المغرب في حلى المغرب - ج ١

علي بن موسى بن محمّد بن عبد الملك بن سعيد الغرناطي الأندلسي

المغرب في حلى المغرب - ج ١

المؤلف:

علي بن موسى بن محمّد بن عبد الملك بن سعيد الغرناطي الأندلسي


المحقق: خليل المنصور
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١
الجزء ١ الجزء ٢

ومن كتاب الإحكام في حلى الحكام

٣٧ ـ معاوية بن صالح القاضي (١)

ومن تاريخ ابن حيان : أنه دخل الأندلس قبل دخوله عبد الرحمن الداخل ، وهو من جلّة العلماء ، عالي الرواية ، يذكر عنه أنه روى عنه مالك بن أنس ، ووجّهه عبد الرحمن عن أختيه اللّتين بالشام ليتحيّل في إيصالهما إليه ، فلم يطاوعاه ، ورجع ، فولاه قضاء حضرته ، وكان يحضر معه غزواته ، ويحيي ليله بالصلاة ، فإذا أقبل النهار تقدّم في خيل حمص غازيا ، إلى أن عزله في آخر أيامه.

وأنشد له الحجاري وغيره هذه الأبيات التي قد نسبت لعبد الرحمن المرواني الداخل :

[الخفيف](٢)

أيّها الرّاكب الميمّم أرضي

اقر (٣) من بعضي السّلام لبعضي

إنّ جسمي كما علمت (٤) بأرض

وفؤادي ومالكيه بأرض

قدّر الله بيننا بافتراق (٥)

فعسى الله باجتماع سيقضي (٦)

٣٨ ـ القاضي أو الوليد بن الفرضي (٧)

وصفه ابن بسّام بحسن النظم ، وذكر أنه لما حجّ تعلق بأستار الكعبة ، وسأل الله الشهادة ، فمات في فتنة البربر بقرطبة سنة أربعمائة.

__________________

(١) ترجمته في تذكرة الحفاظ للذهبي (ج ١ / ص ١٦٦ / ١٦٧) والجذوة (ص ٣١٨) وفي تهذيب التهذيب لابن حجر (ج ١٠ / ص ٢٠٩ / ٢١٢).

(٢) الأبيات في نفح الطيب (ج ٤ / ص ٣١) وفي الحلة السيراء (ج ١ / ص ٣٦) وجذوة المقتبس (ص ٩) وبغية الملتمس (ص ١٣) ، وذكر بلاد الأندلس (الورقة ٩١) والبيان المغرب (ج ٢ / ص ٦٠) باختلاف يسير عمّا هنا.

(٣) في النفح : أقر منّي بعض السلام لبعضي.

(٤) في النفح : كما تراه.

(٥) في النفح : قد قضى الدهر بالفراق علينا.

(٦) في النفح : فعسى باجتماعنا سوف يقضي.

(٧) هو أبو الوليد وأبو محمد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر ، الأزدي ، القرطبي ، المعروف بابن الفرضي ، الحافظ المشهور. انظر ترجمته في نفح الطيب (ج ٢ / ص ٣٤٣) وجذوة المقتبس (ص ٢٥٤) وبغية الملتمس (ص ٣٣٤) والصلة (ص ٣٩١) ومطمح الأنفس (ص ٥٧) والذخيرة (ق ١ / ص ٦١٤) ووفيات الأعيان (ج ٣ / ص ١٠٥) والمطرب (ص ١٣٢).

