رحلة ابن جبير

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي

رحلة ابن جبير

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

الأمير العراقي الى مكة على أربعة جمال ، تقدّمها القاضي الجديد بكسوة الخليفة السّوادية ، والرايات على رأسه ، والطبول تهر وراءه ، وابن عمّ الشيبي محمد بن اسماعيل معها لأنه ذكر أن أمر الخليفة نفذ بعزله عن حجابة البيت لهنات اشتهرت عنه ، والله يطهر بيته المكرم بمن يرضى من خدّامه بمنه. وهذا ابن العمّ المذكور هو أشبه طريقة منه وأمثل حالا ، وقد تقدم ذكر ذلك في العزلة الأولى. فوضعت الكسوة في السطح المكرم أعلى الكعبة. فلما كان يوم الثلاثاء الثالث عشر من الشهر المبارك المذكور اشتغل الشيبيون بإسبالها خضراء يانعة تقيد الأبصار حسنا ، في أعلاها رسم أحمر واسع مكتوب في الصفح الموجه الى المقام الكريم حيث الباب المكرم ، وهو وجهها المبارك ، بعد البسملة : «ان أول بيت وضع للناس» الآية ، وفي سائر الصفحات اسم الخليفة والدعاء له ، وتحف بالرسم المذكور طرتان حمراوان بدوائر صغار بيض فيها رسم بخط رقيق يتضمن آيات من القرآن وذكر الخليفة أيضا. فكملت كسوتها ، وشمرت أذيالها الكريمة صونا لها من أيدي الأعاجم وشدة اجتذابها وقوة تهافتها عليها وانكبابها. فلاح للناظرين منها أجمل منظر ، كأنها عروس جليت في السندس الأخضر ، أمتع الله بالنظر اليها كل مشتاق الى لقائها حريص على المثول بفنائها بمنه.

يوم الأعاجم العراقيين في البيت الكريم

وفي هذه الأيام يفتح البيت الكريم كل يوم للأعاجم العراقيين والخراسانيين وسواهم من الواصلين مع الأمير العراقي. فظهر من تزاحمهم وتطارحهم على الباب الكريم ووصول بعضهم على بعض وسباحة بعضهم على رؤوس بعض كأنهم في غدير من الماء ، أمر لم ير أهول منه ، يؤدي الى تلهف المهج وكسر الاعضاء. وهم في خلال ذلك لا يبالون ولا يتوقفون ، بل يلقون بأنفسهم على ذلك البيت الكريم ، من فرط الطرب والارتياح ، القاء الفراش بنفسه على المصباح. فعادت

١٤١

أحوال السرو اليمنيين في دخولهم البيت المبارك على الصفة المتقدمة الذكر ، حال تؤدة ووقار بالإضافة الى هؤلاء الاعاجم الاغتام ، نفعهم الله بنياتهم ، وقد فقد منهم في ذلك المزدحم الشديد من دنا أجله ، والله يغفر للجميع.

وربما زاحمهم في تلك الحال بعض نسائهم فيخرجن وقد نضجت جلودهن طبخا في مضيق ذلك المعترك الذي حمي بأنفاس الشوق وطيشه ، والله ينفع الجميع بمعتقده وحسن مقصده بعزته.

وفي ليلة الخميس الخامس عشر من الشهر المبارك ، اثر صلاة العتمة ، نصب منبر الوعظ أمام المقام ، فصعد واعظ خراساني حسن الشارة مليح الإشارة ، يجمع بين اللسانين عربي وعجمي ، فأتى في الحالين بالسحر الحلال من البيان ، فصيح المنطق ، بارع الالفاظ ، ثم يقلب لسانه للأعاجم بلغتهم فيهزهم اطرابا ويذيبهم زفرات وانتحابا.

فلما كانت الليلة الأخرى بعدها وضع منبر آخر خلف حطيم الحنفي ، فصعد اثر صلاة العتمة أيضا شيخ أبيض السبال ، رائع الجلال ، بارع التمام في الفضل والكمال ، فصدع بخطبة انتظمت آية الكرسي كلمة كلمة ، ثم تصرف في أساليب الوعظ وأفانين من العلم باللسانين أيضا ، حرك بها القلوب حتى أطارها واورثها احتداما بالخشية بعد استعارها. وفي اثناء ذلك ترشقه سهام من المسائل فيتلقاها بمجن من الجواب السريع البليغ ، فتحار له الالباب ، ويملك كل نفس منه الإغراب والإعجاب ، فكأنما هو وحي يوحى.

وهذا الذي مشى به وعاظ هذه الجهات المشرقية من القاء المسائل اليهم وافاضة شآبيب الامتحان عليهم من اعجب الامور المعربة عن غريب شأنهم والناطقة بسحر بيانهم. وليست في فن واحد انما هي من فنون شتى. وربما قصد بها التعنيت والتنكيب فيأتون بالجواب كخطفة البرق وارتداد الطرف ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.

وبين أيدي هؤلاء الوعاظ قرّاء ينغمون بالقراءة فيأتون بألحان تكسب

١٤٢

الجماد طربا واريحيّة كأنها المزامير الداودية. فلا تدري من اي أحوال هذا المجتمع تعجب ، والله يؤتي الحكمة من يشاء ، لا اله سواه ، وسمعت هذا الشيخ الواعظ يسند الحديث الى خمسة من اجداده : جدّ عن جدّ ، نسقا مسلسلا من أبيه اليهم على اتصال ، كلهم له لقب يدل على منزلته من العلم ومكانته من التذكير والوعظ ، فهو معرق في الصنعة الشريفة ، تليد المجد فيها.

سوق المسجد الحرام

وفي أيام الموسم كلها عاد المسجد الحرام ، نزّهه الله وشرّفه ، سوقا عظيمة يباع فيه من الدقيق الى العقيق ، ومن البرّ الى الدر ، الى غير ذلك من السلع.

فكان مبيع الدقيق بدار الندوة الى جهة باب بني شيبة ، ومعظم السوق في البلاط الآخذ من الغرب الى الشمال ، وفي البلاط الآخذ من الشمال الى الشرق ، وفي ذلك من النهي الشرعي ما هو معلوم ، والله غالب على أمره ، لا اله سواه.

