والنصارى يعرفونها ببلارمة ، وفيها سكنى الحضريين من المسلمين ، ولهم فيها المساجد ، والأسواق المختصة بهم في الأرباض كثير. وسائر المسلمين بضياعها وجميع قراها ، وسائر مدنها كسر قوسة وغيرها. لكن المدينة الكبيرة التي هي مسكن ملكها غليام أكبرها وأحفلها وبعدها مسينة. وبالمدينة ان شاء الله يكون مقامنا ، ومنها نؤمل سفرنا الى حيث يقضي الله عزوجل من بلاد المغرب ان شاء الله.

الملك غليام وحسن سيرته

وشأن ملكهم هذا عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين واتخاذ الفتيان المجابيب ، وكلهم أو أكثرهم كاتم ايمانه متمسك بشريعة الإسلام ، وهو كثير الثقة بالمسلمين وساكن اليهم في احواله والمهم من أشغاله ، حتى ان الناظر في مطبخته رجل من المسلمين ، وله جملة من العبيد السود المسلمين ، وعليهم قائد منهم. ووزراؤه وحجابه الفتيان ، وله منهم جملة كبيرة ، هم أهل دولته والمرتسمون بخاصته ، وعليهم يلوح رونق مملكته ، لأنهم متسعون في الملابس الفاخرة والمراكب الفارهة ، وما منهم إلا من له الحاشية والخول والأتباع.

القصر الأبيض

ولهذا الملك القصور المشيدة والبساتين الأنيقة ، ولا سيما بحضرة ملكة المدينة المذكورة. وله بمسينة قصر أبيض كالحمامة مطل على ساحل البحر. وهو كثير الاتخاذ للفتيان والجواري. وليس في ملوك النصارى أترف في الملك ولا أنعم ولا أرفه منه ، وهو يتشبه في الانغماس في نعيم الملك وترتيب قوانينه ووضع أساليبه وتقسيم مراتب رجاله وتفخيم أبهة الملك واظهار زينته بملوك المسلمين ، وملكه عظيم جدا. وله الأطباء والمنجمون ، وهو كثير الاعتناء بهم ، شديد الحرص عليهم ، حتى انه متى ذكر له أن طبيبا أو منجما أجتاز ببلده أمر بإمساكه وأدر له أرزاق معيشته حتى يسليه عن وطنه ، والله يعيذ المسلمين من الفتنة به بمنه. وسنه نحو الثلاثين سنة ، كفى الله المسلمين عاديته وبسطته. ومن عجيب شأنه المتحدث به أنه يقرأ ويكتب بالعربية ، وعلامته ، على ما أعلمنا به أحد خدمته المختصين به : الحمد لله حق حمده. وكانت علامة أبيه : الحمد لله

٢٦٧

شكرا لأنعمه.

المسلمون في دولة غليام

وأما جواريه وحظاياه في قصره فمسلمات كلهن. ومن أعجب ما حدثنا به خديمه المذكور ، وهو يحيى بن فتيان الطراز ، وهو يطرز بالذهب في طراز الملك : أن الافرنجية من النصرانيات تقع في قصره فتعود مسلمة ، تعيدها الجواري المزكورات مسلمة ، وهن على تكتم من ملكهن في ذلك كله ، ولهن في فعل الخير أمور عجيبة. وأعلمنا أنه كان في هذه الجزيرة زلازل مرجفة ذعر لها هذا المشرك. فكان يتطلع في قصره فلا يسمع الا ذاكرا لله ولرسوله من نسائه وفتيانه ، وربما لحقتهم دهشة عند رؤيته ، فكان يقول لهم : ليذكر كل أحد منكم معبوده ومن يدين به ؛ تسكينا لهم.

وأما فتيانه الذين هم عيون دولته وأهل عمالته في ملكه فهم مسلمون ، ما منهم الا من يصوم الأشهر تطوعا وتأجرا ، ويتصدق تقربا الى الله وتزلفا ، ويفتك الأسرى ويربي الأصاغر منهم ويزوجهم ويحسن اليهم ، ويفعل الخير ما استطاع. وهذا كله صنع من الله عزوجل لمسلمي هذه الجزيرة وسر من أسرار اعتناء الله عزوجل بهم. لقينا منهم بمسينة فتى اسمه عبد المسيح ، من وجوههم وكبرائهم ، بعد تقدمة رغبة منه الينا في ذلك ، فاحتفل في كرامتنا وبرنا وباح لنا بسره المكنون بعد مراقبة منه مجلسه أزال لها كل من كان حوله ممن يتهمه من خدامه محافظة على نفسه. فسألنا عن مكة قدسها الله وعن مشاهدها المعظمة وعن مشاهد المدينة المقدسة ومشاهد الشام ، فأخبرناه ، وهو يذوب شوقا وتحرقا ، واستهدى منا بعض ما استصحبناه من الطرف المباركة من مكة والمدينة قدسهما الله ، ورغب في أن لا نبخل عليه بما أمكن من ذلك. وقال لنا : أنتم مدلون بإظهار الإسلام ، فائزون بما قصدتم له ، رابحون ان شاء الله في متجركم. ونحن كاتمون ايماننا ، خائفون على أنفسنا ، متمسكون بعبادة الله وأداء فرائضه سرا ، معتقلون في ملكة كافر بالله ، قد وضع في أعناقنا ربقة الرق ، فغايتنا التبرك بلقاء أمثالكم من الحجاج ، واستهداء أدعيتهم ، والاغتباط بما نتلقاه منهم من تحف تلك المشاهد المقدسة ، لنتخذها عدة للإيمان ، وذخيرة

٢٦٨

للأكفان ، فتفطرت قلوبنا له اشفاقا ودعونا له بحسن الخاتمة ، واتحفناه ببعض ما كان عندنا مما رغب فيه. وأبلغ في مجازاتنا ومكافأتنا واستكتمناه سائر اخوانه من الفتيان.

