رحلة ابن جبير

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي

رحلة ابن جبير

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

الأشجار ، مختلفة الثمار. والماء يطرد فيها ، ويتخلل جميع نواحيها ، وخصص الله داخلها بآبار معينة ، شهدية العذوبة ، سلسبيلية المذاق ، تكون في كل دار منها البئر والبئران. وارضها أرض كريمة ، تستنبط مياها كلها. وأسواقها وسككها فسيحة متسعة ، ودكاكينها وحوانيتها كأنها الخانات والمخازن اتساعا وكبرا ، وأعالي أسواقها مسقفة.

وعلى هذا الترتيب أسواق أكثر مدن هذه الجهات ، لكن هذه البلدة تعاقبت عليها الأحقاب ، حتى أخذ منها الخراب. كانت من مدن الروم العتيقة ، ولهم فيها من البناء آثار تدل على عظم اعتنائهم بها. ولها قلعة حصينة في جوفيها تنقطع عنها وتنحاز منها. ومدن هذه الجهات كلها لا تخلو من القلاع السلطانية وأهلها أهل فضل وخير ، سنيون شافعيون ، وهي مطهرة بهم من أهل المذاهب المنحرفة ، والعقائد الفاسدة ، كما تجده في الأكثر من هذه البلاد ، فمعاملاتهم صحيحة ، وأحوالهم مستقيمة ، وجادتهم الواضحة في دينهم من اعتراض بنيات الطريق سليمة.

فكان نزولنا خارجها ، في أحد بساتينها ، وأقمنا يوما مريحين ثم رحلنا نصف الليل ، ووصلنا بزاعة ضحوة يوم السبت الثاني عشر لربيع المذكور.

بلدة بزاغة

بقعة طيبة الثرى ، واسعة الذّرى ، تصغر عن المدن وتكبر عن القرى ، بها سوق تجمع بين المرافق السفرية ، والمتاجر الحضرية. وفي أعلاها قلعة كبيرة حصينة ، رامها أحد ملوك الزمن فغاظته باستصعابها ، فأمر بثلم بنائها ، حتى غادرها عورة منبوذة بعرائها. ولهذه البلدة عين معينة يخترق ماؤها بسيط بطحاء ترف بساتينها خضرة ونضارة ، وتريك برونقها الأنيق حسن الحضارة.

٢٠١

ويناظرها في جانب البطحاء قرية كبيرة تعرف بالباب ، هي باب بين. بزاعة وحلب ، وكان يعمرها منذ ثماني سنين قوم من الملاحدة الإسماعيلية لا يحصي عددهم الا الله ، فطار شرارهم ، وقطع هذه السبيل فسادهم واضرارهم ، حتى داخلت أهل هذه البلاد العصبية ، وحرّكتهم الأنفة والحمية ، فتجمعوا من كل أوب عليهم ، ووضعوا السيوف فيهم ، فاستأصلوهم عن آخرهم ، وعجّلوا بقطع دابرهم ، وكوّمت بهذه البطحاء جماجمهم ، وكفى الله المسلمين عاديتهم وشرهم ، وأحاق بهم مكرهم ، والحمد لله رب العالمين.

وسكانها اليوم قوم سنيون ، فأقمنا بها يوم السبت ببطحاء هذه البلدة مريحين ، ورحلنا منها في الليل وأسرينا الى الصباح ، ووصلنا مدينة حلب ضحوة يوم الأحد الثالث عشر لربيع الأول ، والرابع والعشرين ليونيه.

مدينة حلب

بلدة قدرها خطير ، وذكرها في كل زمان يطير ، خطّابها من الملوك كثير ، ومحلها من التقديس أثير ، فكم هاجت من كفاح ، وسلّت عليها من بيض الصفاح ، لها قلعة شهيرة الامتناع ، بائنة الارتفاع ، معدومة الشبه والنظير في القلاع ، تنزهت حصانة أن ترام أو تستطاع ، قاعدة كبيرة ، ومائدة من الأرض مستديرة منحوتة الأرجاء ، موضوعة على نسبة اعتدال واستواء ، فسبحان من أحكم تقديرها وتدبيرها ، وأبدع كيف شاء تصويرها وتدويرها ، عتيقة في الأزل ، حديثة وان لم تزل ، قد طاولت الأيام والأعوام ، وشيعت الخواص والعوام ، هذه منازلها وديارها ، فاين سكانها قديما وعمّارها؟ وتلك دار مملكتها وفناؤها فأين امراؤها الحمدانيون وشعراؤها؟ أجل ، فني جميعهم ، ولم يأن بعد فناؤها! فيا عجبا للبلاد تبقى وتذهب أملاكها ، ويهلكون ولا يقضى هلاكها ، تخطب بعدهم فلا يتعذر ملاكها ، وترام فيتيسر بأهون شيء إدراكها. هذه حلب ،

٢٠٢

كم أدخلت من ملوكها في خبر كان ، ونسخت ظرف الزمان بالمكان ، أنّث اسمها فتحلت بزينة الغوان ، ودانت بالغدر فيمن خان ، وتجلت عروسا بعد سيف دولتها ابن حمدان ، هيهات! هيهات! سيهرم شبابها ، ويعدم خطابها ويسرع فيها بعد حين خرابها ، وتتطرق جنبات الحوادث إليها ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، لا اله سواه ، سبحانه جلت قدرته.

وقد خرج بنا الكلام عن مقصده ، فلنعد الى ما كنا بصدده ، فنقول : ان من شرف هذه القلعة أنه يذكر أنها كانت قديما في الزمان الأول ربوة يأوي اليها ابراهيم الخليل ، عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم ، بغنيمات له فيحلبها هنالك ويتصدق بلبنها فلذلك سمّت حلب ، والله أعلم. وبها مشهد كريم له يقصده الناس ويتبركون بالصلاة فيه.

ومن كمال خلالها المشترطة في حصانة القلاع أن الماء بها نابع ، وقد صنع عليه جبان ، فهما ينبعان ماء فلا تخاف الظمأ أبد الدهر ، والطعام يصبر فيها الدهر كله ، وليس في شروط الحصانة أهم ولا آكد من هاتين الحلّتين. ويطيف بهذين الجبين المذكورين سوران حصينان من الجانب الذي ينظر للبلد ، ويعترض دونهما خندق لا يكاد البصر يبلغ مدى عمقه والماء ينبع فيه. وشأن هذه القلعة في الحصانة والحسن أعظم من أن ننتهي الى وصفه. وسورها الأعلى كله أبراج منتظمة ، فيها العلالي المنيفة ، والقصاب المشرفة ، قد تفتحت كلها طيقانا. وكل برج منها مسكون ، وداخلها المساكن السلطانية ، والمنازل الرفيعة الملوكية.

