رحلة ابن جبير

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي

رحلة ابن جبير

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

ومنهم من يخرج الشقة الغالية من الحرير فيعطيها ، وقد أعدها لذلك ، ومنهم من يخلع عمامته فينبذها ، ومنهم من يتجرد عن برده فيلقي به ، ومنهم من لا يتسع حاله لذلك فيسمح بفضلة من الخام ، ومنهم من يدفع القراضة من الذهب ، ومنهم من يمد يده بالدينار والدينارين الى غير ذلك ، ومن النساء من تطرح خلخالها وتخرج خاتمها فتلقيه ، الى ما يطول الوصف له من ذلك. والخطيب ، في أثناء هذه الحال كلها ، جالس على المنبر يلحظ هؤلاء المستجدين المستسعين على الناس بلحظات يكرّها الطمع ويعيدها الرغبة والاستزادة ، الى أن كاد الوقت ينقضي ، والصلاة تفوت ، وقد ضج من له دين وصحة من الناس ، وأعلن بالصياح وهو قاعد ينتظر اشتفاف صبابة الكدية وقد أراق عن وجهه ماء الحياء ، فاجتمع له من ذلك السحت المؤلف كوم عظيم أمامه ، فلما أرضاه قام وأكمل الخطبة وصلى بالناس. وانصرف أهل التحصيل باكين على الدين ، يائسين من فلاح الدنيا متحققين أشراط الآخرة. ولله الأمر من قبل ومن بعد! وفي عشي ذلك اليوم المبارك كان وداعنا للروضة المباركة والتربة المقدسة ، فيا له وداعا عجبا ذهلت له النفوس ارتياعا حتى طارت شعاعا ، واستشرت به النفوس التياعا حتى ذابت انصداعا! وما ظنك بموقف يناجى بالتوديع فيه سيد الأولين والآخرين ، وخاتم النبيين ، ورسول رب العالمين؟ إنه لموقف تنفطر له الأفئدة ، وتطيش به الالباب الثابتة المتئدة ، فوا أسفاه وا أسفاه! كل يبوح لديه بأشواقه ، ولا يجد بدا من فراقه ، فما يستطيع الى الصبر سبيلا ، ولا تسمع في هول ذلك المقام الا رنة وعويلا ، وكلّ بلسان الحال ينشد :

محبتي تقتضي مقامي

وحالتي تقتضي الرحيلا

بوّأنا الله بزيارة هذا النبي الكريم منزل الكرامة ، وجعله شفيعا لنا يوم القيامة واحلنا من فضله في جواره دار المقامة ، برحمته انه غفور رحيم ، جواد كريم. وكان مقامنا بالمدينة المكرمة خمسة أيام ، أولها يوم الاثنين وآخرها يوم الجمعة.

١٦١

من المدينة إلى العراق

وفي ضحوة يوم السبت الثامن لمحرّم المذكور ، والحادي والعشرين من شهر أبريل ، كان رحيلنا من المدينة المكرمة الى العراق ، قرّب الله لنا المرام وسهّل علينا السبيل. واستصحبنا منها الماء لثلاثة أيام ، فنزلنا يوم الاثنين ، ثالث يوم رحيلنا المذكور ، بوادي العروس ، فتزود الناس منها الماء ، يحفرون عليه في الأرض بئرا فينبع منها ماء عذب معين يروي الأمة التي لا يحصى لها عدد من هذه المحلة مع جمالها التي تنيف على عددها ، ولله القدرة سبحانه.

وصعدنا من وادي العروس الى ارض نجد ، وخلفنا تهامة وراءنا ، ومشينا في بسيطة من الأرض ينحسر الطرف دون أدناها ولا يبلغ مداها ، وتنسمنا نسيم نجد وهواءها المضروب به المثل ، فانتعشت النفوس والاجسام ببرد نسيمه وصحة هوائه. ونزلنا يوم الثلاثاء ، رابع يوم رحيلنا ، على ماء يعرف بماء العسيلة. ثم نزلنا يوم الأربعاء ، خامس يوم رحيلنا ، بموضع يعرف بالنّقرة ، وفيها آبار ومصانع كالصهاريج العظام ، وجدنا أحدها مملوءا بماء المطر ، فعم جميع المحلة ولم ينضب على كثرة المحلة واستماحتها.

وصفة مراحل هذا الأمير بالحاج أن يسري من نصف الليل الى ضحية ، ثم ينزل الى أول الظهر ، ثم يرحل وينزل مع العشاء الآخرة ، ثم يقوم نصف الليل ؛ هذا دأبه.

ونزلنا ليلة الخميس الثالث عشر لمحرم ، وسادس يوم رحيلنا ، على ماء يعرف بالقارورة ، وهي مصانع مملوءة بماء المطر ، وهذا الموضع هو وسط أرض نجد. وما أرى أن في المعمور أرضا أفسح بسيطا ، ولا أوسع أنفا ، ولا أطيب نسيما ولا أصح هواء ، ولا أمد استواء ، ولا أصفى جوا ، ولا انقى تربة ، ولا أنعش للنفوس والابدان ، ولا أحسن اعتدالا ، في كل الأزمان ، من ارض نجد. ووصف محاسنها يطول والقول فيها يتسع.

١٦٢

وفي يوم الخميس المذكور ، مع ضحوة النهار ، نزلنا بالحاجر ، والماء فيه في مصانع ، وربما حفروا عليه حفرا قريبة العمق يسمونها أحفارا ، واحدها حفر. وكنا نتخوف في هذا الطريق قلة الماء ، لا سيما مع عظم هذا الجمع الأنامي والأنعاميّ ، الذين لو وردوا البحر لأنزفوه واستقوه ، فأنزل الله من سحب رحمته ما أعاد الغيطان غدرانا ، وأجرى المسول سيولا ، وصيّر الوهاد مملوءة عهادا. فكنا نبصر مذانب الماء سائحة على وجه الأرض فضلا من الله ونعمة ، ولطفا من الله بعباده ورحمة ، والحمد لله على ذلك. وفي اليوم المذكور أجزنا بالحاجر واديين سيالين ، واما البرك والقرارات فلا تحصى.