ولهم في فعل الجميل أخبار مأثورة ، وفي افتكاك الأسرى صنائع عند الله مشكورة. وجميع خدمتهم على مثل أحوالهم. ومن عجيب شأن هؤلاء الفتيان أنهم يحضرون عند مولاهم فيحين وقت الصلاة فيخرجون أفذاذا من مجلسه فيقضون صلاتهم. وربما يكونون بموضع تلحقه عين ملكهم فيسترهم الله عزوجل ، فلا يزالون بأعمالهم ونياتهم وبنصائحهم الباطنة للمسلمين في جهاد دائم ، والله ينفعهم ويجمل خلاصهم بمنه.

ولهذا الملك بمدينة مسينة المذكورة دار صنعة البحر تحتوي من الأساطيل على ما لا يحصى عدد مراكبه ، وله بالمدينة مثل ذلك.

مغادرة صقلية

فكان نزولنا في أحد الفنادق ، وأقمنا بها تسعة أيام ، فلما كان ليلة الثلاثاء الثاني عشر للشهر المبارك المذكور ، والثامن عشر لدجنبر ، ركبنا في زورق متوجهين الى المدينة المتقدم ذكرها ، وصرنا قريبا من الساحل بحيث نبصره رأي العين ، وأرسل الله علينا ريحا شرقية رخاء طيبة زجت الزورق أهنأ تزجية وسرنا نسرح اللحظ في عمائر وقرى متصلة وحصون ومعاقل في قنن الجبال مشرفة ، وأبصرنا عن يمننا في البحر تسع جزائر قد قامت جبالا مرتفعة : على مقربة من بر الجزيرة اثنتان منها ، تخرج منهما النار دائما ، وابصرنا الدخان صاعدا منهما ، ويظهر بالليل نارا حمراء ذات السن تصعد في الجو ، وهو البركان المشهور خبره ، وأعلمنا ان خروجها من منافس في الجبلين المذكورين يصعد منها نفس ناري بقوة شديدة تكون عنه النار ، وربما قذف فيها الحجر الكبير فتلقي به في الساعة الى الهواء لقوة ذلك النفس وتمنعه من الاستقرار والانتهاء الى القعر ، وهذا من أعجب المسموعات الصحيحة.

وأما الجبل الشامخ الذي بالجزيرة ، المعروف بجبل النار ، فشأنه أيضا عجيب ، وذلك أن نارا تخرج منه في بعض السنين كالسيل العرم ، فلا تمر بشيء الا أحرقته

٢٦٩

حتى تنتهي الى البحر فتركب ثبجه على صفحه حتى تغوص فيه ، فسبحان المبدع في عجائب مخلوقاته ، لا اله سواه. الى أن حللنا عشي يوم الأربعاء ، بعد يوم الثلاثاء المؤرخ ، مرسى مدينة شفلودي ، وبينها وبين مسينة مجرى ونصف مجرى.

مدينة شفلودي من جزيرة صقلية

هي مدينة ساحلية كثيرة الخصب ، واسعة المرافق ، منتظمة أشجار الأعناب وغيرها ، مرتبة الأسواق ، تسكنها طائفة من المسلمين ، وعليها قنة جبل واسعة مستديرة ، فيها قلعة لم ير أمنع منها اتخذوها عدة لأسطول يفجؤهم من جهة البحر من جهة المسلمين ، نصرهم الله. وكان اقلاعنا منها نصف الليل ، فجئنا مدينة ثرمة ضحوة يوم الخميس بسير رويد. وبين المدينتين خمسة وعشرون ميلا ، فانتقلنا فيها من ذلك الزورق الى زورق ثان اكتريناه لكون البحريين الذين صحبونا فيه من أهلها.

مدينة ثرمة من الجزيرة المذكورة.

هي أحسن وضعا من التي تقدم ذكرها ، وهي جصينة ، تركب البحر وتشرف عليه ، وللمسلمين فيها ربض كبير لهم فيه المساجد ، ولها قلعة سامية منيعة. وفي اسفل البلدة حمة قد أغنت أهلها عن اتخاذ حمام. وهذه البلدة من الخصب. وسعة الرزق على غاية. والجزيرة بأسرها من أعجب بلاد الله في الخصب وسعة الأرزاق. فأقمنا بها يوم الخميس الرابع عشر للشهر المذكور ، ونحن قد أرسينا في واد بأسفلها ويطلع فيه المد من البحر ثم ينحسر عنه. وبتنا بها ليلة الجمعة ، ثم انقلب الهواء غربيا ، فلم نجد للإقلاع سبيلا ، وبيننا وبين المدينة المقصودة المعروفة عند النصارى ببلارمة خمسة وعشرون ميلا ، فخشينا طول المقام ، وحمدنا الله تعالى على ما أنعم به من التسهيل في قطع المسافة في يومين ، وقد تلبث الزوارق في قطعها ، على ما أعلمنا به ، العشرين يوما والثلاثين يوما ونيفا على ذلك.

