رحلة ابن جبير

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي

رحلة ابن جبير

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

واسعة الاختطاط ، عتيقة الوضع ، قد درست الى منازل يسيرة متخذة للنزول تحف بجانبي طريق كأنه ميدان انبساطا وانفساحا ، ممتد الطول.

فأول ما يلقى المتوجه اليها عن يساره ، وبمقربة منها ، مسجد البيعة المباركة ، التي كانت أول بيعة في الاسلام ، عقدها العباس ، رضي‌الله‌عنه ، للنبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على الانصار ، حسب المشهور من ذلك.

ثم يفضى منه الى جمرة العقبة ، وهي اول منى للمتوجه من مكة وعن يسار المار اليها ، وهي على قارعة الطريق مرتفعة للمتراكم فيها من حصى الجمرات. ولو لا آيات الله البينات فيها لكانت كالجبال الرواسي لما يجتمع فيها على تعاقب الدهور وتوالي الازمنة ، لكن الله ، عزوجل ، فيها سر كريم من اسراره الخفيات ، لا اله سواه. وعليها مسجد مبارك ، وبها علم منصوب شبه أعلام الحرم التي ذكرناها ، فيجعلها الرامي عن يمينه مستقبلا مكة ، شرّفها الله ، ويرمي بها سبع حصيات ، وذلك يوم النحر اثر طلوع الشمس ، ثم ينحر أو يذبح ويحلق ، والمحلق حولها ، والمنحر في كل موضع من منى ، لان منى كلها منحر ، كما قال ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد حل له كل شيء الا النساء والطيب حتى يطوف طواف الافاضة. وبعد هذه الجمرة العقبية موضع الجمرة الوسطى ، ولها أيضا علم منصوب ، وبينهما قدر الغلوة ، ثم بعدها يلقى الجمرة الأولى ومسافتها منها كمسافة الأخرى.

وفي وقت الزوال من ثاني يوم النحر ترمى في الأولى سبع حصيات ، وفي الوسطى كذلك ، وفي العقبة كذلك ، فتلك احدى وعشرون حصاة. وفي اليوم الثالث من يوم النحر ، في الوقت بعينه ، كذلك على الترتيب المذكور ، فتلك اثنتان واربعون حصاة في اليومين وسبع رميت في العقبة يوم النحر وقت طلوع الشمس ، كما ذكرناه ، وهي المحللات للحاج ما حرم عليه سوى النساء والطيب ، فتلك تكملة تسع وأربعين جمرة.

وفي إثر ذلك ينفصل الحاج إلى مكة من ذلك اليوم. واختصر في هذا الزمان

١٢١

إحدى وعشرون كانت ترمى في اليوم الرابع على الترتيب المذكور ، وذلك لاستعجال الحاج خوفا من العرب الشعبيين إلى غير ذلك من محذورات الفتن المغيرات لآثار السنن ، فمضى العمل اليوم على تسع وأربعين حصاة ، وكانت في القديم سبعين ، والله يهب القبول لعباده.

والصادر من عرفات إلى منى أول ما يلقى الجمرة الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة. وفي يوم النحر تكون جمرة العقبة اولى منفردة بسبع حصيات ، حسبما تقدم ذكره ، ولا يشترك معها سواها في ذلك اليوم ، ثم في اليومين بعده ترجع الآخرة على الترتيب حسبما وصفناه ، بحول الله عزوجل.

وبعد الجمرة الأولى يعرج عن الطريق يسيرا ويلقى منحر الذبيح ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث فدي بالذبح العظيم. وعلى الموضع المبارك مسجد مبني ، وهو بمقربة من سفح ثبير. وفي موضع المنحر المذكور حجر قد الصق بالجدار المبني فيه أثر قدم صغيرة ، يقال : إنه أثر قدم الذبيح ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عند تحركه ، فلان الحجر له بقدرة الله ، عزوجل ، إشفاقا وحنانا. فيتبرك الناس بلمسه وتقبيله.

ويفضى من ذلك إلى مسجد الخيف المبارك ، وهو آخر منى في توجهك ، أعني من المعمورة منها بالبنيان. وأما الآثار القديمة فآخذة إلى أبعد غاية أمام المسجد. وهذا المسجد المبارك متسع الساحة كأكبر ما يكون من الجوامع. والصومعة وسط رحبة المسجد. وله في القبلة أربعة بلاطات يشملها سقف واحد. وهو من المساجد الشهيرة بركة وشرف بقعة. وكفى بما ورد في الأثر الكريم من أن بقعته الطاهرة مدفن كثير من الأنبياء ، صلوات الله عليهم.

وبمقربة منه عن يمين المار في الطريق ، حجر كبير مسند إلى صفح الجبل مرتفع عن الأرض يظل ما تحته ، ذكر أن النبيّ ، صل الله عليه وسلم ، قعد تحته مستظلا ومسّ رأسه المكرم فيه فلان له حتى أثر فيه تأثيرا بقدر دور الرأس. فيبادر الناس لوضع رؤوسهم في ذلك الموضع تبركا واستجارة لها بموضع مسه

١٢٢

الرأس المكرّم أن لا تمسها النار بقدرة الله ، عزوجل.

فلما قضينا معاينة هذه المشاهد الكريمة أخذنا في الانصراف مستبشرين بما وهبنا الله من فضله في مباشرتها. ووصلنا إلى مكة قريب الظهر ، والحمد لله على ما منّ به.

وفي يوم الأحد بعده ، وهو الموفي عشرين لشوال ، صعدنا إلى الجبل المقدس حراء وتبركنا بمشاهدة الغار في أعلاه الذي كان النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يتعبد فيه ، وهو أول موضع نزل فيه الوحي عليه ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورزقنا شفاعته ، وحشرنا في زمرته ، وأماتنا على سنته ومحبته ، بمنه وكرمه ، لا رب سواه.

