رحلة ابن جبير

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي

رحلة ابن جبير

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

عود إلى العمرة

والعمرة في هذا الشهر كله متصلة ليلا ونهارا ، رجالا ونساء ، لكن المجتمع كله انما كان في الليلة الاولى ، وهي ليلة الموسم عندهم. والبيت الكريم يفتح كل يوم من هذا الشهر المبارك. فاذا كان يوم التاسع والعشرون منه افرد للنساء خاصة ، فيظهر للنساء بمكة في ذلك اليوم احتفال عظيم ، فهو عندهم يوم زينتهم المشهور المستعد له.

وفي يوم الخميس الخامس عشر من الشهر المذكور شاهدنا من الاحتفال للعمرة قريبا من المشهد الاول المذكور في اوله ، فكان لا يبقى احد من الرجال والنساء الا خرج لها. وبالجملة فالشهر المبارك كله معمور بأنواع العبادات من العمرة وسواها ، ويختص اوله ونصفه من ذلك بخط متميز ، وكذلك السابع والعشرون منه.

وفي عشيّ يوم الخميس المذكور كنا جلوسا بالحجر المكرم فما راعنا الا الامير مكثر طالعا محرما قد وصل من ميقات العمرة تبركا بذلك اليوم وجريا فيه على الرسم وابناؤه وراءه محرمين وقد حف به بعض خاصته. وبادر المؤذن الزمزمي للحين الى سطح قبة زمزم داعيا على عادته ومتناوبا في ذلك مع أخيه صغيره.

وحانت صلاة العشاء مع فراغ الأمير من طوافه فصلى خلف الامام الشافعي وخرج الى المسعى المبارك.

وفي يوم الجمعة السادس عشر منه خرجت قافلة كبيرة من الحاج في نحو اربع مئة جمل مع الشريف الداودي الى زيارة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي جمادى الثانية قبله كانت ايضا زيارة اخرى لبعض الحجاج في قافلة اصغر من هذه المذكورة. وبقيت الزيارة الشوالية والتي مع الحاج العراقي اثر الوقفة ، ان شاء الله عزوجل. وفي التاسع عشر من شعبان كان انصراف هذه القافلة الكبيرة في كنف السلامة ، والحمد لله.

١٠١

عمرة الأكمة

وفي ليلة الثلاثاء السابع والعشرين منه. اعني من رجب ، ظهر لاهل مكة ايضا احتفال عظيم في الخروج الى العمرة لم يقصر عن الاحتفال الاول ، فانجفل الجميع اليها ، تلك الليلة ، رجالا ونساء على الصفات والهيئات المتقدمة الذكر تبركا بفضل هذه الليلة لأنها من الليالي الشهيرة الفضل. فكانت مع صبيحتها عجبا في الاحتفال وحسن المنظر ، جعل الله ذلك كله خالصا لوجهه الكريم. وهذه العمرة يسمونها عمرة الأكمة ، لأنهم يحرمون فيها من اكمة امام مسجد عائشة ، رضي‌الله‌عنها ، بمقدار غلوة ، وهي على مقربة من المسجد المنسوب لعلي ، عليه‌السلام.

والاصل في هذه العمرة الاكمية عندهم ان عبد الله بن الزبير رضي‌الله‌عنهما ، لما فرغ من بناء الكعبة المقدسة خرج ماشيا حافيا معتمرا واهل مكة معه فانتهى الى تلك الاكمة فأحرم منها ، وكان ذلك في اليوم السابع والعشرين من رجب وجعل طريقه على ثنية الحجون المفضية الى المعلى التي كان دخول المسلمين يوم فتح مكة منها ، حسبما تقدم ذكره. فبقيت تلك العمرة سنة عند أهل مكة في ذلك اليوم بعينه وعلى تلك الأكمة بعينها.

وكان يوم عبد الله ، رضي‌الله‌عنه ، مذكورا مشهورا ، لأنه أهدى فيه كذا وكذا بدنة ، عددا لم تتحصل صحته ، فكنت أثبته ، لكنه بالجملة كثير.

ولم يبق من اشراف مكة وذوي الاستطاعة فيها الا من اهدى ، وأقام أهلها أياما يطعمون ويطعمون ويتنعمون وينعّمون شكرا لله ، عزوجل ، على ما وهبهم من المعونة والتيسير في بناء بيته الحرام على الصفة التي كان عليها مدة الخليل ابراهيم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنقضها الحجاج ، لعنه الله ، وأعادها على ما كانت عليه مدة قريش ، لأنهم كانوا اقتصروا في بنائه عن قواعد ابراهيم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وابقى نبينا محمد ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذلك على حالة لحدثان عهدهم بالكفر ،

١٠٢

حسبما ثبت في رواية عائشة ، رضي‌الله‌عنها ، في موطإ مالك بن أنس ، رضي‌الله‌عنه.

يوم طواف النساء

وفي اليوم التاسع والعشرين منه ، وهو يوم الخميس ، أفرد البيت للناس خاصة ، فاجتمعن من كل أوب. وقد تقدم احتفالهن لذلك بأيام كاحتفالهن للمشاهد الكريمة ، ولم تبق امرأة بمكة الا حضرت المسجد الحرام ذلك اليوم. فلما وصل الشيبيون لفتح البيت الكريم ، على العادة ، وأسرعوا في الخروج منه وافرجوا للنساء عنه. وأفرج الناس لهن عن الطواف وعن الحجر ولم يبق حول البيت المبارك أحد من الرجال تبادر النساء الى الصعود ، حتى كاد الشيبيون لا يخلصون بينهن عند هبوطهم من البيت الكريم ، وتسلسل النساء بعضهن ببعض وتشابكن حتى تواقعن ، فمن صائحة ومعولة ومكبرة ومهللة ، وظهر من تزاحمهن ما ظهر من السرو اليمنيين مدة مقامهم بمكة وصعودهم يوم فتح بيت لمقدس ، وأشبهت الحال الحال ، وتمادين على ذلك صدرا من النهار ، وانفسحن في الطواف والحجر ، وتشفين من تقبيل الحجر واستلام الأركان. وكان ذلك اليوم عندهن الأكبر ، ويومهن الأزهر الأشهر ، نفعهن الله به وجعله خالصا لكريم وجهه. وبالجملة فهن مع الرجال مسكينات مغبونات يرين البيت الكريم ولا يلجنه ويلحظن الحجر المبارك ولا يستلمنه. فحظهن من ذلك كله النظر والأسف المستطير المستشعر. فليس لهن سوى الطواف على البعد ، وهذا اليوم الذي هو من عام الى عام فهن يرتقبنه ارتقاب أشرف الأعياد ويكثرن له من التأهب والاستعداد ، والله ينفعهن في ذلك ، بحسن النية والاعتقاد ، بمنه وكرمه.