فأصبحنا يوم الجمعة منتصف الشهر المبارك على نية من المسير في البر على أقدامنا ، فنفذنا لطيتنا وتحملنا بعض أسبابنا وخلفنا بعض الأصحاب على

٢٧٠

الأسباب الباقية في الزورق ، وسرنا في طريق كأنها السوق عمارة وكثرة صادر ووارد ، وطوائف النصارى يتلقوننا فيبادرون بالسلام علينا ويؤنسوننا ، فرأينا من سياستهم ولين مقصدهم مع المسلمين ما يوقع الفتنة في نفوس أهل الجهل ، عصم الله جميع أمة محمد ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من الفتنة بهم بعزته ومنه ، فانتهينا الى قصر سعد ، وهو على فرسخ من المدينة ، وقد أخذ منا الإعياء فملنا اليه وبتنا فيه.

وهذا القصر على ساحل البحر مشيد البناء عتيقه قديم الوضع من عهد ملكة المسلمين للجزيرة ، لم يزل ولا يزال ، بفضل الله ، مسكنا للعباد منهم ، وحوله قبور كثيرة للمسلمين : أهل الزهادة والورع ، وهو موصوف بالفضل والبركة مقصود من كل مكان ، وبإزائه عين تعرف بعين المجنونة ، وله باب وثيق من الحديد ، وداخله مساكن ، وعلالي مشرفة وبيوت منتظمة ، وهو كامل مرافق السكنى ، وفي اعلاه مسجد من احسن مساجد الدنيا بهاء ، مستطيل ذو حنايا مستطيلة ، مفروش بحصر نظيفة ، لم ير أحسن منها صنعة ، وقد علق فيه نحو الأربعين قنديلا من أنواع الصفر والزجاج ، وأمامه شارع واسع يستدير بأعلى القصر ، وفي أسفل القصر بئر عذبة. فبتنا في هذا المسجد أحسن مبيت وأطيبه ، وسمعنا الأذان وكنا قد طال عهدنا بسماعه. وأكرمنا القوم الساكنون فيه. وله إمام يصلي بهم الفريضة. والتراويح في هذا الشهر المبارك. وبمقربة من هذا القصر ، بنحو الميل الى جهة المدينة ، قصر آخر على صفته يعرف بقصر جعفر ، وداخله سقاية تفور بماء عذب. وأبصرنا للنصارى في هذه الطريق كنائس معدة لمرضى النصارى ، ولهم في مدنهم مثل ذلك على صفة مارستانات المسلمين ، وأبصرنا لهم بعكة وبصور مثل ذلك ، فعجبنا من اعتنائهم بهذا القدر.

فلما صلينا الصبح توجهنا الى المدينة فجئنا لندخل ، فمنعنا وحملنا الى الباب المتصل بقصور الملك الأفرنجي ، أراح الله المسلمين من ملكته ، وادينا الى المستخلف من قبله ليسألنا عن مقصدنا ، وكذلك فعلهم بكل غريب ، فسلك رحاب وابواب وساحات ملوكية ، وأبصرنا من القصور المشرفة والميادين المنتظمة والبساتين والمراتب المتخذة لأهل الخدمة ما راع أبصارنا وأذهل أفكارنا ،

٢٧١

وتذكرنا قول الله عزوجل (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) وأبصرنا فيما أبصرناه مجلسا في ساحة فسيحة قد أحدق بها بستان وانتظمت جوانبها بلاطات ، والمجلس قد أخذ استطالة تلك الساحة كلها ، فعجبنا من طوله واشراف مناظره ، فأعلمنا أنه موضع غذاء الملك مع اصحابه وتلك البلاطات والمراتب حيث تقعد حكامه. وأهل الخدمة والعمالة أمامه. فخرج الينا ذلك المستخلف يتهادى بين خديمين يحفان به ويرفعان أذياله ، فأبصرنا شيخا طويل السبلة أبيضها ذا أبهة ، فسألنا عن مقصدنا وعن بلدنا بكلام عربي لين ، فأعلمناه ، فأظهر الإشفاق علينا وأمر بانصرافنا بعد أن أحفى في السلام والدعاء ، فعجبنا من شأنه.