وفي يوم الجمعة بعده نزلنا ضحوة النهار سميرة ، وهي موضع معمور ، وفي بسيطها شبه حصن يطيف به حلق كبير مسكون ، والماء فيه في آبار كثيرة الا أنها زعاق ومستنقعات وبرك ، وتبايع العرب فيها مع الحاج فيما أخرجوه من لحم وسمن ولبن ، ووقع الناس على قرم وعيمة ، فبادروا الابتياع لذلك بشقق الخام التي يستصحبونها لمشاراة الأعراب لأنهم لا يبايعونهم الا بها.

وفي ضحوة يوم السبت بعده نزلنا بالجبل المخروق ، وهو جبل في بيداء من الأرض ، وفي صفحه الأعلى ثقب نافذ تخترقه الرياح. ثم رحنا من ذلك الموضع وبتنا بوادي الكروش على غير ماء ، ثم أسرينا منه وأصبحنا على فيد يوم الأحد وهي حصن كبير مبرج مشرف في بسيط من الأرض يمتد حوله ربض يطيف به سور عتيق البنيان ، وهو معمور بسكان من الأعراب ، ينتعشون مع الحاج في التجارات والمبايعات وغير ذلك من المرافق ، وهناك يترك الحاج بعض زادهم اعدادا للإرمال من الزاد عند انصرافهم ، ولهم بها معارف يتركون أزودتهم عندهم. وهذا نصف الطريق من بغداد الى مكة على المدينة ، شرّفها الله ، أو أقل يسيرا ، ومنها الى الكوفة اثنا عشر يوما في طريق سهلة طيّبة ، والمياه فيها بحمد الله موجودة في مصانع كثيرة. ودخل أمير ألحاج هذا الموضع المذكور على تعبئة وأهبة ارهابا للمجتمعين به من الأعراب لئلا يداخلهم الطمع في الحاج ، فهم يلحظونهم مستشرفين الى مكانهم لكنهم لا يجدون اليهم سبيلا ، والحمد

١٦٣

لله. والماء بهذا الموضع كثير في آبار تمدها عيون تحت الأرض ، ووجد الحاج فيها مصنعا قد اجتمع فيه الماء من المطر ، فانتزف للحين ، وامتلأت أيدي الحاج القرمين من أغنام العرب بالمبايعة المذكورة ، فلم يبق مضرب ولا خيمة ولا ظلالة الا والى جانبها كبش او كبشان ، بحسب القدرة والوجد. فعم جميع المحلة غنم العرب. وكان ذلك اليوم عيدا من الأعياد ، وكذلك عمّتهم ايضا جمالهم لمن أراد الابتياع منهم من الجمالين وسواهم للاستظهار على الطريق. وأما السمن والعسل واللبن فلم يبق الا من تحمّل أو استعمل منها بقدر حاجته.

وأقام الناس يومهم ذلك مريحين بها الى ظهر يوم الاثنين بعده ، ثم أسروا نصف الليل ترتيب سيرهم المذكور قبل ، ونزلوا ضحوة يوم الثلاثاء الثامن عشر لمحرم ، وهو أول يوم من مايه ، بموضع يعرف بالأجفر ، وهو مشتهر عندهم بموضع جميل وبثينة العذريين ، ثم أقلعنا ظهر يوم الثلاثاء المذكور على العادة ونزلنا بالبيداء مع العشاء الآخرة ، ثم أسرينا منها ونزلنا ضحوة يوم الأربعاء بزرود ، وهي وهدة في بسيط من الأرض فيها رمال منهالة ، وبها حلق كبير داخله دويرات صغار هو شبيه الحصن ، يعرف بهذه الجهات بالقصر. والماء بهذا الموضع في آبار غير عذبة ، فنزلنا ضحوة يوم الخميس الموفي عشرين لمحرم ، والثالث لمايه ، بموضع يعرف بالثعلبية ولها مبنى شبه الحصن خرب لم يبق منه الا الحلق ، وبإزائه مصنع كبير الدّور من أوسع ما يكون من الصهاريج وأعلاها ، والمهبط اليه على أدراج كثيرة من ثلاث جهات ، وكان فيه من ماء المطر ما عمّ جميع المحلة. ووصل الى هذا الموضع جمع كثير من العرب رجالا ونساء واتخذوا به سوقا عظيمة حفيلة للجمال والكباش والسمن واللبن وعلف الإبل ، فكان يوم سوق نافقة.

وبقي من هذا الموضع الى الكوفة من المناهل التي تعم جميع المحلة ثلاثة : أحدها زبالة ، والثاني واقصة ، والثالث منهل من ماء الفرات على مقربة من الكوفة. وبين هذه المناهل مياه موجودة لكنها لا تعمّ ، وهذه الثلاثة المذكورة

١٦٤

هي التي تعم الناس والإبل وهي التي تردها رفها. وفي هذا المنهل الذي للثعلبية شاهدنا من غلبة الناس على الماء أمرا هائلا لا يكاد يشاهد مثله في تغلّب المدن والحصون بالقتال. وحسبك أن مات في ذلك الموضع ضغطا بشدة الزحام وغطا تحت الماء بالأقدام سبعة رجال بادروا لمورد الماء فحصلوا على مورد الفناء ، رحمهم‌الله ، وغفر لهم.

وفي ضحوة يوم الجمعة بعده نزلنا بموضع يعرف ببركة المرجوم ، وهي مصنع وقد بني له فيما يعلوه من الأرض مصبّ يؤدي الماء اليه على بعد وأحكم ذلك احكاما يدل على قدرة الاتساع وقوة الاستطاع. ولهذا المرجوم المذكور مشهد على قارعة الطريق وقد علا كأنه هضبة شماء ، وكل مجتاز عليه لا بد أن يلقي عليه حجرا. ويقال : إن أحد الملوك رجمه لأمر استوجب به ذلك ، والله أعلم. وبهذا الموضع بيوت كثيرة للعرب. وبادروا للحين بما لديهم من مرافق الأدم يبيعونها من الحاج. وكان هذا المصنع مملوءا من ماء المطر ، فغمر الناس وعمهم ، والحمد لله. وهذه المصانع والبرك والآبار والمنازل التي من بغداد الى مكة هي آثار زبيدة ابنة جعفر بن أبي جعفر المنصور زوج هارون الرشيد وابنة عمه ؛ انتدبت لذلك مدة حياتها ، فأبقت في هذا الطريق مرافق ومنافع تعمّ وفد الله تعالى كل سنة من لدن وفاتها الى الآن. ولو لا آثارها الكريمة في ذلك لما سلكت هذه الطريق ، والله كفيل بمجازاتها ، والرضا عنها.