يوم الرحيل

وفي عشيّ يوم الأحد الموفي عشرين من الشهر المذكور ، وهو أول أبريل ، كان مسيرنا الى محلة الأمير العراقي بالزاهر وهو على نحو الميلين من البلد ، وقد كمل اكتراؤنا الى الموصل ، وهو أمام بغداد بعشرة أيام ، عرّفنا الله الخير والخيرة بمنه ، فأقمنا بالزاهر ثلاثة أيام نجدد العهد كل يوم بالبيت العتيق ، ونعيد وداعه. فلما كان ضحوة يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي الحجة المذكور ، أقلعت المحلة على تؤدة ورفق بسبب البطء والتأخر ونزلت على نحو ثمانية اميال من الموضع الذي اقلعت منه بمقربة من بطن مرة ، والله كفيل بالسلامة والعصمة بمنه.

فكانت مدة مقامنا بمكة ، قدّسها الله ، من يوم وصولنا اليها ، وهو يوم

١٤٣

الخميس الثالث عشر لربيع الآخر من سنة تسع وسبعين ، الى اقلاعنا من الزاهر ، وهو يوم الخميس الثاني والعشرين لذي الحجة من السنة المذكورة ، ثمانية أشهر وثلث شهر ، التي هي بحسب الزائد والناقص من الأشهر مئتا يوم اثنتان وخمسة وأربعون يوما سعيدات مباركات ، جعلها الله لذاته ، وجعل القبول لها موافقا لمرضاته ، بمنّه ، غبنا عن رؤية البيت الكريم فيها ثلاثة أيام : يوم عرفة ، وثاني يوم النحر ، ويوم الأربعاء الذي هو الحادي والعشرون لذي الحجة ، قبل يوم الخميس يوم اقلاعنا من الزاهر ، والله لا يجعله آخر العهد بحرمه الكريم بمنه.

ثم أقلعنا من ذلك الموضع اثر صلاة الظهر من يوم الخميس ، الى بطن مر ، وهو واد خصيب كثير النخل ذو عين فوارة سيالة الماء تسقى منها أرض تلك الناحية. وعلى هذا الوادي قطر متسع وقرى كثيرة وعيون ، ومنه تجلب الفواكه الى مكة ، حرسها الله ، فأقمنا به يوم الجمعة لسبب عجيب ، وذلك أن الملكة خاتون بنت الأمير مسعود ملك الدروب والأرمن وما يلي بلاد الروم ، وهي احدى الخواتين الثلاث اللاتي وصلن للحج ، مع أمير الحاج أبي المكارم طاشتكين مولى أمير المؤمنين ، الموجه كل عام من قبل الخليفة ، وله بتولي هذه الخطة نحو الثمانية أعوام أو أزيد ، وخاتون هذه اعظم الخواتين قدرا ، بسبب سعة مملكة أبيها. والمقصود من ذكر أمرها أنها أسرت من بطن مرّ ليلة الجمعة الى مكة في خاصة من خدمها وحشمها ، فتفقد موضعها يوم الجمعة المذكور ، فوجه الأمير ثقات من خاصة أصحابه يستطلعونها في الانصراف ، وأقام بالناس منتظرا لها. فوصلت عتمة يوم السبت ، وأجليت في سبب انصراف هذه الملكة المترفة قداح الظنون ، وسلت الخواطر على استخراج سرها المكنون ، فمنهم من يقول : انها انصرفت أنفة لبعض ما انتقدته على الأمير ، ومنهم من قال : ان نوازع الشوق للمجاورة عطفت بها الى المثابة المكرمة ، ولا يعلم الغيب الا الله. وكيفما كان الأمر فقد كفى الله العطلة بسببها ، وأطلق سبيل الحاج ، ولله الحمد على ذلك.

وابو هذه المرأة المذكورة الأمير مسعود ، كما ذكرناه ، وهو في بسطة من

١٤٤

ملكه واتساع من امرته ، على ما حقق عندنا ، أكثر من مئة الف فارس ، وصهره عليها نور الدين صاحب آمد وما سواها ؛ ويركب له أيضا نحو اثني عشر الف فارس. ولخاتون هذه افعال من البر كثيرة في طريق الحاج : منها سقي الماء للسبيل ، عينت لذلك نحو الثلاثين ناضحة ، ومثلها للزاد ، واستجلبت لما تختص به من الكسوة والأزودة وغير ذلك نحو المئة بعير. وأمورها يطول وصفها ، وسنها نحو خمسة وعشرين عاما.

ولخاتون الثانية ، أم عز الدين صاحب الموصل ، زوج قطب الدين بن اتابك أخي نور الدين الذي كان صاحب الشام ، رحمه‌الله ، ولهذه أفعال كثيرة من البر.

وخاتون الثالثة ابنة الدقوس صاحب اصبهان من بلاد خراسان ، وهي أيضا كبيرة القدر عظيمة الشأن منافسة في افعال البر. وشأنهن جمع عجيب جدا فيما هن بسبيله من الخيل والاحتفال في الأبهة الملوكية.

ثم اقلعنا ظهر يوم السبت الرابع والعشرين لذي الحجة المذكور ونزلنا بمقربة من عسفان ، ثم اسرينا اليها نصف الليل وصبحناها بكرة يوم الأحد. وهي في بسيط من الأرض بين جبال ، وبها آبار معينة تنسب لعثمان ، رضي‌الله‌عنه ، وشجر المقل فيها كثير ، وبها حصن عتيق البنيان ، ذو أبراج مشيدة غير معمور ، قد أثر فيه القدم ، وأوهته قلة العمارة ولزوم الخراب. فاجتزناها بأميال ونزلنا مريحين قائلين.

فلما كان اثر صلاة الظهر أقلعنا الى خليص ، فوصلناها عشيّ النهار. وهي أيضا في بسيط من الارض ، كثيرة حدائق النخل ، لها جبل فيه حصن مشيد في قنته. وفي البسيط حصن آخر قد أثر فيه الخراب. وبها عين فوارة قد احدثت لها اخاديد في الارض مسربة يستقى منها على أفواه كالآبار ، يجدد الناس بها الماء لقلته في الطريق بسبب القحط المتصل ، والله يغيث بلاده وعباده. واصبح الناس بها مقيمين يوم الاثنين لإرواء الإبل واستصحاب الماء.