وكان أول سؤاله لنا عن خبر القسطنطينية العظمى وما عندنا منه ، فلم يكن عندنا ما نعلمه به ، وقد نقيد خبرها بعد هذا. وكان من أغرب ما شاهدناه من الأمور الفتانة أن أحد من كان قاعدا عند باب القصر من النصارى قال لنا عند انصرافنا عن القصر المذكور : تحفظوا بما عندكم يا حجاج من العمال الممكسين لئلا يقع عليكم. وظن أن عندنا تجارة تقتضي التمكيس. فاستجاب له احد النصارى ، فقال : ما أعجب أمرك ، يدخلون حرم الملك ، ويخافون من شيء ، ما كنت أود لهم الا آلافا من الرباعيات ، انهضوا بسلام لا خوف عليكم. فقضينا عجبا مما شاهدناه وسمعناه.

وخرجنا الى أحد الفنادق فنزلنا فيه ، وذلك يوم السبت السادس عشر للشهر المبارك ، والثاني والعشرين لدجنبر ، وفي خروجنا من القصر المذكور سلكنا بلاطا متصلا مشينا فيه مسافة طويلة ، وهو مسقف ، حتى انتهينا الى كنيسة عظيمة البناء. فاعلمنا أن ذلك البلاط ممشى الملك الى هذه الكنيسة.

ذكر المدينة التي هي حضرة صقلية

هي بهذه الجزائر أم الحضارة ، والجامعة بين الحسنين غضارة ونضارة ، فما شئت بها من جمال مخبر ومنظر ، ومراد عيش يانع أخضر ، عتيقة أنيقة ، مشرقة مونقة ، تتطلع بمرأى فتان ، وتتخايل بين ساحات وبسائط كلها بستان ، فسيحة السكك والشوارع ، تروق الأبصار بحسن منظرها البارع ، عجيبة الشان ،

٢٧٢

قرطبية البنيان ، مبانيها كلها بمنحوت الحجر المعروف بالكذان ، يشقها نهر معين ، ويطرد في جنباتها أربع عيون ، قد زخرفت فيها لملكها دنياه ، فاتخذها حضرة ملكه الإفرنجي أباده الله ، تنتظم بلبتها قصوره انتظام العقود في نحور الكواعب ، ويتقلب من بساتينها وميادينها بين نزهة وملاعب ، فكم له فيها ، لا عمرت به ، من مقاصير ومصانع ، ومناظر ومطالع ، وكم له بجهاتها من ديارات قد زخرف بنيانها ، ورفه بالأقطاعات الواسعة رهبانها ، وكنائس قد صيغ من الذهب والفضة صلبانها ، وعسى الله عن قريب أن يصلح لهذه الجزيرة الزمان ، فيعيدها دار ايمان ، وينقلها من الخوف للأمان ، بعزته ، انه على ما يشاء قدير.

وللمسلمين بهذه المدينة رسم باق من الإيمان ، يعمرون أكثر مساجدهم ويقيمون الصلاة بأذان مسموع ، ولهم أرباض قد انفردوا فيها بسكناهم عن النصارى ، والأسواق معمورة بهم وهم التجار فيها ، ولا جمعة لهم بسبب الخطبة المحظورة عليهم ، ويصلون الأعياد بخطبة دعاؤهم فيها للعباسي ، ولهم بها قاض يرتفعون اليه في أحكامهم ، وجامع يجتمعون للصلاة فيه ويحتفلون في وقيده في هذا الشهر المبارك ، وأما المساجد فكثيرة لا تحصى ، وأكثرها محاضر لمعلمي القرآن. وبالجملة فهم عزباء عن اخوانهم المسلمين تحت ذمة الكفار ولا أمن لهم في اموالهم ولا في حريمهم ولا أبنائهم ، تلافاهم الله بصنع جميل بمنه.

ومن جملة شبه هذه المدينة بقرطبة ، والشيء قد تشبه بالشيء من إحدى جهاته ، أن لها مدينة قديمة تعرف بالقصر القديم هي في وسط المدينة الحديثة ، وعلى هذا المثال موضوع قرطبة ، حرسها الله. وبهذا القصر القديم ديار كأنها القصور المشيدة لها مناظر في الجو مطلة تحار الأبصار في حسنها.

كنسية الأنطاكي

ومن أعجب ما شاهدناه بها من أمور الكفران كنيسة تعرف بكنيسة الأنطاكي ، أبصرناها يوم الميلاد ، وهو يوم عيد لهم عظيم ، وقد احتفلوا لها رجالا ونساء ، فأبصرنا من بنيانها مرأى يعجز الوصف عنه ، ويقع القطع بأنها أعجب مصانع الدنيا المزخرفة جدرها الداخلة ذهب كلها ، وفيها من ألواح الرخام الملون ما لم ير مثله قط ، قد رصعت كلها بفصوص الذهب وكللت بأشجار

٢٧٣

الفصوص الخضر ونظم أعلاها بالشمسيات المذهبات من الزجاج ، فتخطف الأبصار بساطع شعاعها ، وتحدث في النفوس فتنة نعوذ بالله منها ، وأعلمنا ان بانيها الذي تنسب اليه أنفق فيها قناطير من الذهب ، وكان وزيرا لجد هذا الملك المشرك ، ولهذه الكنيسة صومعة قد قامت على أعمدة سوار من الرخام ملونة وعلت قبة على أخرى سوار كلها فتعرف بصومعة السواري ، وهي من أعجب ما يبصر من البنيان ، شرفها الله عن قريب بالأذان ، بلطفه وكريم صنعه.