غسيل البيت بماء زمزم

وفي اليوم الثاني منه بكر الشيبيون الى غسله بماء زمزم المبارك بسبب أن

١٠٣

كثيرا من النساء أدخلن أبناءهن الصغار والرضع معهن ، فيتحرى غسله تكريما وتنزيها وازالة لما يحيك في النفوس من هواجس الظنون فيمن ليست له ملكة عقلية تمنعه من أن تصدر عنه حادثة نجس في ذلك الموطن الكريم والمحل المخصوص بالتقديس والتعظيم ، فعند انسياب الماء عنه كان كثير من الرجال والنساء يبادرون اليه تبركا بغسل أوجههم وأيديهم فيه ، وربما جمعوا منه في اوان قد اعدوها لذلك ولم يراعوا العلة التي غسل لها. وكان منهم من توقف عن ذلك ، وربما لحظ الحال لحظة من لا يستجيزها ولا يصوب العقل في ذلك. وما ظنك بماء زمزم المبارك قد صب داخل بيت الله الحرام وماج في جنبات أركانه الكرام ثم انصب بإزاء الملتزم والركن الأسود المستلم ، أليس جديرا بأن تتلقاه الافواه فضلا عن الأيدي ، وتغمس فيه الوجوه فضلا عن الأقدام؟ وحاشا لله أن تعرض في ذلك علة تمنع منه وشبهة من شبهات الظنون تدفع عنه ، والنيات عند الله تعالى مقبولة ، والمثابرة على تعظيم حرماته برضاه موصولة ، وهو المجازي على الضمائر وخفيات السرائر ، لا اله سواه.

شهر شعبان المكرم

استهل هلاله ليلة السبت التاسع عشر لشهر نونبر. وفي صبيحته بكر الأمير مكثر الى الطواف على العادة في ذلك رأس كل شهر مع أخيه وبنيه ومن جرى الرسم باستصحابه من القواد والأشياع والأتباع ، وعلى الأسلوب المتقدم الذكر ، والزمزمي يصرخ في مرقبته على عادته متناوبا مع أخيه صغيره.

وفي سحر يوم الخميس الثالث عشر منه ، وهو أول يوم من دجنبر ، بعد طلوع الفجر ، كسف القمر ، وبدأ الكسوف والناس في صلاة الصبح في الحرم الشريف ، وغاب مكسوفا ، وانتهى الكسوف الى ثلثه ، والله يعرفنا حقيقة الاعتبار بآياته.

زيادة ماء زمزم

وفي يوم الجمعة الثاني من ذلك اليوم أصبح بالحرم امر عجيب وذلك أنه لم

١٠٤

يبق بمكة صبي الا وصبحه واجتمعوا كلهم في قبة زمزم ، وينادون بلسان واحد : هللوا وكبروا يا عباد الله ؛ فيهلل الناس ويكبرون. وربما دخل معهم من عرض العامة من ينادي معهم بندائهم. والناس والنساء يزدحمون على قبة البئر المباركة لأنهم يزعمون ، بل يقطعون قطعا جهليا لا قطعا عقليا ، أن ماء زمزم يفيض ليلة النصف من شعبان.

وكانوا على ظن من هلال الشهر ، لأنه قيل : انه رؤي ليلة الجمعة في جهة اليمن. فبكر الناس الى القبة ، وكان فيها من الازدحام ما لم يعهد مثله ، ومقصد الناس في ذلك التبرك بذلك الماء المبارك الذي قد ظهر فيضه ، والسقاة فوق التنور يستقون ويفيضون على رؤوس الناس الماء بالدلاء قذفا ؛ فمنهم من يصيبه في وجهه ومنهم من يصيبه في رأسه الى غير ذلك. وربما تمادى لشدة نفوذه من أيديهم ، والناس مع ذلك يستزيدون ويبكون ، والنساء من جهة اخرى يساجلنهم بالبكاء ويطارحنهم بالدعاء ، والصبيان يضجون بالتهليل والتكبير ؛ فكان مرأى هائلا مسموعا رائعا ، لم يتخلص للطائفين بسببه طواف ولا للمصلين صلاة لعلو تلك الأصوات واشتغال الأسماع والأذهان بها. ودخل الى القبة المذكورة أحدنا ذلك اليوم فكابد من لز الزحام عنتا ومشقة ، فسمع الناس يقولون : زاد الماء سبع اذرع. فجعل يقصد الى من يتوسم فيه بعض عقل ونظر من ذوي السبال البيض فيسأله عن ذلك ، فيقول وأدمعه تسيل : نعم زاد الماء سبع أذرع ، لا شك في ذلك ، فيقول : أعن خبرة وحقيقة؟ فيقول : نعم.

ومن العجيب أن كان منهم من قال : انه بكر سحر يوم الجمعة المذكور فألفى الماء قد قارب التنور بنحو القامة. فيا عجبا لهذا الاختراع الكاذب ، نعوذ بالله من الفتنة!

وكان من الاتفاق أن اعتنينا بهذا الأمر لغلبة الاستفاضة التي سمعناها في ذلك واستمرارها مع سوالف الأزمنة عند عوام أهل مكة فتوجه منا ليلة الجمعة من أدلى دلوه في البئر المباركة الى أن ضرب في صفح الماء وانتهى الحبل الى حافة

١٠٥

التنور وعقد فيه عقدا يصح عندنا القياس به في ذلك. فلما كان في صبيحتها وتنادى الناس بالزيادة ، الزيادة الظاهرة ، خلص أحدنا في ذلك الزحام على صعوبة ومعه من استصحب الدلو وأدلاه فوجد القياس على حاله لم ينقص ولم يزد ، بل كان من العجب أن عاد للقياس ليلة السبت فألفاه قد نقص يسيرا لكثرة ما امتاح الناس منه ذلك اليوم. فلو امتيح من البحر لظهر النقص فيه ، فسبحان من خص به من البركة ووضع فيه من المنفعة.