٦١

قال ابن حزم : أخبرني من رآه بين القتلى يومئذ ، وهو في آخر رمق ، وهو يقول : (لا يكلم أحد في سبيل الله ، والله أعلم بمن يكلم في سبيله ، إلا جاء وجرحه يوم القيامة يثعب دما ، اللون لون الدم ، والريح ريح المسك). وهذا حديث صحيح في كتاب مسلم. وأنشد له ـ وكان قد كتب بها إلى أهله حين توجه للحج : [الطويل](١)

مضت لي شهور منذ غبتم ثلاثة

وما خلتني أبقى إذا غبتم شهرا

وما لي حياة بعدكم أستلذّها

ولو كان هذا لم أكن بعدها (٢) حرّا

أعلّل نفسي بالمنى في لقائكم

وأستسهل البرّ الذي جبت والبحرا

ويؤنسني طيّ المراحل دونكم (٣)

أروح على أرض وأغدو على أخرى

وتالله ما فارقتكم عن قلى لكم

ولكنها الأقدار تجري كما تجرى

وذكر الحجاري : أنه ولي في الفتنة قضاء إستجّة (٤) ، ورغب إليه أهل مصر في الإقامة عندهم فقال : من المروءة النزاع إلى الوطن.

٣٩ ـ القاضي الفيلسوف أبو الوليد محمد بن أحمد بن الإمام الفقيه القاضي أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد (٥)

أدركه والدي وقرأ عليه ، وقال في وصفه الشقندي : فقيه الأندلس ، وفيلسوفها الذي لا يحتاج في نباهته إلى تنبيه.

وأنشد من شعره قوله :

ما العشق ولكن لست أنكره

كم حلّ عقدة سلواني تذكّره

من لي بغضّ جفوني عن مخبّرة ال

أجفان قد أظهرت ما لست أضمره

لولا النّهى لأطعت اللّحظ ثانية

فيمن يردّ سنا الألحاظ منظره

__________________

(١) الأبيات في الجذوة (ص ٢٥٦) وبقية الملتمس (ص ٣٣٦) والصلة (ص ٣٩٥) ومطمح الأنفس (ص ٥٧) والذخيرة (ص ٦١٥) ونفح الطيب (ج ٢ / ص ٣٤٥ / ٣٤٦) ، مع بعض الاختلاف عمّا هنا.

(٢) في النفح والصلة (في الهوى) وفي الذخيرة (بعده).

(٣) في النفح : عنكم ، وفي الذخيرة : بعدكم.

(٤) إستبحة : قاعدة إقليم إشبيلية الغربي في إسبانية يتعاطى سكانها تربية الثيران للصراع. المنجد في اللغة والأعلام (ج ٢ / ص ٣٩).

(٥) انظر ترجمته في المعجب للمراكشي (ص ١٧٤) والوافي بالوفيات للصفدي (ج ١ / ص ٢٦٩). توفي سنة ٥٩٥ ه‍.

٦٢

ما لابن ستين قادته لغايته

عشريّة فنأى عنه تصبّره؟!

قد كان رضوى وقارا فهو سافية

الحسن يورده ، والهون يصدره

وولي قضاء القضاة بقرطبة ، وكذلك جدّه أبو الوليد ، ومات جدّه سنة عشرين وخمسمائة.

ولأبي الوليد الأصغر تصانيف كثيرة في الفروع والأصول والنحو والفلسفة وغير ذلك ، وآل أمره مع منصور بني عبد المؤمن ، وقد وقف على قوله عن الزرافة : وقد رأيتها عند ملك البربر ، فقرّعه على ذلك ، فاعتذر أنه ما قال : إلا ملك البرّين ، إلى أن أمر به ، فأقيم ، وجعل كلّ من يمرّ به يلعنه ويبصق في وجهه ، ثم أمر بنفيه إلى بيانة مدينة اليهود.

٤٠ ـ الفقيه القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى ابن المناصف القرطبي (١)

قال والدي : بنو المناصف الثلاثة اجتمعت بهم وذاكرتهم فما رأيت منهم إلا نجيبا مبرّزا ، والفضل لأبي عبد الله ، لأنه تفنّن في العلوم ، وولي أكبر خطط القضاء ، مثل مرسية (٢) وبلنسية ، وإن كان موسى أرقّ شعرا ، فإنه أمتن علما فيما يتعلق بالأصول والفروع ، وكان أبو إسحاق مشاركا مديد الباع في الأصول والفروع ، وولي قضاء سلجماسة (٣). ولأبي عبد الله الرجز المشهور بالمغرب في الشيات.