وفي ضحوة يوم السبت بعده نزلنا بموضع يعرف بالشّقوق ، وفيه مصنعان ألفيناهما مملوءين ماء عذبا صافيا. فأراق الناس مياههم ، وجدّدوا مياها طيبة ، واستبشروا بكثرة الماء ، وجدّدوا شكر الله على ذلك. وأحد هذين المصنعين صهريج عظيم الدائرة كبيرها لا يكاد يقطعه السابح الا عن جهد ومشقة. وكان الماء قد علا فيه أزيد من قامتين. فتنعّم الناس من مائه سباحة ، واغتسالا ، وتنظيف أثواب ، وكان يومهم فيه من أيام راحة السفر.

ومن لطائف صنع الله تعالى بوفده وزوار حرمه أن كانت هذه المصانع كلها

١٦٥

عند صعود الحاج من بغداد الى مكة دون ماء ، فأرسل الله من سحب رحمته ما أترعها ماء معدا لصدر الحاج ، فضلا من الله ، ولطفا بوفده المنقطعين إليه.

ورحنا من ذلك الموضع المذكور وبتنا بموضع يعرف بالتنانير ، وكان فيه أيضا مصنع مملوء ماء. وأسرينا منه ليلة يوم الاحد الثالث والعشرين لمحرم ، واجتزنا سحرا بزبالة ، وهي قرية معمورة ، وفيها قصر مشيد من قصور الأعراب ومصنعان للماء وآبار ، وهي من مناهل الطريق الشهيرة. ونزلنا عندما ارتفع النهار من اليوم المذكور بالهيثمين ، وفيها مصنعان للماء ، ولا نكاد نمر بحول الله يوما بموضع الا والماء يوجد فيه ، والشكر لله على ذلك.

وبتنا ليلة الاثنين الرابع والعشرين لمحرم المذكور على مصنع مملوء ماء ، فسقى الناس بالليل واستقوا. وهذا الموضع هو دون العقبة المعروفة بعقبة الشيطان. ومع الصباح من يوم الاثنين المذكور صعدنا العقبة ، وليست بالطويلة الكؤود ، ولكن ليس بالطريق وعر غيرها ، فهي شهيرة بهذا السبب. ونزلنا عند ارتفاع النهار على مصنع دون ماء وأجزنا مصانع كثيرة ، وما منها مصنع الا والى جانبه قصر مبني من قصور الأعراب ، والطريق كلها مصانع. ورضي الله عن التي اعتنت بسبيل وفد الله هذا الاعتناء.

ثم نزلنا ضحوة يوم الثلاثاء بعده بواقصة ، وهي وهدة من الأرض منفسحة فيها مصانع للماء مملوءة وقصر كبير وبإزائه أثر بناء ، وهي معمورة بالأعراب ، وهي آخر مناهل الطريق ، وليس بعدها الى الكوفة منهل مشهور الا مشارع ماء الفرات ، ومنها الى الكوفة ثلاثة أيام ، وبها يتلقى الحاج كثير من أهل الكوفة وهم مستجلبون إليهم الدقيق والخبز والتمر والأدم والفواكه الحاضرة في ذلك الوقت. ويهنئ الناس بعضهم بعضا بالسلامة ، والحمد لله عزوجل ، على ما منّ به من التيسير والتسهيل حمدا يستوجب المزيد ، ويستصحب من كريم صنعه المعهود.

وبتنا ليلة الأربعاء السادس والعشرين بموضع يعرف بلورة ، وفيها مصنع

١٦٦

كبير وجده الناس مملوءا فجددوا الاستسقاء ورفهوا الإبل. ثم أسرينا منها ، وأجزنا سحر يوم الأربعاء المذكور بموضع فيه آثار بناء يعرف بالقرعاء ، وفيه أيضا مصنع ماء ، وله ستة مخازن ، وهي صهاريج صغار ، تؤدي الماء الى المصانع ، استقى الناس فيها وسقوا. وكثرت المصانع حتى لا تكاد الكتب تحصرها ولا تضبطها ، والحمد لله على منته وسابغ نعمته.

وبتنا ليلة الخميس بعده على مصنع عظيم مملوء ماء ، ثم نزلنا ضحوة اليوم المذكور بمنارة تعرف بمنارة القرون ، وهي منارة في بيداء من الأرض ، لا بناء حولها قد قامت في الأرض كأنها عمود مخروط من الآجر ، قد تداخل فيها من الخواتيم الآجرية مثمنة ومربعة أشكال بديعة. ومن غريب أمرها أنها مجللة كلها قرون غزلان مثبتة فيها ، فتلوح كظهر الشيهم. وللناس فيها خبر يمنع ضعف سنده من اثباته. وعلى مقربة من هذه المنارة قصر ذو بروج مشيدة ، وبإزائه مصنع عظيم وجد مملوءا ماء ، والحمد لله على ما منّ به.

واجتزنا عشيّ يوم الخميس المذكور على العذيب ، وهو واد خصيب ، وعليه بناء ، وحوله فلاة خصيبة ، فيها مسرح للعيون وفرجة. وأعلمنا أن بمقربة منه بارقا. ووصلنا منه الى الرحبة ، وهي بمقربة منه ، وفيها بناء وعمارة ، ويجري الماء فيها من عين نابعة في أعلى القرية المذكورة. وبتنا أمامها بمقدار فرسخ ، ثم أسرينا ليلة الجمعة الثامن والعشرين لمحرم المذكور نصف الليل واجتزنا على القادسية ، وهي قرية كبيرة ، فيها حدائق من النخيل ، ومشارع من ماء الفرات وأصبحنا بالنجف ، وهو بظهر الكوفة كأنه حد بينها وبين الصحراء ، وهو صلب من الأرض منفسح متسع ، للعين فيه مراد استحسان وانشراح. ووصلنا الكوفة مع طلوع الشمس من يوم الجمعة المذكور ، والحمد لله على ما أنعم به من السلامة.