وأما البلد فموضوعه ضخم جدا ، حفيل التركيب ، بديع الحسن ، واسع الأسواق كبيرها ، متصلة الانتظام مستطيلة ، تخرج من سماط صنعة الى سماط صنعة أخرى الى ان تفرغ من جميع الصناعات المدنية ، وكلها مسقف بالخشب ، فسكانها في ظلال وارفة. فكل سوق منها تقيد الأبصار حسنا وتستوقف المستوفز تعجبا.

وأما قيساريتها فحديقة بستان نظافة وجمالا ، مطيفة بالجامع المكرم ، لا

٢٠٣

يتشوق الجالس فيها مرأى سواها ولو كان من المرائي الرياضية. وأكثر حوانيتها خزائن من الخشب البديع الصنعة ، قد اتصل السماط خزانة واحدة وتخللتها شرف خشبية بديعة النقش وتفتحت كلها حوانيت ، فجاء منظرها أجمل منظر وكل سماط منها يتصل بباب من أبواب الجامع المكرم.

وهذا الجامع من أحسن الجوامع وأجملها ، قد أطاف بصحنه الواسع بلاط متسع مفتح كله أبوابا قصرية الحسن الى الصحن ، عددها ينيف على الخمسين بابا ، فيستوقف الأبصار حسن منظرها ، وفي صحنه بئران معينان. والبلاط القبلي لا مقصورة فيه فجاء ظاهر الاتساع رائق الانشراح. وقد استفرغت الصنعة القرنصية جهدها في منبره ، فما أرى في بلد من البلاد منبرا على شكله وغرابة صنعته ، واتصلت الصنعة الخشبية منه الى المحراب فتجللت صفحاته كلها حسنا على تلك الصفة الغريبة. وارتفع كالتاج العظيم على المحراب وعلا حتى اتصل بسمك السقف ، وقد قوس اعلاه وشرف بالشّرف الخشبية القرنصية ، وهو مرصع كله بالعاج والآبنوس ، واتصال الترصيع من المنبر الى المحراب مع ما يليهما من جدار القبلة دون أن يتبين بينهما انفصال ، فتجتلي العيون منه أبدع منظر. يكون في الدنيا ، وحسن هذا الجامع المكرم أكثر من أن يوصف.

ويتصل به من الجانب الغربي مدرسة للحنفية تناسب الجامع حسنا واتقان صنعة فهما في الحسن روضة تجاور اخرى. وهذه المدرسة من أحفل ما شاهدناه من المدارس بناء وغرابة صنعة ، ومن أظرف ما يلحظ فيها أن جدارها القبلي مفتّح كله بيوتا وغرفا ولها طيقان يتصل بعضها ببعض ، وقد امتد بطول الجدار عريش كرم مثمر عنبا ، فحصل لكل طاق من تلك الطيقان قسطها من ذلك العنب متدليا أمامها ، فيمد الساكن فيها يده ويجتنيه متكئا دون كلفة ولا مشقة. وللبلدة سوى هذه المدرسة نحو أربع مدارس أو خمس. ولها مارستان.

وأمرها في الاحتفال عظيم ، فهي بلدة تليق بالخلافة ، وحسنها كله داخل لا خارج لها الا نهير يجري من جوفيها الى قبليها ويشق ربضها المستدير بها ، فإن

٢٠٤

لها ربضا كبيرا فيه من الخانات ما لا يحصى عدده. وبهذا النهر الأرحاء ، وهي متصلة بالبلد وقائمة وسط ربضه. وبهذا الربض بعض بساتين تتصل بطوله. وكيفما كان الأمر فيه داخلا وخارجا فهو من بلاد الدنيا التي لا نظير لها ، والوصف فيه يطول.

فكان نزولنا بربضه في خان يعرف بخان أبي الشكر ، فأقمنا به أربعة أيام ورحلنا ضحوة يوم الخميس السابع عشر لربيع المذكور ، والثامن والعشرين ليونيه. ووصلنا قنسرين قبيل العصر ، فأرحنا بها قليلا ثم انتقلنا الى قرية تعرف بتل تاجر ، فكان مبيتنا بها ليلة الجمعة الثامن عشر منه.

وقنسرين هذه هي البلدة الشهيرة في الزمان ، لكنها خربت وعادت كأن لم تغن بالأمس ، فلم يبق الا آثارها الدارسة ، ورسومها الطامسة ، ولكن قراها عامرة منتظمة لأنها على محرث عظيم مد البصر عرضا وطولا. وتشبهها من البلاد الأندلسية جيان ، ولذلك يذكر أن أهل قنسرين عند استفتاح الأندلس نزلوا جيان تأنسا بشبه الوطن وتعللا به مثلما فعل في أكثر بلادها ، حسب ما هو معروف.

ثم رحلنا من ذلك الموضع ، عند الثلث الماضي من الليل ، فأسرينا وسرنا الى ضحوة من النهار ، ثم نزلنا مريحين بموضع يعرف بباقدين في خان كبير يعرف بخان التركمان ، وثيق الحصانة. وخانات هذا الطريق كأنها القلاع امتناعا وحصانة ، وأبوابها حديد ، وهي من الوثاقة في غاية. ثم رحلنا من هذا الموضع وبتنا بموضع يعرف بتمنى في خان وثيق على الصفة المذكورة.