وفي ضحوة يوم الثلاثاء الثاني والعشرين منه ، وهو السادس من فبرير ، اجتمع الناس كافة للاستسقاء تجاه الكعبة المعظمة بعد أن ندبهم القاضي إلى ذلك وحرضهم على صيام ثلاثة أيام قبله. فاجتمعوا في هذا اليوم الرابع المذكور وقد أخلصوا النيات لله عزوجل ، وبكر الشيبيون ففتحوا الباب المكرم من البيت العتيق ، ثم أقبل القاضي بين رايتيه السوداوين لابسا ثياب البياض ، واخرج مقام الخليل ابراهيم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى نبينا ، ووضع على عتبة باب البيت المكرم ، واخرج مصحف عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، من خزانته ، ونشر بازاء المقام المطهر ، فكانت دفته الواحدة عليه والثانية على الباب الكريم. ثم نودي في الناس بالصلاة جامعة ، فصلى القاضي بهم خلف موضع المقام المتخذ مصلى ركعتين ، قرأ في إحداهما ب «سبح اسم ربك الاعلى» ، وفي الثانية بالغاشية ، ثم صعد المنبر ، وقد الصق الى موضعه المعهود من جدار الكعبة المقدسة ، فخطب خطبة بليغة والى فيها الاستغفار ووعظ الناس وذكرهم وخشعهم وحضهم على التوبة والإنابة لله عزوجل ، حتى نزفت دمعها العيون واستنفدت ماءها الشؤون وعلا الضجيج وارتفع الشهيق والنشيج ، وحول رداءه ، وحول الناس أرديتهم اتباعا للسنة.

ثم انفض الجميع راجين رحمة الله عزوجل غير قانطين منها ، والله يتلافى

١٢٣

عباده بلطفه وكرمه. وتمادى استسقاؤه بالناس ثلاثة أيام متوالية ، على الصفة المذكورة ، وقد نال الجهد من أهل الحجاز وأضرّ بهم القحط وأهلك مواشيهم الجدب ، لم يمطروا في الربيع ولا الخريف ولا الشتاء إلا مطرا طلا غير كاف ولا شاف ، والله عزوجل لطيف بعباده ، غير مؤاخذهم بجرائمهم ، إنه الحنان المنان ، لا رب سواه.

وفي يوم الخميس الرابع والعشرين من شوال صعدنا إلى جبل ثور لمعاينة الغار المبارك الذي أوى إليه النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع صاحبه الصديق ، رضي‌الله‌عنه ، حسبما جاء في محكم التنزيل العزيز ، وقد تقدم ذكر هذا الغار وصفته أولا في هذا التقييد. وولجناه من الموضع الذي يعسر الولوج منه على البعض من الناس تبركا بمس بشرة البدن بموضع مسه الجسم المبارك ، قدسه الله ؛ لأن مدخل النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان منه. وكان لأحد الصاعدين إليه ذلك اليوم من المصريين موقف خجلة وفضيحة ، وذلك أنه رام الولوج فيه على ذلك الموضع الضيق فلم يقدر بحيلة وعاود ذلك مرارا فلم يستطع حتى استوقف الناس ما عاينوه من ذلك وبكوا له إشفاقا ولجأوا إلى الله عزوجل في الدعاء ، فلم يغن ذلك شيئا ، وكان فيهم من هو اضخم منه فيسر الله عليه. وطال تعجب الناس منه واعتبارهم.

وأعلمنا بعد انفصالنا في ذلك اليوم بأن هذا الموقف المخجل وقع لثلاثة أناس في ذلك اليوم بعينه ، عصمنا الله من مواقف الفضيحة في الدنيا والآخرة.

وهذا الجبل صعب المرتقى جدا ، يقطع الأنفاس تقطيعا ، لا يكاد يبلغ منتهاه إلا وقد ألقى بالأيدي إعياء وكلالا. وهو من مكة على مقدار ثلاثة أميال ، وعلى ذلك القدر هو جبل حراء منها ، والله تعالى لا يخلينا من بركة هذه المشاهد بمنه وكرمه.

وطول الغار ثمانية عشر شبرا ، وسعته أحد عشر شبرا في الوسط منه ، وفي حافتيه ثلثا شبر ، وعلى الوسط منه يكون الدخول ، وسعة الباب الثاني المتسع

١٢٤

مدخله خمسة أشبار أيضا ، لأن له بابين ، حسبما ذكرناه أولا.

وفي يوم الجمعة بعده وصل السرو اليمنيون في عدد كثير مؤملين زيارة قبر الرسول ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجلبوا ميرة إلى مكة على عادتهم ، فاستبشر الناس بقدومهم استبشارا كثيرا ، حتى إنهم أقاموه عوض نزول المطر ، ولطائف الله لسكان حرمه الشريف واسعة ، إنه سبحانه لطيف بعباده لا إله سواه.

شهر ذي القعدة

استهل هلاله لية الأربعاء ، بموافقة الرابع عشر من شهر فبرير ، بشهادة ثبتت عند القاضي في رؤيته. وأما الاكثر الاغلب من أهل المسجد الحرام فلم يبصروا شيئا ، وطال ارتفاعهم إلى إثر صلاة المغرب ، وكان منهم من يتخيله فيشير إليه فإذا حققه تلاشى عنده نظره وكذب خبره ، والله أعلم بصحة ذلك.

وهذا الشهر المبارك ثاني الاشهر الحرم وثاني اشهر الحج ، أطلع الله هلاله على المسلمين بالامن والايمان والمغفرة والرضوان ، بعزته ورحمته.

مسجد مولد النبي

وفي يوم الاثنين الثالث عشر منه دخلنا مولد النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهو مسجد حفيل البنيان ، وكان دارا لعبد الله بن عبد المطلب ، أبي النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد تقدم ذكره. ومولده ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، صفة صهريج صغير سعته ثلاثة أشبار وفي وسطه رخامة خضراء سعتها ثلثا شبر مطوقة بالفضة فتكون سعتها مع الفضة المتصلة بها شبرا. ومسحنا الخدود في ذلك الموضع المقدس الذي هو مسقط لأكرم مولود على الأرض وممس

١٢٥

لأطهر سلالة وأشرفها ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونفعنا ببركة مشاهدة مولده الكريم. وبازائه محراب حفيل القرنصة ، مرسومة طرته بالذهب. وقد تقدم الوصف لهذا كله.