قال : ومما أنشدنيه لنفسه قوله من قصيدة للناصر :

دانت لك العرب طوع الحقّ والعجم

وأصبح الدهر عن علياك يبتسم

وقوله :

تغيب عني وقلبي

لديك رهن معذّب

فردّه لي وبن حي

ث ما تشا وتغيّب

الله يعلم أني

طول الدّجى أتقلّب

فجد عليّ بطيف

إن كنت في الوصل ترغب

__________________

(١) انظر ترجمته في التكملة لابن الأرباص ٣٥٦ من أهل قرطبة ، كان فقهيا زاهدا ، ونفح الطيب (ج ٢ / ص ٣٦٣ / ٣٦٤).

(٢) مرسية : مدينة في جنوبي إسبانيا احتلها المرابطون سنة ١٠٧٨ م والموحدون سنة ١١٧٢ م. استردها (دون خيمة الأرغواني) للإسبان سنة ٢٦٦ ، مركز صناعي. المنجد في اللغة والأعلام (ج ٢ / ص ٦٥٣).

(٣) سجلماسة : مدينة قديمة في المغرب ، عاصمة بلاد تافيلالت سابقا. على حدود الصحراء. كانت محطة للنخاسة ولتجارة الذهب والعاج والأبنوس والجلود. زارها ابن بطوطة وقال إنها من أجمل البلدان. المنجد في اللغة والأعلام (ج ٢ / ص ٣٥١).

٦٣

إن لم تلح لي بدرا

فلح ـ فديتك ـ كوكب

وقوله : [المجتث](١)

ألزمت نفسي خمولا

عن رتبة الأعلام

لا يخسف البدر إلا

ظهوره في تمام

وحجّ ، وأقام بمصر قليلا ، وكرّ راجعا ، فمات. وذكر المحدث أبو العباس بن عمر القرطبي أنه جمع كتابا فيه أربعة علوم : أصول الدين ، وأصول الفقه ، وفروعه ، وسيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤١ ـ أخوه أبو إسحاق إبرهيم بن المناصف (٢)

قال والدي : كان فقيها جميل المذهب ، ولي قضاء سجلماسة ، سألته أن ينشدني من شعره ، فقال : من يحفظ من الشعر ما تحفظ أنت يجب على العاقل ألا ينشده شيئا ، إلى أن أنشدني أحد أصحابه له :

يا محرقا قلبي بنار الأسى

وماحيا عيني بماء الدّموع

رفقا فإني بالجوى ذاهب

كيف يبقى من جفاه الهجوع

وأبصر الغصن لوى عطفه

والبدر محجوبا أوان الطّلوع

وقوله في المجنّبات :

هات الّتي إن قرّبت جمرة

فهي على الأحشاء كالماء

تبريّة الظاهر فضّيّة ال

باطن لم تصنع بصنعاء

وكان نحويّا.

٤٢ ـ أبو عمران موسى بن عيسى بن المناصف

ولي دار الإشراف بمراكش في مدة الناصر (٣) ، وذكره الشّقندي ، ووصفه بحلاوة الشعر ، وأنشد له في غلام جزّار :

__________________

(١) الأبيات في نفح الطيب (ج ٦ / ص ٧٩).

(٢) انظر ترجمته في بغية الوعاة للسيوطي (ص ١٨٤) وفي الوافي بالوفيات (ج ٧ / ص ٢٢٦) والتكملة لابن الأبار (ص ٢٠٤). توفي سنة ٦٢٧ ه‍.

(٣) أبو عبد الله محمد بن يعقوب ، ولد سنة ٥٩٥ ه‍ وتوفي سنة ٦١٠ ه‍.