وفي صبيحة يوم السبت الخامس عشر منه تتبعنا هذا القياس استبراء لصحة الحال فوجدناه على ما كان عليه ، ولو أن لافظا يلفظ ذلك اليوم بأنه لم يزد لصب في البئر صبا أو لداسته الاقدام حتى تذيبه ، نعوذ بالله من غلبات العوام واعتدائها وركوبها جوامح أهوائها.

ليلة النصف من شعبان

وهذه الليلة المباركة ، أعني ليلة النصف من شعبان ، عند أهل مكة معظمة للأثر الكريم الوارد فيها ، فهم يبادرون فيها الى أعمال البر من العمرة والطواف والصلاة أفرادا وجماعة ، فينقسمون في ذلك اقساما مباركة ؛ فشاهدنا ليلة السبت ، التي هي ليلة النصف حقيقة ، احتفالا عظيما في الحرم المقدس اثر صلاة العتمة ، جعل الناس يصلون فيها جماعات جماعات ، تراويح يقرءون فيها بفاتحة الكتاب وبقل هو الله أحد ، عشر مرات في كل ركعة الى أن يكملوا خمسين تسليمة بمائة ركعة ، قد قدمت كل جماعة اماما ، وبسطت الحصر وأوقدت الشمع واشعلت المشاعل وأسرجت المصابيح ومصباح السماء الأزهر الأقمر قد أفاض نوره على الأرض وبسط شعاعه. فتلاقت الأنوار في ذلك الحرم الشريف الذي هو نور بذاته ، فيا لك مرأى لا يتخيله المتخيل ولا يتوهمه المتوهم! فأقام الناس تلك الليلة على أقسام : فطائفة التزمت تلك التراويح مع الجماعة وكانت سبع

١٠٦

جماعات أو ثمانيا ؛ وطائفة التزمت الحجر المبارك للصلاة على انفراد ؛ وطائفة خرجت للاعتمار ؛ وطائفة آثرت الطواف على هذا كله ، أغلبها المالكية ، فكانت من الليالي الشهيرة المأمولة أن تكون من غرر القربات ومحاسنها ، نفع الله بها ولا أخلى من بركتها وفضلها وأوصل الى هذه المثابة المقدسة كل شيق اليها بمنه.

وفي تلك الليلة المباركة شاهد احمد بن حسان منا امرا عجيبا هو من غرائب الأحاديث المأثورات في رقة النفوس. وذلك أنه أصابه النوم عند الثلث الباقي من الليل ، فأوى الى المصطبة التي تحف بها قبة زمزم مما يقابل الحجر الأسود وباب البيت فاستلقى فيها لينام فاذا بإنسان من العجم قد جلس على المصطبة بإزائه مما يلي رأسه. فجعل يقرأ بتشويق وترقيق ، ويتبع ذلك بزفير وشهيق ، أحسن قراءة واوقعها في النفوس وأشدها تحريكا للساكن ، فامتنع المذكور من المنام استمتاعا بحسن ذلك المسموع وما فيه من التشويق والتخشيع ، الى أن قطع القراءة وجعل يقول :

ان كان سوء الفعال أبعدني ،

فحسن ظني اليك قرّبني

ويردد ذلك بلحن يتصدع له الجماد وينشق عليه الفؤاد. ومضى في ترديد ذلك البيت ودموعه تكف وصوته ترق وتضعف الى أن وقع في نفس أحمد بن حسان المذكور أنه سيغشى عليه ؛ فما كان بين اعتراض هذا الخاطر بنفسه وبين وقوع الرجل مغشيا عليه من المصطبة الى الارض الا كلا ولا ، وبقي ملقى كأنه لقى لا حراك به. فقام ابن حسان مذعورا لهول ما عاينه مترددا في حياة الرجل أو موته لشدة تلك الوجبة ، والموضع من الارض بائن الارتفاع ، وقام أحد من كان بازائه نائما ، وأقاما متحيرين ولم يقدما على تحريك الرجل ولا على الدنو منه الى أن اجازت امرأة أعجمية ، وقالت : هكذا تتركون هذا الرجل على مثل هذا الحال؟ وبادرت الى شيء من ماء زمزم فنضحت به وجهه ، ودنا المذكوران منه وأقاماه فعندما أبصرهما زوى وجهه للحين عنهما مخافة أن تثبت له صفة في اعينهما وقام من فوره آخذا الى جهة باب بني شيبة. وبقيا

١٠٧

متعجبين مما شاهداه ، وعض ابن حسان بنان الأسف على ما فاته من بركة دعائه اذ لم يمكنه الحال استدعاءه منه ، وعلى انه لم تثبت له صورة في نفسه ، فكان يتبرك به متى لقيه.

ومقامات هؤلاء الأعاجم في رقة الأنفس وتأثرها وسرعة انفعالها وشدة مجاهداتها في العبادات وطول مثابراتها على أفعال البر وظهور بركاتها مقامات عجيبة شريفة ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.

وفي سحر يوم الخميس الثالث عشر من الشهر المذكور كسف القمر وانتهى الكسوف منه الى مقدار ثلثيه ، وغاب مكسوفا عند طلوع الشمس ، والله يلهمنا الاعتبار بآياته.

رمضان المعظم

استهل هلاله ليلة الاثنين التاسع عشر لدجنبر ، عرّفنا الله فضله وحقه ورزقنا القبول فيه. وكان صيام أهل مكة له يوم الأحد بدعوى في رؤية الهلال لم تصح ، لكن أمضى الأمير ذلك ووقع الإيذان بالصوم بضرب دبادبه ليلة الأحد المذكور لموافقته مذهبه ومذهب شيعته العلويين ومن اليهم ، لانهم يرون صيام يوم الشك فرضا ، حسبما يذكر ، والله أعلم بذلك.