وهذا الموضع المبارك هو شرقي الكعبة متصل بصفح الجبل. ويشرف عليه بمقربة منه جبل أبي قبيس ، وعلى مقربة منه أيضا مسجد ، عليه مكتوب : «هذا المسجد هو مولد علي بن أبي طالب ، رضوان الله عليه ؛ وفيه تربى رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان دارا لأبي طالب عمّ النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكافله».

دار خديجة ، رضوان الله عليها

ودخلت أيضا في اليوم المذكور دار خديجة الكبرى ، رضوان الله عليها ، وفيها قبة الوحي ، وفيها أيضا مولد فاطمة ، رضي‌الله‌عنها. وهو بيت صغير مائل للطول. والمولد شبه صهريج صغير وفي وسطه حجر أسود. وفي البيت المذكور مولد الحسن والحسين ابنيها ، رضي‌الله‌عنهما ، ومسقط شلو الحسن ولاصق بمسقط شلو الحسين وعليهما حجران مائلان الى السواد كأنهما علامتان للمولدين المباركين الكريمين. ومسحنا الخدود في هذه المساقط المكرمة المخصوصة بمس بشرات المواليد الكرام ، رضوان الله عليهم.

وفي الدار المكرمة أيضا مختبأ النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، شبيه القبة ، وفيه مقعد في الأرض عميق شبيه الحفرة داخل في الجدار قليلا وقد خرج عليه من الجدار حجر مبسوط كأنه يظل المقعد المذكور ، قيل : إنه كان الحجر الذي كان غطّى النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عند اختبائه في الموضع المذكور ، صلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطاهرين. وعلى كل واحد من هذه الموالد المذكورة قبة

١٢٦

خشب صغيرة تصون الموضع غير ثابتة فيه. فاذا جاء المبصر لها نحاها ولمس الموضع الكريم وتبرك به ثم أعادها عليه.

وفي يوم الجمعة الرابع والعشرين من الشهر المذكور نفذ أمر الأمير مكثر بالقبض على زعيم الشيبيين محمد بن اسماعيل وانتهاب منزله وصرفه عن حجابة البيت الحرام ، طهره الله ، وذلك لهنات نسبت اليه لا تليق بمن نيطت به سدانة البيت العتيق : «ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم» ، أعاذنا الله من سوء القضاء ، ونفوذ سهام الدعاء ، بمنه.

وفي هذه الأيام السالفة من الشهر المذكور توالى مجيء السرويين اليمنيين في رفاق كثيرة بالميرة من الطعام وسواه وضروب الإدام والفواكه اليابسة فأرغدوا البلد ؛ ولولاهم لكان من اتصال الجدب وغلاء السعر في جهد ومشقة ، فهم رحمة لهذا البلد الامين. ثم توجهوا الى الزيارة المباركة ، الى التربة المباركة ، طيبة مدفن رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووصلوا في أسرع مدة ، قطعوا الطريق من مكة الى المدينة في يسير أيام ، ومن صحبهم من الحاج حمد صحبتهم. وفي أثناء مغيبهم وصلت طوائف أخر منهم للحج خاصة لضيق الوقت عن الزيارة فأقاموا بمكة ، ووصل الزوار منهم فضاق بهم المتسع.

فلما كان يوم الاثنين السابع والعشرين من الشهر المذكور فتح البيت العتيق ، وتولى فتحه من الشيبيين ابن عم الشيبي المعزول ، وهو أمثل طريقة منه على ما يذكر. فازدحم السرو للدخول على العادة ، فجاءوا بأمر لم يعهد فيما سلف ، يصعدون أفواجا حتى يغص الباب الكريم بهم فلا يستطيعون تقدما ولا تأخرا الى ان يلجوا على أعظم مشقة ثم يسرعون الخروج ، فيضيق الباب الكريم بهم ، فتتحدر الفوج منهم على المصعد وفوج أخرى صاعدة فيلتقيان وقد ارتبط بعضهم الى بعض ، فربما حمل المنحدرون في صدور الصاعدين ، وربما وقف الصاعدون للمنحدرين وتضاغطوا الى ان يميلوا فيقع البعض على البعض. فيعاين النظارة منهم مرأى هائلا : فمنهم سليم ، وغير سليم ، وأكثرهم انما ينحدرون وثبا على

١٢٧

الرءوس والأعناق.

ومن أعجب ما شاهدناه في يوم الاثنين المذكور أن صعد بعض من الشيبيين أثناء ذلك الزحام يرومون الدخول الى البيت الكريم فلم يقدروا على التخلص فتعلقوا بأستار حافتي عضادتي الباب ثم ان احدهم تمسك بإحدى الشرائط القنبية الممسكة للأستار الى أن علا الرءوس والأعناق فوطئها ودخل البيت ، فلم يجد موطئا لقدمه سواها لشدة تراصهم وتراكمهم وانضمام بعضهم الى بعض. وهذا الجمع الذي وصل منهم في هذا العام لم يعهد قط مثله فيما سلف من الأعوام ، ولله القدرة المعجزة ، لا اله سواه.

وفي هذا اليوم المذكور الذي هو السابع والعشرون من ذي القعدة شمرت أستار الكعبة المقدسة الى نحو قامة ونصف من الجدر من الجوانب الأربعة ، ويسمون ذلك احراما لها ، فيقولون : أحرمت الكعبة. وبهذا جرت العادة دائما في الوقت المذكور من الشهر. ولا تفتح من حين احرامها الا بعد الوقفة. فكأن ذلك التشمير ايذان بالتشمير للسفر وايذان بقرب وقت وداعها المنتظر ، لا جعله الله آخر وداع ، وقضى لنا اليها بالعودة وتيسير سبيل الاستطاعة بعزته وقدرته.

