رحلة ابن جبير

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي

رحلة ابن جبير

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

من هذه القبة الا ما يحكى عن قبة بيت المقدس ، فانها يحكى أنها أبعد في الارتفاع والسمو من هذه وجملة الأمر أن منظرها والوقوف على هيئة وضعها وعظيم الاستقدار فيها عند معاينها بالصعود اليها والولوج داخلها من أغرب ما يحدّث به من عجائب الدنيا ، والقدرة لله الواحد القهار ، لا اله سواه.

رتبهم في جنائزهم

ولأهل دمشق وغيرها من هذه البلاد في جنائزهم رتبة عجيبة ، وذلك انهم يمشون أمام الجنائز بقرّاء يقرءون القرآن بأصوات شجية ، وتلاحين مبكية ، تكاد تنخلع لها النفوس شجوا وحنانا ، يرفعون أصواتهم بها ، فتتلقاها الآذان بأدمع الأجفان ، وجنائزهم يصلى عليها في الجامع قبالة المقصورة ، فلا بد لكل جنازة من الجامع ،؟ انتهوا الى بابه قطعوا القراءة ، ودخلوا الى موضع الصلاة عليها ، الا ان يكون الميت من أئمة الجامع أو من سدنته ، فان الحالة المميزة له في ذلك أن يدخلوه بالقراءة الى موضع الصلاة عليه. وربما اجتمعوا للعزاء بالبلاط الغربي من الصحن بإزاء باب البريد ، فيصلون أفرادا أفرادا ، ويجلسون وأمامهم ربعات من القرآن يقرءونها ، ونقباء الجنائز يرفعون أصواتهم بالنداء لكل واصل للعزاء من محتشمي البلدة وأعيانهم ويحلونهم بخططهم الهائلة التي قد وضعوها لكل واحد منهم بالإضافة الى الدين ، فتسمع ما شئت من صدر الدين أو شمسه أو بدره أو نجمه أو زينه أو بهائه أو جماله أو مجده أو فخره أو شرفه أو معينه أو محييه أو زكيه أو نجيبه ، الى ما لا غاية له من هذه الألفاظ الموضوعة ؛ وتتبعها ، ولا سيما في الفقهاء بما شئت أيضا من سيد العلماء وجمال الأئمة وحجة الاسلام وفخر الشريعة وشرف الملة ومفتي الفريقين ، الى ما لا نهاية له من هذه الألفاظ المحالية. فيصعد كل واحد منهم الى الشريعة ساحبا أذياله من الكبر ، ثانيا عطفه وقذاله. فإذا استكملوا وفرغوا من القراءة وانتهى المجلس

٢٤١

بهم منتهاه قام وعاظهم واحدا واحدا بحسب رتبهم في المعرفة فوعظ وذكر ونبه على خدع الدنيا وحذر وأنشد في المعنى ما حضر من الأشعار ثم ختم بتعزية صاحب المصاب والدعاء له وللمتوفى ثم قعد ، وتلاه آخر على مثل طريقته الى أن يفرغوا ويتفرقوا. فربما كان مجلسا نافعا لمن يحضره من الذكرى.

ومخاطبة أهل هذه الجهات قاطبة بعضهم لبعض بالتمويل والتسويد وبامتثال الخدمة وتعظيم الحضرة ، واذا لقي أحد منهم آخر مسلما يقول : جاء المملوك أو الخادم برسم الخدمة ، كناية عن السلام ، فيتعاطون المحال تعاطيا ، والجد عندهم عنقاء مغرب ، وصفة سلامهم ايماء للركوع أو السجود ، فترى الاعناق تتلاعب بين رفع وخفض ، وبسط وقبض ، وربما طالت بهم الحالة في ذلك ، فواحد ينحط واخر يقوم ، وعمائمهم تهوي بينهم هويا. وهذه الحالة من الانعكاف الركوعي في السلام كنا عهدناه لقينات النساء ، وعند استعراض رقيق الإماء ، فيا عجبا لهولاء الرجال ، كيف تحلوا بسمات ربات الحجال ، لقد ابتذلوا أنفسهم فيما تأنف النفوس الأبية منه ، واستعملوا تكفير الذمي المنهي في الشرع عنه! لهم في الشأن طرائق عجيبة في الباطل. فيا للعجب منهم ، اذا تعاملوا بهذه المعاملة وانتهوا الى هذه الغاية في الألفاظ بينهم فبماذا يخاطبون سلاطينهم ويعاملونهم؟! لقد تساوت الأذناب عندهم والرءوس ، ولم يميز لديهم الرئيس والمرؤوس! فسبحان خالق الخلق أطوارا ، لا شريك له ، ولا معبود سواه.

ومن عجيب حال الصغير عندهم والكبير ، بجميع هذه الجهات كلها ، أنهم يمشون وأيديهم الى خلف قابضين بالواحدة على الأخرى ، ويركعون للسلام على تلك الحالة المشبهة بأحوال العناة مهانة واستكانة ، كأنهم قد سيموا تعنيفا ، وأوثقوا تكتيفا ، وهم يعتقدون تلك الهيئة لهم تمييزا لهم في ذوي الخصوصية وتشريفا ، ويزعمون أنهم يجدون بها نشاطا في الأعضاء ، وراحة من الاعياء ، والمحتشم منهم من يسحب ذيله على الأرض شبرا أو يضع خلفه اليد الواحدة على الأخرى ، قد اتخذوا هذه المشية بينهم سننا ، وكل منهم قد زين له سوء عمله فرآه

٢٤٢

حسنا ، أستغفر الله منهم! فإن لهم من آداب المصافحة عوائد تجدد لهم الإيمان ، وتستوهب لهم من الله الغفران ، لما بشر به الحديث المأثور عن رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في المصافحة ، فهم يستعملونها اثر الصلوات ، ولا سيما اثر صلاة الصبح وصلاة العصر.

واذا سلم الإمام وفرغ من الدعاء أقبلوا عليه بالمصافحة ، وأقبل بعضهم على بعض يصافح المرء عن يمينه وعن يساره ، فيتفرقون عن مجلس مغفرة ، بفضل الله عزوجل ، وقد تقدم الذكر فيما سلف من هذا التقييد أنهم يستعملونها عند رؤية الأهلة ، ويدعو بعضهم لبعض بتعرف بركة ذلك الشهر ويمنه واستصحاب السعادة والخير فيه وفيما يعود عليه من أمثاله ، وتلك أيضا طريقة حسنة ينفعهم الله بها لما فيها من تعاطي الدعوات وتجديد المودات ، ومصافحة المؤمنين بعضهم بعضا رحمة من الله تعالى ونعمة.