ذكر مدينة الكوفة

هي مدينة كبيرة عتيقة البناء ، قد استولى الخراب على أكثرها ، فالغامر

١٦٧

منها أكثر من العامر. ومن أسباب خرابها قبيلة خفاجة المجاورة لها ، فهي لا تزال تضربها ، وكفاك بتعاقب الايام والليالي محييا ومفنيا. وبناء هذه المدينة بالآجر خاصة ، ولا سور لها. والجامع العتيق آخرها مما يلي شرقي البلد ، ولا عمارة تتصل به من جهة الشرق. وهو جامع كبير ، في الجانب القبلي منه خمسة أبلطة ، وفي سائر الجوانب بلاطان. وهذه البلاطات على أعمدة من السواري الموضوعة من صم الحجارة ، المنحوتة قطعة على قطعة ، مفرغة بالرصاص ، ولا قسي عليها ، على الصفة التي ذكرناها في مسجد رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي في نهاية الطول ، متصلة بسقف المسجد ، فتحار العيون في تفاوت ارتفاعها. فما أرى في الأرض مسجدا أطول أعمدة منه ولا أعلى سقفا.

وبهذا الجامع المكرم آثار كريمة : فمنها بيت بإزاء المحراب عن يمين المستقبل القبلة ، يقال : انه كان مصلى ابراهيم الخليل ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليه ستر أسود صونا له ، ومنه خرج الخطيب لابسا ثياب السواد الخطبة. فالناس يزدحمون على هذا الموضع المبارك للصلاة فيه. وعلى مقربة منه ، مما يلي الجانب الأيمن من القبلة ، محراب محلق عليه بأعواد الساج مرتفع عن صحن البلاط كأنه مسجد صغير ، وهو محراب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، رضي‌الله‌عنه ، وفي ذلك الموضع ضربه الشقي اللعين عبد الرحمن بن ملجم بالسيف ، فالناس يصلون فيه باكين داعين. وفي الزاوية من آخر هذا البلاط القبلي ، المتصل بآخر البلاط الغربي ، شبيه مسجد صغير محلق عليه أيضا بأعواد الساج ، هو موضع مفار التنور الذي كان آية لنوح ، عليه‌السلام ، وفي ظهره ، خارج المسجد ، بيته الذي كان فيه ، وفي ظهره بيت آخر يقال إنه كان متعبد إدريس ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويتصل بهما فضاء متصل بالجدار القبلي من المسجد ، يقال إنه منشأ السفينة. ومع آخر هذا الفضاء دار علي بن أبي طالب ، رضي‌الله‌عنه ، والبيت الذي غسل فيه. ويتصل به بيت يقال إنه كان بيت ابنة نوح ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذه الآثار الكريمة تلقيناها من ألسنة أشياخ من أهل البلد فأثبتناها حسبما

١٦٨

نقلوها إلينا ، والله أعلم بصحة ذلك كله.

وفي الجهة الشرقية من الجامع بيت صغير يصعد إليه فيه قبر مسلم بن عقيل بن أبي طالب ، رضي‌الله‌عنه. وفي جوفي الجامع على بعد منه يسير سقاية كبيرة من ماء الفرات فيها ثلاثة أحواض كبار.

وفي غربي المدينة على مقدار فرسخ منها المشهد الشهير الشأن المنسوب لعلي ابن أبي طالب ، رضي‌الله‌عنه ، وحيث بركت ناقته وهو محمول عليها مسجى ميتا على ما يذكر. ويقال : إن قبره فيه ، والله أعلم بصحة ذلك. وفي هذا المشهد بناء حفيل على ما ذكر لنا ، لأنا لم نشاهده بسبب أن وقت المقام بالكوفة ضاق عن ذلك ، لأنا لم نبت فيها سوى ليلة يوم السبت. وفي غدائه رحلنا ونزلنا قريب الظهر على نهر منسوب من الفرات. والفرات من الكوفة على مقدار نصف فرسخ مما يلي الجانب الشرقي. والجانب الشرقي كله حدائق نخيل ملتفة يتصل سوادها ويمتد امتداد البصر. ورحلنا من ذلك الموضع وبتنا ليلة الأحد منسلخ محرم بمقربة من الحلة ثم جئناها يوم الأحد المذكور.

ذكر مدينة الحلة

هي مدينة كبيرة ، عتيقة الوضع ، مستطيلة ، لم يبق من سورها الا حلق من جدار ترابي مستدير بها. وهي على شط الفرات ، يتصل بها من جانبها الشرقي ويمتد بطولها. ولهذه المدينة أسواق حفيلة جامعة للمرافق المدينة والصناعات الضرورية. وهي قوية العمارة ، كثيرة الخلق ، متصلة حدائق النخيل داخلا وخارجا ، فديارها بين حدائق النخيل ، وألفينا بها جسرا عظيما معقودا على مراكب كبار متصلة من الشط تحف بها من جانبها سلاسل من حديد كالأذرع المفتولة عظما وضخامة ترتبط الى خشب مثبتة في كلا الشطين ، تدل على عظم الاستطاع والقدرة ؛ أمر الخليفة بعقده على الفرات اهتماما بالحاج واعتناء بسبيله

١٦٩

وكانوا قبل ذلك يعبرون في المراكب ، فوجدوا هذا الجسر قد عقده الخليفة في مغيبهم ، ولم يكن عند شخوصهم الى مكة شرّفها الله.

وعبرنا الجسر ظهر يوم الأحد المذكور ونزلنا بشط الفرات على مقدار فرسخ من البلد ، وهذا النهر كاسمه فرات ، هو من أعذب المياه وأخفها ، وهو نهر كبير زخار ، تصعد فيه السفن وتنحدر.

والطريق من الحلة الى بغداد أحسن طريق وأجملها ، في بسائط من الأرض وعمائر ، تتصل بها القرى يمينا وشمالا. ويشق هذه البسائط أغصان من ماء الفرات تتسرب بها وتسقيها ، فمحرثها لاحد لاتساعه وانفساحه ، فللعين في هذا الطريق مسرح انشراح ، وللنفس مراح انبساط وانفساح ، والأمن فيها متصل ، بحمد الله سبحانه وتعالى.

شهر صفر سنة ثمانين

هلاله على الكمال من ليلة الاثنين ، بموافقة الرابع عشر من مايه ، استهل هلاله ونحن على شط الفرات بظاهر مدينة الحلة.

وفي ضحوة يوم الاثنين المذكور رحلنا وأجزنا جسرا على نهر يسمى النيل ، وهو فرع متشعب من الفرات ، وكان عليه ازدحام ، فغرق كثير من الناس والدواب في الماء. فتنحينا مريحين الى أن انفرج ذلك المزدحم وعبرنا على سلامة وعافية ، والحمد لله.