وبهذه المحلة العراقية ومن انضاف اليها من الخراسانية والمواصلة وسائر جهات

١٤٥

الآفاق من الواصلين صحبة أمير الحاج المذكور جمع لا يحصي عدده الا الله تعالى ، يغص بهم البسيط الأفيح ، ويضيق عنهم المهمه الصحصاح ، فترى الأرض تميد بهم ميدا ، وتموج بجميعهم موجا ، فتبصر منهم بحرا طامي العباب ، ماؤه السراب ، وسفنه الركاب ، وشرعه الظلائل المرفوعة والقباب ، تسير سير السحب المتراكمة ، يتداخل بعضها على بعض ، ويضرب بعضها جوانب بعض. فتعاين لها تزاحما في البراح المنفسح يهول ويروع ، واصطكاكا نبع المحارات فيه بعضه ببعض مقروع ، فمن لم يشاهد هذا السفر العراقي لم يشاهد من أعاجيب الزمان ما يحدث به ويتحف السامع بغرابته ، والقدرة والقوة لله وحده ، وحسبك ان النازل في منزل من منازل هذه المحلة متى خرج عنها لبعض حاجة ولم تكن له دلالة يستدل بها على موضعه ضل وتلف وعاد منشودا في جملة الضوّال ، وربما اضطرته الحال الى الوصول الى مضرب الأمير ورفع مسألته اليه ، فيأمر أحد المنشدين ببريحه والهاتفين بأوامره ممن قد أعد لذلك ان يردفه خلفه على جمل ويطوف به المحلة العجاجة ، وهو قد ذكر له اسمه ، واسم جمّاله ، واسم البلد الذي هو منه ، فيرفع عقيرته بذلك معرّفا بهذا الضال ومناديا باسم الجمال وبلده ، الى أن يقع عليه ، فيؤديه اليه. ولو لم يفعل ذلك لكان آخر عهده بصاحبه الا أن يلتقطه التقاطا أو يقع عليه اتفاقا. فهذا من بعض عجائب شؤون هذه المحلة ، وعجائبها أكثر من أن يحيط بها الوصف. ولأهلها من قوة الجدة واليسار ما يعينهم على ما هم بسبيله ، والملك بيد الله يؤتيه من يشاء.

ولهؤلاء النسوة الخواتين في كل عام ، إذا لم يحججن بأنفسهن ، نواضح مسبلة مع الحاج يرسلنها مع ثقات يسقون أبناء السبيل في المواضع المعروف فيها الماء ، وفي الطريق كله ، وبعرفات ، وبالمسجد الحرام ، في كل يوم وليلة ، فلهن في ذلك أجر عظيم ، وما التوفيق الا بالله جلّ جلاله. فتسمع المنادي على النواضح يرفع صوته بالماء للسبيل ، فيهطع اليه المرملون من الزاد والماء بقربهم وأباريقهم فيملأونها ، ويقول المنادي في اشادته بصوته : أبقى الله الملكة خاتون ، ابنة الملك الذي من أمره كذا ، ومن شأنه كذا. ويحليه بحلاه ، إعلانا باسمها ،

١٤٦

واظهارا لفعلها ، واستجلابا للدعاء لها من الناس ، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا. وقد تقدم تفسير هذه اللفظة خاتون ، وأنها عندهم بمنزلة السيدة أو ما يليق بهذا اللفظ الملوكي النسائي.

ومن عجيب هذه المحلة أيضا ، على عظمها وكبرها ، وكونها وجود دنيا بأسرها ، أنها اذا حطت رحالها ، ونزلت منزلها ، ثم ضرب الأمير طبله للإنذار بالرحيل ، ويسمونه الكوس ، لم يكن بين استقلال الرواحل بأوقارها ورحالها وركابها الا كلا ولا ، فلا يكاد يفرغ الناقر من الضربة الثالثة الا والركائب قد أخذت سبيلها. كل ذلك من قوة الاستعداد ، وشدة الاستظهار على الأسفار ، والحول والقوة لله وحده ، لا اله سواه.

واسراؤها بالليل بمشاعيل موقدة يمسكها الرجالة بأيديهم ، فلا تبصر قشاوة من القشاوات الا وأمامها مشعل ، فالناس يسيرون منها بين كواكب سيارة توضح غسق الظلماء ، وتباهي بها الأرض أنجم السماء. والمرافق الصناعية وغيرها من المصالح الدينية والمنافع الحيوانية كلها موجودة بهذه المحلة غير معدومة ، ووصفها يطول ، والأخبار عنها لا تنحصر.

فلما كان ظهر يوم الاثنين اثر الصلاة أقلعنا من خليص مرتحلين ، وتمادى سيرنا الى العشاء الآخرة ، ثم نزلنا ونمنا نومة خفيفة ، ثم ضرب الكوس فأقلعنا وأسرينا الى ضحى من النهار ، ثم نزلنا مريحين الى أول الظهر من يوم الثلاثاء ، ثم أقلعنا من منزلنا ذلك الى واد يعرف بوادي السمك ، اسم يكاد يكون واقعا على غير مسمى ، فنزلناه مع العشاء الآخرة ، وأصبحنا به مقيمين يوم الأربعاء لتجديد حمل الماء ، وهو بهذا الوادي في مستنقعات ، وربما حفر عليه في الرمل ، فأقلعنا منه أول ظهر يوم الأربعاء المذكور ، ثم أجزنا مع الليل عقبة محجرة كؤودا ذهب فيها من الجمال كثير. ونزلنا في بسيط من الأرض ، ونمنا الى نصف الليل ، ثم رحلنا في مهمه افيح بسيط ممتد مد البصر ، ورمله منثالة ، فمشت الجمال فيها دون مقطرة لانفساح طريقها.

١٤٧

ثم نزلنا مريحين قائلين يوم الخميس التاسع والعشرين من ذي الحجة ، وبيننا وبين بدر مقدار مرحلتين ، فلما كان أول الظهر رحلنا الى مقربة من بدر فنزلنا بائتين. ثم قمنا قبل نصف الليل فوصلنا بدرا وقد ارتفع النهار. وهي قرية فيها حدائق نخل متصلة ، وبها حصن في ربوة مرتفعة ، ويدخل اليها على بطن واد بين جبال. وببدر عين فوارة ، وموضع القليب الذي كان بإزائه الوقعة الاسلامية التي أعزت الدين وأذلت المشركين ، هو اليوم نخيل ، وموضع الشهداء خلفه ، وجبل الرحمة الذي نزلت فيه الملائكة عن يسار الداخل منها الى الصفراء ، وبإزائه جبل الطبول ، وهو شبيه كثيب رمل ممتد. وهذه التسمية لإشاعة لهج بها أكثر المسلمين ، وذلك أنهم يزعمون أن أصوات الطبول تسمع بها كل يوم جمعة ، كأنها آثار انذارات باقية بما سلف من النصر النبوي في ذلك الموضع ، والله أعلم بغيبه.