حسن سيرة السلطان

وقد تقدم الذكر أيضا في غير موضع من هذا الكتاب عن حسن سيرة السلطان بهذه الجهات : صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب ، وما له من المآثر المأثورة في الدنيا والدين ، ومثابرته على جهاد أعداء الله ، لأنه ليس أمام هذه البلدة بلدة للاسلام ، والشام أكثره بيد الإفرنج ، فسبب الله هذا السلطان رحمة للمسلمين بهذه الجهات ، فهو لا يأوي لراحة ، ولا يخلد الى دعة ، ولا يزال سرجه مجلسه ؛ انا بهذه البلدة نازلون منذ شهرين اثنين وحللناها وقد خرج لمنازلة حصن الكرك ، وقد تقدم الذكر أيضا له ، وهو عليه محاصر حتى الآن ، والله تعالى يعينه على فتحه. وسمعنا أحد فقهاء هذه البلدة وزعمائها المسلمين بسدة هذا السلطان والحاضرين مجلسه يذكر عنه في حضرة محفل علماء البلد وفقهائه ثلاث مناقب في ثلاث كلمات حكاها عنه رأينا اثباتها هنا : احداها أن الحلم من

٢٤٣

سجاياه ، فقال ، وقد صفح عن جريرة أحد الجناة عليه : أما أنا فلأن أخطىء في العفو أحب الي من أن اصيب في العقوبة. وهذا في الحلم منزع أحنفي. وقال أيضا ، وقد تنوشدت بحضرته الأشعار وجرى ذكر من سلف من أكارم الملوك وأجوادهم : والله لو وهبت الدنيا للقاصد الآمل لما كنت أستكثرها له ، ولو استفرغت له جميع ما في خزانتي لما كان عوضا مما أراقه من حر ماء وجهه في استمناحه اياي. وهذا في الكرم مذهب رشيدي او جعفري.

وحضره أحد مماليكه المتميزين لديه بالحظوة والأثرة مستعديا على جمال ذكر أنه باعه جملا معيبا أو صرف عليه جملا بعيب لم يكن فيه ، فقال السلطان له : ما عسى أن أصنع لك ، وللمسلمين قاض يحكم بينهم ، والحق الشرعي مبسوط للخاصة والعامة ، وأوامره ونواهيه ممتثلة ، وانما أنا عبد الشرع وشحنته ، والشحنة عندهم صاحب الشرطة ، فالحق يقضي لك أو عليك. وهذا في العقد مقصد عمري. وهذه كلمات كفى بها لهذا السلطان فخرا ، والله يمتع ببقائه الإسلام والمسلمين بمنه.

شهر جمادى الآخرة

استهل هلاله ليلة الأحد التاسع من شهر شتنبر العجمي ونحن بدمشق ، حرسها الله ، على قدم الرحلة الى عكة ، فتحها الله والتماس ركوب البحر مع تجار النصارى وفي مراكبهم المعدة لسفر الخريف المعروف عندهم بالصليبية ، عرفنا الله في ذلك معهود خيرته ، وتكفلنا بكلاءته وعصمته ، بعزته وقدرته ، انه سبحانه الحنان المنان ، ولي الطول والاحسان ، لا رب غيره ، وكان انفصالنا منها عشي يوم الخميس الخامس من الشهر المذكور ، وهو الثالث عشر من شهر شتنبر المذكور ، في قافلة كبيرة من التجار المسافرين بالسلع الى عكة.

٢٤٤

من أعجب الأحاديث

ومن أعجب ما يحدث به في الدنيا أن قوافل المسلمين تخرج الى بلاد الافرنج وسبيهم يدخل الى بلاد المسلمين ، شاهدنا من ذلك عند خروجنا أمرا عجيبا ، وذلك أن صلاح الدين عند منازلته حصن الكرك ، المتقدم الذكر في هذا التاريخ ، قصد اليه الافرنج في جميعهم ، وقد تألبوا من كل أوب وراموا أن يسبقوه الى موضع الماء ويقطعوا عنه الميرة من بلاد المسلمين. فصمد لهم وأقلع عن الحصن بجملته وسبقهم الى موضع الماء. فحادوا عن طريقه وسلكوا طريقا وعرا ذهب فيه أكثر دوابهم ، وتوجهوا الى حصن الكرك المذكور ، وقد سد عليهم بنيات الطرق القاصدة الى بلادهم ولم يبق لهم الا طريق عن الحصن يأخذ على الصحراء ويبعد مداه عليهم بتحليق يعترض فيه. فاهتبل صلاح الدين في بلادهم الغرة وانتهز الفرصة وقصد قصدها عن الطريق القاصدة ، فدهم مدينة نابلوس وهجمها بعسكره فاستولى عليها وسبى كل من فيها وأخذ اليها حصونا وضياعا. وامتلأت أيدي المسلمين سبيا لا يحصى عدده من الافرنج ، ومن فرقة من اليهود تعرف بالسمرة منسوبة الى السامري. وانبسط فيهم القتل الذريع ، وحصل المسلمون منها على غنائم يضيق الحصر عنها ، الى ما اكتفت من الأمتعة والذخائر والأسباب والأثاث ، الى النعم والكراع ، الى غير ذلك. وكان من فعل هذا السلطان الموفق أن أطلق أيدي المسلمين على جميع ما احتازته ، وسلم لهم ذلك ، فاحتازت كل يد ما حوت وامتلأت غنى ويسارا. وعفى الجيش على رسوم تلك الجهات التي مر عليها من بلاد الفرنج ، وآبوا غانمين فائزين بالسلامة والغنيمة والاياب ، وتخلصوا من أسرى المسلمين عددا كثيرا ، وكانت غزوة لم يسمع مثلها في البلاد.

