رحلة ابن جبير

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي

رحلة ابن جبير

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

منها كالدار الكبيرة محدقة بالبيوت الخلائية ، والماء يجري في كل بيت منها. وبطول صحنها حوض من الحجر مستطيل تصب فيه عدة أنابيب منتظمة بطوله. واحدى هذه السقايات في دهليز باب جيرون ، وهي أكبرها وفيها من البيوت ما ينيف على الثلاثين ، وفيها زائدا على السقاية المستطيلة مع جدارها حوضان كبيران مستديران يكادان يمسكان لسعتهما عرض الدار المحتوية على هذه السقاية ، والواحد بعيد من الآخر ، ودور كل واحد منهما نحو الأربعين شبرا ، والماء نابع فيهما. والثانية في دهليز باب الناطفيين بإزاء المعلمين ، والثالثة عن يسار الخارج من باب البريد ، والرابعة عن يمين الخارج من باب الزيادة. وهذه ايضا من المرافق العظيمة للغرباء وسواهم. والبلد كله سقايات قلما تخلو سكة من سككه أو سوق من أسواقه ، من سقاية ، والمرافق به أكثر من أن توصف ، والله يبقيه دار اسلام بقدرته.

مشاهده المكرمة وآثره المعظمة

فاولها مشهد رأس يحيى بن زكرياء ، عليه‌السلام ، وهو مدفون بالجامع المكرم في البلاط القبلي قبالة الركن الأيمن من المقصورة الصحابية ، رضي‌الله‌عنهم ، وعليه تابوت خشب معترض من الأسطوانة ، وفوقه قنديل كأنه من بلور مجوف ، كأنه القدح الكبير ، لا يدرى أمن زجاج عراقي أم صوري هو أم من غير ذلك. ومولد ابراهيم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى نبينا الكريم ، وهو بصفح جبل قاسيون عند قرية تعرف ببرزة ، وهي من أجمل القرى ، وهذا الجبل مشهور بالبركة في القديم لأنه مصعد الأنبياء ، صلوات الله عليهم ، ومطلعهم ، وهو في الجهة الشمالية من البلد وعلى مقدار فرسخ ، وهذا المولد المبارك غار مستطيل ضيق ، وقد بني عليه مسجد كبير مرتفع مقسم على مساجد كثيرة كالغرف المطلة ، وعليه صومعة عالية ، ومن ذلك الغار رأى ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الكوكب

٢٢١

ثم القمر ثم الشمس ، حسبما ذكره الله تعالى في كتابه عزوجل ، وفي ظهر الغار مقامه الذي كان يخرج اليه ، وهذا كله ذكره الحافظ محدث الشام أبو القاسم بن هبة الله بن عساكر الدمشقي في تاريخه في أخبار دمشق ، وهو ينيف على مئة مجلد. وذكر أيضا أن بين باب الفراديس ، وهو أحد أبواب البلد ، وفي الجهة الشمالية من الجامع المبارك ، على مقربة منه الى جبل قاسيون ، مدفن سبعين ألف نبي ، وقيل : سبعون ألف شهيد ، وأن الأنبياء المدفونين به سبع مئة نبي ، والله أعلم.

وخارج هذا البلد الجبانة العتيقة ، وهي مدفن الأنبياء والصالحين ، وبركتها شهيرة. وفي طرفها مما يلي البساتين وهدة من الأرض متصلة بالجبانة ، ذكر انها مدفن سبعين نبيا ، وعصمها الله ونزهها من أن يدفن فيها أحد ، والقبور محيطة بها ، وهي لا تخلو من الماء حتى عادت قرارة له ، كل ذلك تنزيه من الله تعالى لها.

ويجبل قاسيون أيضا لجهة الغرب ، على مقدار ميل أو أزيد من المولد المبارك ، مغارة تعرف بمغارة الدم ، لأن فوقها في الجبل دم هابيل قتيل أخيه قابيل ابني آدم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يتصل من نحو نصف الجبل الى المغارة ، وقد أبقى الله منه في الجبل آثارا حمرا في الحجارة تحك فتستحيل ، وهي كالطريق في الجبل ، وتنقطع عند المغارة ، وليس يوجد في النصف الأعلى من المغارة آثار تشبهها ، فكان يقال : انها لون حجارة الجبل ، وانما هي من الموضع الذي جر منه القاتل لأخيه حيث قتله حتى انتهى الى المغارة ، وهي من آيات الله تعالى ، وآياته لا تحصى.

وقرأنا في تاريخ ابن المعلى الأسدي أن تلك المغارة صلى فيها ابراهيم وموسى وعيسى ولوط وأيوب ، عليهم وعلى نبينا الكريم أفضل الصلاة والسلام. وعليها مسجد قد أتقن بناؤه ، ويصعد اليه على أدراج ، وهو كالغرفة المستديرة ، وحولها أعواد مشرجبة مطيفة بها ، وبه بيوت ومرافق للسكنى. وهو يفتح

٢٢٢

كل يوم خميس والسرج من الشمع والفتائل تقد في المغارة ، وهي متسعة. وفي أعلى الجبل كهف منسوب لآدم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليه بناء ، وهو موضع مبارك. وتحته في حضيض الجبل مغارة تعرف بمغارة الجوع ، ذكر أن سبعين نبيا ماتوا فيها جوعا ، وكان عندهم رغيف فلم يزل كل واحد منهم يؤثر به صاحبه ويدور عليهم من يد الى يد حتى لحقتهم المنية ، صلوات الله عليهم. وعلى هذه المغارة أيضا مسجد مبني ، وأبصرنا فيه السرج تقد نهارا.

ولكل مشهد من هذه المشاهد أوقاف معينة من بساتين وأرض بيضاء ورباع ، حتى ان البلد تكاد الأوقاف تستغرق جميع ما فيه. وكل مسجد يستحدث بناؤه أو مدرسة أو خانقة يعين لها السلطان أوقافا تقوم بها وبساكنيها والملتزمين لها وهذه ايضا من المفاخر المخلدة. ومن النساء الخواتين ذوات الأقدار من تأمر ببناء مسجد أو رباط أو مدرسة وتنفق فيها الأموال الواسعة وتعين لها من مالها الأوقاف. ومن الأمراء من يفعل مثل ذلك ، لهم في هذه الطريقة المباركة مسارعة مشكورة عند الله عزوجل.