ثم أسحرنا منه يوم السبت التاسع عشر لربيع الأول المذكور ، وهو آخر يوم من يونيه ، ورأينا عن يمين طريقنا بمقدار فرسخين ، يوم الجمعة المذكور ، بلاد المعرة ، وهي سواد كلها بشجر الزيتون والتين والفستق وأنواع الفواكه ، ويتصل التفاف بساتينها وانتظام قراها مسيرة يومين ، وهي من أخصب بلاد الله وأكثرها أرزاقا. ووراءها جبل لبنان وهو سامي الارتفاع ، ممتد الطول ،

٢٠٥

يتصل من البحر الى البحر ، وفي صفحته حصون للملاحدة الإسماعيلية ، فرقة مرقت من الإسلام وادعت الإلهية في أحد الانام ، قيّض لهم شيطان من الإنس يعرف بسنان خدعهم بأباطيل وخيالات موّه عليهم باستعمالها ، وسحرهم بمحالها ، فاتخذوه الها يعبدونه ويبذلون الأنفس دونه ، وحصلوا من طاعته وامتثال امره بحيث يأمر أحدهم بالتردي من شاهقة جبل فيتردى ويستعجل في مرضاته الردى ، والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء بقدرته ، نعوذ به سبحانه من الفتنة في الدين ، ونسأله العصمة من ضلال الملحدين ، لا رب غيره ، ولا معبود سواه.

وجبل لبنان المذكور هو حد بين بلاد المسلمين والإفرنج ، لأن وراءه أنطاكية واللاذقية وسواهما من بلادهم ، أعادها الله للمسلمين ، وفي صفح الجبل المذكور حصن يعرف بحصن الأكراد ، هو للإفرنج ، ويغيرون منه على حماة وحمص ، وهو بمرأى العين منهما. فكان وصولنا الى مدينة حماة في الضحى الأعلى من يوم السبت المذكور ، فنزلنا بربضها في أحد خاناته.

ذكر مدينة حماة

مدينة شهيرة في البلدان ، قديمة الصحبة للزمان ، غير فسيحة الفناء ، ولا رائقة البناء ، أقطارها مضمومة ، وديارها مركومة ، لا يهش البصر اليها ، عند الإطلال عليها ، كأنها تكن بهجتها وتخفيها ، فتجد حسنها كامنا فيها ، حتى إذا جست خلالها ، ونقرت ظلالها ، ابصرت بشرقيها نهرا كبيرا ، تتسع في تدفقه أساليبه ، وتتناظر بشطيه دواليبه ، قد انتظمت طرتيه ، بساتين تتهدل أغصانها عليه ، وتلوح خضرتها عذارا بصفحتيه ، ينسرب في ظلالها ، وينساب على سمت اعتدالها ، وبأحد شطيه المتصل بربضها مطاهر منتظمة بيوتا عدة ، يخترق الماء من دواليبه جميع نواحيها ، فلا يجد المغتسل أثر أذى فيها. وعلى

٢٠٦

شطه الثاني المتصل بالمدينة السفلى جامع صغير قد فتح جداره الشرقي عليه طيقانا تجتلي منها منظرا ترتاح النفس اليه ، وتتقيد الأبصار لديه. وبإزاء ممر النهر بجوفي المدينة قلعة حلبية الوضع ، وإن كانت دونها في الحصانة والمنع ، سرّب لها من هذا النهر ماء ينبع فيها ، فهي لا تخاف الصدى ، ولا تتهيب مرام العدى.

وموضع هذه المدينة في وهدة من الأرض عريضة مستطيلة ، كأنها خندق عميق ، يرتفع لها جانبان : أحدهما كالجبل المطل ، والمدينة العليا متصلة بصفح ذلك الجانب الجبلي ، والقلعة في الجانب الآخر في ربوة منقطعة كبيرة مستديرة قد تولى نحتها الزمان ، وحصل لها بحصانتها من كل عدوّ الأمان ، والمدينين السفلى تحت القلعة متصلة بالجانب الذي يصب النهر عليه ، وكلتا المدينتين صغيرتان. وسور المدينة العليا يمتد على رأس جانبها العلي الجبلي ويطيف بها.

وللمدينة السفلى سور يحدق بها من ثلاثة جوانب ، لأن جانبها المتصل بالنهر لا يحتاج الى سور. وعلى النهر جسر كبير معقود بصم الحجارة يتصل من المدينة السفلى الى ربضها. وربضها كبير فيه الخانات والديار ، وله حوانيت يستعجل فيها المسافر حاجاته الى أن يفرغ لدخول المدينة ، وأسواق المدينة العليا أحفل وأجمل من أسواق المدينة السفلى ، وهي الجامعة لجميع الصناعات والتجارات ، وموضوعها حسن التنظيم ، بديع الترتيب والتقسيم ، ولها جامع أكبر من الجامع الأسفل ، ولها ثلاث مدارس ومارستان على شط النهر بإزاء الجامع الصغير.

وبخارج هذه البلدة بسيط فسيح عريض قد انتظم أكثره شجيرات الأعناب وفيه المزارع والمحارث ، وفي منظره انشراح للنفس وانفساح. والبساتين متصلة على شطي النهر ، وهو يسمى العاصي ، لأن ظاهر انحداره من سفل الى علو ، ومجراه من الجنوب الى الشمال ، وهو يجتاز على قبلي حمص وبمقربة منها.

فكان مقامنا بحماة الى عشي يوم السبت المذكور ، ثم رحلنا منها وأسرينا الليل كله وأجتزنا في نصفه هذا النهر العاصي المذكور على جسر كبير معقود من

٢٠٧

الحجارة ، وعليه مدينة رستن التي خرّبها عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه.

وآثارها عظيمة. ويذكر الروم القسطنطينيون أن بها أموالا جمة مكنوزة ، والله أعلم بذلك ، فوصلنا الى مدينة حمص مع شروق الشمس من يوم الأحد الموفي عشرين لربيع الأول ، وهو أول يوليه ، فنزلنا بظاهرها بخان السبيل.

مدينة حمص

هي فسيحة الساحة ، مستطيلة المساحة ، نزهة لعين مبصرها من النظافة والملاحة ، موضوعة في بسيط من الأرض عريض مداه ، لا يخترقه النسيم بمسراه ، يكاد البصر يقف دون منتهاه ، أفيح أغبر ، لا ماء ولا شجر ، ولا ظل ولا ثمر ، فهي تشتكي ظماءها ، وتستقي على البعد ماءها ، فيجلب لها من نهيرها العاصي ، وهو منها بنحو مسافة الميل ، وعليه طرة بساتين تجتلي العين خضرتها ، وتستغرب نضرتها ، ومنبعه في مغارة يصفح جبل فوقها بمرحلة بموضع يقابل بعلبك ، أعادها الله ، وهي عن يمين الطريق الى دمشق.