وزي النصرانيات في هذه المدينة زي نساء المسلمين : فصيحات الألسن ، ملتحفات ، منتقبات ، خرجن في هذا العيد المذكور وقد لبسن ثياب الحرير المذهب ، والتحفن اللحف الرائقة ، وانتقبن بالنقب الملونة ، وانتعلن الأخفاف المذهبة ، وبررن لكنائسهن أو كنسهن حاملات جميع زينة نساء المسلمين من التحلي والتخضب والتعطر. فتذكرنا على جهة الدعابة الأدبية قول الشاعر :

أن من يدخل الكنيسة يوما

يلق فيها جآذرا وظباء

ونعوذ بالله من وصف يدخل مدخل اللغو ، ويؤدي الى أباطيل اللهو ، ونعوذ به من تقييد ، يؤدي الى تفنيد ، انه سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة. فكان مقامنا بهذه المدينة سبعة أيام ، ونزولنا بها في احد فنادقها التي يسكنها المسلمون ، وخرجنا منها صبيحة يوم الجمعة الثاني والعشرين لهذا الشهر المبارك ، والثامن والعشرين لشهر دجنبر ، الى مدينة أطرابنش ، بسبب مركبين بها : أحدهما يتوجه الى الأندلس والثاني الى سبتة ، وكنا أقلعنا الى الاسكندرية فيه ، وفيهما حجاج وتجار من المسلمين ، فسلكنا على قرى متصلة وضياع متجاورة ، وأبصرنا محارث ومزارع لم نر مثل تربتها طيبا وكرما واتساعا ، فشبهناها بقنبانية قرطبة ، أو هذه أطيب وأمتن.

وبتنا في الطريق ليلة واحدة في بلدة تعرف بعلقمة ، وهي كبيرة متسعة ، فيها السوق والمساجد ، وسكانها وسكان هذه الضياع التي في هذه الطريق كلها مسلمون ، وقمنا منها سحر يوم السبت الثالث والعشرين لهذا الشهر المبارك ، والتاسع والعشرين لدجنبر ، فاجتزنا بمقربة منها على حصن يعرف بحصن الحمة ، وهو بلد كبير فيه حمامات كثيرة ، وقد فجرها الله ينابيع في الارض وأسالها عناصر لا يكاد البدن يحتملها لإفراط حرّها ، فأجزنا منها واحدة على

٢٧٤

الطريق ، فنزلنا اليها عن الدواب وأرحنا الأبدان بالاستحمام فيها. ووصلنا الى أطرابنش عصر ذلك اليوم ، فنزلنا فيها في دار اكتريناها.

ذكر مدنية اطرابنش من جزيرة صقلية

هي مدينة صغيرة الساحة ، غير كبيرة المساحة ، مسورة بيضاء كالحمامة ، مرساها من أحسن المراسي وأوفقها للمراكب ، ولذلك يقصد الروم كثيرا اليها ولا سيما المقلعون الى بر العدوة ، فإن بينها وبين تونس مسيرة يوم وليلة ، فالسفر منها اليها لا يتعطل شتاء ولا صيفا الا ريثما تهب الريح الموافقة ، فمجراها في ذلك مجرى المجاز القريب. وبهذه المدينة السوق والحمّام وجميع ما يحتاج اليه من مرافق المدن ، لكنها في لهوات البحر لإحاطته بها من ثلاث جهات ، واتصال البر بها من جهة واحدة ضيقة ، والبحر فاغرفاه لها من سائر الجهات ، فأهلها يرون أنه لا بد له من الاستيلاء عليها وان تراخى مدى أيامها ، ولا يعلم الغيب الا الله تعالى.

وهي مرفقة موافقة لرخاء السعر بها لأنها على محرث عظيم ، وسكانها المسلمون والنصارى ، ولكلا الفريقين فيها المساجد والكنائس ، وبركبها من جهة الشرق مائلا الى الشمال على مقربة منها جبل عظيم مفرط السمو متسع في أعلاه قنة تنقطع عنه ، وفيها معقل للروم ، وبينه وبين الجبل قنطرة ، ويتصل به في الجبل للروم بلد كبير ، ويقال إن حريمه من أحسن حريم هذه الجزيرة ، جعلها الله سببا للمسلمين.

وبهذا الجبل الكروم والمزارع ، واعلمنا أن به نحو أربع مئة عين متفجرة ، وهو يعرف بجبل حامد ، والصعود اليه هين من احدى جهاته ، وهم يرون أن منه يكون فتح هذه الجزيرة ، ان شاء الله ، ولا سبيل أن يتركوا مسلما يصعد اليه ، ولذلك أعدّوا في ذلك المعقل الحصين ، فلو أحسوا بحادثة حصلوا حريمهم فيه وقطعوا القنطرة. واعترض بينهم وبين الذي في اعلاه متصل به خندق كبير. وشأن هذا البلد العجيب ، فمن العجب أن يكون فيه من العيون المتفجرة ما تقدم ذكره ، وأطرابنش في هذا البسيط ولا ماء لها الا من بئر على البعد منها ، وفي ديارها آبار قصيرة الأرشية ماؤها كلها شريب لا يساغ.