وبآخر هذا الجبل المذكور ، في آخر البسيط البستاني الغربي من هذا البلد ، الربوة المباركة المذكورة في كتاب الله تعالى : مأوى المسيح وأمه ، صلوات الله عليهما ، وهي من أبدع مناظر الدنيا حسنا وجمالا واشراقا واتقان بناء واحتفال تشييد وشرف وضع ، هي كالقصر المشيد ، ويصعد اليها على أدراج. والمأوى المبارك منها مغارة صغيرة في وسطها ، وهي كالبيت الصغير. وبإزائها بيت يقال : انه مصلى الخضر صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيبادر الناس للصلاة بهذين الموضعين المباركين ، ولا سيما المأوى المبارك. وله باب حديد صغير ينغلق دونه ، والمسجد يطيف بها ، ولها شوارع دائرة ، وفيها سقاية لم ير أحسن منها ، قد سيق اليها الماء من علو ، وماؤها ينصب على شاذروان في الجدار متصل بحوض من رخام يقع الماء فيه ، لم ير أحسن من منظره. وخلف ذلك مطاهر يجري الماء في كل بيت منها ويستدير بالجانب المتصل بجدار الشاذروان.

٢٢٣

وهذه الربوة المباركة رأس بساتين البلد ومقسم مائه ، ينقسم فيها الماء على سبعة أنهار ، يأخذ كل نهر طريقه ، وأكبر هذه الأنهار نهر يعرف بثورا ، وهو يشق تحت الربوة ، وقد نقر له في الحجر الصلد أسفلها حتى انفتح له متسرب واسع كالغار ، وربما انغمس الجسور من سباح الصبيان أو الرجال من أعلى الربوة في النهر واندفع تحت الماء حتى يشق متسربه تحت الربوة ويخرج أسفلها ، وهي مخاطرة كبيرة.

ويشرف من هذه الربوة على جميع البساتين الغربية من البلد ، ولا اشراف كإشرافها حسنا وجمالا واتساع مسرح للأبصار. وتحتها تلك الأنهار السبعة تتسرب وتسيح في طرق شتى ، فتحار الأبصار في حسن اجتماعها وافتراقها واندفاع انصبابها. وشرف موضوع هذه الربوة ومجموع حسنها أعظم من أن يحيط به وصف واصف في غلو مدحه. وشأنها في موضوعات الدنيا الشريفة خطير كبير.

ويتصل بها أسفل منها ، بمقربة من المسافة ، قرية كبيرة تعرف بالنيرب ، قد غطتها البساتين ، فلا يظهر منها الا ما سما بناؤه. وبها جامع لم ير أحسن منه مفروش سطحه كله بفصوص الرخام الملون ، فيخيل لناظره انه ديباج مبسوط. وفيه سقاية ماء رائقة الحسن ، ومطهرة لها عشرة أبواب ، يجري الماء فيها ويطيف بها. وفوقها لجهة القبلة قرية كبيرة ، هي من أحسن القرى ، تعرف بالمزة ، وبها جامع كبير وسقاية معينة ، وبقرية النيرب حمّام ، وأكثر قرى هذه البلدة فيها الحمّامات.

وفي الجهة الشرقية من البلد ، عن يمين الطريق الى مولد ابراهيم ، عليه‌السلام ، قرية تعرف ببيت لاهية ، يريدون الآلهة ، وكانت فيها كنيسة هي الآن مسجد مبارك ، وكان آزر أبو ابراهيم ينحت فيها الآلهة ويصورها فيجيء الخليل ابراهيم ، صلوات الله عليه وعلى نبينا الكريم ، فيكسرها. وهي اليوم مسجد يجتمع فيه أهل القرية ، وسطحه كله مفروش بفصوص الرخام الملونة ، منتظم

٢٢٤

كله خواتيم وأشكالا بديعة ، يخيل لمبصرها أنها فرش متقنة مزخرفة ، وهو من المشاهد الكريمة.

وللربوة المباركة أوقاف كثيرة من بساتين وأرض بيضاء ورباع. وهي معينة التقسيم لوظائفها. فمنها ما هو معين باسم النفقة في الأدم للبائتين فيها من الزوار ، ومنها ما هو معين للأكسية برسم التغطية بالليل ، ومنها ما هو معين للطعام ، الى تقاسيم تستوفى جميع مؤنها ، ومؤن الأمين الراتب فيها برسم الإمامة ، والمؤذن الملتزم خدمتها ، ولهم على ذلك كله مرتب معلوم في كل شهر. وهي خطة من أعظم الخطط.

والأمين فيها الآن من بقية المرابطين المسوفيين ومن أعيانهم ، يعرف بأبي الربيع سليمان بن ابراهيم بن مالك ، وله مكانة من السلطان ووجوه الدولة ، وله في الشهر خمسة دنانير حاشا فائدة الربوة ، وهو متسم بالخير ومرتسم به ، وهو متعلق بسبب من أسباب البر في ايواء أهل الغرب من الغرباء المنقطعين بهذه الجهات ، يسبب لهم وجوه المعايش من إمامة في مسجد أو سكنى بمدرسة تجرى عليه فيها النفقة أو التزام زاوية من زوايا المسجد الجامع يجبى اليه فيها رزقه أو حضور في قراءة سبع ، أو سدانة مشهد من المشاهد المباركة يكون فيه ، ويجري عليه ما يقوم به من أوقافه ، الى غير ذلك من الوجوه المعاشية على هذه السبيل المباركة مما يطول شرحه. فالغريب المحتاج هنا ، اذا كان على طريقة الخير ، مصون محفوظ غير مريق ماء الوجه.

وسائر الغرباء ممن ليس على هذه الحال ، ممن عهد الخدمة والمهنة ، يسبب له أيضا أسباب غريبة من الخدمة. اما بستان يكون ناطورا فيه ، أو حمّام يكون عينا على خدمته ، وحافظا لأثواب داخليه ، أو طاحونة يكون أمينا عليها ، أو كفالة صبيان يؤديهم الى محاضرهم ويصرفهم الى منازلهم ، الى غير ذلك من الوجوه الواسعة.