وفي يوم الجمعة الرابع والعشرين قبل هذا اليوم المذكور كان دخولنا الى البيت الكريم على حال اختلاس وانتهاز فرصة أوجدت بعض فرجة من الزحام ، فدخلناه دخول وداع اذ لا يتمكن دخوله بعد ذلك لترادف الناس عليه ولا سيما الاعاجم الواصلون مع الأمير العراقي ، فانهم يظهرون من التهافت عليه والبدار اليه والازدحام فيه ما ينسي أحوال السرو اليمنيين لفظاظتهم وغلظتهم ، فلا يتمكن لاحد منهم النظر فضلا عن غير ذلك ، والله عزوجل لا يجعله آخر العهد ببيته الكريم ويرزقنا العود اليه على خير وعافية بمنه ولطيف صنعه.

وفي يوم احرام الكعبة المذكور اقلعت من موضع المقام المقدس القبة الخشبيه التي كانت عليه ووضعت عوضها قبة الحديد اعدادا للاعاجم المذكورين ، لانها

١٢٨

لو لم تكن حديدا لاكلوها اكلا فضلا عن غير ذلك ، لما هم عليه من صحة النفوس شوقا الى هذه المشاهد المقدسة وتطارحهم بأجرامهم عليها ، والله ينفعهم بنياتهم ، بمنه وكرمه.

وفي يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من الشهر المذكور جاء زعيم الشيبيين المعزول يتهادى بين بنيه زهوا واعجابا ومفتاح الكعبة المقدسة بيده قد أعيد اليه ، ففتح الباب الكريم وصعد مع بنيه السطح المبارك الأعلى بأمراس من القنب غليظة يوثقونها في أوتاد الحديد المضروبة في السطح ويرسلونها الى الأرض فيربط فيها شبيه محمل من العود ويجلس فيه أحد سدنة البيت من الشيبيين ، فيصعد به على بكرة معدة لذلك في أعلى السطح المذكور ، فيتولى خياطة ما مزقته الريح من الأستار ، فسألنا عن كيفية صرف هذا الشيبي المعزول الى خطته على صحة الهنات المنسوبة اليه ، فأعلمنا أنه صودر عليها بخمس مئة دينار مكية استقرضها ودفعها. فطال التعجب من ذلك والاعتبار ، وتحققنا أن إظهار القبض عليه لم يكن غيرة ولا أنفة على حرمات الله المنتهكة على يديه ، مع كونها في خطة دونها الخلافة رفعة ، والحال تشبه بعضها بعضا ، (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ، والى الله المشتكى من فساد ظهر حتى في اشرف بقاع الارض ، وهو حسبنا ، ونعم الوكيل.

منشأ الإسلام

وفي يوم الأربعاء التاسع والعشرين من ذي القعدة المذكور دخلنا دار الخيزران التي كان منها منشأ الاسلام ، وهي بإزاء الصفا ويلاصقها بيت صغير عن يمين الداخل اليها كان مسكن بلال ، رضي‌الله‌عنه ، ويدخل اليها على حلق كبير شبيه الفندق قد أحدقت به البيوت للكراء من الحاج. والدار المكرمة دار صغيرة يجدها الداخل الى الحلق المذكور عن يساره ، وهي مجددة البناء ، أنفق

١٢٩

في بنائها جمال الدين ، المذكور أثره الكريم في هذا المكتوب ، نحو الألف دينار ، نفعه الله بما أسلفه من العمل الصالح. وعن يمين الداخل الدار المباركة باب يدخل منه الى قبة كبيرة بديعة البناء ، فيها مقعد النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والصخرة التي كان اليها مستنده ، وعن يمينه موضع أبي بكر الصديق ، وعن يمين أبي بكر موضع علي بن أبي طالب ، والصخرة التي كان اليها مستنده هي داخلة في الجدار كشبه المحراب. وفي هذه الدار كان اسلام عمر بن الخطاب ومنها ظهر الاسلام على يديه ، وأعزه الله به ، نفعنا الله ببركة هذه المشاهد المكرمة والآثار المعظمة ، وأماتنا على محبة الذين شرفت بهم ونسبت اليهم ، صلوات الله عليهم أجمعين.

شهر ذي الحجة

استهل هلاله ليلة الخميس بموافقة الخامس عشر من مارس. وكان للناس في ارتقابه أمر عجيب ، وشأن من البهتان غريب ، ونطق من الزور كاد يعارضه من الجماد فضلا عن غيره رد وتكذيب ؛ وذلك انهم ارتقبوه ليلة الخميس الموفي ثلاثين ، والأفق قد تكاثف نوءه وتراكم غيمه الى ان علته مع المغيب بهض حمرة من الشفق ، فطمع الناس في فرجه من الغيم لعل الأبصار تلتقطه فيها ، فبينما هم كذلك اذ كبر أحدهم ، فكبر الجم الغفير لتكبيره ومشوا قياما ينتظرون ما لا يبصرون ويشيرون الى ما يتخيلون حرصا منهم على أن تكون الوقفة بعرفات يوم الجمعة ، كأن الحج لا يرتبط الا بهذا اليوم بعينه ، فاختلقوا شهادات زورية ، ومشت منهم طائفة من المغاربة ، أصلح الله أحوالهم ، ومن أهل مصر وأربابها ، فشهدوا عند القاضي برؤيته ، فردهم أقبح رد وجرح شهاداتهم أسوأ تجريح وفضحهم في تزييف أقوالهم أخزى فضيحة ، وقال : «يا للعجب! لو أن أحدهم يشهد برؤيته الشمس تحت ذلك الغيم الكثيف النسج لما قبلته ، فكيف برؤية هلال هو ابن تسع وعشرين ليلة!»

١٣٠

وكان ايضا مما حكي من قوله : تشوشت المغارب ، وتعرضت شعرة من الحاجب ، فأبصروا خيالا ظنوه هلالا. وكان لهذا القاضي جمال الدين ، في أمر هذه الشهادة الزورية مقام من التوقف والتحري ، حمده له أهل التحصيل وشكره عليه ذوو العقول ، وحق لهم ذلك ، فإنها مناسك الحج للمسلمين عظيمة ، أتوا لها من كل فج عميق. فلو تسومح فيها بطل السعي ، وفال الرأي ، والله يرفع الالتباس والبأس بمنه.