وموضع عريش النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يتصل بسفح؟؟؟ جبل الطبول المذكور ، وموضع الوقيعة أمامه. وعند نخيل القليب مسجد ، يقال : انه مبرك ناقة النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وصح عندنا ، على زعم أحد الأعراب الساكنين ببدر ، أنهم يسمعون أصوات الطبول بالجبل المذكور ، لكن عين لذلك كل يوم اثنين ويوم خميس. فعجبنا من زعمه كل العجب ولا يعلم حقيقة ذلك الا الله تعالى.

وبين بدر والصفراء بريد ، والطريق اليها في واد بين جبال تتصل بها حدائق النخيل ، والعيون فيها كثيرة ، وهو طريق حسن. وبالصفراء حصن مشيد ، ويتصل به حصون كثيرة : منها حصنان يعرفان بالتوأمين ، وحصن يعرف بالحسنية ، وآخر يعرف بالجديد ، الى حصون كثيرة ، وقرى متصلة.

شهر محرم سنة ثمانين وخمس مئة

استهل هلاله ليلة السبت بموافقة الرابع عشر لشهر أبريل ونحن مقلعون من

١٤٨

بدر الى الصفراء ، فبتنا باستهلاله بهذه البقعة الكريمة : بدر ، حيث نصر الله المسلمين وقهر المشركين ، والحمد لله على ذلك. وكان نزولنا بالصفراء اثر صلاة العشاء الآخرة. فأصبحنا يوم السبت ، مستهل الهلال المذكور ، مقيمين مريحين بها ، ليتزود الناس منها الماء ويأخذوا نفس استراحة الى الظهر. ومنها الى المدينة المكرمة ان شاء الله ثلاثة أيام ، فأقلعنا منها ظهر يوم السبت المذكور ، وتمادى السير بنا الى اثر صلاة العشاء الآخرة ، والطريق في واد متصل بين جبال ، فنزلنا ليلة الأحد ، ثم أقلعنا نصف الليل ، وتمادى سيرنا الى ضحى من النهار ، فنزلنا مريحين قائلين ببئر ذات العلم ، ويقال : ان عليّ بن أبي طالب ، رضي‌الله‌عنه ، قاتل الجن بها ، وتعرف أيضا بالروحاء. والبئر المذكورة متناهية بعد الرشاء لا يكاد يلحق قعرها ، وهي معينة.

ورحلنا منها اثر صلاة الظهر من يوم الأحد ، وتمادى بنا السير الى اثر صلاة العشاء الآخرة ، فنزلنا شعب عليّ ، رضي‌الله‌عنه ، وأقلعنا منه نصف الليل الى تربان ، الى البيداء ، ومنها تبصر المدينة المكرمة ، فنزلنا ضحى يوم الاثنين الثالث لمحرّم المذكور بوادي العقيق ، وعلى شفيره مسجد ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمدينة من هذا الموضع على خمسة أميال ، ومن ذي الحليفة حرم المدينة الى مشهد حمزة الى قباء ، وأول ما يظهر للعين منارة مسجدها بيضاء مرتفعة ، ثم رحلنا منها اثر

صلاة الظهر من يوم الاثنين المذكور ، وهو السادس عشر لأبريل ، فنزلنا بظاهر المدينة الزهراء ، والتربة البيضاء ، والبقعة المشرفة بمحمد سيد الأنبياء ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة تتصل مع الأحيان والآناء.

وفي عشي ذلك اليوم دخلنا الحرم المقدس لزيارة الروضة المكرمة المطهرة ، فوقفنا بإزائها مسلّمين ، ولترب جنباتها المقدسة مستلمين وصلينا بالروضة التي بين القبر المقدس والمنبر ، واستلمنا أعواد المنبر القديمة التي كانت موطئ الرسول ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقطعة الباقية من الجذع الذي حن اليه ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي ملصقة في عمود قائم أمام الروضة الصغيرة التي بين القبر والمنبر ، وعن يمينك اذا استقبلت القبلة

١٤٩

فيها ، ثم صلينا صلاة المغرب مع الجماعة. وكان من الاتفاق السعيد لنا أن وجدنا بعض فسحة في تلك الحال لاشتغال الناس بإقامة مضاربهم ، وترتيب رحالهم ، فتمكنا من الغرض المقصود ، وفزنا بالمشهد المحمود ، وأدينا حق السلام على الصاحبين الضجيعين : صديق الاسلام وفاروقه ، وانصرفنا الى رحالنا مسرورين ، ولنعمة الله علينا شاكرين. ولم يبق لنا أمل من آمال وجهتنا المباركة ولا وطر الا وقد قضيناه ، ولا غرض من أغراضنا المأمولة الا وبلّغناه ، وتفرغت الخواطر للإياب للوطن ، نظم الله الشمل ، وتمم علينا الفضل ، والحمد لله على ما أولاه وأسداه ، وأعاده من جميل صنعه وأبداه ، فهو أهل الحمد والشكر ومستحقه لا اله سواه.

ذكر مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر روضته المقدسة

المسجد المبارك مستطيل ، وتحفه من جهاته الأربع بلاطات مستديرة به ، ووسطه كله صحن مفروش بالرمل والحصى ، فالجهة القبيلة منها لها خمس بلاطات مستطيلة من غرب الى شرق ، والجهة الجوفية لها أيضا خمس بلاطات على الصفة المذكورة ، والجهة الشرقية لها ثلاث بلاطات ، والجهة الغربية لها أربع بلاطات.

والروضة المقدسة مع آخر الجهة القبلية مما يلي الشرق ؛ وانتظمت من بلاطاته مما يلي الصحن في السعة اثنين ونيفت الى البلاط الثالث بمقدار أربعة أشبار ، ولها خمسة أركان بخمس صفحات ، وشكلها شكل عجيب ، لا يكاد يتأتى تصويره ولا تمثيله ، والصفحات الأربع محرفة من القبلة تحريفا بديعا ، لا يتأتى لأحد معه استقبالها في صلاته لأنه ينحرف عن القبلة.