وخرجنا نحن من دمشق وأوائل المسلمين قد طرقوا بالغنائم كل بما احتواه وحصلت يده عليه ، وكان مبلغ السبي آلافا لم نتحقق احصاءها ولحق السلطان

٢٤٥

بدمشق يوم السبت بعدنا الاقرب ليوم انفصالنا وأعلمنا أنه يجم عسكره قليلا ويعود الى الحصن المذكور ، فالله يعينه ويفتح عليه بعزته وقدرته. وخرجنا نحن الى بلاد الفرنج وسبيهم يدخل بلاد المسلمين ، وناهيك من هذا الاعتدال في السياسة! فكان مبيتنا ليلة الجمعة بدارية ، وهي قرية من دمشق على مقدار فرسخ ونصف ، ثم رحلنا منها صبيحة يوم الجمعة بعده الى قرية تعرف ببيت جن ، هي بين جبال ، ثم رحلنا منها صبيحة يوم السبت الى مدينة بانياس ، واعترضنا في نصف الطريق شجرة بلوط عظيمة الجرم متسعة التدويح ، أعلمنا أنها تعرف بشجرة الميزان ، فسألنا عن ذلك ، فقيل لنا : هي حد بين الامن والخوف في هذه الطريق لحرامية الافرنج ، وهم الحواسة والقطاع ، من أخذوه وراءها الى جهة بلاد المسلمين ولو بباع أو شبر أسر ، ومن اخذ دونها الى جهة بلاد الافرنج بقدر ذلك أطلق سبيله ، لهم في ذلك عهد يوفون به ، وهو من أظرف الارتباطات الافرنجية وأغربها.

ذكر مدينة بانياس

هذه المدينة ثغر بلاد المسلمين ، وهي صغيرة ، ولها قلعة يستدير بها تحت السور نهر ويقضي الى أحد أبواب المدينة ، وله مصب تحت أرحاء. وكانت بيد الافرنج فاسترجعها نور الدين ، رحمه‌الله. ولها محرث واسع في بطحاء متصلة يشرف عليها حصن للافرنج يسمى هونين ، بينه وبين بانياس مقدار ثلاثة فراسخ. وعمالة تلك البطحاء بين الافرنج والمسلمين ، لهم في ذلك حد يعرف بحد المقاسمة ، فهم يتشاطرون الغلة على استواء ، ومواشيهم مختلطة ، ولا حيف يجري بينهما فيها. فرحلنا عنها عشي يوم السبت المذكور الى قرية تعرف بالمسية بمقربة من حصن الافرنج المذكور فكان مبيتنا بها ، ثم رحلنا منها يوم الاحد سحرا ، واجتزنا في طريقنا بين هونين وتبنين بواد ملتف الشجر ، وأكثر شجره الرند ،

٢٤٦

بعيد العمق كأنه الخندق السحيق المهوى ، تلتقي حافتاه ، ويتعلق بالسماء أعلاه ، يعرف بالاسطيل لو ولجته العساكر لغابت فيه ، لا منجى ولا مجال لسالكه عن يد الطالب فيه ؛ المهبط اليه والمطلع عنه عقبتان كؤودان ، فعجبنا من أمر ذلك المكان. فأجزناه ومشينا عنه يسيرا وانتهينا الى حصن كبير من حصون الافرنج يعرف بتبنين ، وهو موضع تمكيس القوافل ، وصاحبته خنزيرة تعرف بالملكة ، وهي أم الملك الخنزير صاحب عكة ، دمرها الله ، فكان مبيتنا أسفل ذلك الحصن ، ومكس الناس تمكيسا غير مستقصى ، والضريبة فيه دينار وقيراط من الدنانير الصورية على الرأس ، ولا اعتراض على التجار فيه لأنهم يقصدون موضع الملك الملعون ، وهو محل التعشير ، والضريبة فيه قيراط من الدينار ، والدينار أربعة وعشرون قيراطا.

وأكثر المعترضين في هذا المكس المغاربة ، ولا اعتراض على غيرهم من جميع بلاد المسلمين ، وذلك لمقدمة منهم أحفظت الافرنج عليهم ، سببها أن طائفة من أنجادهم غزت مع نور الدين ، رحمه‌الله ، أحد الحصون فكان لهم في أخذه غنى ظهر واشتهر ، فجازاهم الافرنج بهذه الضريبة المكسية ألزموها رؤوسهم ، فكل مغربي يزن على رأسه الدينار المذكور في اختلافه على بلادهم. وقال الافرنج : ان هؤلاء المغاربة كانوا يختلفون على بلادنا ونسالمهم ولا نرزأهم شيئا ، فلما تعرضوا لحربنا وتألبوا مع اخوانهم المسلمين علينا وجب أن نضع هذه الضريبة عليهم ، فللمغاربة في أداء هذا المكس سبب من الذكر الجميل في نكايتهم العدو يسهله عليهم ويخفف عنتهم عنهم.

ورحلنا من تبنين ، دمرها الله ، سحر يوم الاثنين ، وطريقنا كله على ضياع متصلة وعمائر منتظمة ، سكانها كلها مسلمون ، وهم مع الافرنج على حالة ترفيه ، نعوذ بالله من الفتنة ، وذلك أنهم يؤدون لهم نصف الغلة عند أوان ضمها وجزية على كل رأس دينار وخمسة قراريط ولا يعترضونهم في غير ذلك ، ولهم على ثمر الشجر ضريبة خفيفة يؤدونها ايضا. ومساكنهم بأيديهم وجميع أحوالهم

٢٤٧

متروكة لهم. وكل ما بأيدي الافرنج من المدن بساحل الشام على هذه السبيل ، رساتيقهم كلها للمسلمين ، وهي القرى والضياع ، وقد اشربت الفتنة قلوب اكثرهم لما يبصرون عليه اخوانهم من أهل الرساتيق المسلمين وعمالهم ، لانهم على ضد أحوالهم من الترفيه والرفق. وهذه من الفجائع الطارئة على المسلمين : أن يشتكي الصنف الاسلامي جور صنفه المالك له ، ويحمد سيرة ضده وعدوه المالك له من الافرنج ، ويأنس بعدله ، فالى الله المشتكى من هذه الحال ، وحسبنا تعزية وتسلية ما جاء في الكتاب العزيز : «ان هي الا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء».