ووقع الاحتفال في المسجد الحرام لهذا الشهر المبارك ، وحق ذلك من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعيل وغير ذلك من الآلات حتى تلألأ الحرم نورا وسطع ضياء ، وتفرقت الأئمة لإقامة التراويح فرقا ؛ فالشافعية فوق كل فرقة منها قد نصبت إماما لها في ناحية من نواحي المسجد ؛ والحنبلية كذلك ؛ والحنفية كذلك ، والزيدية ؛ وأما المالكية فاجتمعت على ثلاثة قراء يتناوبون القراءة ، وهي في هذا العالم أحفل جمعا وأكثر شمعا ، لأن قوما من التجار المالكيين تنافسوا في ذلك فجلبوا لإمام الكعبة شمعا كثيرا من أكبره شمعتان نصبتا أمام المحراب

١٠٨

فيهما قنطار وقد حفت بهما شمع دونهما صغار وكبار. فجاءت جهة المالكية تروق حسنا وترتمي الأبصار نورا ، وكاد لا يبقى في المسجد زاوية ولا ناحية الا وفيها قارىء يصلي بجماعة خلفه ، فيرتج المسجد لأصوات القراءة من كل ناحية ، فتعاين الأبصار ، وتشاهد الأسماع من ذلك مرأى ومستمعا تنخلع له النفوس خشية ورقة.

ومن الغرباء من اقتصر على الطواف والصلاة في الحجر ولم يحضر التراويح ، ورأى أن ذلك افضل ما يغتنم ، وأشرف عمل يلتزم ، وما بكل مكان يوجد الركن الكريم والملتزم.

والشافعي في التراويح أكثر الأئمة اجتهادا ، وذلك أنه يكمل التراويح المعتادة التي هي عشر تسليمات ويدخل الطواف مع جماعة ، فاذا فرغ من الأسبوع وركع عاد لإقامة تراويح أخر وضرب بالفرقعة الخطيبية المتقدمة الذكر ضربة يسمعها المسجد لعلو صوتها ، كأنها ايذان بالعود الى الصلاة ، فاذا فرغوا من تسليمتين ، عادوا للطواف اسبوغ ، فاذا اكملوه ضربت الفرقعة وعادوا الصلاة تسليمتين ، ثم عادوا للطواف ، هكذا الى أن يفرغوا من عشر تسليمات ، فيكمل لهم عشرون ركعة ، ثم يصلون الشفع والوتر وينصرفون.

وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئا ، والمتناوبون لهذه التراويح المقامية خمسة أئمة ، أولهم إمام الفريضة ، وأوسطم صاحبنا الفقيه الزاهد الورع أبو جعفر بن علي الفنكيّ القرطبيّ ، وقراءته ترقّ الجمادات خشوعا. وهذه الفرقعة المذكورة تستعمل في هذا الشهر المبارك ، وذلك أنه يضرب بها ثلاث ضربات عند الفراغ من أذان المغرب ، ومثلها عند الفراغ من أذان العشاء الآخرة. وهي لا محالة من جميلة البدع المحدثة في هذا المسجد المعظم ، قدسه الله.

والمؤذن الزمزمي يتولى التسحير في الصومعة التي في الركن الشرقي من المسجد بسبب قربها من دار الأمير ، فيقوم في وقت السحور فيها داعيا ومذكرا ومحرضا على السحور ومعه أخوان صغيران يجاوبانه ويقاولانه ، وقد نصبت في أعلى الصومعة خشبة طويلة في رأسها عود كالذراع وفي طرفيه بكرتان صغيرتان يرفع عليهما قنديلان من الزجاج كبيران لا يزالان يقدان مدة التسحير. فإذا قرب

١٠٩

تبيين خيطي الفجر ووقع الإيذان بالقطع مرة بعد مرة حط المؤذن المذكور القنديلين من أعلى الخشبة وبدأ بالأذان ، وثوّب المؤذنون من كل ناحية بالأذان.

وفي ديار مكة كلها سطوح مرتفعة ، فمن لم يسمع نداء التسحير ممن يبعد مسكنه من المسجد يبصر القنديلين يقدان في أعلى الصومعة ، ، فإذا لم يبصرهما علم أن الوقت قد انقطع.

سيف الإسلام

وفي ليلة الثلاثاء الثاني من الشهر مع العشيّ طاف الأمير مكثر بالبيت مودعا وخرج للقاء الأمير سيف الاسلام طغتكين بن أيوب أخي صلاح الدين ، وقد تقدم الخبر بوروده من مصر منذ مدة ثم تواتر إلى أن صحّ وصوله إلى الينبوع ، وأنه عرج إلى المدينة لزيارة الرسول ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقدمت أثقاله إلى الصفراء. والمتحدث به في وجهته قصد اليمن لاختلاف وقع فيها وفتنة حدثت من أمرائها ، لكن وقع في نفوس المكيين منه إيجاس خيفة واستشعار خشية ، فخرج هذا الأمير المذكور متلقيا ومسلما ، وفي الحقيقة مستسلما ، والله تعالى يعرّف المسلمين خيرا.

وفي ضحوة يوم الأربعاء الثالث من الشهر المبارك المذكور كنا جلوسا بالحجر لمكرم فسمعنا دبادب الأمير مكثر وأصوات نساء مكة يولولن عليه. فبينا نحن كذلك دخل منصرفا من لقاء الأمير سيف الاسلام المذكور وطائفا بالبيت المكرم طواف التسليم ، والناس قد أظهروا الاستبشار لقدومه ، والسرور بسلامته ، وقد شاع الخبر بنزول سيف الاسلام الزاهر ، وضرب أبنيته فيه ، ومقدمته من العسكر قد وصلت الى الحرم ، وزاحمت الأمير مكثرا في الطواف.

فبينا الناس ينظرون اليهم اذ سمعوا ضوضاء عظيمة وزعقات هائلة ، فما راعهم الا الأمير سيف الاسلام داخلا من باب بني شيبة ولمعان السيوف أمامه يكاد يحول بين الأبصار وبينه ، والقاضي عن يمينه وزعيم الشيبيين عن يساره ، والمسجد قد ارتج وغصّ بالنظارة والوافدين ، والأصوات بالدعاء له ولاخيه صلاح الدين قد علت من الناس حتى صكت الاسماع وأذهلت الاذهان ؛

١١٠

والزمزميّ المؤذن في مرقبته رافعا عقيرته بالدعاء له والثناء عليه ؛ وأصوات الناس تعلو على صوته ، والهول قد عظم مرأى ومستمعا. فلحين دنوّ الأمير من البيت المعظم أغمدت السيوف وتضاءلت النفوس وخلعت ملابس العزة وذلت الأعناق وخضعت الرقاب وطاشت الالباب مهابة وتعظيما لبيت ملك الملوك العزيز الجبار الواحد القهار ، مؤتي الملك من يشاء ، ونازع الملك ممن يشاء ، سبحانه ، جلت قدرته وعزّ سلطانه.