وأهل هذه البلدة موصوفون بالنجدة والتمرس بالعدو لمجاورتهم اياه ، وبعدهم في ذلك أهل حلب. فأحمد خلال هذه البلدة هواؤها الرطب ، ونسيمها الميمون تخفيفه وتجسيمه ، فكأن الهواء النجدي في الصحة شقيقه وقسيمه.

وبقبلي هذه المدينة قلعة حصينة منيعة ، عاصية غير مطيعة ، قد تميّزت وانحازت بموضوعها عنها. وبشرقيها جبانة فيها قبر خالد بن الوليد ، رضي‌الله‌عنه ، هو سيف الله المسلول ، ومعه قبر ابنه عبد الرحمن ، وقبر عبيد الله بن عمر ، رضي‌الله‌عنهم. وأسوار هذه المدينة غاية في العتاقة والوثاقة ، مرصوص بناؤها بالحجارة الصم السود ، وابوابها أبواب حديد ، سامية الإشراف ، هائلة المنظر ، رائعة الإطلال والأناقة تكتنفها الأبراج المشيدة الحصينة. وأما داخلها فما شئت من بادية شعثاء ، خلقة الأرجاء ، ملفقة البناء ، لا اشراق لآفاقها ، ولا رونق

٢٠٨

لأسواقها ، كاسدة لا عهد لها بنفاقها. وما ظنك ببلد حصن الأكراد منه على أميال يسيرة ، وهو معقل العدو ، فهو منه تتراءى ناره ، ويحرق اذا يطير شراره ، ويتعهد اذا شاء كل يوم مغاره.

وسألنا أحد الأشياخ بهذه البلدة : هل فيها مارستان على رسم مدن هذه الجهات؟ فقال ، وقد أنكر ذلك : حمص كلها مارستان! وكفاك تبيينا شهادة أهلها فيها! وبها مدرسة واحدة ، وتجد في هذه البلدة عند اطلالك عليها من بعد في بسيطها ومنظرها وهيئة موضوعها ، بعض شبه بمدينة إشبيلية من بلاد الأندلس ، يقع للحين في نفسك خياله ، وبهذا الاسم سميت في القديم ، وهي العلة التي أوجبت نزول الأعراب أهل حمص فيها ، حسبما يذكر. وهذا التشبيه وان لم يكن بذاته ، فله لمحة من احدى جهاته.

وأقمنا بها يوم الأحد المذكور ويوم الاثنين بعده ، وهو الثاني ليوليه ، الى أول الظهر ، ورحلنا منها وتمادينا الى العشي ، ونزلنا بقرية خربة تعرف بالمشعر فعشينا بها الدواب ، ثم رحلنا عند المغرب وأسرينا طول ليلتنا ، وتمادى سيرنا الى الضحى الاعلى من يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من الشهر المذكور ، ونزلنا بقرية كبيرة للنصارى المعاهدين تعرف بالقارة ، ليس فيها من المسلمين أحد ، وبها خان كبير كأنه الحصن المشيد في وسطه صهريج كبير مملوء ماء يتسرب له تحت الأرض من عين على البعد ، فهو لا يزال ملآن ، فأرحنا بالخان المذكور الى الظهر ثم رحلنا منه الى قرية تعرف بالنبك ، بها ماء جار ومحرث متسع ، فنزلنا بها للتعشية ، ثم رحلنا منها بعد اختلاس تهويمة خفيفة.

وأسرينا الليل كله ، فوصلنا الى خان السلطان مع الصباح ، وهو خان بناه صلاح الدين صاحب الشام. وهو في نهاية الوثاقة والحسن ، بباب حديد على سبيلهم في بناء خانات هذه الطرق كلها واحتفالهم في تشييدها ، وفي هذا الخان ماء جار يتسرب الى سقاية في وسط الخان كأنها صهريج ، ولها منافس ينصب منها الماء في سقاية صغيرة مستديرة حول الصهريج ثم يغوص في سرب في

٢٠٩

لأرض.

والطريق من حمص الى دمشق قليل العمارة الا في ثلاثة مواضع أو أربعة ، منها هذه الخانات المذكورة ، فأقمنا بها يوم الأربعاء الثالث والعشرين لربيع المذكور بالخان المذكور مريحين ومستدركين للنوم الى أول الظهر ، ثم رحلنا وجزنا بثنية العقاب ومنها يشرف على بسيط دمشق وغوطتها ، وعند هذه الثنية مفرق طريقين : احداهما التي جئنا منها ، والثانية آخذة شرقا في البرية على السماوة الى العراق ، وهي طريق قصد لكنها لا تدخل الا في الشتاء. فانحدرنا منها بين جبال في بطن واد الى البسيط ونزلنا منه بموضع يعرف بالقصير ، فيه خان كبير والنهر جار أمامه ، ثم رحلنا منه مع الصبح وسرنا في بساتين متصلة لا يوصف حسنها ، ووصلنا دمشق في الضحى الأعلى من يوم الخميس الرابع والعشرين لربيع الأول والخامس ليوليه ، والحمد لله رب العالمين.

شهر ربيع الآخر

استهل هلاله يوم الأربعاء بموافقة الحادي عشر ليوليه ، ونحن بدمشق نازلين فيها بدار الحديث غربي جامعها المكرم.

مدنية دمشق

جنة المشرق ، ومطلع حسنه المؤنق المشرق وهي خاتمة بلاد الاسلام التي استقريناها ، وعروس المدن التي اجتليناها ، قد تحلت بأزاهير الرياحين ، وتجلت في حلل سندسية من البساتين ، وحلت من موضوع الحسن بالمكان المكين ، وتزينت في منصتها أجمل تزيين ، وتشرفت بأن آوى الله تعالى المسيح وأمه ، صلى الله عليهما ، منها الى ربوة ذات قرار ومعين ، ظل ظليل ، وماء

٢١٠

سلسبيل ، تنساب مذانبه انسياب الأراقم بكل سبيل ، ورياض يحيي النفوس نسيمها العليل ، تتبرج لناظريها بمجتلى صقيل ، وتناديهم : هلموا الى معرّس للحسن ومقيل ، قد سئمت أرضها كثرة الماء حتى اشتاقت الى الظماء ، فتكاد تناديك بها الصم الصلاب : اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ؛ قد أحدقت البساتين بها إحداق الهالة بالقمر ، واكتنفتها اكتناف الكمامة للزهر ، وامتدت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر ، فكل موضع لحظته بجهاتها الأربع نصرته اليانعة قيد النظر ، ولله صدق القائلين عنها : إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيها ، وإن كانت في السماء فهي بحيث تسامتها وتحاذيها.