وأخبرنا الشيخ الإمام العالم الورع ، بقية العلماء ، وعمدة الفقهاء ، أبو ابراهيم اسحاق بن ابراهيم التونسي ، رضي‌الله‌عنه ، أن عمر بن عبد العزيز ، رضي‌الله‌عنه ، اخترع ذلك في تدبير بنائها مخافة أن يتخذها الناس مصلى.

واخذت ايضا من الجهة الشرقية سعة بلاطين فانتظم داخلها من أعمدة الأبلطة

١٥٠

ستة. وسعة الصفحة القبلية منها أربعة وعشرون شبرا ، وسعة الصفحة الشرقية ثلاثون شبرا ، وما بين الركن الشرقي الى الركن الجوفي صفحة سعتها خمسة وثلاثون شبرا. ومن الركن الجوفي الى الغربي صفحة سعتها أربعة وعشرون شبرا. وفي هذه الصفحة صندوق آبنوس ، مختم بالصندل ، مصفح بالفضة ، مكوكب بها ، هو قبالة رأس النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وطوله خمسة أشبار ، وعرضه ثلاثة أشبار ، وارتفاعه أربعة أشبار. وفي الصفحة التي بين الركن الجوفي والركن الغربي موضع عليه ستر مسبل ، يقال : إنه كان مهبط جبريل ، عليه‌السلام. فجميع سعة الروضة المكرمة من جميع جهاتها مئتا شبر واثنان وسبعون شبرا. وهي مؤزرة بالرخام البديع النحت الرائع النعت. وينتهي الإزار منها الى نحو الثلث أو أقل يسيرا ، وعليه من الجدار المكرم ثلث آخر ، وقد علاه تضميخ المسك والطيب بمقدار نصف شبر ، مسودا ، مشققا ، متراكما مع طول الأزمنة والأيام. والذي يعلوه من الجدار شبابيك عود متصلة بالسمك الأعلى ، لأن أعلى الروضة المباركة متصل بسمك المسجد ، والى حيز إزار الرخام تنتهي الأستار ، وهي لازوردية اللون ، مختمة بخواتيم بيض مثمنة ومربعة. وفي داخل الخواتيم دوائر مستديرة ونقط بيض تحف بها ، فمنظرها منظر بديع الشكل. وفي اعلاها رسم مائل الى البياض. وفي الصفحة القبلية أمام وجه النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مسمار فضة ، هو أمام الوجه الكريم فيقف الناس أمامه للسلام. والى قدميه ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رأس أبي بكر الصديق ، رضي‌الله‌عنه ، ورأس عمر الفاروق مما يلي كتفي أبي بكر الصديق ، رضي‌الله‌عنهما فيقف المسلّم مستدبر القبلة ومستقبل الوجه الكريم ، فيسلم ثم ينصرف يمينا الى وجه أبي بكر ، ثم الى وجه عمر ، رضي‌الله‌عنهما. وأمام هذه الصفحة المكرمة نحو العشرين قنديلا معلقة من الفضة ، وفيها اثنان من ذهب. وفي جوفي الروضة المقدسة حوض صغير مرخّم ، في قبلته شكل محراب ، قيل : إنه كان بيت فاطمة ، رضي‌الله‌عنها ، ويقال : هو قبرها ، والله أعلم بحقيقة ذلك.

وعن يمين الروضة المكرمة المنبر الكريم ، ومنه اليها اثنتان وأربعون خطوة ،

١٥١

وهو في الحوض المبارك الذي طوله أربع عشر خطوة ، وعرضه ست خطا ، وهو مرخم كله ، وارتفاعه شبر ونصف ، وبينه وبين الروضة الصغيرة ، التي بين القبر الكريم والمنبر ، وفيها جاء الأثر أنها روضة من رياض الجنة ، ثماني خطوات.

وفي هذه الروضة يتزاحم الناس للصلاة ، وحق لهم ذلك. وبإزائها لجهة القبلة عمود ، يقال : إنه مطبق على بقية الجذع الذي حن للنبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقطعة منه في وسط العمود ظاهرة يقبلها الناس ويبادرون للتبرك بلمسها ومسح خدودهم فيها ، وعلى حافتها في القبلة منها الصندوق. وارتفاع المنبر الكريم نحو القامة أو أزيد ، وسعته خمسة أشبار ، وطوله خمس خطوات ، وأدراجه ثمانية ، وله باب على هيئة الشباك مقفل يفتح يوم الجمعة ، وطوله أربعة أشبار ونصف شبر.

والمنبر مغشى بعود الآبنوس ، ومقعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من أعلاه ظاهر قد طبق عليه بلوح من الآبنوس غير متصل به يصونه من القعود عليه ، فيدخل الناس أيديهم اليه ويتمسحون به تبركا بلمس ذلك المقعد الكريم. وعلى رأس رجل المنبر اليمنى ، حيث يضع الخطيب يده اذا خطب ، حلقة فضة مجوفة تشبه حلقة الخياط التي يضعها في اصبعه صفة لا صغرا لأنها أكبر منها ، لاعبة تستدير في موضعها ، يزعم الناس أنها لعبة الحسن والحسين ، رضي‌الله‌عنهما ، في حال خطبة جدّهما ، صلوات الله وسلامه عليه.

وطول المسجد الكريم مئة خطوة وست وتسعون خطوة ، وسعته مئة وست وعشرون خطوة ، وعدد سواريه مئتان وتسعون ، وهي أعمدة متصلة بالسمك دون قسي تنعطف عليها ، فكأنها دعائم قوائم ، وهي من حجر منحوت قطعا قطعا ململمة مثقبة توضع أنثى في ذكر ويفرغ بينهما الرصاص المذاب الى أن تتصل عمودا قائما ، وتكسى بغلالة جيار ، ويبالغ في صقلها ودلكها فتظهر كأنها رخام أبيض.

والبلاط المتصل بالقبلة من الخمسة بلاطات المذكورة تحف به مقصورة تكتنفه

١٥٢

طولا من غرب الى شرق ، والمحراب فيها. ويصلي الإمام في الروضة الصغيرة المذكورة الى جانب الصندوق ، وبينها وبين الروضة والقبر المقدس محمل كبير مدهون عليه مصحف كبير في غشاء مقفل عليه هو أحد المصاحف الأربعة التي وجه بها عثمان بن عفان ، رضي‌الله‌عنه ، الى البلاد. وبإزاء المقصورة الى جهة الشرق خزانتان كبيرتان محتويتان على كتب ومصاحف موقوفة على المسجد المبارك.