ثم تهافتت هذه العصابة الغزية على بيت الله العتيق تهافت الفراش على لمصباح ، وقد نكس أذقانهم الخضوع ، وبلت سبالهم الدموع. وطاف القاضي او زعيم الشيبيين بسيف الاسلام ، والأمير مكثر قد غمره ذلك الزحام ، فأسرع في الفراغ من الطواف وبادر الى منزله.

وعندما أكمل سيف الاسلام طوافه صلى خلف المقام ثم دخل قبة زمزم فشرب من مائها ثم خرج على باب الصفا الى السعي ، فابتدأه ماشيا على قدميه تواضعا وتذللا لمن يجب التواضع له ، والسيوف مسلوتة أمامه ، وقد اصطف الناس من أول المسعى الى آخره سماطين مثل ما صنعوا أيضا في الطواف ، فسعى على قدميه طريقين من الصفا الى المروة ، ومنها الى الصفا ، وهرول بين الميلين الاخضرين ، ثم قيده الاعياء فركب وأكمل السعي راكبا ، وقد حشر الناس ضحى.

ثم عاد الامير الى المسجد الحرام على حالته من الارهاب والهيبة وهو يتهادى بين بروق خواطف السيوف المصلتة ، وقد بادر الشيبيون الى باب البيت المكرم ليفتحوه ، ولم يكن يوم فتحه ، وضم الكرسي الذي يصعد عليه ، فرقي الامير فيه ، وتناول زعيم الشيبيين فتح الباب ، فاذا المفتاح قد سقط من كمه في ذلك الزحام ، فوقف وقفة دهش مذعور ، ووقف الامير على الادراج ، فيسر الله للحين في وجود المفتاح ، ففتح الباب الكريم ، ودخل الامير وحده مع الشيبي وأغلق الباب ، وبقي وجوه الاغزاز وأعيانهم مزدحمين على ذلك الكرسي ،

١١١

فبعد لأي ما فتح لامرائهم المقربين فدخلوا.

وتمادى مقام سيف الاسلام في البيت الكريم مدة طويلة ، ثم خرج ، وانفتح الباب للكافة منهم. فيا له من ازدحام وتراكم وانتظام ، حتى صاروا كالعقد المستطيل وقد اتصلوا وتسلسلوا. فكان يومهم أشبه شيء بأيام السرو في دخولهم البيت ، حسبما تقدم وصفه. وركب الامير سيف الاسلام وخرج الى مضرب أبنيته بالموضع المذكور. وكان هذا اليوم بمكة من الايام الهائلة المنظر العجيبة المشهد الغريبة الشأن ، فسبحان من لا ينقضي ملكه ولا يبيد سلطانه ، لا اله سواه. وصحب هذا الامير جملة من حجاج مصر وسواها اغتناما لطريق البر والامن فوصلوا في عافية وسلامة ، والحمد لله.

وفي ضحوة يوم الخميس بعده كنا أيضا بالحجر المكرم ، فاذا بأصوات طبول ودبادب وبوقات قد قرعت الآذان وارتجت لها نواحي الحرم الشريف. فبينا نحن نتطلع لاستعلام خبرها طلع علينا الامير مكثر وغاشيته الاقربون حوله وهو رافل في حلة ذهب كأنها الجمر المتقد يسحب أذيالها وعلى رأسه عمامة شرب رقيق سحابي اللون قد علا كورها على رأسه كأنها سحابة مركومة وهي مصفحة بالذهب ، وتحت الحلة خلعتان من الدبيقي المرسوم البديع الصنعة ، خلعها عليه الامير سيف الاسلام ، فوصل بها فرحا جذلان ، والطبول والدبادب تشيعه عن أمر سيف الاسلام اشادة بتكرمته واعلاما بمأثرة منزلته. فطاف بالبيت المكرم شكرا لله على ما وهبه من كرامة هذا الامير بعد أن كان أوجس في نفسه خيفة منه ، والله يصلحه ويوفقه بمنه.

وفي يوم الجمعة وصل الامير سيف الاسلام للصلاة أول الوقت وفتح البيت المكرم ، فدخله مع الامير مكثر وأقاما به مدة طويلة ثم خرجا. وتزاحم الغز للدخول تزاحما أبهت الناظرين حتى أزيل الكرسيّ الذي يصعد عليه فلم يغن ذلك شيئا ، وأقاموا على الازدحام في الصعود باشالة بعضهم على بعض ، وداموا على هذه الحالة الى أن وصل الخطيب ، فخرجوا لاستماع الخطبة ، وأغلق الباب.

١١٢

وصلى الأمير سيف الاسلام مع الأمير مكثر في القبة العباسية. فلما انقضت الصلاة خرج على باب الصفا وركب الى مضرب أبنيته. وفي يوم الأربعاء العاشر منه خرج الأمير المذكور بجنوده الى اليمن ، والله يعرّف اهلها من المسلمين في مقدمه خيرا بمنه.

تراويح رمضان

وهذا الشهر المبارك قد ذكرنا اجتهاد المجاورين للحرم الشريف في قيامه وصلاة تراويحه وكثرة الأئمة فيه ، وكل وتر من الليالي العشر الاواخر يختم فيها القرآن. فأوّلها ليلة احدى وعشرين ، ختم فيها احد أبناء أهل مكة ، وحضر الختمة القاضي وجماعة من الأشياخ. فلما فرغوا منها قام الصبي فيهم خطيبا ، ثم استدعاهم ابو الصبي المذكور الى منزله الى طعام وحلوى قد أعدّهما واحتفل فيهما.