جامعها المكرم

هو من أشهر جوامع الإسلام حسنا ، واتقان بناء ، وغرابة صنعة ، واحتفال تنميق وتزيين. وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه. ومن عجيب شأنه أنه لا تنسج به العنكبوت ولا تدخله ، ولا تلم به الطير المعروفة بالخطاف. انتدب لبنائه الوليد بن عبد الملك ، رحمه‌الله ، ووجه الى ملك الروم بالقسطنطينية يأمره بإشخاص اثني عشر ألفا من الصناع من بلاده ، وتقدم اليه بالوعيد في ذلك ان توقف عنه. فأمتثل أمره مذعنا بعد مراسلة جرت بينهما في ذلك مما هو مذكور في كتب التاريخ. فشرع في بنائه ، وبلغت الغايات في التأنق فيه ، وانزلت جدره كلها بفصوص من الذهب المعروف بالفسيفساء ، وخلطت بها أنواع من الأصبغة الغريبة ، قد مثلت أشجارا ، وفرعت اغصانا منظومة بالفصوص ، ببدائع من الصنعة الأنيقة المعجزة وصف كل واصف ، فجاء يغشي العيون وميضا وبصيصا. وكان مبلغ النفقة فيه ، حسبما ذكره ابن المعلى الأسدي في جزء وضعه في ذكر بنائه ، مئة صندوق ، في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار ومئتا أنف دينار ، فكان مبلغ الجميع أحد عشر

٢١١

ألف ألف دينار ومئتي ألف دينار.

والوليد هذا هو الذي اخذ نصف الكنيسة الباقية منه في أيدي النصارى وأدخلها فيه ، لأنه كان قسمين : قسما للمسلمين وهو الشرقي ، وقسما للنصارى وهو الغربي ، لأن أبا عبيدة بن الجراح ، رضي‌الله‌عنه ، دخل البلد من الجهة الغربية ، فانتهى الى نصف الكنيسة ، وقد وقع الصلح بينه وبين النصارى ، ودخل خالد بن الوليد ، رضي‌الله‌عنه ، عنوة من الجانب الشرقي وانتهى الى النصف الثاني وهو الشرقي ، فاجتازه المسلمون وصيروره مسجدا ، وبقي النصف المصالح علية وهو الغربي كنيسة بأيدي النصارى ، الى ان عوّضهم منه الوليد ، فأبوا ذلك ، فانتزعه منهم قهرا وطلع لهدمه بنفسه ، وكانوا يزعمون ان الذي يهدم كنيستهم يجنّ ، فبادر الوليد وقال : انا أول من يجنّ في الله ، وبدأ الهدم بيده ، فبادر المسلمون وأكملوا هدمه. واستعدوا عمر بن عبد العزيز ، رضي‌الله‌عنه ، أيام خلافته وأخرجوا العهد الذي بأيديهم من الصحابة ، رضي‌الله‌عنهم ، في ابقائه عليهم ، فهمّ بصرفه اليهم ، فأشفق المسلمون من ذلك ثم عوّضهم منه بمال عظيم أرضاهم به ، فقبلوه.

ويقال : إن اول من وضع جداره القبلي هو النبي ، عليه‌السلام. وكذلك ذكر ابن المعلّى في تاريخه ، والله اعلم بذلك ، لا اله سواه ، وقرأنا في فضائل دمشق عن سفيان الثوري ، رضي‌الله‌عنه ، أنه قال : ان الصلاة فيه بثلاثين ألف صلاة. وفي الحديث عن النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه يعبد الله عزوجل فيه بعد خراب الدنيا اربعين سنة.

تذريعه ومساحته وعدد أبوابه وشمسياته

ذرعه في الطول من الشرق الى الغرب مئتا خطوة ، وهما ثلاث مئة ذراع ، وذرعه في السعة من القبلة الى الجوف مئة خطوة وخمس وثلاثون خطوة ، وهي

٢١٢

مئتا ذراع. فيكون تكسيره من المراجع الغربية اربعة وعشرين مرجعا. وهو تكسير مسجد رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، غير أن الطول في مسجد رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من القبلة الى الشمال. وبلاطاته المتصلة بالقبلة ثلاثة مستطيلة من الشرق الى الغرب ، سعة كل بلاط منها ثماني عشرة خطوة ، والخطوة ذراع ونصف ، وقد قامت على ثمانية وستين عمودا ، منها أربع وخمسون سارية ، وثماني أرجل جصية تتخللها ، واثنتان مرخمّة ملصقة معها في الجدار الذي يلي الصحن ، وأربع أرجل مرخمّة أبدع ترخيم ، مرصعة بفصوص من الرخام ملونة ، قد نظمت خواتيم ، وصوّرت محاريب وأشكالا غريبة ، قائمة في البلاط الأوسط ، تقل قبة الرصاص مع القبة التي تلي المحراب ، سعة كل رجل منها ستة عشر شبرا ، وطولها عشرون شبرا ، وبين كل رجل ورجل في الطول سبع عشرة خطوة ، وفي العرض ثلاث عشرة خطوة فيكون دور كل رجل منها اثنين وسبعين شبرا. ويستدير بالصحن بلاط من ثلاث جهاته : الشرقية والغربية والشمالية ؛ سعته عشر خطا ، وعدد قوائمه سبع وأربعون : منها أربع عشرة من الجص ، وسائرها سوار. فيكون سعة الصحن ، حاشا المسقف القبلي والشمالي ، مئة ذراع. وسقف الجامع كله من خارج ألواح رصاص.