ومن مدينة الحلة يتسلسل الحاج أرسالا وأفواجا افواجا : فمنهم المتقدم ، والمتوسط ، والمتأخر ، لا يعرج المستعجل على المتعذر ، ولا المتقدم على المتأخر ، فحيثما شاؤوا من طريقهم نزلوا وأراحوا واستراحوا ، وسكنت نفوسهم من روعة نقر الكوس الذي كانت الافئدة ترجف له بدارا للرحيل واستعجالا للقيام ، فربما

١٧٠

كان النائم منهم يهذي بنقر الكوس فيقوم عجلا وجلا ثم يتحقق أنها من أضغاث أحلامه فيعود الى منامه.

ومن جملة الدواعي لافتراقهم كثرة القناطير المعترضة في طريقهم الى بغداد ، فلا تكاد تمشي ميلا الا وتجد قنطرة على نهر متفرع من الفرات ، فتلك الطريق أكثر الطرق سواقي وقناطير ، وعلى أكثرها خيام فيها رجال محترسون للطريق اعتناء من الخليفة بسبيل الحاج دون اعتراض منهم لاستنفاع بكدية أو سواها. فلو زاحم ذلك البشر تلك القناطير دفعة لما فرغوا من عبورها ولتراكموا وقوعا بعض على بعض.

والأمير طشتكين المتقدم الذكر يقيم بالحلة ثلاثة أيام الى أن يتقدم جميع الحاج ثم يتوجه الى حضرة خليفته. وهذه الحلة المذكورة طاعة بيده للخليفة. وسيرة هذا الامير بالرفق بالحاج والاحتياط عليهم والاحتراس لمقدمتهم وساقتهم وضم نشر ميمنتهم وميسرتهم سيرة محمودة ، وطريقته في الحزم وحسن النظر طريقة سديدة ، وهو من التواضع ولين الجانب وقرب المكان على وتيرة سعيدة ، نفعه الله ونفع المسلمين به.

وفي عصر يوم الاثنين المذكور نزلنا بقرية تعرف بالقنطرة كثيرة الخصب ، كبيرة الساحة ، متدفقة جداول الماء ، وارفة الظلال بشجرات الفواكه ، من أحسن القرى واجملها ، وبها قنطرة على فرع من فروع الفرات كبيرة محدودبة ، يصعد اليها وينحدر عنها ، فتعرف القرية بها ، وتعرف أيضا بحصن بشير. وألفينا حصاد الشعير بهذه الجهات في هذا الوقت الذي هو نصف مايه.

ورحلنا من القرية المذكورة سحر يوم الثلاثاء الثاني لصفر ، فنزلنا قائلين ضحوته بقرية تعرف بالفراش ، كثيرة العمارة ، يشقها الماء ، وحولها بسيط أخضر جميل المنظر. وقرى هذه الطريق من الحلة الى بغداد على هذه الصفة من الحسن والاتساع. وفي هذه القرية المذكورة خان كبير يحدق به جدار عال له شرفات صغار.

١٧١

ثم رحلنا منها ونزلنا عشي النهار بقرية تعرف بزريران ، وهذه القرية من أحسن قرى الارض ، وأجملها منظرا ، وافسحها ساحة ، وأوسعها اختطاطا ، وأكثرها بساتين ورياحين وحدائق نخيل. وكان بها سوق تقصر عنه أسواق المدن. وحسبك من شرف موضعها ان دجلة تسقي شرقيها ، والفرات يسقي غربيها ، وهي كالعروس بينهما ، والبسائط والقرى والمزارع متصلة بين هذين النهرين الشريفين المباركين.

ومن شرف هذه القرية أيضا أن بإزائها ، لجهة الشرق منها ، إيوان كسرى وأمامها بيسير مدائنه. وهذا الإيوان بناء عال في الهواء ، شديد البياض ، لم يبق من قصوره إلا البعض ، فعايناها على مقدار الميل سامية مشرفة مشرقة ، وأما المدائن فخراب ، اجتزنا عليها سحر يوم الأربعاء الثالث لصفر فعاينا من طولها واتساعها مرأى عجيبا. ومن فضائل هذه القرية أيضا أن بالشرق منها بمقدار نصف فرسخ مشهد سلمان الفارسي ، رضي‌الله‌عنه. فما اختصت تربتها بهذا الدفين المبارك ، رضي‌الله‌عنه ، إلا لفضل تربتها.

والقرية على شط دجلة ، وهي تعترض بينها وبين المشهد الكريم المذكور ، وكنا سمعنا أن هواء بغداد ينبت السرور في القلب ، ويبعث النفس دائما على الانبساط والأنس ، فلا تكاد تجد فيها إلا جذلان طربا ، وان كان نازح الدار مغتربا ، حتى حللنا بهذا الموضع المذكور ، وهو على مرحلة منها ، فلما نفحتنا نوافح هوائها ، ونقعنا الغلة ببرد مائها ، أحسسنا من نفوسنا ، على حال وحشة الاغتراب ، دواعي من الإطراب ، واستشعرنا بواعث فرح كأنه فرحة الغياب بالإياب ، وهبّت بنا محركات من الإطراب ، أذكرتنا معاهد الأحباب ، في ريعان الشباب. هذا للغريب النازح الوطن ، فكيف للوافد فيها على أهل وسكن!

سقى الله باب الطاق صوب غمامة

ورد الى الاوطان كلّ غريب

وفي سحر يوم الأربعاء المذكور رحلنا من القرية المذكورة واجتزنا على مدائن

١٧٢

كسرى حسبما ذكرناه وانتهينا الى صرصر وهي أخت زريران المذكورة حسنا أو قريب منها. ويمر بجانبها القبلي نهر كبير متفرع من الفرات عليه جسر معقود على مراكب تحف بها من الشط الى الشط سلاسل حديد عظام ، على الصفة التي ذكرناها في جسر الحلة ، فعبرناه وأجزنا القرية ونزلنا قائلين ، وبيننا وبين بغداد نحو ثلاثة فراسخ.