وليس يؤتمن فيها كلها سوى المغاربة الغرباء ، لأنهم قد علا لهم بهذا البلد

٢٢٥

صيت في الأمانة ، وطار لهم فيها ذكر ، وأهلها لا يأتمنون البلديين. وهذا من إلطاف الله تعالى بالغرباء ، وله الحمد والشكر على ما يولي عباده. وان شاء أحد المتعلقين بأسباب المعارف التعرض هنالك للسلطان يقبله ويكرمه ويرتبه ويجري عليه بحسب قدره ومنصبه ، وقد طبعت هذه البلاد وملوكها على هذه الفضائل قديما وحديثا. وقد تسلسل بنا القول الى غير الباب الذي نحن فيه ، والحديث ذو شجون ، والله كفيل بحسن العون ، لا رب سواه.

وبغربي البلد جبانة كبيرة تعرف بقبور الشهداء ، فيها كثير من الصحابة والتابعين الأئمة الصالحين ، رضي‌الله‌عنهم ، فالمشهور بها من قبور الصحابة ، رضي‌الله‌عنهم ، قبر أبي الدرداء وقبر زوجته أم الدرداء ، رضي‌الله‌عنهما ، وموضع مبارك فيه تاريخ قديم مكتوب عليه في هذا الموضع قبر جماعة من الصحابة ، رضي‌الله‌عنهم ، منهم فضالة بن عبيد ، وسهل بن الحنظلية ، من الذين بايعوا رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تحت الشجرة ، وخال أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ، رضي‌الله‌عنه ؛ وقبره مسنم في الموضع المذكور.

وقرأت في فضائل دمشق : أن أم المؤمنين أم حبيبة أخت معاوية ، رضي‌الله‌عنهما ، مدفونة بدمشق. وقبر واثلة بن الأسقع من أهل الصفة. وفي الجهة التي تلي هذا الموضع المبارك تاريخ فيه مكتوب : هذا قبر أوس بن أوس الثقفي. وحول هذا الموضع المذكور ، على مقربة منه ، قبر بلال بن حمامة مؤذن رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي رأس القبر المبارك تاريخ باسمه ، رضي‌الله‌عنه.

والدعاء في هذا الموضع المبارك مستجاب ، قد جرّب ذلك كثير من الأولياء وأهل الخير المتبركين بزيارتهم الى قبور كثيرة من الصحابة وسواهم من الصالحين ممن قد ذهب اسمه وغبر ذكره ، ومشاهد كثيرة لأهل البيت ، رضي‌الله‌عنهم ، رجالا ونساء ، وقد احتفل الشيعة في البناء عليهم ، ولها الأوقاف الواسعة ومن أحفل هذه المشاهد مشهد منسوب لعلي بن أبي طالب ، رضي‌الله‌عنه قد بني عليه مسجد حفيل رائق البناء ، وبإزائه بستان كله نارنج ، والماء بطر؟؟؟

٢٢٦

فيه من سقاية معينة. والمسجد كله ستور معلقة في جوانبه صغار وكبار. وفي المحراب حجر عظيم قد شق بنصفين والتحم بينهما ولم يبن النصف عن النصف بالكلية ، يزعم الشيعة أنه انشق لعلي ، رضي‌الله‌عنه ، اما بضربة بسيفه أو بأمر من الأمور الإلهية على يديه. ولم يذكر عن علي ، رضي‌الله‌عنه ، أنه دخل قط هذا البلد ، اللهم الا ان زعموا أنه كان في النوم ، فلعل جهة الرؤيا تصح لهم اذ لا تصح لهم جهة اليقظة. وهذا الحجر أوجب بنيان هذا المشهد.

وللشيعة في هذه البلاد أمور عجيبة ، وهم أكثر من السنيين بها. وقد عمروا البلاد بمذاهبهم ، وهم فرق شتى : منهم الرافضة ، وهم السبّابون ؛ ومنهم الإمامية والزيدية ، وهم يقولون بالتفضيل خاصة ؛ ومنهم الاسماعيلية والنصيرية وهم كفرة فإنهم يزعمون الإلهية لعلي ، رضي‌الله‌عنه ، تعالى الله عن قولهم ؛ ومنهم الغرابية ، وهم يقولون : ان عليا ، رضي‌الله‌عنه ، كان أشبه بالنبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من الغراب بالغراب ، وينسبون الى الروح الأمين ، عليه‌السلام ، قولا تعالى الله عنه علوا كبيرا ؛ الى فرق كثيرة يضيق عنهم الإحصاء ، قد أضلهم الله وأضل بهم كثيرا من خلقه ، نسأل الله العصمة في الدين ، ونعوذ به من زيغ لملحدين. وسلط الله على هذه الرافضة طائفة تعرف بالنبوية ، سنيون يدينون بالفتوة وبأمور الرجولة كلها. وكل من الحقوه بهم لخصلة يرونها فيه منها يحزمونه السراويل فيلحقونه بهم ، ولا يرون أن يستعدي أحد منهم في نازلة تنزل به ، لهم في ذلك مذاهب عجيبة. واذا أقسم أحدهم بالفتوة برّ قسمه. وهم يقتلون هؤلاء الروافض أينما وجدوهم. وشأنهم عجيب في الأنفة والائتلاف.

ومن المشاهد المكرمة مشهد سعد بن عبادة رئيس الخزرج ، صاحب رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو بقرية تعرف بالمنيحة شرقي البلد وعلى مقدار أربعة أميال منه. وعلى قبره مسجد صغير حسن البناء ، والقبر في وسطه ، وعند رأسه مكتوب : هذا قبر سعد بن عبادة رأس الخزرج ، صاحب رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٢٧

ومن مشاهد أهل البيت ، رضي‌الله‌عنهم : مشهد أم كلثوم ابنة عليّ بن أبي طالب ، رضي‌الله‌عنهما ، ويقال لها زينب الصغرى ، وأم كلثوم ، كنية أوقعها عليها النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لشبهها بابنته ام كلثوم ، رضي‌الله‌عنها ، والله أعلم بذلك ، ومشهدها الكريم بقرية قبليّ البلد تعرف براوية على مقدار فرسخ ، وعليه مسجد كبير ، وخارجه مساكن ، وله أوقاف ، وأهل هذه الجهات يعرفونه بقبر الست أم كلثوم ، مشينا اليه وبتنا به وتبرّكنا برؤيته ، نفعنا الله بذلك.