وأعظم ما في هذا الجامع المبارك قبة الرصاص المتصلة بالمحراب وسطه ، سامية في الهواء ، عظيمة الاستدارة ، قد استقل بها هيكل عظيم هو غارب لها ، يتصل من المحراب الى الصحن ، وتحته ثلاث قباب : قبة تتصل بالجدار الذي الى الصحن ، وقبة تتصل بالمحراب ، وقبة تحت قبة الرصاص بينهما. والقبة الرصاصية قد أغضت الهواء وسطه ، فإذا استقبلتها ابصرت منظرا رائعا ، ومرأى هائلا ، يشبهه الناس بنسر طائر ، كأن القبة رأسه ، والغارب جؤجؤه ، ونصف جدار البلاط عن يمين ، ونصف الثاني عن شمال ، جناحاه. وسعة هذا الغارب من جهة الصحن ثلاثون خطوة ، فهم يعرفون الموضع من الجامع بالنسر لهذا التشبيه الواقع عليه. ومن أي جهة استقبلت البلد ترى القبة في الهواء منيفة على كل علو كأنها معلقة من الجو.

٢١٣

والجامع المكرم مائل الى الجهة الشمالية من البلد. وعدد شمسياته الزجاجية المذهبة الملونة أربع وسبعون : منها في القبة التي تحت قبة الرصاص عشر ، وفي القبة المتصلة بالمحراب مع ما يليها من الجدار أربع عشرة شمسية ، وفي طول الجدار عن يمين المحراب ويساره أربع وأربعون ، وفي القبة المتصلة بجدار الصحن ست ، وفي ظهر الجدار الى الصحن سبع وأربعون شمسية.

وفي الجامع المكرم ثلاث مقصورات : مقصورة الصحابة ، رضي‌الله‌عنهم ، وهي أول مقصورة وضعت في الاسلام ، وضعها معاوية بن أبي سفيان ، رضي‌الله‌عنهما ، وبإزاء محرابها عن يمين مستقبل القبلة باب حديد ، كان يدخل معاوية ، رضي‌الله‌عنه ، الى المقصورة منه الى المحراب. وبإزاء محرابها لجهة اليمين مصلى أبي الدرداء ، رضي‌الله‌عنه ، وخلفها كانت دار معاوية ، رضي‌الله‌عنه ، وهي اليوم سماط عظيم للصفارين ، يتصل بطول جدار الجامع القبلي ، ولا سماط أحسن منظرا منه ولا أكبر طولا وعرضا. وخلف هذا السماط على مقربة منه دار الخليل برسمه ، وهي اليوم مسكونة ، وفيها مواضع للكمادين. وطول المقصورة الصحابية المذكورة أربعة وأربعون شبرا ، وعرضها نصف الطول. ويليها لجهة الغرب ، في وسط الجامع ، المقصورة التي أحدثت عند إضافة النصف المتخذ كنيسة الى الجامع ، حسبما تقدم ذكره ، وفيها منبر الخطبة ومحراب الصلاة.

وكانت مقصورة الصحابة أولا في نصف الحظ الإسلامي من الكنيسة ، وكان الجدار حيث أعيد المحراب في المقصورة المحدثة ، فلما أعيدت الكنيسة كلها مسجدا صارت مقصورة الصحابة طرفا في الجانب الشرقي ، وأحدثت المقصورة الأخرى وسطا حيث كان جدار الجامع قبل الاتصال. وهذه المقصورة أخرى المحدثة أكبر من الصحابية. وبالجانب الغربي بازاء الجدار مقصورة أخرى هي برسم الحنفية يجتمعون فيها للتدريس وبها يصلون. وبإزائها زاوية محدقة بالأعواد المشرجبة كأنها مقصورة صغيرة. وبالجانب الشرقي زاوية أخرى على هذه الصفة هي كالمقصورة ، كان وضعها للصلاة فيها أحد امراء الدولة التركية ، وهي

٢١٤

لاصقة بالجدار الشرقي. وبالجامع المكرم عدة زوايا على هذا الترتيب يتخذها الطلبة للنسخ والدرس والانفراد عن ازدحام الناس ، وهي من جملة مرافق الطلبة.

وفي الجدار المتصل بالصحن ، المحيط بالبلاطات القبيلة ، عشرون بابا متصلة بطول الجدار قد علتها قسيّ جصية مخرّمة كلها على هيئة الشمسيات ، فتبصر العين من اتصالها أجمل منظر وأحسنه. والبلاط المتصل بالصحن ، المحيط بالبلاطات من ثلاث جهات ، على أعمدة ، وعلى تلك الأعمدة أبواب مقوسة تقلها أعمدة صغار تطيف بالصحن كله.

ومنظر هذا الصحن من أجمل المناظر وأحسنها ، وفيه مجتمع أهل البلد ، وهو متفرجهم ومتنزههم كل عشية ، تراهم فيه ذاهبين وراجعين من شرق الى غرب ، من باب جيرون الى باب البريد ، فمنهم من يتحدث مع صاحبه ، ومنهم من يقرأ ، لا يزالون على هذه الحال من ذهاب ورجوع الى انقضاء صلاة العشاء الآخرة ثم ينصرفون ، ولبعضهم بالغداة مثل ذلك ، وأكثر الاحتفال انما هو بالعشيّ فيخيل لمبصر ذلك أنها ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم لما يرى من احتفال الناس واجتماعهم ، لا يزالون على ذلك كل يوم. وأهل البطالة من الناس يسمونهم الحراثين.

وللجامع ثلاث صوامع : واحدة في الجانب الغربي ، وهي كالبرج المشيد ، يحتوي على مساكن متسعة وزوايا فسيحة راجعة كلها الى أغلاق يسكنها أقوام من الغرباء أهل الخير ، والبيت الأعلى منها كان معتكف أبي حامد الغزالي ، رحمه‌الله ، ويسكنه اليوم الفقيه الزاهد أبو عبد الله بن سعيد من أهل قلعة يحصب المنسوبة لهم ، وهو قريب لبني سعيد المشتهرين بالدنيا وخدمتها ، وثانية بالجانب الغربي على هذه الصفة ، وثالثة بالجانب الشمالي على الباب المعروف بباب الناطفيين.

وفي الصحن ثلاث قباب : إحداها في الجانب الغربي منه وهي أكبرها ، وهي قائمة على ثمانية أعمدة من الرخام ، مستطيلة كالبرج ، مزخرفة بالفصوص والأصبغة

٢١٥

الملونة ، كأنها الروضة حسنا ، وعليها قبة رصاص كأنها التنور العظيم الاستدارة ، يقال : إنها كانت مخزنا لمال الجامع ، وله مال عظيم من خراجات ومستغلات تنيف على ما ذكر لنا على الثمانية آلاف دينار صورية في السنة ، وهي خمسة عشر ألف دينار مؤمنية أو نحوها. وقبة أخرى صغيرة في وسط الصحن مجوفة مثمنة من رخام قد ألصق أبدع إلصاق ، قائمة على أربعة أعمدة صغار من الرخام وتحتها شباك حديد مستدير ، وفي وسطه أنبوب من الصفر يمج الماء الى علو ، فيرتفع وينثني كأنه قضيب لجين ، يشره الناس لوضع أفواههم فيه للشرب استظرافا واستحسانا ، ويسمونه قفص الماء. والقبة الثالثة في الجانب الشرقي قائمة على ثمانية أعمدة على هيئة القبة الكبيرة لكن أصغر منها.