٦٤

قالت عواذله لما بصرن به

في مجزر ساقط الأثواب واللّمم

لشدّ ما عرّض الإعراض عاشقه

فأين ما يدّعيه الدّهر من همم

فقلت : صارت هموما كلها هممي

فما أفرّق بين الرّاس والقدم

لطرفه في فؤادي ما لمديته

فيما تقسّم كفّاه على الوضم

وجعله والدي أشعر بني المناصف وأشهرهم شعرا. قال : ومما أنشدني من شعره قوله ـ وقد وصله من محبوبه مطيّب من آس ـ :

مطيّبك المهدى أجلّ مطيّب

يقلّ له عندي المقام على جفني

أتى كاسمه آس لما بي من الجوى

فحلّ حلول السّعد والمال والأمن

وما جاءني والكلّ منه مسامع

مؤلّلة إلا ليسمع ما أثني

لعمري لقد بتنا وبيني وبينه

كما بين خيريّ الحديقة والدّجن

يذكّر أيام العناق اتّساقه

فأسقيه من عيني ضروبا من المزن

ومن قصيدة :

إن لم يردّوا من فؤادي ما سبوا

يوم النّوى أتحفتهم بالباقي

وفي مطلع أخرى :

جاروا وما علموا ما يشتكي الجار

من القلوب جلاميد وأحجار

ومن كتاب نجوم السماء في حلى العلماء

علماء القرآن العزيز

٤٣ ـ أبو عبد الله جعفر بن محمد بن مكي ابن أبي طالب القيسي (١)

جده مكي القيرواني المشهور بالزهد والقراءات ، وأثنى ابن بسام على جعفر ، وأنشد له شعرا في رثاء مروان بن سراج العالم ، أوله (٢) :

انظر إلى الأطواد كيف تزول

ولحالة (٣) العلياء كيف تحول؟!

__________________

(١) انظر ترجمته في الصلة (ص ١٣١) وفي الوافي (ج ٢ / ص ٢٧٢) وبغية الملتمس (ص ٢٤٣).

(٢) البيتان في الذخيرة (ج ٢ / ق ١ / ص ٣١٢).

(٣) في الذخيرة : والحالة.

٦٥

يهوى الفتى طول البقاء مؤمّلا

وله رحيل ليس منه (١) قفول

وذكر الحجاري أنه : حذا حذو جده في الإقراء ، وذكر ابن بشكوال : أن جده مكيّا توفى بقرطبة في محرم سبع وثلاثين وأربعمائة.

٤٤ ـ محمد بن محمود المكفوف (٢)

ذكر الحميدي : أن ابن حزم أنشد له :

كأنّ الجياد الصّافنات وقد عدت

سطور كتاب والمقدّم عنوان

علماء الحديث

٤٥ ـ أبو العباس أحمد بن قاسم (٣)

جعله الحجاري من رؤساء المحدّثين ، ورؤوس المتفنّين ، مشاركا في العلوم القديمة والحديثة. وقال ابن بسام : وهو فتى وقتنا بحضرة قرطبة ، مقلة عين العصر. وأثنى على نظمه ونثره ، وأخبر أنه نظر في التعاليم ، وبرع على صغر سنّه ، وبينهما مخاطبة واجتماع. وأنشد له (٤) :

لهج الناس بالقبيح وهاموا

فالزم البيت واغلق (٥) الأبوابا

وإذا ما خرجت تطلب رزقا

فاكثر الصّمت واضمم الأثوابا

فكثير ممن تجالس تلقى

من عيوب الورى لديه عيابا

وإذا ما سألته (٦) عن جميل

فيهم لم تجد لديه جوابا (٧)

لقي الناس قبلنا غرّة الدّه

ر ولم نلق منه إلا الذّنابى

وقوله :

__________________

(١) في الذخيرة : عنه.

(٢) هو المكفوف محمد بن محمود بن أيوب الغنوي ، انظر يتيمة الدهر للثعالبي (ج ٢ / ص ٣٠) ، والجذوة للحميدي (ص ٨٦) والبغية (ص ١٢١ ـ ١٢٢).

(٣) انظر ترجمته في المسالك (ج ١١ / ص ٤١٥) والذخيرة (ج ٢ / ق ١ / ص ٣٩١).

(٤) الأبيات في الذخيرة (ج ٢ / ق ١ / ص ٣٩١).

(٥) في الذخيرة : واشدد.

(٦) في الذخيرة : سألتهم.

(٧) في الذخيرة : لم تجد فيهم لديه جوابا.