فلما كانت ليلة الجمعة المذكورة ظهر الهلال أثناء فرج السحاب وقد اكتسى نورا من الثلاثين ليلة ، فزعقت العامة زعقات هائلة وتنادت بوقفة الجمعة ، وقالت : الحمد لله الذي لم يخيب سعينا ، ولا ضيع قصدنا. كأنهم قد صح عندهم أن الوقفة اذا لم تكن توافق يوم الجمعة ليست مقبولة ، ولا الرحمة فيها من الله مرجوة مأمولة ؛ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

ثم إنهم يوم الجمعة المذكور اجتمعوا الى القاضي فأدوا شهادات بصحة الرؤية تبكي الحق وتضحك الباطل ، فردها وقال : يا قوم حتام هذا التمادي في الشهوة ، والام تستنون في طرق الهفوة؟ وأعلمهم أنه قد استأذن الأمير مكثرا في ان يكون الصعود الى عرفات صبيحة يوم الجمعة فيقفوا عشية بها ، ثم يقفوا صبيحة يوم السبت بعده ويبيتوا ليلة الأحد بمزدلفة ، فان كانت الوقفة يوم الجمعة فما عليهم في تأخير المبيت بمزدلفة بأس ، اذ هو جائز عند أئمة المسلمين ، وان كانت يوم السبت فبها ونعمت. وأما أن يقع القطع بها يوم الجمعة فتغرير بالمسلمين وافساد لمناسكهم ، لأن الوقفة يوم التروية عند الأئمة غير جائزة ، كما أنها عندهم جائزة يوم النحر. فشكر جميع من حضر للقاضي هذا المنزع من التحقيق ودعوا له ، وأظهر من حضر من العامة الرضى بذلك وانصرفوا عن سلام ، والحمد لله على ذلك.

وهذا الشهر المبارك هو ثالث الأشهر الحرم ، وعشره الأولى مجتمع الامم وموسم الحج الاعظم ، شهر العج والثج ، وملتقى وفود الله من كل أوب وفج ،

١٣١

مصاب الرحمة والبركات ، ومحل الموقف الاعظم بعرفات ، جعلنا الله ممن فاز فيه بالحسنات ، وتعرى به من ملابس الاوزار والسيئات ، بمنه وكرمه ، انه أهل التقوى ، وأهل المغفرة ، والامير العراقي منتظر لكشف هذا الإلباس عن الناس في أمر الهلال لعله قد اتضح له اليقين فيه ، ان شاء الله.

وفي سائر هذه الايام كلها الى هلم جرّا تصل رفاق من السرو اليمنيين وسائر حجاج الآفاق لا يحصي عددها الا محصي آجالها وأرزاقها ، لا إله سواه. فمن الآيات البينات أن يسع هذا الجمع العظيم هذا البلد الامين الذي هو بطن واد سعته غلوة أو دونها. ولو أن المدن العظيمة حمل عليها هذا الجمع لضاقت عنه. وما هذه البلدة المكرمة فيما تختص به من الآيات البينات في اتساعها لهذا البشر المعجز احصاؤه الا كما شبهتها العلماء حقيقة بأنها تتسع لوفودها اتساع الرحم لمولودها. وكذلك عرفات وسائر المشاهد المعظمة بهذا البلد الحرام ، عظم الله حرمته ورزقنا الرحمة فيه بكرمه وفضله.

ومن أول هذا الشهر المبارك ضربت دبادب الأمير بكرة وعشية وفي أوقات الصلوات كأنها إشعار بالموسم ، ولا يزال كذلك الى يوم الصعود الى عرفات ، عرّفنا الله بها القبول والرحمة.

وفي يوم الاثنين الخامس أو الرابع من هذا الشهر وصل الأمير عثمان بن علي صاحب عدن ، خرج منها فارّا أمام سيف الاسلام المتوجه الى اليمن وركب البحر في جلاب كثيرة مشحونة بأحوال عظيمة واموال لا تحصى كثرة لأنه طال مقامه في تلك الولاية واتسع كسبه. وعند خروجه من البحر بموضع يعرف بالصر ... لحقت جلبه حراريق الأمير سيف الاسلام فأخذت جميع ما فيها من الأثقال ، وكان قد استصحب الخف النفيس الخطير مع نفسه الى البر وهو في جملة من رجاله وعبيده ، فسلم به ، ووصل مكة بعير موقرة متاعا ومالا دخلت الى أعين الناس الى داره التي ابتناها بها بعد أن قدم نفيس ذخائره وناضّ ماله وجملة رقيقه وخدمه ليلا.

١٣٢

وبالجملة فحاله لا توصف كثرة واتساعا ، والذي انتهب له أكثر ، لأنه كان في ولايته يوصف بسوء السيرة مع التجار ، وكانت المنافع التجارية كلها راجعة اليه ، والذخائر الهندية المجلوبة كلها واصلة الى يديه ، فاكتسب سحتا (١) عظيما ، وحصل على كنوز قارونية ، لكن حوادث الأيام قد ابتدأت بالخسف به ، ولا يدري حال أمره مع صلاح الدين لم يكون ، والدنيا مفنية محبيها ، وآكلة بنيها ، وثواب الله خير ذخيرة ، وطاعته أشرف غنيمة ، لا إله سواه.

وبقيت الشهادة مضطربة في أمر هذا الهلال المبارك الميمون الى أن تواصلت الأخبار برؤيته ليلة الخميس الذي يوافق الخامس عشر من مارس ، شهد بذلك ثقات من أهل الزهد والورع يمنيّون وسواهم من الواصلين من المدينة المكرمة لكن بقي القاضي على ثباته وتوقفه في القبول وارجاء الامر الى وصول المبشر المعلم بوصول الأمير العراقي ليتعرف من قبله ما عند أمير الحاج في ذلك.