فنزلنا يوم الاثنين المذكور بضيعة من ضياع عكة ، على مقدار فرسخ ، ورئيسها الناظر فيها من المسلمين مقدم من جهة الافرنج على من فيها من عمارها من المسلمين. فأضاف جميع أهل القافلة ضيافة حفيلة وأحضرهم صغيرا وكبيرا في غرفة متسعة بمنزله وأنالهم ألوانا من الطعام قدمها لهم ، فعمهم بتكرمته. وكنا فيمن حضر هذه الدعوة.

وبتنا تلك الليلة وصبحنا يوم الثلاثاء العاشر من الشهر المذكور ، وهو الثامن عشر لشتنبر ، مدينة عكة ، دمرها الله ، وحملنا الى الديوان ، وهو خان معد لنزول القافلة ، وأمام بابه مصاطب مفروشة فيها كتاب الديوان من النصارى بمحابر الآبنوس المذهبة الحلى ، وهم يكتبون بالعربية ويتكلمون بها ، ورئيسهم صاحب الديوان والضامن له يعرف بالصاحب ، لقب وقع عليه لمكانه من الخطة ، وهم يعرفون به كل محتشم متعين عندهم من غير الجند. وكل ما يجبى عندهم راجع الى الضمان ، وضمان هذا الديوان بمال عظيم. فأنزل التجار رحالهم به ونزلوا في أعلاه ، وطلب رحل من لا سلعة له لئلا يحتوي على سلعة مخبؤءة فيه وأطلق سبيله فنزل حيث شاء. وكل ذلك برفق وتؤدة دون تعنيف ولا حمل. فنزلنا بها في بيت اكتريناه من نصرانية بإزاء البحر ، وسألنا الله تعالى حسن الخلاص وتيسير السلامة.

٢٤٨

ذكر مدينة عكه دمرها الله وأعادها

هي قاعدة مدن الافرنج بالشام ، ومحط الجواري المنشآت في البحر كالأعلام ، مرفأ كل سفينة ، والمشبهة في عظمها بالقسطنطينية ، مجتمع السفن والرفاق ، وملتقى تجار المسلمين والنصارى من جميع الآفاق ، سككها وشوارعها تغص بالزحام ، وتضيق فيها مواطئ الأقدام ، تستعر كفرا وطغيانا ، وتفور خنازير وصلبانا ، زفرة قذرة ، مملوءة كلها رجسا وعذرة. انتزعها الافرنج من أيدي المسلمين في العشر الاول من المئة السادسة ، فبكى لها الاسلام ملء جفونه ، وكانت احد شجونه. فعادت مساجدها كنائس ، وصوامعها مضارب للنواقيس ، وطهر الله من مسجدها الجامع بقعة بقيت بأيدي المسلمين مسجدا صغيرا ، يجمع الغرباء منهم فيه لإقامة فريضة الصلاة. وعند محرابه قبر صالح النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى جميع الأنبياء ، فحرس الله هذه البقعة من رجس الكفرة ببركة هذا القبر المقدس.

وفي شرقي البلدة العين المعروفة بعين البقر ، وهي التي أخرج الله منها البقر لآدم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمهبط لهذه العين على ادراج وطية ، وعليها مسجد بقي محرابه على حاله ، ووضع الافرنج في شرقيه محرابا لهم. فالمسلم والكافر يجتمعان فيه ، يستقبل هذا مصلاه وهذا مصلاه. وهو بأيدي النصارى معظم محفوظ ، وأبقى الله فيه موضع الصلاة للمسلمين.

فكان مقامنا بها يومين ، ثم توجهنا الى صور يوم الخميس الثاني عشر لجمادى المذكورة ، ، والموفي عشرين لشتنبر المذكور على البر ، واجتزنا في طريقنا على حصن كبير يعرف بالزاب ، وهي مطلة على قرى وعمائر متصلة وعلى قرية مسوّرة تعرف باسكندرونة ، وذلك لمطالعة مركب بها أعلمنا أنه يتوجه الى بجاية طمعا في الركوب فيه ، فحللناها عشي يوم الخميس المذكور ، لأن المسافة بين المدينتين نحو الثلاثين ميلا ، فنزلنا بها في خان معد لنزول المسلمين.

٢٤٩

ذكر مدينة صور دمرها الله تعالى

مدينة يضرب بها المثل في الحصانة ، لا تلقى لطالبها بيد طاعة ولا استكانة ، قد أعدّها الإفرنج مفزعا لحادثة زمانهم ، وجعلوها مثابة لأمانهم ، هي أنظف من عكة سككا وشوارع ، وأهلها ألين في الكفر طبائع ، واجرى الى برّ غرباء المسلمين شمائل ومنازع ، فخلائقهم أسجح ، ومنازلهم أوسع وافسح ، وأحوال المسلمين بها أهون واسكن ، وعكة أكبر وأطغى وأكفر.

وأما حصانتها ومناعتها فأعجب ما يحدث به ، وذلك أنها راجعة الى بابين : أحدهما في البر ، والآخر في البحر ، وهو يحيط بها الا من جهة واحدة ، فالذي في البر يفضى اليه بعد ولوج ثلاثة أبواب أو أربعة ، كلها في ستائر مشيدة محيطة بالباب ، واما الذي في البحر فهو مدخل بين برجين مشيدين الى ميناء ليس في البلاد البحرية أعجب وضعا منها ، يحيط بها سور المدينة من ثلاثة جوانب ويحدق بها من الجانب الآخر جدار معقود بالجص. فالسفن تدخل تحت السور وترسو فيها ، وتعترض بين البرجين المذكورين سلسلة عظيمة تمنع عند اعتراضها الداخل والخارج ، فلا مجال للمراكب الا عند ازالتها. وعلى ذلك الباب حرّاس وأمناء ، لا يدخل الداخل ولا يخرج الخارج الا على أعينهم ، فشأن هذه الميناء شأن عجيب في حسن الوضع ، ولعكة مثلها في الوضع والصفة لكنها لا تحمل السفن الكبار حمل تلك وانما ترسو خارجها والمراكب الصغار تدخل اليها ، فالصورية اكمل وأجمل وأحفل.

فكان مقامنا بها أحد عشر يوما ، دخلناها يوم الخميس وخرجنا منها يوم الأحد الثاني والعشرين لجمادى المذكورة ، وهو آخر يوم من شتنبر ، وذلك أن المركب الذي كنا أملنا الركوب فيه استصغرناه فلم نر الركوب فيه.