وبهذه القرية سوق حفيلة ومسجد جامع كبير جديد. وهي من القرى التي تملأ النفوس بهجة وحسنا. وهذان النهران الشريفان دجلة والفرات قد أغنت شهرتهما عن وصفهما ، وملتقاهما ما بين واسط والبصرة ، ومنها انصبابهما الى البحر ، ومجراهما من الشمال الى الجنوب ، وحسبهما ما خصهما الله به من البركة هما وأخاهما النيل ، مما هو مذكور مشهور ، ورحلنا من ذلك الموضع قبيل الظهر من يوم الأربعاء المذكور وجئنا بغداد قبيل العصر ، والمدخل اليها على بساتين وبسائط يقصر الوصف عنها.

ذكر مدينة السلام بغداد

هذه المدينة العتيقة ، وان لم تزل حضرة الخلافة العباسية ، ومثابة الدعوة الإمامية القرشية الهاشمية ، قد ذهب أكثر رسمها ، ولم يبق منها الا شهير اسمها. وهي بالإضافة الى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها والتفات أعين النوائب اليها كالطلل الدارس ، والأثر الطامس ، أو تمثال الخيال الشاخص ، فلا حسن فيها يستوقف البصر ويستدعي من المستوفز العقلة والنظر الا دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها منها كالمرآة المجلوة بين صفحتين أو العقد المنتظم بين لبتين ، فهي تردها ولا تظمأ ، وتتطلع منها في مرآة صقيلة لا تصدأ ، والحسن الحريميّ بين هوائها ومائها ينشأ ، هو من ذلك على شهرة في البلاد معروفة موصوفة ، ففتن الهوى ، الا ان يعصم الله منها ، مخوفة.

١٧٣

وأما أهلها فلا تكاد تلقى منهم الا من يتصنع بالتواضع رياء ، ويذهب بنفسه عجبا وكبرياء ، يزدرون الغرباء ، ويظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء ، ويستصغرون عمن سواهم الاحاديث والأنباء ، قد تصور كل منهم في معتقده وخلده أن الوجود كله يصغر بالاضافة لبلده ، فهم لا يستكرمون في معمور البسيطة مثوى غير مثواهم ، كأنهم لا يعتقدون أن لله بلادا أو عبادا سواهم ، يسحبون أذيالهم أشرا وبطرا ، ولا يغيّرون في ذات الله منكرا ، يظنون أن أسنى الفخار في سحب الإزار ، ولا يعلمون أن فضله ، بمقتضى الحديث المأثور ، في النار ، يتبايعون بينهم بالذهب قرضا ، وما منهم من يحسن الله فرضا ، فلا نفقة فيها الا من دينار تقرضه ، وعلى يدي مخسر للميزان تعرضه ، لا تكاد تظفر من خواص أهلها بالورع العفيف ، ولا تقع من أهل موازينها ومكاييلها الا على من ثبت له الويل في سورة التطفيف ، لا يبالون في ذلك بعيب ، كأنهم من بقايا مدين قوم النبي شعيب. فالغريب فيهم معدوم الإرفاق ، متضاعف الإنفاق ، لا يجد من اهلها الا من يعامله بنفاق ، أو يهش اليه هشاشة انتفاع واسترفاق ، كأنهم من التزام هذه الخلة القبيحة على شرط اصطلاح بينهم واتفاق ، فسوء معاشرة أبنائها يغلب على طبع هوائها ومائها ، ويعلل حسن المسموع من أحاديثها وابنائها ، أستغفر الله الا فقهاءهم المحدثين ، ووعاظهم المذكرين ، لا جرم أن لهم في طريقة الوعظ والتذكير ، ومداومة التنبيه والتبصير ، والمثابرة على الإنذار المخوف والتحذير ، مقامات تستنزل لهم من رحمة الله تعالى ما يحط كثيرا من أوزارهم ، ويسحب ذيل العفو على سوء آثارهم ويمنع القارعة الصماء أن تحل بديارهم ، لكنهم معهم يضربون في حديد بارد ، ويرومون تفجير الجلامد ، فلا يكاد يخلو يوم من أيام جمعاتهم من واعظ يتكلم فيه ، فالموفق فيهم لا يزال في مجلس ذكر أيامه كلها ، لهم في ذلك طريقة مباركة ملتزمة.

مجالس علم ووعظ

فأول من شاهدنا مجلسه منهم الشيخ الإمام رضيّ الدين القزويني رئيس

١٧٤

الشافعية ، وفقيه المدرسة النظامية ، والمشار اليه بالتقديم في العلوم الأصولية. حضرنا مجلسه بالمدرسة المذكورة اثر صلاة العصر من يوم الجمعة الخامس لصفر المذكور ، فصعد المنبر ، وأخذ القراء أمامه في القراءة على كراسي موضوعة ، فتوّقوا وشوّقوا ، وأتوا بتلاحين معجبة ، ونغمات محرجة مطربة ، ثم اندفع الشيخ الإمام المذكور فخطب خطبة سكون ووقار وتصرف في أفانين من العلوم ، من تفسير كتاب الله عزوجل ، وايراد حديث رسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتكلم على معانيه. ثم رشقته شآبيب المسائل من كل جانب ، فأجاب ، وما قصر ، وتقدم وما تأخر ، ودفعت اليه عدة رقاع منها ، فجمعها جملة في يده وجعل يجاوب على كل واحدة منها وينبذ بها الى أن فرغ منها.

وحان المساء فنزل وافترق الجمع. فكان مجلسه مجلس علم ووعظ ، وقورا هينا لينا ، ظهرت فيه البركة والسكينة ، ولم تقصر عن ارسال عبرتها فيه النفس المستكينة ، ولا سيما آخر مجلسه ، فإنه سرت حميا وعظه الى النفوس حتى أطارتها خشوعا ، وفجرتها دموعا ، وبادر التائبون اليه سقوطا على يده ووقوعا ، فكم ناصية جزّ ، وكم مفصل من مفاصل التائبين طبّق بالموعظة وحزّ فبمثل مقام هذا الشيخ المبارك ترحم العصاة ، وتتغمد الجناة ، وتستدام العصمة والنجاة ، والله تعالى يجازي كل ذي مقام عن مقامه ، ويتغمد ببركة العلماء الأولياء عباده العاصين من سخطه وانتقامه برحمته وكرمه ، انه المنعم الكريم ، لا رب سواه ، ولا معبود الا اياه.