ويليهما في البلاط الثاني لجهة الشرق أيضا دفة مطبقة على وجه الارض مقفلة هي على سرداب يهبط اليه على ادراج تحت الأرض يفضي الى خارج المسجد الى دار أبي بكر الصديق ، رضي‌الله‌عنه ، وهو كان طريق عائشة اليها. وبإزائها دار عمر بن الخطاب ، ودار ابنه عبد الله ، رضي‌الله‌عنهما. ولا شك أن ذلك الموضع هو موضع الخوخة المفضية لدار أبي بكر التي أمر النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بإبقائها خاصة.

وأمام الروضة المقدسة أيضا صندوق كبير هو للشمع والأنوار التي توقد أمام الروضة كل ليلة. وفي الجهة الشرقية بيت مصنوع من عود هو موضع مبيت بعض السدنة الحارسين للمسجد المبارك ، وسدنته فتيان أحابيش وصقالب ظراف الهيئات نظاف الملابس والشارات ، والمؤذن الراتب فيه أحد أولاد بلال ، رضي‌الله‌عنه. وفي جهة جوف الصحن قبة كبيرة محدثة جديدة تعرف بقبة الزيت هي مخزن لجميع آلات المسجد المبارك وما يحتاج اليه فيه. وبإزائها في الصحن خمسة عشر نخلة. وعلى رأس المحراب ، الذي في جدار القبة داخل المقصورة ، حجر مربع أصفر قدر شبر في شبر ، ظاهر البريق والبصيص ، يقال : إنه كان مرآة كسرى ، والله أعلم بذلك. وفي أعلاه داخل المحراب مسمار مثبت في جداره فيه شبه حق صغير لا يعرف من أي شيء هو ، ويزعم أيضا أنه كان كأس كسرى ، والله أعلم بحقيقة ذلك كله.

ونصف جدار القبلة الأسفل رخام ، موضوع إزارا على إزار ، مختلف الصنعة

١٥٣

واللون ، مجزّع أبدع تجزيع. والنصف الأعلى من الجدار منزّل كله بفصوص الذهب المعروفة بالفسيفساء ، قد أنتج الصناع فيه نتائج من الصنعة غريبة تضمنت تصاوير أشجار مختلفات الصفات مائلة الأغصان بثمرها. والمسجد كله على تلك الصفة ، لكن الصنعة في جدار القبلة احفل. والجدار الناظر الى الصحن من جهة القبلة كذلك ، ومن جهة الجوف أيضا. والغربي والشرقي الناظران الى الصحن مجردان أبيضان ومقرنصان قد زينا برسم يتضمن أنواعا من الأصبغة ، الى ما يطول وصفه وذكره من الاحتفال في هذا المسجد المبارك المحتوي على التربة الطاهرة المقدسة ، وموضعها أشرف ، ومحلها أرفع من كل ما تزين به.

وللمسجد المبارك تسعة عشر بابا ، لم يبق منها مفتحا سوى أربعة في الغرب : منها اثنان ، يعرف أحدهما بباب الرحمة ، والثاني بباب الخشية ، وفي الشرق اثنان : يعرف أحدهما بباب جبريل ، عليه‌السلام ، والثاني بباب الرجاء. ويقابل باب جبريل ، عليه‌السلام ، دار عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، وهي التي استشهد بها. ويقابل الروضة المكرّمة ، من هذه الجهة الشرقية ، روضة جمال الدين الموصلي ، رحمه‌الله ، المشهور خبره وأثره ، وقد تقدم ذكر مآثره.

وأمام الروضة المكرمة شباك حديد مفتوح الى روضته ، تنسم منها روحا وريحانا. وفي القبلة باب صغير واحد مغلق ، وفي الجوف أربعة مغلقة ، وفي الغرب خمسة مغلقة أيضا ، وفي الشرق خمسة أيضا مغلقة ؛ فكملت بالأربعة المفتوحة تسعة عشر بابا. وللمسجد المبارك ثلاث صوامع : إحداها في الركن الشرقي المتصل بالقبلة ، والاثنتان في ركني الجهة الجوفية صغيرتان كأنهما على هيئة برجين ، والصومعة الأولى المذكورة على هيئة الصوامع.

ذكر المشاهد المكرمة التي ببقيع الغرقد

فأول ما نذكر من ذلك مسجد حمزة ، رضي‌الله‌عنه ، وهو بقبلي الجبل

١٥٤

المذكور ، والجبل جوفيّ المدينة ، وهو على مقدار ثلاثة أميال. وعلى قبره ، رضي‌الله‌عنه ، مسجد مبني. والقبر برحبة جوفي المسجد ، والشهداء ، رضي‌الله‌عنهم ، بإزائه ، والغار الذي أوى اليه النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بإزاء الشهداء أسفل الجبل. وحول الشهداء تربة حمراء هي التربة التي تنسب الى حمزة ويتبرك الناس بها.

وبقيع الغرقد شرقي المدينة ، تخرج اليه على باب يعرف بباب البقيع ، وأول ما تلقى عن يسارك عند خروجك ، من الباب المذكور ، مشهد صفية عمة النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أم الزبير بن العوام ، رضي‌الله‌عنه ، وأمام هذه التربة قبر مالك بن أنس الإمام المدني ، رضي‌الله‌عنه ، وعليه قبة صغيرة مختصرة البناء. وأمامه قبر السلالة الطاهرة إبراهيم ابن النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليه قبة بيضاء. وعلى اليمين منها تربة ابن لعمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، اسمه عبد الرحمن الأوسط ، وهو المعروف بأبي شحمة ، وهو الذي جلده أبوه الحد ، فمرض ومات ، رضي‌الله‌عنهما. وبإزائه قبر عقيل بن أبي طالب ، رضي‌الله‌عنه ، وعبد الله بن جعفر الطيار ، رضي‌الله‌عنه. وبإزائهم روضة فيها أزواج النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبإزائها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويليها روضة العباس بن عبد المطلب والحسن بن علي ، رضي‌الله‌عنهما ، وهي قبة مرتفعة في الهواء على مقربة من باب البقيع المذكور وعن يمين الخارج منه ورأس الحسن الى رجلي العباس ، رضي‌الله‌عنهما ، وقبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان مغشّيان بألواح ملصقة أبدع الصاق ، مرصعة بصفائح الصفر ، ومكوكبة بمساميره على أبدع صفة ، وأجمل منظر. وعلى هذا الشكل قبر إبراهيم ابن النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويلي هذه القبة العباسية بيت ينسب لفاطمة بنت الرسول ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويعرف ببيت الحزن ، يقال : إنه الذي أوت اليه والتزمت فيه الحزن على موت أبيها المصطفى ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي آخر البقيع قبر عثمان الشهيد المظلوم ذي النورين ، رضي‌الله‌عنه ، وعليه قبة صغيرة مختصرة. وعلى مقربة منه مشهد فاطمة ابنة أسد أم علي ، رضي

١٥٥

الله عنها وعن بنيها.