وبالجبّانة التي بغربي البلد ، من قبور أهل البيت ، كثير ، رضي‌الله‌عنهم ، منهما قبران عليهما مسجد يقال انهما من ولد الحسن والحسين ، رضي‌الله‌عنهما ، ومسجد آخر فيه قبر يقال انه لسكينة بنت الحسين ، رضي‌الله‌عنهما ، أو لعلها سكينة اخرى من أهل البيت ومن المشاهد أيضا قبر بجامع النّيرب ، في بيت بالجهة الشرقية منه ، يقال انه لأم مريم ، رضي‌الله‌عنها. وبقرية دارية قبر أبي مسلم الخولاني ، رضي‌الله‌عنه ، وعليه قبة هي علامة القبر ، وبها أيضا قبر أبي سليمان الداراني ، رضي‌الله‌عنه. وبين هذه القرية وبين البلد مقدار اربعة أميال ، وهي لجهة الغرب منه. ومن المشاهد الكريمة التي لم نعاينها ووصفت لنا قبرا شيث ونوح ، عليهما‌السلام ، وهما بالبقاع ، وهي على يومين من البلد. وحدثنا من ذرع قبر شيث فألفى فيه أربعين باعا ، وفي قبر نوح ثلاثين. وبإزاء قبر نوح قبر ابنة له. وعلى هذه القبور بناء ، ولها أوقاف كثيرة ، ولها قيّم يلتزمها.

ومن المشاهد المباركة أيضا ، بالجبانة الغربية وبمقربة من باب الجابية ، قبر اويس القرني ، رضي‌الله‌عنه ، وقبور خلفاء بني امية ، رحمهم‌الله ، يقال : انها بإزاء باب الصغير بمقربة من الجبانة المذكورة ، وعليها اليوم بناء يسكن فيه.

والمشاهد المباركة في هذه البلدة أكثر من أن تنضبط بالتقييد وانما رسم من ذلك ما هو مشهور ومعلوم. ومن المشاهد الشهيرة أيضا مسجد الاقدام ، وهو

٢٢٨

على مقدار ميلين من البلد مما يلي القبلة على قارعة الطريق الأعظم الآخذ الى بلاد الحجاز والساحل وديار مصر. وفي هذا المسجد بيت صغير فيه حجر مكتوب عليه : كان بعض الصالحين يرى النبيّ ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في النوم ، فيقول :

ههنا قبر أخي موسى ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والكثيب الأحمر على الطريق بمقربة من هذا الموضع وهو بين غالية وغويلية كما ورد في الأثر ، وهما موضعان. وشأن هذا المسجد في البركة عظيم ، ويقال : ان النور ما خلا قط من هذا الموضع الذي يذكر أن القبر فيه حيث الحجر المكتوب. وله أوقاف كثيرة. فأما الأقدام ففي حجارة في الطريق اليه معلم عليها ، تجد اثر القدم في كل حجر ، وعدد الأقدام تسع ، ويقال. انها أثر قدم موسى ، عليه‌السلام ، والله أعلم بحقيقة ذلك ، لا اله سواه.

شهر جمادى الأول

استهل هلاله ليلة الجمعة ، بموافقة العاشر لشهر أغوشت العجمي.

بعض أحوال البلد

لهذه البلدة ثمانية ابواب. باب شرقي ، وهو شرقي وفيه منارة بيضاء يقال : انّ عيسى ، عليه‌السلام ، ينزل فيها ، لما جاء في الأثر انه ينزل بالمنارة البيضاء شرقيّ دمشق ، ويلي هذا الباب باب توما ، وهو أيضا في حيّز الشرق ؛ ثم باب السلامة ، ثم باب الفراديس ، وهو شمالي ؛ ثم باب الفرج ، ثم باب النصر ، وهو غربي ؛ ثم باب الجابية كذلك ؛ ثم باب الصغير ، وهو بين الغرب والقبلة.

والمسجد الجامع مائل الى الجهة الشمالية من البلد ، والأرباض به مطيفة الا من جهة

٢٢٩

الشرق مع ما يتصل بها من القبلة يسيرا. والأرباض كبار ، والبلد ليس بمفرط الكبر ، وهو مائل للطول ، وسككه ضيقة مظلمة ، وبناؤه طين وقصب ، طبقات بعضها فوق بعض ، ولذلك ما يسرع الحريق اليه ، وهو كله ثلاث طبقات ، فيحتوي من الخلق على ما تحتوي ثلاث مدن ، لأنه أكثر بلاد الدنيا خلقا ، وحسنه كله خارج لا داخل.

وفي داخل البلد كنيسة لها عند الروم شأن عظيم ، تعرف بكنيسة مريم ، ليس بعد بيت المقدس عندهم أفضل منها. وهي حفيلة البناء ، تتضمن من التصاوير أمرا عجيبا تبهت الأفكار ، وتستوقف الأبصار ، ومرآها عجيب ، وهي بأيدي الروم ، ولا اعتراض عليهم فيها.

وبهذه البلدة نحو عشرين مدرسة ، وبها مارستانان قديم وحديث ، والحديث أحفلهما واكبرهما ، وجرايته في اليوم نحو الخمسة عشر دينارا ، وله قومة بأيديهم الأزمة المحتوية على اسماء المرضى وعلى النفقات التي يحتاجون اليها في الأدوية والأغذية وغير ذلك ، والأطباء يبكرون اليه في كل يوم ويتفقدون المرضى ويأمرون بإعداد ما يصلحهم من الأدوية والأغذية حسبما يليق بكل انسان منهم. والمارستان الآخر على هذا الرسم ، لكن الاحتفال في الجديد أكثر. وهذا القديم هو غربي الجامع المكرّم. وللمجانين المعتقلين أيضا ضرب من العلاج ، وهم في سلاسل موثقون ، نعوذ بالله من المحنة وسوء القدر. وتندر من بعضهم النوادر الظريفة ، حسبما كنا نسمع به. ومن أعجب ما حدثت به من ذلك : أن رجلا كان يعلم القرآن ، وكان يقرأ عليه أحد أبناء وجوه البلد ممن أوتي مسحة جمال ، واسمه نصر الله ، وكان المعلم يهيم به ، فزاد كلفه حتى اختبل وأدي الى المارستان ، واشتهرت علته وفضيحته بالصبي ، وربما كان يدخله أبوه اليه ، فقيل له : اخرج ، وعد لما كنت عليه من القرآن. فقال متماجنا تماجن المجانين : وأي قراءة بقيت لي؟ ما بقي في حفظي من القرآن شيء سوى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) فضحك منه ، ومن قوله. ونسأل الله العافية له ولكل

٢٣٠

مسلم ، فلم يزل كذلك حتى توفي سمح الله له.