وألفينا المركبين الذين يرومان الاقلاع الى المغرب بها ، ونحن ، ان شاء الله ،

٢٧٥

نؤمل ركوب أحدهما ، وهو القاصد الى بر الأندلس ، والله بمعهود صنعه الجميل كفيل بمنه. وفي غربي هذه البلدة : أطرابنش المذكورة ، ثلاث جزائر في البحر على نحو فرسخين منها ، وهي صغار متجاورة : احداها تعرف بمليطمة ، والاخرى بيابسة ، والثالثة تعرف بالراهب ، نسبت الى راهب يسكنها في بناء أعلاها كأنه الحصن ، وهي مكمن للعدو ، والجزيرتان لا عمارة فيهما ، ولا يعمر الثالثة سوى الراهب المذكور.

شهر شوال

استهل هلاله ليلة السبت الخامس من ينير بشهادة ثبتت عند حاكم أطرابنش المذكورة بأنه أبصر هلال شهر رمضان ليلة الخميس ، ويوم الخميس كان صيام أهل مدينة صقلية المتقدم ذكرها ، فعيّد الناس على الكمال بحساب يوم الخميس المذكور ، وكان مصلّانا في هذا العيد المبارك بأحد مساجد أطرابنش المذكورة مع قوم من أهلها امتنعوا من الخروج الى المصلى لعذر كان لهم. فصلينا صلاة الغرباء ، جبر الله كل غريب الى وطنه ، وخرج أهل البلد الى مصلاهم مع صاحب أحكامهم وانصرفوا بالطبول والبوقات ، فعجبنا من ذلك ومن اغضاء النصارى لهم عليه. ونحن قد اتفق كراؤنا في المركب المتوجه ان شاء الله الى بر الأندلس ونظرنا في الزاد ، والله المتكفل بالتيسير والتسهيل.

ووصل أمر من ملك صقلية بعقلة المراكب بجميع السواحل بجزيرته بسبب الأسطول الذي يعمّره ويعده ، فليس لمركب سبيل للسفر الى أن يسافر الأسطول المذكور ، خيب الله سعيه ولا تمم قصده. فبادر الروم الجنويون ، أصحاب المركبين المذكورين ، الى الصعود فيهما تحصنا من الوالي ، ثم امتد سبب الرشوة بينهم وبينه فأقاموا بمركبيهم ينتظرون هواء يقلعون به. وفي هذا التاريخ المذكور وصلتنا أخبار موحشة من الغرب ، منها تغلب صاحب ميورقة على بجاية ، والله لا يحقق ذلك ويجعل العاقبة والهدنة للمسلمين بمنه وكرمه.

والناس في هذه المدينة يرجمون الظنون في مقصد هذا الأسطول الذي يحاول هذا الطاغية تعميره ، وعدد اجفانه ، فيما يقال ، ثلاث مئة : بين طرائد ومراكب ، يقال : اكثر من ذلك ، ويستصحب معه نحو مئة سفينة تحمل الطعام ، والله يقطع به ويجعل الدائرة عليه. فمنهم من يزعم أن مقصده الإسكندرية ، حرسها الله وعصمها ، ومنهم من يقول : ان مقصده ميورقة ، حرسها الله ، ومنهم من يزعم

٢٧٦

أن مقصده إفريقية ، حماها الله ، ناكثا لعهده في السلم بسبب الأنباء الموحشة الطارئة من جهة المغرب. وهذا أبعد الظنون من الإمكان لأنه مظهر للوفاء بالعهد ، والله يعين عليه ولا يعينه ، ومنهم من يرى أن احتفاله انما هو لقصد القسطنطينية العظمى بسبب ما ورد من قبلها من النبأ العظيم الشأن ، المهدي للنفوس بشائر تتضمن عجائب من الحدثان ، وتشهد للحديث المأثور عن المصطفى ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بصدق البرهان ، وذلك بأنه ذكر أن صاحبها توفي وترك الملك بعده لزوجه ولها ابن صغير ، فقام ابن عم له في الملك وقتل الزوج المذكورة وثقف الابن المذكور ، ثم ابنا للثائر المذكور عطفته الرحم على الابن المعتقل فأطلق سبيله ، وكان أبوه قد أمره بقتله ، فرمت به الاقدار الى هذه الجزيرة بعد خطوب جرت عليه ، فوردها على حالة ابتذال ، ومهنة استعمال ، خادما لأحد الرهبان ، مسدلا على شارته الملوكية سترا من الامتهان ، ففشي الأمر ، وذاع السر ، ولم يغن عنه ذلك الستر. فاستحضر عن أمر الملك الصقلي غليام ، المذكور قبل ، واستنطق واستفهم ، فزعم أنه عبد لذلك الراهب وخديمه ، ثم ان طائفة من الروم الجنويين المسافرين الى القسطنطينية أثبتوا صفته وحققوا أنه هو مع مخايل ودلائل ملوكية لاحت منه : منها ، فيما ذكر لنا ، أن الملك غليام خرج في يوم زينة له وقد اصطف الناس للسلام عليه وأحضروا الفتى المذكور في جملة الخاصة ، فصقع الجميع خدمة للملك وتعظيما لطوعه عليهم الا ذلك الفتى فإنه لم يزد على الايمان في السلام ، فعلم أن الهمة الملوكية منعته من المدخل مدخل السوقة ، فاعتنى به الملك غليام وأكرم مثواه وأذكى عيون الاحتراس عليه خوفا من اغتيال يلحقه بتدسيس من ابن عمه الثائر عليه.