وفي الجانب الشمالي من الصحن باب كبير يفضي الى مسجد كبير ، في وسطه صحن ، قد استدار فيه صهريج من الرخام كبير ، يجري الماء فيه دائما من صفحة رخام أبيض مثمنة قد قامت وسط الصهريج على رأس عمود مثقوب يصعد الماء منه اليها ، ويعرف هذا الموضع بالكلاسة ، ويصلي فيه اليوم صاحبنا الفقيه الزاهد المحدث أبو جعفر الفنكي القرطبي ، ويتزاحم الناس على الصلاة فيه خلفه التماسا لبركته واستماعا لحسن صوته.

وفي الجانب الشرقي من الصحن باب يفضي الى مسجد من أحسن المساجد وأبدعها وضعا وأجملها بناء ؛ يذكر الشيعة أنه مشهد لعلي بن أبي طالب ، رضي‌الله‌عنه. وهذا من أغرب مختلقاتهم. ومن العجيب أنه يقابله ، في الجهة الغربية في زاوية البلاط الشمالي من الصحن ، موضع هو ملتقى آخر البلاط الشمالي مع أول البلاط الغربي ، مجلل بستر في أعلاه ، وأمامه ستر أيضا منسدل ، يزعم أكثر الناس أنه موضع لعائشة ، رضي‌الله‌عنها ، وأنها كانت تسمع الحديث فيه. وعائشة ، رضي‌الله‌عنها ، في دخول دمشق كعلي ، رضي‌الله‌عنه ، لكن لهم في علي ، رضي‌الله‌عنه مندوحة من القول ، وذلك أنهم يزعمون أنه رؤي في المنام مصليا في ذلك الموضع فبنت الشيعة فيه مسجدا. واما الموضع المنسوب لعائشة ، رضي‌الله‌عنها ، فلا مندوحة فيه وإنما ذكرناه لشهرته في الجامع.

٢١٦

وكان هذا الجامع المبارك ، ظاهرا وباطنا ، منزلا كله بالفصوص المذهبة ، مزخرفا بأبدع زخاريف البناء المعجز الصنعة ، فأدركه الحريق مرتين ، فتهدم وجدد ، وذهب أكثر رخامه ، فاستحال رونقه ، فأسلم ما فيه اليوم قبلته مع الثلاث قباب المتصلة بها. ومحرابه من أعجب المحاريب الاسلامية حسنا وغرابة صنعة ، يتقد ذهبا كله. وقد قامت في وسطه محاريب صغار متصلة بجداره تحفها سويريات مفتولات فتل الأسورة كأنها مخروطة ، لم ير شيء أجمل منها ، وبعضها حمر كأنها مرجان. فشأن قبلة هذا الجامع المبارك ، مع ما يتصل من قبابه الثلاث ، واشراق شمسياته المذهبة الملونة عليه ، واتصال شعاع الشمس بها ، وانعكاسه الى كل لون منها ، حتى ترتمي الأبصار منه أشعة ملونة ، يتصل ذلك بجداره القبلي كله ، عظيم لا يلحق وصفه ولا تبلغ العبارة بعض ما يتصوره الخاطر منه ، والله يعمره بشهادة الإسلام وكلمته بمنّه.

وفي الركن الشرقي من المقصورة الحديثة في المحراب خزانة كبيرة فيها مصحف من مصاحف عثمان رضي‌الله‌عنه ، وهو المصحف الذي وجه به الى الشام وتفتح الخزانة كل يوم إثر الصلاة فيتبرك الناس بلمسه وتقبيله ويكثر الازدحام عليه.

وله أربعة أبواب : باب قبلي ، ويعرف بباب الزيادة ، وله دهليز كبير متسع ، له أعمدة عظام ، وفيه حوانيت للخرزيين وسواهم ، وله مرأى رائع ، ومنه يفضى الى دار الخيل ، وعن يسار الخارج منه سماط الصفارين وهي كانت دار معاوية ، رضي‌الله‌عنه ، وتعرف بالخضراء ؛ وباب شرقي ، وهو أعظم الأبواب ، ويعرف بباب جيرون ؛ وباب غربي ، ويعرف بباب البريد ؛ وباب شمالي ، ويعرف بباب الناطفيين.

وللشرقي والغربي والشمالي أيضا من هذه الأبواب دهاليز متسعة ، يفضي كل دهليز منها الى باب عظيم ، كانت كلها مداخل للكنيسة فبقيت على حالها ، وأعظمها منظرا الدهليز المتصل بباب جيرون ، يخرج من هذا الباب الى بلاط

٢١٧

طويل عريض قد قامت أمامه خمسة أبواب مقوسة لها ستة اعمدة طوال. وفي وجه اليسار منه مشهد كبير حفيل كان فيه رأس الحسين بن علي ، رضي‌الله‌عنهما ثم نقل الى القاهرة. وبإزائه مسجد صغير ينسب لعمر بن عبد العزيز ، رضي‌الله‌عنه. وبذلك المشهد ماء جار. وقد انتظمت أمام البلاط أدراج ينحدر عليها الى الدهليز ، وهو كالخندق العظيم ، يتصل الى باب عظيم الارتفاع ، ينحسر الطرف دونه سموا ، قد حفته أعمدة كالجذوع طولا وكالأطواد ضخامة.