ثم بعد ذلك ليلة ثلاث وعشرين ، وكان المختتم فيها أحد أبناء المكيين ذوي اليسار ، غلاما لم يبلغ سنه الخمس عشرة سنة ، فاحتفل أبوه لهذه الليلة احتفالا بديعا. وذلك أنه أعد له ثريا مصنوعة من الشمع مغصنة ، قد انتظمت أنواع الفواكه الرطبة واليابسة ، وأعدّ لها شمعا كثيرا ، ووضع في وسط الحرم مما يلي باب بني شيبة شبيه المحراب المربع من أعواد مشرجبة ، قد أقيم على قوائم اربع ، وربطت في اعلاه عيدان نزلت منها قناديل وأسرجت في أعلاها مصابيح ومشاعيل وسمر دائر المحراب كله بمسامير حديدة الأطراف غرز فيها الشمع ، فاستدار بالمحراب كله. وأوقدت الثريا المغصنة ذات الفواكه ، وأمعن الاحتفال في هذا كله. ووضع بمقربة من المحراب منبر مجلل بكسوة مجزعة مختلفة الألوان. وحضر الإمام الطفل فصلى التراويح وختم ، وقد انحشد أهل المسجد الحرام اليه رجالا ونساء ، وهو في محرابه لا يكاد يبصر من كثرة شعاع الشمع المحدق به.

ثم برز من محرابه رافلا في أفخر ثيابه بهيبة امامية وسكينة غلامية ، مكحل

١١٣

العينين ، مخضوب الكفين الى الزندين ، فلم يستطع الخلوص الى منبره من كثرة الزحام ، فأخذه أحد سدنة تلك الناحية في ذراعه حتى القاه على ذروة منبره ، فاستوى مبتسما وأشار على الحاضرين مسلما. وقعد بين يديه قراء ، فابتدروا القراءة على لسان واحد. فلما أكملوا عشرا من القرآن ، قام الخطيب فصدع بخطبة تحرك لها اكثر النفوس من جهة الترجيع لا من جهة التذكير والتخشيع ، وبين يديه في درجات المنبر نفر يمسكون أتوار الشمع في ايديهم ويرفعون أصواتهم بيا رب يا رب ، عند كل فصل من فصول الخطبة يكررون ذلك ، والقراء يبتدرون القراءة في اثناء ذلك ، فيسكت الخطيب الى أن يفرغوا ثم يعود لخطبته. وتمادى فيها متصرفا في فنون من التذكير.

وفي أثنائها اعترضه ذكر البيت العتيق ، كرّمه الله ، فحسر عن ذراعيه مشيرا اليه ، وأردفه بذكر زمزم والمقام فأشار اليهما بكلتا اصبعيه ثم ختمها بتوديع الشهر المبارك وترديد السلام عليه ، ثم دعا للخليفة ولكل من جرت العادة بالدعاء له من الأمراء ، ثم نزل ، وانفضّ ذلك الجمع العظيم ، وقد استظرف ذلك الخطيب واستنبل وان لم تبلغ الموعظة من النفوس ما أمل ، والتذكرة اذا خرجت من اللسان لم تتعد مسافة الآذان. ثم ذكر أن المعينين من ذلك الجمع ، كالقاضي وسواه ، خصوا بطعام حفيل وحلوى على عادتهم في مثل هذا المجتمع. وكانت لأبي الخطيب في تلك الليلة نفقة واسعة في جميع ما ذكر.

ثم كانت ليلة خمس وعشرين ، فكان المختتم فيها الإمام الحنفي ، وقد أعد ابنا لذلك سنه نحو من سن الخطيب الأول المذكور. فكان احتفال الإمام الحنفي لابنه في هذه الليلة عظيما ، أحضر فيها من ثريات الشمع اربعا مختلفات الصنعة : منها مشجرة مغصنة مثمرة بأنواع الفواكه الرطبة واليابسة ، ومنها غير مغصنة. فصففت أمام حطيمه وتوّج الحطيم بخشب وألواح وضعت أعلاه وجلل ذلك كله سرجا ومشاعيل وشمعا ، فاستنار الحطيم كله حتى لاح في الهواء كالتاج العظيم من النور. وأحضر الشمع في أتوار الصفر ، ووضع المحراب العودي المشرجب ،

١١٤

فجلل دائره الاعلى كله شمعا ، وأحدق الشمع في الأتوار به ، فاكتنفته هالات من نور ، ونصب المنبر قبالته مجللا أيضا بالكسوة الملونة. واحتفل الناس لمشاهدة هذا المنظر النير أعظم من الاحتفال الاول. فختم الصبيّ المذكور ثم برز من محرابه الى منبره يسحب أذيال الحفر في أثواب رائقة المنظر ، فتسور منبره وأشار بالسلام على الحاضرين وأبتدأ خطبته بسكينة ولين ولسان على حالة الحياء مبين. فكأن الحال على طفولتها كانت أوقر من الاولى وأخشع ، والموعظة أبلغ ، والتذكرة أنفع.

وحضر القرّاء بين يديه على الرسم الاول. وفي أثناء فصول الخطبة يبتدرون القراءة فيسكت خلال اكمالهم الآية التي انتزعوها من القرآن ثم يعود الى خطبته وبين يديه في درجات المنبر طائفة من الخدمة يمسكون اتوار الشمع بأيديهم ومنهم من يمسك المجمرة تسطع بعرف العود الرطب الموضوع فيها مرة بعد أخرى. فعند ما يصل الى فصل من تذكير أو تخشيع يرفعون أصواتهم بيا رب يا رب يكرّرونها ثلاثا أو أربعا ، وربما جاراهم في النطق بعض الحاضرين ، الى أن فرغ من خطبته ونزل. وجرى الامام اثره على الرسم من الاطعام لمن حضر من أعيان المكان اما باستدعائهم الى منزله تلك الليلة أو بتوجيه ذلك الى منازلهم.

ثم كانت ليلة سبع وعشرين ، وهي ليلة الجمعة بحساب يوم الاحد ، فكانت الليلة الغراء ، والختمة الزهراء ، والهيبة الموفورة الكهلاء ، والحالة التي تمكن عند الله تعالى في القبول والرجاء. وأي حالة توازي شهود ختم القرآن ليلة سبع وعشرين من رمضان خلف المقام الكريم وتجاه البيت العظيم؟ وانها لنعمة تتضاءل لها النعم تضاؤل سائر البقاع للحرم.