فلما كان يوم الأربعاء السابع من الشهر المذكور وصل المبشر ، وكانت نفوس أهل مكة قد أوجست خيفة لبطئه حذرا من حقد الخليفة على اميرهم مكثر لمذموم فعل صدر عنه. فكان وصول هذا البشير أمانا وتسكينا للنفوس الشاردة ، فوصل مبشرا ومؤنسا ، واعلم برؤية الهلال ليلة الخميس المذكور. وتواترت الأنباء بذلك ، فصح الأمر عند القاضي بذلك صحة أوجبت خطبته في ذلك اليوم على ما جرت به العادة في اليوم السابع من ذي الحجة اثر صلاة الظهر ، علم الناس فيها مناسكهم ، ثم أعلمهم أن غدهم هو يوم الصعود الى منى ، وهو يوم التروية ، وأن وقفتهم يوم الجمعة ، وأن الأثر الكريم فيها عن رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأنها تعدل سبعين وقفة ، ففضل هذه الوقفة في الأعوام كفضل يوم الجمعة على سائر الأيام.

الصعود إلى عرفات

فلما كان يوم الخميس بكر الناس بالصعود الى منى وتمادوا منها الى عرفات.

__________________

(١) السحت : الحرام.

١٣٣

وكانت السنّة المبيت بها ، لكن ترك الناس ذلك اضطرارا بسبب خوف بني شعبة المغيرين على الحجاج في طريقهم الى عرفات. وصدر عن هذا الأمير عثمان المتقدم ذكره في ذلك اجتهاد بل جهاد يرجى له به المغفرة لجميع خطاياه ، ان شاء الله ، وذلك أنه تقدم بجميع أصحابه شاكين في الأسلحة الى المضيق الذي بين مزدلفة وعرفات ، وهو موضع ينحصر الطريق فيه بين جبلين فينحدر الشعبيون من أحدهما ، وهو الذي عن يسار المار الى عرفات ، فينتهبون الحاج انتهابا ، فضرب هذا الامير قبة في ذلك المضيق بين الجبلين بعد أن قدم أحد أصحابه فصعد الى رأس الجبل بفرسه ، وهو جبل كؤود ، فعجبنا من شأنه ، واكثر التعجب من أمر الفرس وكيف تمكن له الصعود الى ذلك المرتقى الصعب الذي لا يرتقيه ... فأمن جميع الحاج بمشاركة هذا الأمير لهم ، فحصل على اجرين : أجر جهاد وحج ، لأن تأمين وفد الله عزوجل في مثل ذلك اليوم من أعظم الجهاد.

واتصل صعود الناس ذلك اليوم كله والليلة كلها الى يوم الجمعة كله. فاجتمع بعرفات من البشر جمع لا يحصي عدده الا الله عزوجل. ومزدلفة بين منى وعرفات ، من منى اليها ما من مكة الى منى ، وذلك نحو خمسة أميال ، ومنها الى عرفات مثل ذلك أو أشفّ قليلا ، وتسمى المشعر الحرام ، وتسمى جمعا ، فلها ثلاثة اسماء ، وقبلها بنحو الميل وادي محسر ، وجرت العادة بالهرولة فيه ، وهو حد بين مزدلفة ومنى لأنه معترض بينهما.

ومزدلفة بسيط من الارض فسيح بين جبلين وحوله مصانع وصهاريج كانت للماء في زمان زبيدة ، رحمها الله. وفي وسط ذلك البسيط من الارض حلق في وسطه قبة في أعلاها مسجد يصعد اليه على أدراج من جهتين ، يزدحم الناس في الصعود اليه والصلاة فيه عند مبيتهم بها. وعرفات أيضا بسيط من الأرض مد البصر ، لو كان محشرا للخلائق لوسعهم ، يحدق بذلك البسيط الافيح جبال كثيرة.

جبل الرحمة

وفي آخر ذلك البسيط جبل الرحمة ، وفيه وحوله موقف الناس ، والعلمان

١٣٤

قبله بنحو الميلين ، فما أمام العلمين الى عرفات حل ، وما دونهما حرم. وبمقربة منهما ، مما يلي عرفات ، بطن عرنة الذي أمر النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بالارتفاع عنه في قوله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عرفات كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن عرنة» ، فالواقف فيه لا يصح حجه ، فيجب التحفظ من ذلك لان الجمالين عشية الوقفة ربما استحثوا كثيرا من الحاج وحذروهم الزحمة في النفر واستدرجوهم بالعلمين اللذين أمامهم الى أن يصلوا بهم بطن عرنة أو يجيزوه فيبطلوا على الناس حجهم. والمتحفظ لا ينفر من الموقف حتى يتمكن سقوط القرصة من الشمس.

وجبل الرحمة المذكور منقطع عن الجبال قائم في وسط البسيط ، وهو كله حجارة منقطعة بعضها عن بعض. وكان صعب المرتقى ، فأحدث فيه جمال الدين المذكورة مآثره في هذا التقييد أدراجا وطيئة من أربع جهاته ، يصعد فيها بالدواب المذكورة ، وانفق فيها مالا عظيما.

وفي أعلى الجبل قبة تنسب الى أمّ سلمة ، رضي‌الله‌عنها ، ولا يعرف صحة ذلك. وفي وسط القبة مسجد يتزاحم الناس للصلاة فيه. وحول ذلك المسجد المكرم سطح محدق به فسيح الساحة جميل المنظر ، يشرف منه على بسيط عرفات. وفي جهة القبلة منه جدار ، وقد نصبت فيه محاريب يصلي الناس فيها.

وفي اسفل هذا الجبل المقدس ، عن يسار المستقبل للقبلة فيه ، دار عتيقة البنيان في أعلاها غرف لها طيقان تنسب الى آدم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن يسار هذه الدار في استقبال القبلة الصخرة التي كان عندها موقف النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي في جبل متطامن. وحول جبل الرحمة والدار المكرّمة صهاريج للماء وجباب. وعن يسار الدار ايضا ، على مقربة منها ، مسجد صغير.

وبمقربة من العلمين ، عن يسار مستقبل القبلة ، مسجد قديم فسيح البناء ، بقي منه الجدار القبلي ، ينسب الى ابراهيم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيه

١٣٥

يخطب الخطيب يوم الوقفة ، ثم يجمع بين الظهر والعصر. وعن يسار العلمين أيضا ، في استقبال القبلة ، وادي الأراك ، وهو أراك أخضر يمتد في ذلك البسيط مع البصر امتدادا طويلا.