وهذه المارستانات مفخر عظيم من مفاخر الإسلام ، والمدارس كذلك. ومن أحسن مدارس الدنيا منظرا مدرسة نور الدين ، رحمه‌الله ، وبها قبره ، نوّره الله. وهي قصر من القصور الأنيقة ، ينصب فيها الماء في شاذروان وسط نهر عظيم ثم يمتد الماء في ساقية مستطيلة الى ان يقع في صهريج كبير وسط الدار. فتحار الأبصار في حسن ذلك المنظر ، فكل من يبصره يجدد الدعاء لنور الدين ، رحمه‌الله. وأما الرباطات التي يسمونها الخوانق فكثيرة ، وهي برسم الصوفية. وهي قصور مزخرفة ، يطرد في جميعها الماء على احسن منظر يبصر.

وهذه الطائفة الصوفية هم الملوك بهذه البلاد ، لأنهم قد كفاهم الله مؤن الدنيا وفضولها ، وفرّغ خواطرهم لعبادته من الفكرة في اسباب المعايش ، وأسكنهم في قصور تذكرهم قصور الجنان. فالسعداء الموفقون منهم قد حصل لهم بفضل الله تعالى نعيم الدنيا والآخرة. وهم على طريقة شريفة ، وسنّة في المعاشرة عجيبة ، وسيرتهم في التزام رتب الخدمة غريبة ، وعوائدهم من الاجتماع للسماع المشوّق جميلة ، وربما فارق منهم الدنيا في تلك الحالات المنفعل المثابر رقة وتشوّقا. وبالجملة فأحوالهم كلها بديعة ، وهم يرجون عيشا طيبا هنيئا.

ومن أعظم ما شاهدناه لهم موضع يعرف بالقصر ، وهو صرح عظيم مستقل في الهواء ، في اعلاه مساكن لم ير اجمل اشرافا منها ، وهو من البلد بنصف الميل ، له بستان عظيم يتصل به ، وكان متنزها لاحد ملوك الاتراك. فيقال : انه كان فيه احدى الليالي على راحة ، فاجتاز به قوم من الصوفية ، فهريق عليهم من النبيذ الذي كانوا يشربونه في ذلك القصر. فرفعوا الأمر لنور الدين ، فلم يزل حتى استوهبه من صاحبه ووقفه برسم الصوفية مؤبدا لهم. فطال العجب من السماحة بمثله ، وبقي أثر الفضل فيه مخلدا لنور الدين ، رحمه‌الله.

ومناقب هذا الرجل الصالح كبيرة ، وكان من الملوك الزهاد. وتوفي في شوال

٢٣١

سنة تسع وستين وخمس مئة ، واستولى بعده على الأمر صلاح الدين ، وهو على طريقة من الفضل شهيرة ، وشأنه في الملوك كبير ، وله الأثر الباقي شرفه من ازالة المكوس بطريق الحجاز ، ودفعه عوضا عنها لصاحب الحجاز. وكانت الأيام قد استمرت قديما بهذه الضريبة اللعينة الى أن محا الله رسمها على يدي هذا الملك العادل ، أصلحه الله.

ومن مناقب نور الدين ، رحمه‌الله تعالى ، أنه كان عين للمغاربة الغرباء ، الملتزمين زاوية المالكية بالمسجد الجامع المبارك ، أوقافا كثيرة ، منها طاحونتان وسبعة بساتين وارض بيضاء وحمام ودكانان بالعطارين. وأخبرني احد المغاربة الذين كانوا ينظرون فيه ، وهو أبو الحسن علي بن سردال الجياني المعروف بالأسود : أن هذا الوقف المغربي يغل ، اذا كان النظر فيه جيدا ، خمس مئة دينار في العام. وكان له ، رحمه‌الله ، بجانبهم فضل كبير ، نفعه الله بما أسلف من الخير ، وهيأ ديارا موقوفة لقراء كتاب الله عزوجل يسكنونها.

مرافق الغرباء

ومرافق الغرباء بهذه البلدة أكثر من أن يأخذها الاحصاء ، ولا سيما لحفاظ كتاب الله ، عزوجل ، والمنتمين للطلب. فالشأن بهذه البلدة لهم عجيب جدا.

وهذه البلاد المشرقية كلها على هذا الرسم ، لكن الاحتفال بهذه البلدة أكثر والاتساع أوجد. فمن شاء الفلاح من نشأة مغربنا فليرحل الى هذه البلاد ويتغرب في طلب العلم فيجد الأمور المعينات كثيرة فأولها فراغ البال من أمر المعيشة ، وهو اكبر الأعوان وأهمها ، فاذا كانت الهمة فقد وجد السبيل الى الاجتهاد ، ولا عذر للمقصر الا من يدين بالعجز والتسويف ، فذلك من لا يتوجه هذا الخطاب عليه ، وانما المخاطب كل ذي همة يحول طلب المعيشة بينه وبين مقصده في وطنه من الطلب العلمي ، فهذا المشرق بابه مفتوح لذلك ، فادخل أيها المجتهد بسلام ، وتغنم الفراغ والانفراد قبل علق

٢٣٢

الاهل والاولاد وتقرع سن الندم على زمن التضييع ، والله يوفق ويرشد ، لا اله سواه ، قد نصحت ان ألفيت سامعا ، وناديت ان اسمعت مجيبا ، «ومن يهد الله فهو المهتد» ، جلت قدرته ، وتعالى جده. ولو لم يكن بهذه الجهات المشرقية كلها الا مبادرة أهلها لإكرام الغرباء وايثار الفقراء ، ولا سيما أهل باديتها ، فانك تجد من بدار الى بر الضيف عجبا ، كفى بذلك شرفا لها. وربما يعرض أحدهم كسرته على فقير فيتوقف عن قبولها ، فيبكي الرجل ويقول : لو علم الله فيّ خيرا لأكل الفقير طعامي ، لهم في ذلك سرّ شريف.