ووقع النظر والاحتفال لهذه الليلة المباركة قبل ذلك بيومين أو ثلاثة ، وأقيمت ازاء حطيم إمام الشافعية خشب عظام بائنة الارتفاع موصول بين كل ثلاث منها بأذرع من الاعواد الوثيقة ، فاتصل منها صف كاد يمسك نصف الحرم

١١٥

عرضا ووصلت بالحطيم المذكور ، ثم عرضت بينها ألواح طوال مدت على الأذرع المذكورة ، وعلت طبقة منها طبقة أخرى حتى استكملت ثلاث طبقات ، فكانت الطبقة العليا منها خشبا مستطيلة مغروزة كلها مسامير محددة الأطراف لاصقا بعضها ببعض كظهر الشيهم نصب عليها الشمع ، والطبقتان تحتها الواح مثقوبة ثقبا متصلا وضعت فيها زجاجات المصابيح ذوات الأنابيب المنبعثة من أسافلها.

وتدلت من جوانب هذه الألواح والخشب ومن جميع الأذرع المذكورة قناديل كبار وصغار وتخللها أشباه الاطباق المبسوطة من الصفر قد انتظم كل طبق منها ثلاث سلاسل تقلها في الهواء وخرقت كلها ثقبا ووضعت فيها الزجاجات ذوات الأنابيب من أسفل تلك الأطباق الصفرية لا يزيد منها أنبوب على أنبوب في القد. وأوقدت فيها المصابيح ، فجاءت كأنها موائد ذوات أرجل كثيرة تشتعل نورا ، ووصلت بالحطيم الثاني الذي يقابل الركن الجنوبي من قبة زمزم خشب على الصفة المذكورة اتصلت الى الركن المذكور ، وأوقد المشعل الذي في رأس فحل القبة المذكورة ، وصففت طرة شباكها شمعا مما يقابل البيت المكرم. وحف المقام الكريم بمحراب من الأعواد المشرجبة المخرمة محفوفة الأعلى بمسامير حديدة الأطراف ، على الصفة المذكورة ، جللت كلها شمعا. ونصب عن يمين المقام ويساره شمع كبير الجرم ، في أتوار تناسبها كبرا ، وصفت تلك الأتوار على الكراسي التي يصرفها السدنة مطالع عند الإيقاد ، وجلل جدار الحجر المكرم كله شمعا في اتوار من الصفر فجاءت كأنها دائرة نور ساطع ، واحدقت بالحرم المشاعيل. وأوقد جميع ما ذكر.

وأحدق بشرفات الحرم كلها صبيان مكة ، وقد وضعت بيد كل منهم كرة من الخرق المشبعة سليطا ، فوضعوها متقدة في رؤوس الشرفات. وأخذت كل طائفة منهم ناحية من نواحيها الاربعة فجعلت كل طائفة تباري صاحبتها في سرعة ايقادها. فيخيل للناظر أن النار تشب من شرفة الى شرفة لخفاء أشخاصهم وراء الضوء المرتمي الأبصار. وفي اثناء محاولتهم لذلك يرفعون أصواتهم بيا رب يا رب على لسان واحد ، فيرتج الحرم لأصواتهم.

١١٦

فلما كمل ايقاد الجميع بما ذكر كاد يعشي الأبصار شعاع تلك الانوار ، فلا تقع لمحة طرف الا على نور يشغل حاسة البصر عن استمالة النظر. فيتوهم المتوهم ، لهول ما يعاينه من ذلك ، أن تلك الليلة المباركة نزهت لشرفها عن لباس الظلماء فزينت بمصابيح السماء.

وتقدّم القاضي فصلى فريضة العشاء الآخرة ثم قام وابتدأ بسورة القدر. وكان أئمة الحرم في الليلة قبلها قد انتهوا في القراءة اليها. وتعطل في تلك الساعة سائر الأئمة من قراءة التراويح ، تعظيما لختمة المقام ، وحضروا متبركين بمشاهدتها.

وقد كان المقام المطهر أخرج من موضعه المستحدث في البيت العتيق ، حسبما تقدم الذكر أولا له ، فيما سلف من هذا التقييد ، ووضع في محله الكريم المتخذ مصلى مستورا بقبته التي يصلي الناس خلفها. فختم القاضي بتسليمتين وقام خطيبا مستقبل المقام والبيت العتيق. فلم يتمكن من سماع الخطبة للازدحام وضوضاء العوام.

فلما فرغ من خطبته عاد الأئمة لإقامة تراويحهم ، وانفض الجمع ونفوسهم قد استطارت خشوعا ، وأعينهم قد سالت دموعا ، والأنفس قد أشعرت من فضل تلك الليلة المباركة رجاء مبشرا بمن الله تعالى بالقبول ، ومشعرا أنها ولعلها ليلة القدر المشرف ذكرها في التنزيل ، والله ، عزوجل ، لا يخلي الجميع من بركة مشاهدتها وفضل معاينتها ، انه كريم منان ، لا اله سواه.

ثم ترتبت قراءة أئمة المقام الخمسة المذكورين أولا ، بعد هذه الليلة المذكورة ، بآيات ينتزعونها من القرآن على اختلاف السور ، تتضمن التذكير والتحذير والتبشير ، بحسب اختيار كل واحد منهم. ورسم طوافهم اثر كل تسليمتين باق على حاله ، والله ولي القبول من الجميع.

ثم كانت ليلة تسع وعشرين منه ، فكان المختتم فيها سائر أئمة التراويح ملتزمين رسم الخطبة اثر الختمة ، والمشار اليه منهم المالكي ، فتقدم باعداد اعواد بإزاء محرابه نصبها ستة على هيئة دائرة محراب مرتفعة عن الأرض بدون

١١٧

القامة يعترض على كل اثنين منها عود مبسوط ، فأدير بالشمع أعلاها وأحدق اسفلها ببقايا شمع كثير قد تقدم ذكره عند اول الشهر المبارك واحدق أيضا داخل تلك الدائرة شمع آخر متوسط ، فكان منظرا مختصرا ومشهدا عن احتفال المباهاة منزها موقرا ، رغبة في احتفال الأجر والثواب ومناسبة لموضع هيئة المحراب ؛ نصبت للشمع فيه عوضا من الأتوار أثافي من الأحجار. فجاءت الحال غريبة في الاختصار ، خارجة عن محفل التعاظم والاستكبار ، داخلة مدخل التواضع والاستصغار.