وبجانبي هذا الدهليز أعمدة قامت عليها شوارع مستديرة ، فيها الحوانيت المنتظمة للعطارين وسواهم ، وعليها شوارع أخر مستطيلة فيها الحجر والبيوت للكراء مشرفة على الدهليز ، وفوقها سطح يبيت به سكان الحجر والبيوت ، وفي وسط الدهليز حوض كبير مستدير من الرخام عليه قبة تقلها أعمدة من الرخام ، ويستدير بأعلاها طرة من الرصاص واسعة مكشوفة للهواء لم ينعطف عليها تعتيب. وفي وسط الحوض الرخامي أنبوب صفر يزعج الماء بقوة فيرتفع الى الهواء أزيد من القامة لم ... وحوله أنابيب صغار ترمي الماء الى علو فيخرج عنها كقضبان اللجين ، فكأنها أغصان تلك الدوحة المائية ومنظرها أعجب وأبدع من أن يلحقه الوصف.

وعن يمين الخارج من باب جيرون ، في جدار البلاط الذي أمامه ، غرفة ، ولها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان صفر قد فتحت أبوابا صغارا على عدد ساعات النهار ودبرت تدبيرا هندسيا ، فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فمي بازيين مصورين من صفر قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحد منهما : أحدهما تحت أول باب من تلك الأبواب ، والثاني تحت آخرها ، والطاستان مثقوبتان ، فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار الى الغرفة ، وتبصر البازيين يمدان أعناقهما بالبندقتين الى الطاستين ويقذفانهما بسرعة بتدبير عجيب تتخيله الأوهام سحرا ، وعند وقوع البندقتين في الطاستين يسمع لهما دوي ، وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بلوح من الصفر ؛

٢١٨

لا يزال كذلك عند كل انقضاء ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلها وتنقضي الساعات ، ثم تعود الى حالها الأول. ولها بالليل تدبير آخر ، وذلك أن في القوس المنعطف على تلك الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة ، مدبر ذلك كله منها خلف الطيقان المذكورة ، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة ، فإذا انقضت عمّ الزجاجة ضوء المصباح وفاض على الدائرة أمامها شعاعها ، فلاحت للأبصار دائرة محمرة ، ثم انتقل ذلك الى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها ، وقد وكل بها في الغرفة متفقد لحالها ، درب بشأنها وانتقالها ، يعيد فتح الأبواب وصرف الصنج الى موضعها. وهي التي يسميها الناس المنجانة.

ودهليز الباب الغربي فيه حوانيت البقالين والعطارين ، وفيه سماط لبيع الفواكه ، وفي أعلاه باب عظيم يصعد اليه على أدراج ، وله أعمدة سامية في الهواء. وتحت الأدراج سقايتان مستديرتان : سقاية يمينا ، وسقاية يسارا ، لكل سقاية خمسة أنابيب ترمي الماء في حوض رخام مستطيل. ودهليز الباب الشمالي فيه زوايا على مصاطب محدقة بالأعواد المشرجبة ، وهي محاضر لمعلمي الصبيان.

وعن يمين الخارج في الدهليز خانقة مبنية للصوفية في وسطها صهريج ويقال : انها كانت دار عمر بن عبد العزيز ، رضي‌الله‌عنه ، ولها خبر سيأتي ذكره بعد هذا. والصهريج الذي في وسطها يجري الماء فيه ، ولها مطاهر يجري الماء في بيوتها. وعن يمين الخارج أيضا من باب البريد مدرسة للشافعية في وسطها صهريج يجري الماء فيه ولها مطاهر على الصفة المذكورة.

وفي الصحن بين القباب المذكورة عمودان متباعدان يسيرا لهما رأسان من الصفر مستطيلان مشرجبان قد خرما أحسن تخريم ، يسرجان ليلة النصف من شعبان فيلوحان كأنهما ثريتان مشتعلتان. واحتفال أهل هذه البلدة لهذه الليلة المذكورة اكثر من احتفالهم ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم.

٢١٩

وفي هذا الجامع المبارك مجتمع عظيم ، كل يوم اثر صلاة الصبح ، لقراءة سبع من القرآن دائما ، ومثله اثر صلاة العصر لقراءة تسمى الكوثرية ، يقرءون فيها من سورة الكوثر الى الخاتمة. ويحضر في هذا المجتمع الكوثري كل من لا يجيد حفظ القرآن. وللمجتمعين على ذلك اجراء كل يوم يعيش منه أزيد من خمس مئة انسان. وهذا من مفاخر هذا الجامع المكرم. فلا تخلو القراءة منه صباحا ولا مساء. وفيه حلقات للتدريس للطلبة ، وللمدرسين فيها اجراء واسع ، وللمالكية زاوية للتدريس في الجانب الغربي ، يجتمع فيها طلبة المغاربة ، ولهم اجراء معلوم.

ومرافق هذا الجامع المكرم للغرباء وأهل الطلب كثيرة واسعة. وأغرب ما يحدث به أن سارية من سواريه ، هي بين المقصورتين القديمة والحديثة ، لها وقف معلوم يأخذه المستند اليها للمذاكرة والتدريس. أبصرنا بها فقيها من أهل اشبيلية يعرف بالمرادي. وعند فراغ المجتمع السبعي من القراءة صباحا يستند كل انسان منهم الى سارية ويجلس أمامه صبي يلقنه القرآن. وللصبيان أيضا على قراءتهم جراية معلومة. فأهل الجدة من آبائهم ينزهون أبناءهم عن أخذها وسائرهم يأخذها وهذا من المفاخر الاسلامية.

وللأيتام من الصبيان محضرة كبيرة بالبلد لها وقف كبير ، يأخذ منه المعلم لهم ما يقوم به وينفق منه على الصبيان ما يقوم بهم وبكسوتهم ؛ وهذا أيضا من أغرب ما يحدّث به من مفاخر هذه البلاد.

وتعليم الصبيان للقرآن بهذه البلاد المشرقية كلها انما هو تلقين ، ويعلمون الخط في الأشعار وغيرها ، تنزيها لكتاب الله عزوجل عن ابتذال الصبيان له بالإثبات والمحو. وقد يكون في أكثر البلاد الملقن على حدة والمكتّب على حدة فينفصل من التلقين الى التكتيب ، لهم في ذلك سيرة حسنة. ولذلك ما يتأتى لهم حسن الخط ، لأن المعلم له لا يشتغل بغيره ، فهو يستفرغ جهده في التعليم والصبي في التعلم كذلك ، ويسهل عليه لأنه بتصوير يحذو حذوه.

ويستدير بهذا الجامع المكرم أربع سقايات ، في كل جانب سقايات ، في كل جانب سقاية ، كل واحدة

٢٢٠