ومشاهد هذا البقيع أكثر من أن تحصى لأنه مدفن الجمهور الأعظم من الصحابة المهاجرين والأنصار ، رضي‌الله‌عنهم أجمعين. وعلى قبر فاطمة المذكورة مكتوب : «ما ضم قبر أحد كفاطمة بنت أسد» رضي‌الله‌عنها وعن بنيها.

وقباء قبلي المدينة ، ومنها اليها نحو الميلين. وكانت مدينة كبيرة متصلة بالمدينة المكرمة. والطريق اليها بين حدائق النخل المتصلة. والنخيل محدق بالمدينة من جهاتها ، وأعظمها جهة الغرب. والمسجد المؤسس على التقوى بقباء مجدد ، وهو مربع مستوى الطول والعرض ، وفيه مئذنة طويلة بيضاء تظهر على بعد ، وفي وسطه مبرك الناقة بالنبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليه حلق قصير شبه روضة صغيرة يتبرك الناس بالصلاة فيه. وفي صحنه ، مما يلي القبلة ، شبه محراب على مصطبة ، هو أول موضع ركع فيه النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي قبلته محاريب وله باب واحد من جهة الغرب ، وهو سبعة بلاطات في الطول ، ومثلها في العرض.

وفي قبلة المسجد دار لبني النجار ، وهي دار أبي أيوب الأنصاري. وفي الغرب من المسجد رحبة فيها بئر ، وبإزائها على الشفير حجر متسع شبيه البيلة يتوضأ الناس فيه. ويلي دار بني النجار دار عائشة ، رضي‌الله‌عنها ، وبإزائها دار عمر ودار فاطمة ودار أبي بكر ، رضي‌الله‌عنهم ، وبإزائها بئر أريس حيث تفل النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعاد ماؤها عذبا بعد ما كان أجاجا ، وفيه وقع خاتمة من يد عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، والحديث مشهور.

وفي آخر القرية تل مشرف يعرف بعرفات ، يدخل اليه على دار الصفة حيث كان عمار وسلمان وأصحابهما المعروفون بأهل الصفة. وسمي ذلك التل عرفات لأنه كان موقف النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يوم عرفة ، ومنه زويت له الأرض فأبصر الناس في عرفات. وآثار هذه القرية المكرمة ومشاهدها كثيرة لا تحصى.

وللمدينة المكرّمة أربعة أبواب ، وهي تحت سورين ، في كل سور باب يقابله

١٥٦

آخر ، الواحد منها كله حديد ، ويعرف باسمه باب الحديد ؛ ويليه باب الشريعة ثم باب القبلة ، وهو مغلق ؛ ثم باب البقيع ، وقد تقدّم ذكره. وقبل وصولك سور المدينة من جهة الغرب بمقدار غلوة تلقى الخندق الشهير ذكره الذي صنع النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عند تحزب الأحزاب.

وبينه وبين المدينة ، عن يمين الطريق ، العين المنسوبة للنبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليها حلق عظيم مستطيل ، ومنبع العين وسط ذلك الحلق كأنه الحوض المستطيل. وتحته سقايتان مستطيلتان باستطالة الحلق. وقد ضرب بين كل سقاية وبين الحوض المذكور بجدار ، فحصل الحوض محدقا بجدارين. وهو يمدّ السقايتين المذكورتين ، ويهبط إليهما على أدراج عددها نحو الخمسة والعشرين درجا. وماء هذه العين المباركة يعمّ أهل الأرض فضلا عن أهل المدينة ، فهي لتطهّر الناس واستقائهم وغسل أثوابهم. والحوض المذكور لا يتناول فيه غير الاستقاء خاصة صونا له ومحافظة عليه. وبمقربة منه ، مما يلي المدينة ، قبة حجر الزيت ، يقال : إن الزيت رشح للنبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من ذلك الحجر. ولجهة الجوف منه بئر بضاعة ، وبإزائها لجهة اليسار جبل الشيطان حيث صرخ ، لعنة الله ، يوم أحد ، حين قال : قتل نبيّكم.

وعلى شفير الخندق المذكور حصن يعرف بحصن العزّاب ، وهو خرب ، قيل : إن عمر ، رضي‌الله‌عنه ، بناه لعزّاب المدينة. وأمامه ، لجهة الغرب على البعد ، بئر رومة التي اشترى نصفها عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، بعشرين ألفا. وفي طريق أحد مسجد عليّ ، رضي‌الله‌عنه ، ومسجد سلمان ، رضي‌الله‌عنه ومسجد الفتح الذي أنزلت فيه على النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة الفتح.

وللمدينة المكرمة سقاية ثالثة داخل باب الحديد يهبط اليها على ادراج وماؤها معين. وهي بمقربة من الحرم الكريم. وبقبليّ هذا الحرم المكرم دار امام دار الهجرة مالك بن أنس ، رضي‌الله‌عنه. ويطيف بالحرم كله شارع مبلط بالحجر المنحوت المفروش.

١٥٧

فهذا ذكر ما تمكن على الاستعجال من آثار المدينة المكرمة ومشاهدها على جهة الاقتضاب والاختصار ، والله وليّ التوفيق.