٢٥٠

عرس افرنجي في صور

ومن مشاهد زخارف الدنيا المحدث بها زفاف عروس شاهدناه بصور في أحد الأيام عند مينائها ، وقد احتفل لذلك جميع النصارى رجالا ونساء ، واصطفوا سماطين عند باب العروس المهداة ، والبوقات تضرب والمزامير وجميع الآلات اللهوية ، حتى خرجت تتهادى بين رجلين يمسكانها من يمين وشمال ، كأنهما من ذوي ارحامها ، وهي في ابهى زيّ ، وافخر لباس ، تسحب أذيال الحرير المذهب سحبا على الهيئة المعهودة من لباسهم ، وعلى رأسها عصابة ذهب قد حفت بشبكة ذهب منسوجة ، وعلى لبتها مثل ذلك منتظم ، وهي رافلة في حليها وحللها ، تمشي فترا في فتر مشي الحمامة أو سير الغمامة ، نعوذ بالله من فتنة المناظر ، وأمامها جلة رجالها من النصارى في أفخر ملابسهم البهية ، تسحب أذيالها خلفهم ، ووراءها أكفاءها ونظراؤها من النصرانيات يتهادين في أنفس الملابس ويرفلن في أرفل الحلى ، والآلات اللهوية قد تقدمتهم ، والمسلمون وسائر النصارى من النظار قد عادوا في طريقهم سماطين يتطلعون فيهم ولا ينكرون عليهم ذلك ، فساروا بها حتى أدخلوها دار بعلها ، واقاموا يومهم ذلك في وليمة. فأدّانا الاتفاق الى رؤية هذا المنظر الزخرفيّ المستعاذ بالله من الفتنة فيه.

مسلمو عكة

ثم عدنا الى عكة في البحر ، وحللناها صبيحة يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى المذكورة ، وأول يوم من شهر أكتوبر ، واكترينا في مركب كبير نروم الاقلاع الى مسينة من بلاد جزيرة صقيلة ، والله تعالى كفيل بالتيسير والتسهيل بعزّته وقدرته. وكانت راحتنا مدة مقامنا بصور بمسجد بقي بأيدي

٢٥١

المسلمين. ولهم فيها مساجد أخر. فأعلمنا به أحد أشياخ أهل صور من المسلمين أنها أخذت منهم سنة ثماني عشرة وخمس مئة ، وأخذت عكة قبلها باثنتي عشرة سنة بعد محاصرة طويلة وبعد استيلاء المسغبة عليهم ؛ ذكر لنا انهم انتهوا منها لحال نعوذ بالله منها ، وأنهم حملتهم الأنفة على أن هموا بركوب خطة عصمهم الله منها ، وذلك أنهم عزموا على أن يجمعوا أهاليهم وابناءهم في المسجد الجامع ويحملوا السيف عليهم غيرة من تملك النصارى لهم ثم يخرجوا الى عدوّهم بعزمة نافذة ويصدموهم صدمة صادقة حتى يموتوا على دم واحد ويقضي الله قضاءه.

فمنعهم من ذلك فقهاؤهم والمتورعون منهم وأجمعوا على دفع البلد والخروج منه بسلام. فكان ذلك ، وتفرقوا في بلاد المسلمين. ومنهم من استهواه حب الوطن فدعاه الى الرجوع والسكنى بينهم بعد أمان كتب لهم في ذلك بشروط اشترطوها ، والله غالب على أمره ، سبحانه جلت قدرته ، ونفذت في البرية مشيئته ، وليست له عند الله معذرة في حلول بلدة من بلاد الكفر الا مجتازا ، وهو يجد مندوحة في بلاد المسلمين ، لمشقات وأهوال يعانيها في بلادهم : منها الذلة والمسكنة الذميمة ؛ ومنها سماع ما يفجع الأفئدة من ذكر من قدس الله ذكره ، وأعلى خطره ، لا سيما من أراذلهم وأسافلهم ؛ ومنها عدم الطهارة ، والتصرف بين الخنازير ، وجميع المحرّمات ؛ الى غير ذلك مما لا ينحصر ذكره ولا تعداده ، فالحذر الحذر من دخول بلادهم ، والله تعالى المسؤول حسن الإقالة والمغفرة من هذه الخطيئة التي زلت فيها القدم ، ولم تتداركها الا بعد موافقة الندم ، فهو سبحانه وليّ ذلك ، لا رب غيره.

أسرى المسلمين

ومن الفجائع التي يعاينها من حلّ بلادهم اسرى المسلمين ، يرسفون في القيود ، ويصرفون في الخدمة الشاقة تصريف العبيد ، والأسيرات المسلمات كذلك ، في

٢٥٢

أسواقهم خلاخيل الحديد ، فتنفطر لهم الأفئدة ولا يغني الإشفاق عنهم شيئا.

ومن جميل صنع الله تعالى لأسرى المغاربة ، بهذه البلاد الشامية الإفرنجية ، أن كل من يخرج من ماله وصية من المسلمين بهذه الجهات الشامية وسواها إنما يعيّنها في افتكاك المغاربة خاصة لبعدهم عن بلادهم وانهم لا مخلص لهم سوى ذلك بعد الله عزوجل ، فهم الغرباء المنقطعون عن بلادهم. فملوك أهل هذه الجهات من المسلمين والخواتين من النساء وأهل اليسار والثراء إنما ينفقون أموالهم في هذه السبيل. وقد كان نور الدين ، رحمه‌الله ، نذر في مرضة اصابته تفريق اثني عشر الف دينار في فداء أسرى من المغاربة ، فلما استبل من مرضه أرسل في فدائهم ، فسيق فيهم نفر ليسوا من المغاربة ، وكانوا من حماة من جملة عمالته ، فأمر بصرفهم واخرج عوض عنهم من المغاربة ، وقال : هؤلاء يفتكّهم أهلوهم وجيرانهم ، والمغاربة غرباء لا أهل لهم. فانظر الى لطيف صنع الله تعالى لهذا الصنف المغربي.