وشهدنا له فيها مجلسا ثانيا اثر صلاة العصر من يوم الجمعة الثاني عشر من الشهر المذكور ، وحضر ذلك اليوم مجلسه سيد العلماء الخراسانية ، ورئيس الأئمة الشافعية ، ودخل المدرسة النظامية بهزّ عظيم وتطريف آماق ، تشوقت له النفوس ، فأخذ الإمام المتقدم الذكر في وعظه مسرورا بحضوره ، ومتجملا به ، فأتى بأفانين من العلوم ، على حسب مجلسه المتقدم الذكر. ورئيس العلماء المذكور هو صدر الدين الخجندي المتقدم الذكر في هذا التقييد ، المشتهر المآثر

١٧٥

والمكارم ، المقدم بين الأكابر والأعاظم.

ثم شاهدنا صبيحة يوم السبت بعده مجلس الشيخ الفقيه ، الإمام الأوحد ، جمال الدين أبي الفضائل بن علي الجوزي ، بازاء داره على الشط بالجانب الشرقي وفي آخره على اتصال من قصور الخليفة وبمقربة من باب البصيلة آخر أبواب الجانب الشرقي ، وهو يجلس به كل يوم سبت ، فشاهدنا مجلس رجل ليس من عمرو ولا زيد ، وفي جوف الفرا كل الصيد ، آية الزمان ، وقرة عين الإيمان ، رئيس الحنبلية ، والمخصوص في العلوم بالرتب العلية ، إمام الجماعة ، وفارس حلبة هذه الصناعة ، والمشهود له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة ومالك أزمة الكلام في النظم والنثر ، والغائص في بحر فكره على نفائس الدّرّ ، فاما نظمه فرضي الطباع ، مهياري الانطباع ، وأما نثره فيصدع بسحر البيان ، ويعطل المثل بقسّ وسحبان.

ومن أبهر آياته ، وأكبر معجزاته ، أنه يصعد المنبر ويبتدئ القرّاء بالقرآن ، وعددهم نيف على العشرين قارئا ، فينتزع الاثنان منهم أو الثلاثة آية من القراءة يتلونها على نسق بتطريب وتشويق ، فاذا فرغوا تلت طائفة أخرى على عددهم آية ثانية ، ولا يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات الى أن يتكاملوا قراءة ، وقد أتوا بآيات مشتبهات ، لا يكاد المتقد الخاطر يحصلها عددا ، أو يسميها نسقا. فإذا فرغوا أخذ هذا الإمام الغريب الشأن في ايراد خطبته ، عجلا مبتدرا ، وأفرغ في أصداف الأسماع من ألفاظه دررا ، وانتظم أوائل الآيات المقروءات في أثناء خطبته فقرا ، وأتى بها على نسق القراءة لها ، لا مقدما ولا مؤخرا. ثم أكمل الخطبة على قافية آخر آية منها. فلو أن أبدع من في مجلسه تكلف تسمية ما قرأ القراء آية آية على الترتيب لعجز عن ذلك ، فكيف بمن ينتظمها مرتجلا ، ويورد الخطبة الغراء بها عجلا! «أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون» ، «ان هذا لهو الفضل المبين» فحدث ولا حرج عن البحر ، وهيهات ليس الخبر عنه كالخبر!

١٧٦

ثم انه اتى بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ وآيات بيّنات من الذكر ، طارت لها القلوب اشتياقا ، وذابت بها الأنفس احتراقا ، الى أن علا الضجيج ، وتردد بشهقاته النشيج ، واعلن التائبون بالصياح ، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح ، كل يلقي ناصيته بيده فيجزها ، ويمسح على رأسه داعيا له ، ومنهم من يغشى عليه فريفع في الأذرع اليه ، فشاهدنا هولا يملأ النفوس انابة وندامة ، ويذكرها هول يوم القيامة ، فلو لم نركب ثبج البحر ، ونعتسف مفازات القفر الا لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل ، لكانت الصفقة الرابحة والوجهة المفلحة الناجحة ، والحمد لله على أن منّ بلقاء من تشهد الجمادات بفضله ، ويضيق الوجود عن مثله.

وفي أثناء مجلسه ذلك يبتدرون المسائل ، وتطير اليه الرقاع ، فيجاوب أسرع من طرفة عين. وربما كان أكثر مجلسه الرائق من نتائج تلك المسائل ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، لا اله سواه.

ثم شاهدنا مجلسا ثانيا له ، بكرة يوم الخميس الحادي عشر لصفر ، بباب بدر في ساحة قصور الخليفة ، ومناظره مشرفة عليه. وهذا الموضع المذكور هو من حرم الخليفة ، وخص بالوصول اليه والتكلم فيه ليسمعه من تلك المناظر الخليفة ووالدته ومن حضر من الحرم. ويفتح الباب للعامة فيدخلون الى ذلك الموضع ، وقد بسط بالحصر. وجلوسه بهذا الموضع كل يوم خميس. فبكرنا لمشاهدته بهذا المجلس المذكور ، وقعدنا الى أن وصل هذا الحبر المتكلم ، فصعد المنبر ، وأرخى طيلسانه عن رأسه تواضعا لحرمة المكان ، وقد تسطر القراء أمامه على كراسي موضوعة ، فابتدروا القراءة على الترتيب ، وشوّقوا ما شاءوا ، وأطربوا ما أرادوا. وبدرت العيون بارسال الدموع. فلما فرغوا من القراءة ، وقد احصينا لهم تسع آيات من سور مختلفات ، صدع بخطبته الزهراء الغرّاء ، واتى بأوائل الآيات في أثنائها منتظمات ، ومشى الخطبة على فقرة آخر آية منها في الترتيب الى أن أكملها ، وكانت الآية (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ

١٧٧

مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ») فتمادى على هذا السين وحسن أي تحسين ، فكان يومه في ذلك أعجب من أمسه ، ثم أخذ في الثناء على الخليفة والدعاء له ولوالدته ، وكنى عنها بالستر الأشرف ، والجناب الأرأف. ثم سلك سبيله في الوعظ ، كل ذلك بديهة لا روية ؛ ويصل كلامه في ذلك بالآيات المقروءات على النسق مرة أخرى. فأرسلت وابلها العيون ، وابدت النفوس سر شوقها المكنون وتطارح الناس عليه بذنوبهم معترفين ، وبالتوبة معلنين ، وطاشت الألباب والعقول ، وكثر الوله والذهول ، وصارت النفوس لا تملك تحصيلا ، ولا تميّز معقولا ، ولا تجد للصبر سبيلا.