الخاتون بنت الأمير مسعود

ومن عجيب ما شاهدناه من الأمور البديعة الداخلة مدخل السمعة والشهرة ، أن احدى الخواتين المذكورات ، وهي بنت الأمير مسعود المتقدم ذكرها وذكر أبيها ، وصلت عشي يوم الخميس السادس لمحرم ، ورابع يوم وصولنا المدينة ، الى مسجد رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، راكبة في قبتها ، وحولها قباب كرائمها وخدمها ، والقرّاء أمامها ، والفتيان والصقالب بأيديهم مقامع الحديد يطوفون حولها ، ويدفعون الناس أمامها ، الى أن وصلت الى باب المسجد المكرم ، فنزلت تحت ملحفة مبسوطة عليها ، ومشت الى أن سلمت على النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والخول أمامها ، والخدام يرفعون أصواتهم بالدعاء لها ، إشادة بذكرها ، ثم وصلت الى الروضة الصغيرة التي بين القبر الكريم والمنبر فصلّت فيها تحت الملحفة ، والناس يتزاحمون عليها ، والمقامع تدفعهم عنها. ثم صلت في الحوض بازاء المنبر ، ثم مشت الى الصفحة الغربية من الروضة المكرمة فقعدت في الموضع الذي يقال : انه كان مهبط جبريل ، عليه‌السلام ، وأرخي الستر عليها ، واقام فتيانها وصقالبها وحجابها على رأسها خلف الستر تأمرهم بأمرها ، واستجلبت معها الى المسجد حملين من المتاع للصدقة. فما زالت في موضعها الى الليل.

وعظ رئيس العلماء

وقد وقع الإيذان بوصول صدر الدين رئيس الشافعية الأصبهاني الذي

١٥٨

ورث النباهة والوجاهة في العلم كابرا عن كابر لعقد مجلس وعظ تلك الليلة ، وكانت ليلة الجمعة السابع من المحرم. فتأخر وصوله الى هدء من الليل والحرم قد غصّ بالمنتظرين ، والخاتون جالسة موضعها. وكان سبب تأخره تأخر أمير الحاج لأنه كان على عدة من وصوله ، الى أن وصل ووصل الأمير ، وقد أعد لرئيس العلماء المذكور وهو يعرف بهذا الاسم ، توارثه عن أب فأب ، كرسيّ بازاء الروضة المقدسة ، فصعده ، وحضر قراؤه أمامه ، فابتدروا القراءة بنغمات عجيبة وتلاحين مطربة مشجية ، وهو يلحظ الروضة المقدسة فيعلن بالبكاء.

ثم أخذ في خطبة من انشائه سحرية البيان ، ثم سلك في أساليب من الوعظ باللسانين ، وأنشد أبياتا يديعة من قوله ، منها هذا البيت ، وكان يردده في كل فصل من ذكره ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويشير الى الروضة :

هاتيك روضته تفوح نسيما

صلوا عليه وسلموا تسليما

واعتذر من التقصير لهول ذلك المقام ، وقال : عجبا للألكن الأعجم كيف ينطق عند أفصح العرب! وتمادى في وعظه الى أن أطار النفوس خشية ورقة ، وتهافتت عليه الاعاجم معلنين التوبة ، وقد طاشت البابهم ، وذهلت عقولهم ، فيلقون نواصيهم بين يديه ، فيستدعي جلمين ويجزّها ناصية ناصية ، ويكسو عمامته المجزوز الناصية ، فيوضع عليه للحين عمامة أخرى من أحد قرائه أو جلسائه ممن قد عرف منزعه الكريم في ذلك ، فبادر بعمامته لاستجلاب الغرض النفيس لمكارمه الشهيرة عندهم ، فلا زال يخلع واحدة بعد أخرى ، الى ان خلع منها عدّة وجزّ نواصي كثيرة ، ثم ختم مجلسه بأن قال : معشر الحاضرين ، قد تكلمت لكم ليلة بحرم الله عزوجل ، وهذه الليلة بحرم رسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا بد للواعظ من كدية ، وأنا أسألكم حاجة ان ضمنتموها لي أرقت لكم ماء وجهي في ذكرها. فأعلن الناس كلهم بالإسعاف ، وشهيقهم قد؟ ، فقال : حاجتي أن تكشفوا رؤوسكم ، وتبسطوا أيديكم ، ضارعين لهذا النبي الكريم في أن يرضى عني ، ويسترضي الله عزوجل لي. ثم أخذ في تعداد

١٥٩

ذنوبه والاعتراف بها ، فأطار الناس مائهم ، وبسطوا أيديهم للنبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، داعين له ، باكين ستضرّعين ، فما رأيت ليلة أكثر دموعا ، ولا أعظم خشوعا ، من تلك الليلة ، ثم انفض المجلس وانفضّ الأمير وانفضّت الخاتون من موضعها. وعند وصول صدر الدين المذكور ، أزيل الستر عنها وبقيت بين خدمها وكرائمها متلفعة في ردائها فعاينا من أمرها في الشهرة الملوكية عجبا.

وأمر هذا الرجل صدر الدين عجيب في قعدده وأبهته ، وملوكيته ، وفخامة آلته ، وبهاء حالته ، وظاهر مكنته ، ووفور عدته ، وكثرة عبيده وخدمته ، واحتفال حاشيته وغاشيته ، فهو من ذلك على حال يقصر عنها الملوك. وله مضرب كالتاج العظيم في الهواء ، مفتّح على أبواب على هيئة غريبة الوضع ، بديعة الصنعة والشكل ، تطل على المحلة من بعد ، فتبصره ساميا في الهواء. وشأن هذا الرجل العظيم لا يستوعبه الوصف ؛ شاهدنا مجلسه فرأينا رجلا يذوب طلاقة وبشرا ، ويخفّ للزائر كرامة وبرّا ، على عظيم حرمته وفخامة بنيته ، وهو أعطي البسطتين علما وجسما ، استجزناه فأجازنا نثرا ونظما. وهو أعظم من شاهدنا بهذه الجهات.

وفي يوم الجمعة المذكور ، وهو السابع من محرم ، شاهدنا من أمور البدعة أمرا ينادى له الاسلام : يا لله يا للمسلمين. وذلك أن الخطيب وصل للخطبة ، فصعد منبر النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو ، على ما يذكر ، على مذهب غير مرضي ، ضد الشيخ الإمام العجمي الملازم صلاة الفريضة في المسجد المكرم. فذلك على طريقة من الخير والورع ، لائقة بإمام مثل ذلك الموضع الكريم. فلما أذّن المؤذّنون قام هذا الخطيب المذكور للخطبة ، وقد تقدمته الرايتان السوداوان وقد ركزتا بجانبي المنبر الكريم ، فقام بينهما ، فلما فرغ من الخطبة الأولى ، جلس جلسة خالف فيها جلسة الخطباء المضروب بها المثل في السرعة ، وابتدر الجمع مردة من الخدمة يخترقون الصوف ، ويتخطون الرقاب ، كدية على الأعاجم والحاضرين لهذا الخطيب القليل التوفيق ، فمنهم من يطرح الثوب النفيس ،

١٦٠