واحتفل جميع المالكية للختمة ، فتناوبها أئمة التراويح ، فقضوا صلاتهم سراعا عجالا ، كاد يلتقي طرفاها خفوقا واستعجالا. ثم تقدم احدهم فعقد حبوته بين تلك الاثافيّ وصدع بخطبة منتزعة من خطبة الصبي ابن الإمام الحنفي فأرسلها معادة الى الاسماع ثقيلا لحنها على الطباع ، ثم انفض الجمع ، وقد جمد في شؤونه الدمع ، واختطف للحين من أثافيه ذلك الشمع ، أطلقت عليه أيدي الانتهاب ، ولم يكن في الجماعة من يستحى منه أو يهاب. وعند الله تعالى في ذلك الجزاء والثواب ، انه سبحانه الكريم الوهاب.

وانتهت ليالي الشهر ذاهبة عنا بسلام ، جعلنا الله ممن طهر فيها من الآثام ، ولا أخلانا من فضل القبول ببركة صومه في جوار الكعبة البيت الحرام ، وختم الله لنا ولجميع أهل الملة الحنفية بالوفاة على الإسلام ، وأوزعنا حمدا يحق هذه النعمة وشكرا ، وجعلها للمعاد لنا ذخرا ، ووفانا عليها ثوابا من لديه وأجرا يرجى بفضله وكرمه ، انه لا يضيع لديه ايام اتخذ لصيامها ماء زمزم فطرا ، انه الحنان المنان ، لا رب سواه.

شهر شوال

استهل هلاله ليلة الثلاثاء السادس عشر من ينير ، يمن الله مطلعه ، ورزقنا بركته ، وهذا الشهر المبارك هو فاتحة أشهر الحج المعلومات ، وبعده تتصل

١١٨

ثلاثة الأشبر الحرم المباركات. وكانت ليلة استهلال هلاله من الليالي الحفيلة في المسجد الحرام ، زاده الله تكريما ؛ جرى الرسم في ايقاد مشاعله وثرياته وشمعه على الرسم المذكور ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم ، وأوقدت الصوامع من الأربع جهات من الحرم ، وأوقد سطح المسجد الذي في أعلى جبل أبي قبيس. وأقام المؤذن ليلته تلك في أعلى سطح قبة زمزم مهللا ومكبرا ومسبحا وحامدا. وأكثر الأئمة تلك الليلة أحيا ، وأكثر الناس على مثل تلك الحال بين طواف وصلاة وتهليل وتكبير ، يقبل الله من جميعهم ، انه سميع الدعاء كفيل بالرجاء ، سبحانه لا اله سواه.

عيد رمضان

فلما كان صبيحتها وقضى الناس صلاة الفجر ، لبس الناس أثواب عيدهم وبادروا لأخذ مصافهم لصلاة العيد بالمسجد الحرام ، لأن السنة جرت بالصلاة فيه دون مصلى يخرج الناس اليه ، رغبة في شرف البقعة وفضل بركتها وفضل صلاة الامام خلف المقام ومن يأتم به. فأول من بكر الشيبيون ، وفتحوا باب الكعبة المقدسة ، وأقام زعيمهم جالسا في العتبة المقدسة ، وسائر الشيبيين داخل الكعبة الى ان أحسوا بوصول الأمير مكثر فنزلوا اليه ، وتلقوه بمقربة من باب النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانتهى الى البيت المكرم ، وطاف حوله أسبوعا ، والناس قد احتفلوا لعيدهم ، والحرم قد غص بهم ، والمؤذن الزمزمي فوق سطح القبة على العادة رافعا صوته بالثناء عليه والدعاء له متناوبا في ذلك مع اخيه. فلما اكمل الامير الاسبوع عمد الى مصطبة قبة زمزم ، مما يقابل الركن الأسود ، فقعد بها ، وبنوه عن يمينه ويساره ، ووزيره وحاشيته وقوف على رأسه وعاد الشيبيون لمكانهم من البيت المكرم يلحظهم الناس بأبصار خاشعة للبيت غابطة لمحلهم منه ومكانهم من حجابته وسدانته ، فسبحان من خصهم بالشرف في

١١٩

خدمته. وحضر الأمير من خاصته شعراء أربعة ، فأنشدوه واحدا اثر واحد الى أن فرغوا من انشادهم.

وفي اثناء ذلك تمكن وقت الصلاة ، وكان ضحى من النهار ، فأقبل القاضي الخطيب يتهادى بين رايتيه السوداوين ، والفرقعة المتقدمة ذكرها أمامه ، وقد صك الحرم صوتها ، وهو لابس ثياب سواده ، فجاء الى المقام الكريم ، وقام الناس للصلاة ، فلما قضوها رقي المنبر ، وقد ألصق الى موضعه المعين له كل جمعة ، من جدار الكعبة المكرمة ، حيث الباب الكريم شارعا ، فخطب خطبة بليغة ، والمؤذنون قعود دونه في أدراج المنبر ، فعند افتتاحه فصول الخطبة بالتكبير يكبرون بتكبيره ، الى أن فرغ من خطبته.

وأقبل الناس بعضهم على بعض بالمصافحة والتسليم والتغافر والدعاء مسرورين جذلين فرحين بما آتاهم الله من فضله ، وبادروا الى البيت الكريم فدخلوا بسلام آمنين مزدحمين عليه فوجا فوجا. فكان مشهدا عظيما وجمعا بفضل الله تعالى مرحوما ، جعله الله ذخيرة للمعاد ، كما جعل ذلك العيد الشريف في العمر أفضل الاعياد ، بمنه وكرمه ، انه وليّ ذلك والقادر عليه. واخذ الناس عند انتشارهم من مصلاهم وقضاء سنة السلام بعضهم على بعض في زيارة الجبانة بالمعلى تبركا باحتساب الخطا اليها ، والدعاء بالرحمة لمن فيها من عباد الله الصالحين من الصدر الأول وسواه ، رضي الله عن جميعهم ، وحشرنا في زمرتهم ، ونفعنا بمحبتهم. فالمرء ، كما قال ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع من أحب.

مناسك الحج

وفي يوم السبت التاسع عشر منه ، والثالث لفبرير ، صعدنا الى منى لمشاهدة المناسك المعظمة بها ولمعاينة منزل اكتري لنا فيها اعدادا لمقام بها أيام التشريق ، ان شاء الله ، فألفيناها تملأ النفوس بهجة وانشراحا ، مدينة عظيمة الآثار ،

١٢٠