من عجيب أمر المشارقة

ومن عظيم أمرهم تعظيمهم للحاج ، على قرب مسافة الحجّ منهم ، وتيسير ذلك لهم ، واستطاعتهم لسبيله. فهم يتمسحون بهم عند صدورهم ، ويتهافتون عليهم تبركا بهم. ومن أغرب ما حدثنا من ذلك : أن الحاج الدمشقي مع من انضاف اليهم من المغاربة عند صدورهم الى دمشق في هذا العام ، الذي هو عام ثمانين ، خرج الناس لتلقيهم : الجمّ الغفير نساء ورجالا ، يصافحونهم ويتمسحون بهم ، وأخرجوا الدراهم لفقرائهم يتلقونهم بها ، وأخرجوا اليهم الأطعمة.

فأخبرني من أبصر كثيرا من النساء يتلقين الحاج ويناولنهم الخبز ، فإذا عض الحاج فيه اختطفنه من أيديهم وتبادرن لأكله تبركا بأكل الحاج له ودفعن له عوضا منه دراهم ، الى غير ذلك من الأمور العجيبة ضد ما اعتدنا في المغرب في ذلك ، وصنع بنا في بغداد عند تلقي الحاج بها مثل ذلك أو قريب منه. ولو شئنا استقصاء هذه الأمور لخرجت بنا عن مقصد التقييد ، وانما وقع الإلماع بلمحة دالة يكتفى بها عن التطويل. وكل من وفقه الله بهذه الجهات من الغرباء للانفراد يلتزم ان أحب ضيعة من الضياع فيكون فيها طيب العيش ، ناعم البال ، وينثال الخبز عليه من أهل الضيعة ، ويلتزم الإمامة أو التعليم أو ما شاء. ومتى سئم المقام خرج الى ضيعة أخرى أو يصعد ألى جبل لبنان أو الى جبل الجودي فيلقى بها

٢٣٣

المريدين المنقطعين الى الله ، عزوجل ، فيقيم معهم ما شاء ، وينصرف الى حيث شاء.

نصارى جبل لبنان

ومن العجب ان النصارى المجاورين لجبل لبنان اذا رأوا به بعض المنقطعين من المسلمين جلبوا لهم القوت وأحسنوا اليهم ، ويقولون : هؤلاء ممن انقطع الى الله عزوجل فتجب مشاركتهم.

وهذا الجبل من أخصب جبال الدنيا ، فيه أنواع الفواكه ، وفيه المياه المطردة والظلال الوارفة ، وقلما يخلو من التبتيل والزهادة. واذا كانت معاملة النصارى لضد ملتهم هذه المعاملة فما ظنك بالمسلمين بعضهم مع بعض.

الحرب واتفاق النصارى والمسلمين

ومن أعجب ما يحدث به ان نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين ونصارى ، وربما يلتقي الجمعان ويقع المصاف بينهم ورفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض عليهم. شاهدنا في هذا الوقت ، الذي هو شهر جمادى الأولى ، من ذلك خروج صلاح الدين بجميع عسكر المسلمين لمنازلة حصن الكرك ، وهو من اعظم حصون النصارى ، وهو المعترض في طريق الحجاز والمانع لسبيل المسلمين على البر ، بينه وبين القدس مسيرة يوم أو اشف قليلا ، وهو سرارة ارض فلسطين ، وله نظر عظيم الاتساع متصل العمارة ، يذكر أنه ينتهي الى اربع مئة قرية ، فنازله هذا السلطان وضيق عليه وطال حصاره.

٢٣٤

واختلاف القوافل من مصر الى دمشق على بلاد الافرنج غير منقطع. واختلاف المسلمين من دمشق الى عكة كذلك. وتجار النصارى ايضا لا يمنع أحد منهم ولا يعترض. وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم ، وهي من الامنة على غاية. وتجار النصارى أيضا يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم ، والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال. وأهل الحرب مشتغلون بحربهم ، والناس في عافية ، والدنيا لمن غلب.

هذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم وفي الفتنة الواقعة بين أمراء المسلمين وملوكهم كذلك. ولا تعترض الرعايا ولا التجار ، فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سلما أو حربا. وشأن هذه البلاد في ذلك أعجب من أن يستوفى الحديث عنه ، والله يعلي كلمة الإسلام بمنه.

دمشق وآثارها

ولهذه البلدة قلعة يسكنها السلطان منحازة في الجهة الغربية من البلد ، وهي بإزاء باب الفرج من أبواب البلد ، وبها جامع السلطان يجمع فيه ، وعلى مقربة منها ، خارج البلد في جهة الغرب ، ميدانان كأنهما مبسوطان خزا لشدة خضرتهما ، وعليهما حلق ، والنهر بينهما ، وغيضة عظيمة من لحور متصلة بهما ، وهما من أبدع لمناظر ، يخرج السلطان اليهما ويلعب فيهما بالصوالجة ويسابق بين الخيل فيهما ، ولا مجال للعين كمجالها فيهما. وفي كل ليلة يخرج أبناء السلطان اليهما للرماية والمسابقة واللعب بالصوالجة.

وبهذه البلدة ايضا قرب مئة حمام فيها وفي ارباضها ، وفيها نحو اربعين دارا للوضوء يجري الماء فيها كلها. وليس في هذه البلاد كلها بلدة أحسن منها للغريب ، لأن المرافق بها كثيرة. وفي الذي ذكرناه من ذلك كفاية ، والله يبقيها دار اسلام بمنه.

٢٣٥

وأسواق هذه البلدة من أحفل اسواق البلاد وأحسنها انتظاما وابدعها وضعا ، ولا سيما قيسارياتها ، وهي مرتفعات كأنها الفناديق مثقفة كلها بأبواب حديد كأنها أبواب القصور ، وكل قيسارية منفردة بضبتها واغلاقها الجديدة. ولها ايضا سوق ، يعرف بالسوق الكبير ، يتصل من باب الجابية الى باب شرقي. وفيه بيت صغير جدا قد اتخذ مصلى ، وفي قبلته حجر يقال : ان ابراهيم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يكسر عليه الآلهة التي كان يسوقها أبوه للبيع.