وقيض الله لهم بدمشق رجلين من مياسر التجار وكبرائهم وأغنيائهم المنغمسين في الثراء : أحدهما يعرف بنصر بن قوام ، والثاني بابي الدّر ياقوت مولى العطافي ، وتجارتهما كلها بهذا الساحل الإفرنجي ، ولا ذكر فيه لسواهما ، ولهما الأمناء من المقارضين ، فالقوافل صادرة وواردة ببضائعهما ، وشأنهما في الغنى كبير ، وقدرهما عند أمراء المسلمين والإفرنجيين خطير ، وقد نصبهما الله عزوجل لافتكاك الأسرى المغربيين بأموالهما واموال ذوي الوصايا ، لأنهما المقصودان بها لما قد اشتهر من امانتهما وثقتهما وبذلهما أموالهما في هذه السبيل فلا يكاد مغربي يخلص من الأسر الا على ايديهما فهما طول الدهر بهذه السبيل ينفقان أموالهما ويبذلان اجتهادهما في تخليص عباد الله المسلمين من أيدي أعداء الله الكافرين ، والله تعالى لا يضيع أجر المحسنين.

سوء الاتفاق

ومن سوء الاتفاقات ، المستعاذ بالله من شرها ، أنه صحبنا في طريقنا الى عكة

٢٥٣

من دمشق رجل مغربي من بونة عمل بجاية ، كان أسيرا فتخلص على يدي أبي الدّر المذكور وبقي في جملة صبيانه ، فوصل في قافلته الى عكة ، وكان قد صحب النصارى وتخلق بكثير من أخلاقهم ، فما زال الشيطان يستهويه ويغريه الى ان نبذ دين الإسلام فكفر وتنصّر مدة مقامنا بصور. فانصرفنا الى عكة ، وأعلمنا بخبره ، وهو بها قد بطس ورجس ، وقد عقد الزنار ، واستعجل النار ، وحقت عليه كلمة العذاب ، وتأهب لسوء الحساب ، وسحيق المآب ، نسأل الله عزوجل أن يثبتنا بالقول الثابت في الدنيا والآخرة ، ولا يعدل بنا عن الملة الحنفية ، وان يتوفانا مسلمين ، بفضله ورحمته.

وهذا الخنزير صاحب عكة ، المسمى عندهم بالملك ، محجوب لا يظهر ، وقد ابتلاه الله بالجذام ، فعجل له سوء الانتقام ، وقد شغلته بلواه في صباه ، عن نعيم دنياه ، فهو فيها يشقى ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى. وحاجبه وصاحب الحال عوضه خاله القومس ، وهو صاحب المجبى ، واليه ترتفع الأموال ، والمشرف على الجميع بالمكانة والوجاهة ، وكبر الشأن في الإفرنجية اللعينة ، القومس اللعين ، صاحب طرابلس وطبرية ، وهو ذو قدر ومنزلة عند الإفرنج ، وهو المؤهل للملك والمرشح له ، وهو موصوف بالدهاء والمكر. وكان أسيرا عند نور الدين نحو اثنتي عشرة سنة أو أزيد ، ثم تخلص بمال عظيم بذل في نفسه مدة صلاح الدين وعند اول ولايته ، وهو معترف لصلاح الدين بالعبودية والعتق.

وعلى بادية طبرية اختلاف القوافل من دمشق لسهولة طريقها ، ويقصد بقوافل البغال على تبنين لوعورتها وقصد طريقها ، وبحيرة طبرية مشهورة ، وهي ماء عذب ، وسعتها نحو ثلاثة فراسخ أو أربعة ، وطولها نحو ستة فراسخ. والأقوال فيها تختلف ، وهذا القول أقربها الى الصحة ، لأنا لم نعاينها ، وعرضها أيضا مختلف سعة وضيقا. وفيها قبور كثيرة من قبور الأنبياء ، صلوات الله عليهم ، كشعيب وسليمان ويهوذا وروبيل وابنة شعيب زوج الكليم موسى وغيرهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وجبل الطور منها قريب.

٢٥٤

وبين عكة وبيت المقدس ثلاثة أيام. وبين دمشق وبينه مقدار ثمانية أيام ، وهو بين المغرب والقبلة من عكة الى جهة الإسكندرية ، والله يعيده الى أيدي المسلمين ، ويطهره من أيدي المشركين ، بعزته وقدرته.

عكة وصور

وهاتان المدينتان ، عكة وصور ، لا بساتين حولهما ، وانما هما في بسيط من الأرض أفيح متصل بسيف البحر ، والفواكه تجلب اليهما من بساتينهما التي بالقرب منهما ، ولهما عمالة متسعة ، والجبال التي تقرب منهما معمورة بالضياع ، ومنها تجبى الثمرات اليهما. وهما من غر البلاد. ولعكة في الشرق منها ، مع آخر البلد ، واد يسيل ماء. ولها مع شاطئه مما يتصل بالبحر بسيط رمل لم ير أجمل منه منظرا ولا ميدان للخيل يشبهه ، واليه ركوب صاحب البلد كل بكرة وعشية ، وبه يجتمع العسكر ، دمره الله. ولصور عند بابها البري عين معينة ينحدر اليها على أدراج. والآبار والجباب بها كثيرة لا تخلو دار منها ، والله تعالى يعيد اليها والى اخواتها كلمة الإسلام بمنه وكرمه.

في المركب الشراعي

وفي يوم السبت الثامن والعشرين لجمادى المذكورة ، والسادس لأكتوبر ، صعدنا الى المركب ، وهو سفينة من السفن الكبار ، بمنة الله على المسلمين بالماء والزاد ، وحاز المسلمون مواضعهم بانفراد عن الإفرنج. وصعده من النصارى المعروفين بالبلغريين ، وهم حجاج بيت المقدس ، عالم لا يحصى ينتهي الى أزيد من ألفي انسان ، أراح الله من صحبتهم بعاجل السلامة ومأمول التسهيل

٢٥٥

والصنع الجميل بمنه وكرمه ، لا معبود سواه. ونحن به منتظرون موافقة الريح وكمال الوسق ، بمشيئة الله عزوجل.

شهر رجب الفرد

استهل هلاله ليلة الثلاثاء ، بموافقة التاسع لشهر اكتوبر ، ونحن على ظهر المركب بمرسى عكة منتظرون كمال وسقه والاقلاع باسم الله تعالى وبركته وجميل صنعه وكريم مشيئته. وتمادى مقامنا فيه مدة اثني عشر يوما لعدم استقامة الريح.