فتكامل جمع الناس بعرفات يوم الخميس وليلة الجمعة كلها. وفي نحو الثلث الباقي من ليلة الجمعة المذكورة وصل أمير الحاج العراقي فضرب أبنيته في البسيط الأفيح ، مما يلي الجانب الأيمن من جبل الرحمة في استقبال القبلة.

والقبلة في عرفات هي الى مغرب الشمس ، لأن الكعبة المقدسة في تلك الجهة منها. فأصبح يوم الجمعة المذكورة في عرفات جمع لا شبيه له الا الحشر ، لكنه ان شاء الله تعالى حشر للثواب ، مبشر بالرحمة والمغفرة يوم الحشر للحساب ؛ زعم المحققون من الأشياخ المجاورين انهم لم يعاينوا قط في عرفات جمعا احفل منه ، ولا أرى كان من عهد الرشيد ، الذي هو آخر من حج من الخلفاء ، جمع في الاسلام مثله ، جعله الله جمعا مرحوما معصوما بعزّته.

فلما جمع بين الظهر والعصر يوم الجمعة المذكور وقف الناس خاشعين باكين ، والى الله عزوجل في الرحمة متضرعين ، والتكبير قد علا ، وضجيج الناس بالدعاء قد ارتفع فما رؤي يوم أكثر مدامع ، ولا قلوبا خواشع ، ولا اعناقا لهيبة الله خوانع خواضع من ذلك اليوم. فما زال الناس على تلك الحالة والشمس تلفح وجوههم الى أن سقط قرصها وتمكن وقت المغرب. وقد وصل أمير الحاج مع جملة من جنده الدارعين ووقفوا بمقربة من الصخرات عند المسجد الصغير المذكور. وأخذ السّرو اليمنيون مواقفهم بمنازلهم المعلومة لهم في جبال عرفات المتوارثة عن جدّ فجدّ من عهد النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا تتعدى قبيلة على منزل أخرى.

قدوم الأمير العراقي

وكان المجتمع منهم في هذا العام عددا لم يجتمع قط مثله. وكذلك وصل

١٣٦

الامير العراقي في جمع لم يصل قط مثله ، ووصل معه من أمراء الأعاجم الخراسانيين ومن النساء العقائل المعروفات بالخواتين ، واحدتهن خاتون ، ومن السيدات بنات الامراء كثير ، ومن سائر العجم عدد لا يحصى ، فوقف الجميع وقد جعلوا قدوتهم في النفر الإمام المالكي ، لأنه مذهب مالك ، رضي‌الله‌عنه ، يقتضي أن لا ينفر حتى يتمكن سقوط القرصة ويحين وقت المغرب. ومن السرو اليمنيين من نفر قبل ذلك. فلما أن حان الوقت أشار الإمام المالكي بيديه ونزل عن موقفه فدفع الناس بالنفر دفعا ارتجت له الأرض ووجفت الجبال ، فيا له موقفا ما أهون مرآه وأرجى في النفوس عقباه! جعلنا الله ممن خصه فيه برضاه ، وتغمده بنعماه ، إنه منعم كريم ، حنان منان.

وكانت محلة هذا الأمير العراقي جميلة المنظر ، بهية العدة ، رائقة المضارب والأبنية ، عجيبة القباب والاروقة ، على هيئات لم ير أبدع منها منظرا. فأعظمها مرأى مضرب الامير ، وذلك أنه أحدق به سرادق كالسور من كتان كأنه حديقة بستان أو زخرفة بنيان ، وفي داخله القباب المضروبة ، وهي كلها سواد في بياض ، مرقشة ملونة كأنها أزاهير الرياض. وقد جللت صفحات ذلك السرادق من جوانبه الاربعة كلها اشكال ذرقية من ذلك السواد المنزّل في البياض يستشعر الناظر اليها مهابة يتخيلها درقا لمطية قد جللتها مزخرفات الاغشية.

ولهذا السرادق الذي هو كالسور المضروب أبواب مرتفعة كأنها أبواب القصور المشيدة ، يدخل منها الى دهاليز وتعاريج ثم يفضى منها الى الفضاء الذي فيه القباب. وكأن هذا الامير ساكن في مدينة قد احدق بها سورها تنتقل بانتقاله وتنزل بنزوله ، وهي من الابّهات الملوكية المعهودة التي لم يعهد مثلها عند ملوك المغرب.

وداخل تلك الابواب حجاب الامير وخدمه وغاشيته ، وهي أبواب مرتفعة ، يجيء الفارس برايته فيدخل عليها دون تنكيس ولا تطأطؤ ، قد احكمت اقامة ذلك كله أمراس وثيقة من الكتان تتصل بأوتاد مضروبة ، أدير ذلك كله بتدبير

١٣٧

هندسي غريب. ولسائر الامراء الواصلين صحبة هذا الامير مضارب دون ذلك لكنها على تلك الصفة ، وقباب بديعة المنظر عجيبة الشكل قد قامت كأنها التيجان المنصوبة ، الى ما يطول وصفه ويتسع القول فيه من عظيم احتفال هذه المحلة في الآلة والعدة وغير ذلك مما يدل على سعة الاحوال وعظيم الانخراق في المكاسب والاموال.

ولهم أيضا في مراكبهم على الإبل قباب تظلهم بديعة المنظر عجيبة الشكل قد نصبت على محامل من الاعواد يسمونها القشاوات ، وهي كالتوابيت المجوفة ، هي لركابها من الرجال والنساء كالامهدة للأطفال ، تملأ بالفرش الوثيرة ، ويقعد الراكب فيها مستريحا كأنه في مهاد لين فسيح وبإزائه معادله أو معادلته في مثل ذلك من الشقة الاخرى ، والقبة مضروبة عليهما ، فيسار بهما وهما نائمان لا يشعران ، أو كيفما أحبا ، فعندما يصلان الى المرحلة التي يحطان بها ضرب سرادقهما للحين ان كانا من أهل الترفّه والنعم فيدخل بهما راكبين وينصب لهما كرسيّ ينزلان عليه ، فينتقلان من ظل قبة المحمل الى قبة المنزل دون واسطة هواء يلحقهما ولا خطفة شمس تصيبهما. وناهيك من هذا الترفيه! فهؤلاء لا يلقون لسفرهم ، وان بعدت شقته ، نصبا ، ولا يجدون على طول الحل والترحال تعبا.