وحديث الدار المنسوبة لعمر بن عبد العزيز ، التي هي اليوم خانقة للصوفية ، وهي في الدهلير الذي في الباب الشمالي المعروف بباب الناطفيين ، وقد تقدم التنبيه عليها قبل هذا ، حديث عجيب ، وذلك ان الذي اشتراها وبناها وجعل لها الأوقاف الواسعة وأمر بأن يدفن فيها وان يختم على قبره القرآن كل جمعة وعين من تلك الاوقاف لمن يحضر ذلك كل جمعة رطلا من خبز الحوارى ، وهو ثلاثة أرطال من أرطال المغرب ، رجل من العجم يعرف بالسميساطي ، وسميساط بلدة من بلاد العجم ، وكان موصوفا بالورع والزهد ، وأصل يساره وتموله ، فيما ذكر لنا ، أنه الفى يوما من الأيام بالدهليز المذكور ازاء الدار المذكورة رجلا أسود مريضا مطروحا بموضعه غير ملتفت اليه ولا معتنى به ، فتأجر فيه والتزم تمريضه وخدمته والنظر له اغتناما للثواب من الله عزوجل ، فحانت وفاة الرجل ، فاستدعى ممرضه السميساطي المذكور فقال له : انت قد احسنت الي وخدمتني ولطفت في تمريضي واشفقت لحالي وغربتي ، فأنا اريد ان اكافئك على فعلك بي زائدا الى مكافأة الله عزوجل عني في الآجل ، ان شاء الله ؛ وذلك أني كنت من أحد فتيان الخليفة المعتضد العباسي ، ومعروفا بزمام الدار ، وكانت لي حظوة ومكانة ، فعتب علي في بعض الامر ، فخرجت طريدا ، فانتهيت الى هذه البلدة ، فأصابني فيها من امر الله ما اصابني ، فسببك الله لي رحمة ، فأنا اقلدك امانة واعهد اليك فيها عهدا ، اذا انا مت وغسلتني فانهض على بركة الله تعالى الى بغداد وتلطف في السؤال عن دار صاحب الزمام فتى الخليفة ، فاذا

٢٣٦

ارشدت اليها فصرف الحيلة في اكترائها ، وارجو ان الله يعينك على ذلك ، واذا سكنتها فاعمد الى موضع ، سماه له فيها وذكر له امارة عليه ، فاحفر فيه مقدار كذا وانزع اللوح الذي تجده معترضا تحت الأرض وخذ الذي تجده مدفونا تحت الارض وصرفه في منافعك وما يوفقك الله اليه من وجوه البر والخير مباركا لك في ذلك ، ان شاء الله.

ثم توفي الرجل الموصي ، رحمه‌الله ، وتوجه الموصى اليه بعهده الى بغداد ، فيسر الله له في اكتراء الدار وانتهى الى الموضع المذكور فاستخرج منه ذخائر لا قيمة لها ، عظيمة الشأن ، كبيرة القدر ، فدسها في احمال متاع ابتاعها وخرج الى دمشق من بغداد ، فابتاع الدار المذكورة المنسوبة لعمر بن عبد العزيز ، رضي‌الله‌عنه ، وبناها خانقة للصوفية واحتفل فيها وابتاع لها الاوقاف ضياعا ورباعا وجعلها برسم الصوفية ، واوصى بأن يدفن فيها وان يختم القرآن على قبره كل جمعة ، وعين لكل من يحضر ذلك ما ذكرناه. فوجد الغرباء والفقراء في ذلك مرفقا كثيرا. فتغص الخانقة بالقرأة كل جمعة ، فإذا ختموا القرآن دعوا له وانصرفوا واندفع لكل واحد منهم رطل من الخبز ، على الصفة المذكورة. وبقي للمتوفي جميل الاثر والخير ، رحمة الله ورضوانه عليه.

والكوثرية التي ذكرناها ايضا بالجامع المكرم ، والمقروءة كل يوم بعد العصر ، المعينة لمن لا يحفظ القرآن كان اصلها ايضا ان احد ذوي اليسار توفي واوصى بأن يدس قبره في الجامع المكرم واوقف وقفا يغل مئة وخمسين دينارا في السنة برسم من لا يحفظ القرآن ويقرأ من سورة الكوثر الى الخاتمة ، فينقسم له اربعون دينارا ، في كل ثلاثة اشهر من السنة. ويذكر ان احد الملوك السالفين توفي ايضا وأوصى بأن يجعل قبره في قبلة الجامع المكرم بحيث لا يظهر ، وعين اوقافا عظيمة تغل نحو الالف دينار وأربع مئة دينار في السنة وزائد لقراء سبع القرآن كل يوم.

وموضع الاجتماع لقراءة هذا السبع المبارك كل يوم ، اثر صلاة الصبح ، بالجهة الشرقية من مقصورة الصحابة ، رضي‌الله‌عنهم ، ويقال : ان في ذلك الموضع

٢٣٧

هو القبر المذكور. وقراءة السبع لا تتعدى ذلك الموضع متصلا مع جدار القبلة الى الجدار الشرقي ، والله عزوجل لا يضيع اجر المحسنين. وبقيت هذه الرسوم الشريفة مخلدة مع الأيام ، نفع الله بهار اسميها. وناميك فيها من بلاد يهدى فيها لهذه الصنائع المزلفة لرضوان الله ، عزوجل ، وللفقراء الملتزمين الجلوس في الجانب الشرقي من الجامع المكرم ، الذين ليس لهم مأوى يأوون اليه ، وقف وضعه بعض المتأجرين الموفقين برسمهم ، الى ما يطول ذكره من المآثر الاخراوية الصدقية التي كفل الله بها غرباء هذه الجهات.

ومن عادة اهل دمشق وسائر تلك البلاد المستحسنة ، المرجو لهم فيها من الله ، عزوجل ، قبول ، انهم في كل سنة يتوخون الوقوف يوم عرفة بجوامعهم اثر صلاة العصر ، يقف بهم ائمتهم كاشفي رؤوسهم داعين الى ربهم التماسا لبركة الساعة التي يقف فيها وفد الله عزوجل وحجيج بيته الحرام بعرفات ، فلا يزالون واقفين داعين متضرعين الى الله عزوجل ، وبحجاج بيته الحرام متوسلين ، الى ان يسقط قرص الشمس ويقدروا نفر الحاج فينفصلوا باكين على ما حرموه من ذلك الموقف العظيم بعرفات وداعين الى الله عزوجل في ان يوصلهم اليها ولا يخليهم من بركة القبول في فعلهم ذلك.