وكانت له أخت موصوفة بالجمال علق بها ابن العم الثائر على الملك المذكور ، فلم يمكنه تزويجها بسبب أن الروم لا تنكح في الاقارب ، فحمله الحب المصمي والهوى المصم المعمي ، والسعادة التي تفضي بصاحبها الى العاقبة الحسنى وترمي ، على أخذها والتوجه بها الى الأمير مسعود صاحب الدروب وقونية وبلاد العجم المجاورة للقسطنطينية ، وقد تقدم ذكر غنائه في الإسلام فيما مضى من هذا التقييد ، وحسبك أن صاحب القسطنطينية لم يزل يؤدي الجزية اليه ولصالحه على ما يجاوره من البلاد ، فأسلم مع ابنة عمه على يده ، وسيق له صليب ذهب قد احمي

٢٧٧

عليه في النار فوضعه تحت قدمه ، وهي عندهم أعظم علامات الترك لدين النصرانية والوفاء بذمة دين الاسلام ، وتزوج ابنة العم المذكورة وبلغ هواه ، وأخذ جيوش المسلمين معه الى القسطنطينية فدخلها بهم وقتل من أهلها نحو الخمسين الفا من الروم ، وأعانه الإغريقيون على فعله ، وهم فرقة من أهل الكتاب وكلامهم بالعربية ، وبينهم وبين سائر الفرق من جنسهم عداوة كامنة ، وهم لا يرون أكل لحم الخنزير ، فشفوا نفوسهم من أعاديهم ، وقرع الله نبع الكفر بعضه ببعض واستولى المسلمون على القسطنطينية ونقلت أموالها كلها ، وهي ما لا يأخذه الإحصاء ، الى الأمير مسعود ، وجعل من المسلمين فيها ما ينيف على الاربعين الف فارس ، واتصلت بلادهم بها. وهذا الفتح ، اذا صح ، من أكبر شروط الساعة ، والله اعلم بغيبه.

ألفينا هذا الحديث بهذه الجزيرة مستفيضا على ألسنة المسلمين والنصارى محققين له لا شك عندهم فيه ، أنبأت به مراكب الروم التي وصلت من القسطنطينية. وكان أول سؤال مستخلف الملك بالمدينة لنا ، يوم احضرنا لديه عند دخولنا المدينة ، عما عندنا من خبر القسطنطينية ، فلم يكن عندنا علم ولا تعرفنا معنى السؤال عنها الا بعد ذلك. وتحققوه أيضا من جهة ملكها هذا الصبي وما كان من اتباع الثائر عليه اياه عيونا يروم اغتياله. فهو اليوم بسبب ذلك عند صاحب صقلية محترس محافظ عليه ، لا يكاد يصل لحظ العيون إليه.

وأخبرنا أنه رطيب غصن الصبا ، محتدم حمرة الشباب ، صقيل رونق الملك ، عليه ناظر في علم اللسان العربي وغيره ، بارع في الأدب الملوكي ، ذو دهاء على فتوة سنه وغمرية شبيبته ، فالملك الصقلي على ما يذكر يروم توجيه الأسطول المذكور الى القسطنطينية أنفة لهذا الصبي المذكور ، وما جرى عليه ، وكيفما توجه الأمر فيه من هذه المقاصد فالله عزوجل ينكصه خاسرا على عقبه ، ويعرفه شؤم مذهبه ، ويجعل قواصف الرياح خاسفة به ، انه على ما يشاء قدير. وهذا الخبر القسطنطيني ، حققه الله ، من أعظم عجائب الدنيا وكوائنها المرتقبة ، ولله القدرة البالغة في أحكامه وأقداره.

شهر ذي القعدة

استهل هلاله ليلة الاثنين الرابع من شهر فبرير ونحن بمدينة اطرابنش ، المتقدم

٢٧٨

ذكرها ، منتظرين انسلاخ فصل الشتاء وإقلاع المركب الجنوي الذي أملنا ركوبه الى الأندلس ، ان شاء الله عزوجل ، والله سبحانه ييمن مقصدنا وييسر مرامنا بمنه وكرمه.