وفي مهب الريح بهذه الجهات سر عجيب ، وذلك أن الريح الشرقية لا تهب فيها الا في فصلي الربيع والخريف ، والسفر لا يكون الا فيهما ، والتجار لا ينزلون الى عكة بالبضائع الا في هذين الفصلين. والسفر في الفصل الربيعي من نصف أبريل ، وفيه تتحرّك ريح الشرقية وتطول مدتها الى آخر شهر مايه ، واكثر واقل بحسب ما يقضي الله تعالى به. والسفر في الفصل الخريفي من نصف أكتوبر ، وفيه تتحرك الريح الشرقية ، ومدتها أقصر من المدة الربيعية ، وانما هي عندهم خلسة من الزمان قد تكون خمسة عشر يوما وأكثر واقل. وما سوى ذلك من الزمان فالرياح فيه تختلف ، والريح الغربية أكثرها دواما. فالمسافرون الى المغرب والى صقلية والى بلاد الروم ينتظرون هذه الريح الشرقية في هذين الفصلين انتظار وعد صادق ، فسبحان المبدع في حكمته ، المعجز في قدرته ، لا اله سواه.

وكنا طول هذه المدة التى أقمنا فيها على ظهر المركب نبيت في البر ونتفقد المركب في الأحيان. فلما كان سحر يوم الخميس العاشر لرجب المذكور ، والثامن عشر لأكتوبر ، أقلع المركب ، وكنا على عادتنا في البر بائتين ، ولم يحسن النهار

٢٥٦

للروم بأهبة السفر ، فضيعنا الحزم ونسينا المثل المضروب في اعداد الماء والزاد وان لا يفارق الانسان رحله. فاصبحنا والمركب لا عين له ولا أثر ، فاكترينا للحين زورقا كبيرا له أربعة مجاذيف وأقلعنا نتبعه ، وكانت مخاطرة عصم الله منها : فأدركنا المركب مع العشي ، فحمدنا الله عزوجل على ما منّ به ، وكان أول ذلك اليوم يوم شدتنا في هذا السفر الطويل ، وآخره والحمد لله يوم فرجنا ، ولله الحمد والشكر على كل حال.

واتصل جرينا والريح الموافقة تأخذ وتدع نحو خمسة أيام ، ثم هبت علينا الريح الغربية من مكمنها دافعة في وجه المركب ، فأخذ رئيسه ومدبره الرومي الجنوي ، وكان بصيرا بصنعته ، حاذقا في شغل الرياسة البحرية ، يراوغها تارة يمينا وتارة شمالا طمعا أن لا يرجع على عقبه ، والبحر في أثناء ذلك رهو ساكن ، فلما كان نصف الليل ، أو قريب منه ، ليلة السبت التاسع عشر لرجب المذكور ، والسابع والعشرين لأكتوبر ، ترددت علينا الريح الغربية فقصفت قرية الصاري المعروف بالأردمون والقت نصفها في البحر مع ما اتصل بها من الشراع ، وعصم الله من وقوعها في المركب ، لأنها كانت تشبه الصواري عظما وضخامة ، فتبادر البحريون اليها ، وحط شراع الصاري الكبير ، وعطل المركب من جريه ، وصيح بالبحريين الملازمين للعشاري المرتبط بالمركب ، فقصدوا الى نصف الخشبة الواقعة في البحر وأخرجوها مع الشراع المرتبط بها ، وحصلنا في أمر لا يعلمه الا الله تعالى ، وشرعوا في رفع الشراع الكبير ، وأقاموا في الأردمون شراعا يعرف بالدلون ، وبتنا بليلة شهباء ، الى ان وضح الصباح ، وقد من الله عزوجل بالسلامة.

وشرع البحريون في إصلاح قرية أخرى من خشبة كانت معدة عندهم ، والريح الغربية على أول لجاجها ، ونحن بين اليأس والرجاء نتردد مغلبين حسن الثقة بجميل صنع الله تعالى وحفي لطفه ، ومعهود فضله ، سبحانه ، هو أهل ذلك ، جلت قدرته ، وتناهت عظمته ، لا اله سواه.

وفي يوم الاربعاء الثالث والعشرين منه تحركت الريح الشرقية نسيما فاترا عليلا ، فاستبشرت النفوس بها رجاء في نمائها وقوتها ، فكانت نفسا خافتا ، ثم بعد ذلك غشى البحر ضباب رقيق سكنت له أمواجه فعاد كأنه صرح ممرد من

٢٥٧

قوارير ولم يبق للجهات الأربع نفس يتنسم ، فبقينا لاعبين على صفحة ماء ، تخاله العين سبيكة لجين ، كأنا نجول بين سماءين. وهذا الهواء الذي يسميه البحريون الغليني.

وفي ليلة الخميس الرابع والعشرين لرجب المذكور ، وهو أول يوم من نونبر العجمي ، كان للنصارى عيد مذكور عندهم احتفلوا له في إسراج الشمع ، وكاد لا يخلوا أحد منهم ، صغيرا أو كبيرا ، ذكرا أو أنثى ، من شمعة في يده ، وتقدم قسيسوهم للصلاة في المركب بهم ، ثم قاموا واحدا واحدا لوعظهم وتذكيرهم بشرائع دينهم ، والمركب يزهر كله أعلاه وأسفله سرجا متقدة ، وتمادينا على تلك الحالة اكثر تلك الليلة ، ثم اصبحنا بمثل ذلك الهواء الساكن ، واتصل بنا ذلك الى ليلة الأحد السابع والعشرين منه ، فتحركت ريح شمالية ، فعاد المركب بها لحريته واستبشرت النفوس ، والحمد لله.

شهر شعبان المكرم

غم هلاله علينا ، فأكملنا عدة أيام رجب ، فهو على الكمال من ليلة الخميس ، بموافقة الثامن من نونبر ، وقد تم لنا على ظهر البحر ، ومن يوم إقلاعنا من عكة اثنان وعشرون يوما حتى عدمنا الأنس ، واستشعرنا القنط واليأس ، وصنع الله عزوجل مأمول ، ولطفه الحفي بنا كفيل بمنه وكرمه. وقل الزاد بأيدي الناس ، لكن هم من هذا المركب بمنة الله ، في مدينة جامعة للمرافق ، فكل ما يحتاج شراؤه يوجد ، من خبز ، وماء ، ومن جميع الفواكه والأدم ، كالرمان والسفرجل والبطيخ السندي والكمثرى والشاه بلوط والجوز والحمص والباقلاء نيا ومطبوخا والبصل والثوم والتين والجبن والحوت ، وغير ذلك مما يطول ذكره ؛ عاينا جميع ذلك يباع. وفي خلال هذه الايام كلها لم يظهر لنا بر ، والله يأتي بالفرج القريب.