ودون هؤلاء في الراحة راكبوا المحارات ، وهي شبيهة الشقادف التي تقدم وصفها في ذكر صحراء عيذاب ، لكن الشقادف أبسط وأوسع ، وهذه أضمّ واضيق ، وعليها أيضا ظلائل تقي حر الشمس. ومن قصرت حاله عنها في هذه الأسفار فقد حصل على نصب السفر الذي هو قطعة من العذاب.

استيفاء حال النفر

ثم يرجع القول الى استيفاء حال النفر عشية الوقفة المذكورة بعرفات ، وذلك أن الناس نفروا منها بعد غروب الشمس ، كما تقدم الذكر ، فوصلوا مزدلفة مع

١٣٨

العشاء الآخرة ، فجمعوا بها بين العشاءين ، حسبما جرت به سنة النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واتقد المشعر الحرام تلك الليلة كلها مشاعيل من الشمع المسرج ، واما مسجده المذكور فعاد كله نورا ، فيخيل للناظر اليه أن كواكب السماء كلها نزلت به. وعلى هذه الصفة كان جبل الرحمة ومسجده ليلة الجمعة ؛ لأن هؤلاء الأعاجم الخراسانيين وسواهم من العراقيين أعظم الناس همّة في استجلاب هذا الشمع والاستكثار منه إضاءة لهذه المشاهد الكريمة. وعلى هذه الصفة عاد الحرم بهم مدة مقامهم فيه ، فيدخل منهم كل انسان بشمعة في يده ، وأكثر ما يقصدون بذلك حطيم الإمام الحنفي لأنهم على مذهبه. وشاهدنا منه شمعا عظيما أحضر منه ، تنوء الشمعة منه بالعصبة كأنه السّرو ، ووضع أمام الحنفي.

فبات الناس بالمشعر الحرام هذه الليلة ، وهي ليلة السبت ، فلما صلوا الصبح غدوا منه الى منى بعد الوقوف والدعاء ، لأن مزدلفة كلها موقف الى وادي محسّر ، ففيه تقع الهرولة في التوجه الى منى حتى يخرج عنه. ومن مزدلفة يستصحب أكثر الناس حصيات الجمار ، وهو المستحب ، ومنهم من يلتقطها حول مسجد الخيف بمنى ، وكل ذلك واسع. فلما انتهى الناس الى منى بادروا لرمي جمرة العقبة بسبع حصيات ثم نحروا أو ذبحوا وحلوا من كل شيء الا النساء والطيب حتى يطوفوا طواف الإفاضة. ورمي هذه الجمرة عند طلوع الشمس من يوم النحر. ثم توجه أكثر الناس لطواف الإفاضة ، ومنهم من أقام الى اليوم الثاني ، ومنهم من أقام الى اليوم الثالث ، وهو يوم الانحدار الى مكة. فلمّا كان اليوم الثاني من يوم النحر ، عند زوال الشمس ، رمى الناس بالجمرة الأولى سبع حصيات ، وبالجمرة الوسطى كذلك ، وبهاتين الجمرتين يقفون للدعاء ، وبجمرة العقبة كذلك ولا يقفون بها ، اقتداء في ذلك كله بفعل النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فتعود جمرة العقبة في هذين اليومين أخيرة ، وهي يوم النحر أولى منفردة لا يخلط معها سواها.

وفي اليوم الثاني من يوم النحر ، بعد رمي الجمرات ، خطب الخطيب بمسجد الخيف ، ثم جمع بين الظهر والعصر ، وهذا الخطيب وصل مع الأمير العراقي

١٣٩

مقدما من عند الخليفة للخطبة والقضاء بمكة على ما يذكر ، ويعرف بتاج الدين. وظاهر أمره البلادة والبله لأن خطبته أعربت عن ذلك ، ولسانه لا يقيم الإعراب.

الهبوط إلى مكة

فلما كان اليوم الثالث تعجل الناس في الانحدار الى مكة بعد أن كمل لهم رمي تسع وأربعين جمرة : سبع منها يوم النحر بالعقبة ، وهي المحلة ؛ ثم احدى وعشرون في اليوم الثاني ، بعد زوال الشمس ، سبعا سبعا في الجمرات الثلاث ؛ وفي اليوم الثالث كذلك ، ونفروا الى مكة ؛ فمنهم من صلى العصر بالأبطح ، ومنهم من صلّاها بالمسجد الحرام ، ومنهم من تعجل فصلى الظهر بالأبطح. ومضت السنّة قديما بإقامة ثلاثة أيام ، بعد يوم النحر بمنى ، لإكمال رمي سبعين حصاة ، فوقع التعجيل في هذا الزمان في اليومين كما قال الله تبارك وتعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ، وذلك مخافة بني شعبة وما يطرأ من حرّابة المكيين.

وقد كانت في يوم الانحدار المذكور بين سودان أهل مكة وبين الأتراك العراقيين جولة وهوشة وقعت فيها جراحات وسلت السيوف وفوقت القسي ورميت السهام وانتهب بعض أمتعة التجار ، لأن منى في تلك الأيام الثلاثة سوق من أعظم الأسواق يباع فيها من الجوهر النفيس الى أدنى الخرز ، الى غير ذلك من الأمتعة وسائر سلع الدنيا ، لأنها مجتمع أهل الآفاق. فوقى الله شرّ تلك الفتنة بتسكينها سريعا. وكانت عين الكمال في تلك الوقفة الهنيئة ، وكمل للناس حجّهم ، والحمد لله رب العالمين.

نقل كسوة الأمير العراقي للكعبة

وفي يوم السبت ، يوم النحر المذكور ، سيقت كسوة الكعبة المقدّسة من محلة

١٤٠