من أعظم المناظر في الدنيا

ومن أعظم ما شاهدناه من مناظر الدنيا الغريبة الشأن ، وهياكلها الهائلة البنيان ، المعجزة الصنعة والاتقان ، المعترف لوصفها بالتقصير لسان كل بيان : الصعود الى أعلى قبة الرصاص المذكورة في هذا التقييد ، القائمة وسط الجامع المكرم ، والدخول في جوفها ، واحالة لحظ الاعتبار في بديع وضعها ، مع القبة التي في وسطها كأنها كرة مجوفة داخلة وسط كرة أخرى أعظم منها ؛ صعدنا اليه في جملة من الأصحاب المغاربة ضحوة يوم الاثنين الثامن عشر لجمادى الاولى

٢٣٨

المذكورة من مرقى في الجانب الغربي من بلاط الصحن كان صومعة في القديم ، وتمشينا على سطح الجامع المكرم ، وكله ألواح رصاص منتظمة ، كما قد تقدم الذكر لذلك ، وطول كل لوح أربعة أشبار ، وعرضه ثلاثة أشبار ، وربما اعترض في الالواح نقص أو زيادة ، حتى انتهينا الى القبة المذكورة ، فصعدنا اليها على سلم منصوب ، وريح الميد تكاد تطير بنا ، فحبونا في الممشى المطيف بها ، وهو من رصاص ، وسعته ستة اشبار ، فلم نستطع القيام عليه لهول الموقف فيه ، فأسرعنا الولوج في جوف القبة على أحد شراجيبها المفتحة في الرصاص ، فأبصرنا مرأى تحار فيه العقول ، وتقف دون ادراك هيبة وصفه الافهام ، وجلنا في فرش من الخشب العظام حول القبة الصغيرة الداخلة في جوف القبة الرصاصية على الصفة التي ذكرناها ، ولها طيقان يبصر منها الجامع ومن فيه ، فكنا نبصر الرجال فيه كأنهم الصبيان في المحاضر.

وهذه القبة مستديرة كالكرة ، وظاهرها من خشب قد شد باضلاع من الخشب الضخام موثقة بنطق من الحديد ، ينعطف كل ضلع عليها كالدائرة وتجتمع الأضلاع كلها في مركز دائرة من الخشب أعلاها. وداخل هذه القبة ، وهو ما يلي الجامع المكرم ، خواتيم من الخشب منتظم بعضها ببعض قد اتصل اتصالا عجيبا ، وهي كلها مذهبة بأبدع صنعة من التذهيب ، مزخرفة التلوين ، بديعة القرنصة ، ويرتمي الأبصار شعاع ذهبها ، وتتحير الألباب في كيفية عقدها ووضعها لإفراط سموّها ؛ أبصرنا من تلك الخواتيم الخشبية خاتما مطروحا جوف القبة ، لم يكن طوله أقل من ستة اشبار في عرض اربعة. وهي تلوح في انتظامها للعين كأن دور كل واحدة منها شبر أو شبران الغاية لعظم سموها.

والقبة الرصاص محتوية على هذه القبة المذكورة وقد شدت أيضا بأضلاع عظيمة من الخشب الضخام ، موثقة الاوساط بنطق الحديد ، وعددها ثمان واربعون ضلعا ، بين كل ضلع وضلع اربعة اشبار ، قد انعطفت انعطافا عجيبا ، واجتمعت أطرافها في مركز دائرة من الخشب أعلاها ، ودور هذه القبة

٢٣٩

الرصاصية ثمانون خطوة ، وهي مئتا شبر وستون شبرا ، والحال فيها أعظم من أن يبلغ وصفها ، وانما هذا الذي ذكرناه نبذة يستدل بها على ما وراءها.

وتحت الغارب المستطيل المسمى النسر ، الذي تحت هاتين القبتين ، مدخل عظيم هو سقف للمقصورة ، بينه وبينها سماء جص مزينة ، وقد انتظم فيه من الخشب ما لا يحصى عدده ، وانعقد بعضها ببعض ، وتقوس بعضها على بعض ، وتركبّت تركيبا هائلا منظره. وقد أدخلت في الجدار كله دعائم للقبتين المذكورتين. وفي ذلك الجدار حجارة ، كل واحد منها يزن قناطير مقنطرة ، لا تنقلها الفيلة فضلا عن غيرها. فالعجب كل العجب من تطليعها الى ذلك الموضع المفرط السمو ، وكيف تمكنت القدرة البشرية لذلك ، فسبحان من ألهم عباده الى هذه الصنائع العجيبة ، ومعينهم على التأتي لما ليس موجودا في طبائعهم البشرية ، ومظهر آياته على ايدي من يشاء من خلقه ، لا اله سواه؟

والقبتان على قاعدة مستديرة من الحجارة العظيمة قد قامت فوقها أرجل قصار ضخام من الحجارة الصم الكبار ، وقد فتح بين كل رجل ورجل شمسية ، واستدارت الشمسيات باستدارتها ، والقبتان في رأي العين واحدة ، وكنينا عنها باثنين لكون الواحدة في جوف الاخرى ، والظاهر منها قبة الرصاص.

ومن جملة عجائب ما عايناه في هاتين القبتين أن لم نجد فيهما عنكبوتا ناسجا على بعد العهد من التفقد لهما من أحد والتعاهد لتنظيف مساحتهما ، والعنكبوت في أمثالهما موجود كثير. وقد كان حقق عندنا أن الجامع المكرم لا تنسج فيه العنكبوت ، ولا يدخله الطير المعروف بالخطاف ، وقد تقدم ذكرنا لذلك في هذا التقييد. فانصرفنا منحدرين ، وقد قضينا عجبا عجابا من هذا المنظر العظيم شأنه ، المعجز وضعه ، المرتفع عن الادراك وصفه ، ويقال : انه ما على ظهر المعمور أعجب منظرا ولا أبعد سموا ولا أغرب بنيانا

٢٤٠