ومات فيه رجلان من المسلمين ، رحمهما‌الله ، فقذفا في البحر ، ومن البلغريين اثنان أيضا ، ومات منهم بعد ذلك خلق كثير ، وسقط منهم واحد في البحر حيّا ، فاحتمله الموج أسرع من خطفة البارق ، وورث هؤلاء الأموات

٢٥٨

من المسلمين والنصارى البلغريين رئيس المركب ، لأنها سنة عندهم في كل من يموت في البحر ، ولا سبيل لوارث الميت الى ميراثه. فطال عجبا من ذلك.

وفي سحر يوم الثلاثاء السادس من الشهر المؤرخ ، والثالث عشر من نونبر ، ظهرت لنا جبال في البحر ، وقد اشتدت الريح الغربية ، وتوالى اعصارها ، وكانت تتقلب بالقبول والدبور. فألجأتنا الى أحد تلك الجبال ، فأرسينا عنده. وسألنا عن الموضع ، فأعلمنا أنه من جزائر الرمانية. وهذه الجزائر تنيف على الثلاث مئة وخمسين جزيرة ، وهي الى عمل صاحب القسطنطينية ، والروم يحذرون أهلها كحذر المسلمين ، لأنهم لا صلح بينهم ، فأقمنا بذلك المرسى يوم الثلاثاء المذكور وصدر يوم الاربعاء بعده. ونزل من تلك الجزيرة قوم بايعوا أهل المركب بعض ساعة من النهار في الخبز واللحم بعد أمان أخذوه.

ثم أقلعنا يوم الأربعاء المذكور ، وقد تم لنا على ظهر المركب ثمانية وعشرون يوما ، وظهر لنا يوم الخميس بعده بر جزيرة أقريطش ، وهذه الجزيرة أيضا لعمل صاحب القسطنطينية ، وطولها ينيف على الثلاث مئة ميل ، وقد تقدم ذكرها في سفرنا البحري الى الإسكندرية ، فبقينا نجري بطولها وهي منّا على اليمين ، والبحر في أثناء ذلك كله هائل ، والريح لا توافق ، ونحن ننتظر الفرج من الله عزوجل بصبر جميل ، ونرتقب منه جل جلاله معهود التيسير والتسهيل بمنه ولطفه.

ثورة الريح الشمالية

وفي يوم السبت العاشر لشعبان المذكور ، والسابع عشر لنونبر ، انقطع عنا بر الجزيرة المذكورة ، ونحن نجري بريح شمالية موافقة ، فذئرت وعصفت فطار لها المركب بجناحي شراعه ، والبحر بها قد جن واستشرى لجاجه ، وقذفت بالزبد أمواجه ، فتخال غواربه المتموجة جبالا مثلجة ، ومع تلك استشعرت النفوس الأنس ، وغلب رجاؤها اليأس ، وقد كنا مدة الستة وعشرون يوما المذكورة ، التي لم يظهر لنا فيها بر ، نرجم الظنون ، ونغازل المنون ، حذرا من نفاد الزاد والماء ، والحصول بين المهلكين الجوع والظماء ، فمن قائل يقول :

٢٥٩

انا قد ملنا في جرينا الى بر المغرب ، وهو بر افريقية ، وآخر يزعم : أنا قد ملنا الى بر الأرض الكبيرة ، بر القسطنطينية وما يليها ، ومنهم من يقوا : الى اللاذقية جهة الشام ، ومنهم من يقول : الى دمياط بر الاسكندرية. وكنا نحذر أن تلجئنا الريح الى احدى جزائر الرمانية الخالية ، فنشتو فيها ، أو تضطرنا الحال الى المعمور منها. وليس في هذه الوجوه المتوقعة كلها وجه فيه حظ لمختار ، حتى أتى الله بالفرج ، وأذهب الباس والياس ، ومكن في النفوس الإيناس ، بعد مكابدة الأمرين ، ومقاساة البرحين ، فلله در القائل :

البحر مرّ المذاق صعب

لا جعلت حاجتي اليه

أليس ماء ونحن طين

فما عسى صبرنا عليه

ونحن الآن بفضل الله تعالى نتطلع البشرى بطهور بر صقلية ، ان شاء الله.

الرياح العاصفة الغربية

وفي النصف من ليلة الأحد الحادي عشر منه انقلبت الريح غربية ، وكشف النوء من الغرب ، وجاءت الريح عاصفة فأخذت بنا جهة الشمال. وأصبحنا يوم الأحد المذكور والهول يزيد ، والبحر قد هاج هائجه ، وماج مائجه ، فرمى بموج كالجبال ، يصدم المركب صدمات يتقلب لها على عظمه تقلب الغصن الرطيب ، وكان كالسور علوا فيرتفع له الموج ارتفاعا يرمي في وسطه بشآبيب كالوابل المنكسب. فلما جن الليل اشتد تلاطمه ، وصكت الآذان غماغمه ، واستشرى عصوف الريح. فحطت الشرع ، واقتصر على الدلالين الصغار دون انصاف الصواري. ووقع اليأس من الدنيا ، وودعنا الحياة بسلام ؛ وجاءنا الموج من كل مكان ، وظننا أنا قد أحيط بنا ، فيا لها ليلة يشيب لها سود الذوائب ، مذكورة في ليالي الشوائب ، مقدمة في تعداد الحوادث والنوائب! ونحن منها في مثل ليل صول طولا ، فأصبحنا ولم نكد. فكان من الاتفاقات الموحشة أن أبصرنا بر إقريطش عن يسارنا ، وجباله قد قامت أمامنا ، وكنا قد خلفناه عن يميننا ، فأسقطتنا الريح عن مجرانا ، ونحن نظن أنا قد جزناه. فسقط في أيدينا ، وخالفنا المجرى المعهود الميمون ، وهو أن يكون البر المذكور منا يمينا ، في استقبال صقلية. فاستسلمنا للقدر ، وتجرعنا غصص هذا الكدر ، وقلنا :

٢٦٠