ثم في أثناء مجلسه ينشد بأشعار من النسيب مبرحة التشويق ، بديعة الترقيق ، تشعل القلوب وجدا ، ويعود موضعها النسيبي زهدا. وكان آخر ما أنشده من ذلك ، وقد أخذ المجلس مأخذه من الاحترام ، وأصابت المقاتل سهام ذلك الكلام :

أين فؤادي أذابه الوجد

وأين قلبي فما صحا بعد

يا سعد زدني جوى بذكرهم

بالله قل لي فديت يا سعد

ولم يزل يرددها والانفعال قد أثر فيه ، والمدامع تكاد تمنع خروج الكلام من فيه ، الى أن خاف الإفحام ، فابتدر القيام ، ونزل عن المنبر دهشا عجلا ، وقد أطار القلوب وجلا ، وترك الناس على أحر من الجمر ، يشيعونه بالمدامع الحمر.

فمن معلن بالانتحاب ، ومن متعفر في التراب. فيا له من مشهد ما أهول مرآه ، وما أسعد من رآه! نفعنا الله ببركته ، وجعلنا ممن فاز به بنصيب من رحمته ، بمنّه وفضله.

وفي أول مجلسه أنشد قصيدا نيّر القبس ، عراقي النفس ، في الخليفة ، أوله :

في شغل من الغرام شاغل

من هاجه البرق بسفح عاقل

يقول فيه عند ذكر الخليفة :

يا كلمات الله كوني عوذة

من العيون للإمام الكامل

١٧٨

ففرغ من انشاده وقد هز المجلس طربا ، ثم أخذ في شأنه وتمادى في ايراد سحر بيانه ، وما كنا نحسب أن متكلما في الدنيا يعطي من ملكة النفوس والتلاعب بها ما أعطي هذا الرجل ، فسبحان من يخص بالكمال من يشاء من عباده ، لا اله غيره.

وشاهدنا بعد ذلك مجالس لسواه من وعاظ بغداد ممن نستغرب شأنه ، بالإضافة الى ما عهدناه من متكلمي الغرب. وكنا قد شاهدنا بمكة والمدينة ، شرّفها الله ، مجالس من قد ذكرناه في هذا التقييد ، فصغرت ، بالإضافة لمجلس هذا الرجل الفذ ، في نفوسنا قدرا ، ولم نستطب لها ذكرا. وأين تقعان مما أريد وشتان بين اليزيدين ، وهيهات! الفتيان كثير ، والمثل بمالك يسير! ونزلنا بعده بمجلس يطيب سماعه ، ويروق استطلاعه.

وحضرنا له مجلسا ثالثا ، يوم السبت الثالث عشر لصفر ، بالموضع المذكور بازاء داره على الشط الشرقي ، فأخذت معجزاته البيانية مأخذها ، فشاهدنا من أمره عجبا ، صعد بوعظه أنفاس الحاضرين سحبا ، وأسال من أدمعهم وابلا سكبا ، ثم جعل يردد في آخر مجلسه أبياتا من النسيب شوقا زهديا وطربا ، الى أن غلبته الرقة فوثب من أعلى منبره والها مكتئبا ، وغادر الكل متندما على نفسه منتحبا ، لهفان ينادي : يا حسرتا واحربا ، والمنادون يدورون بنحيبهم دور الرحى ، وكل منهم بعد من سكرته ما صحا ، فسبحان من خلقه عبرة لأولي الألباب ، وجعله لتوبة عباده أقوى الأسباب ، لا اله سواه.

ثم نرجع الى ذكر بغداد :

هي كما ذكرناه جانبان : شرقي وغربي ، ودجلة بينهما فأما الجانب الغربي فقد عمه الخراب واستولى عليه ، وكان المعمور أولا. وعمارة الجانب الشرقي محدثة لكنه مع استيلاء الخراب عليه يحتوي على سبع عشرة محلة ، كل محلة منها مدينة مستقلة ، وفي كل واحدة منها الحمامان والثلاثة والثمانية منها بجوامع يصلى فيها الجمعة ، فأكبرها القرية ، وهي التي نزلنا فيها بربض منها يعرف بالمربعة على شط دجلة بمقربة من الجسر ، فحملته دجلة بمدها السيلي ، فعاد الناس يعبرون

١٧٩

ابا ولزرق ، والزوارق فيها لا تحصى كثرة ، فالناس ليلا ونهارا من تمادي العبور فيها في نزهة متصلة رجالا ونساء. والعادة أن يكون لها جسران : أحدهما مما يقرب من دور الخليفة والآخر فوقه لكثرة الناس. والعبور في الزوارق لا ينقطع منها.

ثم الكرخ ، وهي مدينة مسورة.

ثم محلة باب البصرة ، وهي أيضا مدينة ، وبها جامع المنصور ، رحمه‌الله ، وهو جامع كبير عتيق البنيان حفيله.

ثم الشارع ، وهي ايضا مدينة ، فهذه الأربع أكبر المحلات.

وبين الشارع ومحلة باب البصرة سوق المارستان ، وهي مدينة صغيرة ، فيها المارستان الشهير ببغداد ، وهو على دجلة ، وتتفقده الأطباء كل يوم اثنين وخميس ، ويطالعون احوال المرضى به ، ويرتبون لهم أخذ ما يحتاجون اليه ، وبين أيديهم قومة يتناولون طبخ الأدوية والأغذية ، وهو قصر كبير فيه المقاصير والبيوت وجميع مرافق المساكن الملوكية ، والماء يدخل اليه من دجلة.

وأسماء سائر المحلات يطول ذكرها ، كالوسيطة ، وهي بين دجلة ونهر يتفرع من الفرات وينصب في دجلة ، يجيء فيه جميع المرافق التي في الجهات التي يسقيها الفرات. ويشق على باب البصرة الذي ذكرنا محلته نهر آخر منه وينصب أيضا في دجلة.

ومن أسماء المحلات العتابية ، وبها تصنع الثياب العتّابية ، وهي حرير وقطن مختلفات الألوان.

ومنها الحربية ، وهي أعلاها ، وليس وراءها الا القرى الخارجة عن بغداد الى أسماء يطول ذكرها.

وباحدى هذه المحلات قبر معروف الكرخي ، وهو رجل من الصالحين مشهور الذكر في الأولياء. وفي الطريق الى باب البصرة مشهد حفيل البنيان

١٨٠