وفي مدة مقامنا بهذه البلدة تعرفنا ما يؤلم النفوس تعرفه من سوء حال أهل هذه الجزيرة مع عباد الصليب بها ، دمرهم الله ، وما هم عليه معهم من الذل والمسكنة ، والمقام تحت عهدة الذمة ، وغلظة الملك ، الى طوارىء دواعي الفتنة في الدين على من كتب الله عليه الشقاء من ابنائهم ونسائهم. وربما تسبب الى بعض اشياخهم أسباب نكالية تدعوه الى فراق دينه ، فمنها قصة اتفقت في هذه السنين القريبة لبعض فقهاء مدينتهم التي هي حضرة ملكهم الطاغية ، ويعرف بابن زرعة ، ضغطته العمال بالمطالبة حتى أظهر فراق دين الإسلام والانغماس في دين النصرانية ، ومهر في حفظ الإنجيل ومطالعة سير الروم وحفظ قوانين شريعتهم ، فعاد في جملة القسيسين الذين يستفتون في الأحكام النصرانية ، وربما طرأ حكم اسلامي فيستفتى أيضا فيه لما سبق من معرفته بالأحكام الشرعية ، ويقع الوقوف عند فتياه في كلا الحكمين ، وكان له مسجد بإزاء داره أعاده كنيسة ، نعوذ بالله من عواقب الشقاوة وخواتم الضلالة ، ومع ذلك فاعلمنا أنه يكتم ايمانه. فلعله داخل تحت الاستثناء ، في قوله : «الا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان».

ووصل هذه الأيام الى هذه البلدة زعيم أهل هذه الجزيرة من المسلمين وسيدهم القائد ابو القاسم بن حمود ، المعروف بابن الحجر ، وهذا الرجل من اهل بيت بهذه الجزيرة توارثوا السيادة كابرا عن كابر ، وقرر لدينا مع ذلك أنه من أهل العمل الصالح ، مريد للخير ، محب في أهله ، كثير الصنائع الأخروية من افتكاك الأسارى ، وبث الصدقات في الغرباء والمنقطعين من الحجاج ، الى مآثر جمة ، ومناقب كريمة ، فارتجت هذه المدينة لوصوله ، وكان في هذه المدة تحت هجران من هذا الطاغية الزمه داره بمطالبة توجهت عليه من أعدائه افتروا عليه فيها أحاديث مزورة نسبوه فيها الى مخاطبة الموحدين أيدهم الله ، فكادت تقضي عليه لو لا حارس المدة ، وتوالت عليه مصادرات أغرمته نيفا على الثلاثين ألف دينار مؤمنية ، ولم يزل يتخلى عن جميع دياره وأملاكه الموروثة عن سلفه حتى بقي

٢٧٩

دون مال ، فاتفق في هذه الأيام رضي الطاغية عنه وامره بالنفوذ لمهم اشغاله السلطانية ، فنفذ لها نفوذ المملوك المغلوب على نفسه وماله ، وصدرت عنه عند وصوله الى هذه البلدة رغبة في الاجتماع بنا ، فاجتمعنا به ، فأظهر لنا من باطن حاله وبواطن أحوال هذه الجزيرة مع أعدائهم ما يبكي العيون دما ، ويذيب القلوب ألما ، فمن ذلك انه قال : كنت اود لو أباع أنا واهل بيتي ، فلعل البيع كان يخلصنا مما نحن فيه ، ويؤدي بنا الى الحصول في بلاد المسلمين. فتأمل حالا يؤدي بهذا الرجل ، مع جلالة قدره وعظم منصبه ، الى أن يتمنى مثل هذا التمنين مع كونه مثقلا عيالا وبنين وبنات ، فسألنا له من الله عزوجل حسن التخلص مما هو فيه ولسائر المسلمين من أهل هذه الجزيرة. وواجب على كل مسلم الدعاء لهم في كل موقف يقفه بين يدي الله عزوجل ، وفارقناه باكيا مبكيا ، واستمال نفوسنا بشرف منزعه ، وخصوصية شمائله ، ورزانة حصاته ، وشمول مبرته وتكرمته ، وحسن خلقه وخليقته. وكنا قد أبصرنا له ولإخوته ولأهل بيته بالمدينة ديارا كأنها القصور المشيدة الأنيقة ، وشأنهم بالجملة كبير لا سيما هذا الرجل منهم. وكانت له أيام مقامه هنا أفعال جميلة مع فقراء الحجاج وصعاليكهم أصلحت أحوالهم ويسرت لهم الكراء والزاد ، والله ينفعه بها ويجازيه الجزاء الأوفى عليها بمنه.

ومن أعظم ما مني به أهل هذه الجزيرة أن الرجل ربما غضب على ابنه أو على زوجه أو تغضب المرأة على ابنتها فتلحق المغضوب عليه أنفة تؤديه الى التطارح في الكنيسة فيتنصر ويتعمد ، فلا يجد الاب للابن سبيلا ولا الأم للبنت سبيلا. فتخيل حال من يمنى بمثل هذا في أهله وولده ويقطع عمره متوقعا لوقوع هذه الفتنة فيهم! فهم الدهر كله في مداراة الأهل والولد خوف هذه الحال. وأهل النظر في العواقب منهم يخافون أن يتفق على جميعهم ما اتفق على أهل جزيرة أقريطش من المسلمين ، في المدة السالفة ، فإنه لم تزل بهم الملكة الطاغية من النصارى والاستدراج الشيء بعد الشيء حالا بعد حال حتى اضطروا الى التنصر عن آخرهم ، وفر منهم من قضى الله بنجاته ، وحقت كلمة العذاب على الكافرين ، والله غالب على امره ؛ لا اله سواه.

ومن عظم هذا الرجل الحمودي المذكور في نفوس النصارى ، أبادهم الله ،

٢٨٠