٦٦

خذها كما اعتدلت أنابيب القنا

فكري (١) الثقاف لها وذهني النار

٤٦ ـ أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان (٢)

أخبرني والدي أن والده صحبه ، وكان يقول : إنه من أعظم من رآه من العلماء ، والذي غلب عليه علم الحديث ، وله مشاركة في الأدب.

ومن شعره ـ وقد أصغى إلى غناء ـ :

لا تلحني إن غدوت ذا طرب

لما ثناني للأنس غرّيد!

طورا جليد ، وتارة طرب

كالعود منه الزّوراء والعود

ومات في المائة السابعة.

علماء النحو

٤٧ ـ أبو عبد الله محمد بن يحيى بن زكريا القلفاط القرطبي (٣)

جعله الحجاري من نحاة قرطبة المعروفين بالإقراء ، وجملة الشعراء المشهورين بالهجاء ، وترقّت أذانه إلى أن هجا عبد الله المرواني سلطان الأندلس بشعر منه :

ما يرتجي العاقل في مدّة

الرّجل فيها موضع الرّاس؟!

ووفد على إبراهيم بن حجاج ملك إشبيلية ، فأنشده قصيدة ذم فيها أهل بلده ، فأبغضه لذلك.

قال ابن حيان : فانصرف إلى قرطبة ، وابتدأ بهجاء ابن حجاج ، فقال شعره الذي فيه :

أبغي نوال الأكرمين معا ولا

أبغى نوال البومة البكماء

فبلغ الشعر ابن حجاج ، فأرسل إليه من قال له : والله الذي لا إله غيره ، لئن لم تكفّ عما أخذت فيه لآمرنّ من يأخذ رأسك فوق فراشك! فارتاع ، وكفّ.

__________________

(١) في الذخيرة : ميزى.

(٢) انظر ترجمته في رايات المبرزين (ص ٤٥).

(٣) انظر ترجمته في اليتيمة (ج ٢ / ص ٥٠) ونفح الطيب (ج ٤ / ص ٢٦٢ / ٢٦٣) وقال المقري : إن ابن عبد ربه كان صديقا لأبي محمد يحيى القلفاط الشاعر. وبدائع البدائه (ج ١ / ص ٥١) وبغية الملتمس (ص ١٣٤).

٦٧

٤٨ ـ أبو بكر محمد بن عبد الله بن ميمون العبدري القرطبي (١)

كان محمد بن عبد الملك بن سعيد يجالسه كثيرا ، ويخبر عن تبحره في النحو ، وله شرح الجمل ، وشرح المقامات ، وعظمت منزلته عند المنصور وكان له ملح وشعر مليح ، كقوله (٢) :

تقحّمت جاحم حرّ الضلوع

كما خضت بحر دموع الحدق

أكنت الخليل؟ أكنت الكليم؟

أمنت الحريق ، أمنت الغرق!

وقوله :

طرفي وحقّك ، يرعى النّ

جوم نجما فنجما!

مردّدا فكأني

أفكّ منها معمّى

توفي في المائة السادسة ، وله رسالةءلى محبوب يستدعيه : فبالله إلا ما لقيت الرسول ، بوجه يدلّ على القبول ، وتفضلت بأن تصل قبل رجوعه إلينا ، وتخالفه من طريق مختصر حتى تطلع قبله علينا ، هنالك كنا نخرّ للفضائل سجّدا ، ولا نزال نوالي شكرك وذكرك أبدا.

علماء اللغة

٤٩ ـ أبو عبد الملك عثمان بن المثنى القيسي القرطبي (٣)

وصفه ابن حيان بمعرفة اللغة والتجويد في الشعر ، وذكر أنه رحل ولقي أبا تمّام الطائي (٤) ، وأخذ عنه شعره ، ولقي ابن الأعرابي وغيره ، وكان شجاعا مكثرا للغرور في الثغور ، وأدّب أولاد عبد الرحمن بن الحكم سلطان الأندلس ، وولد في صدر دولة هشام الرّضا ، فأدرك أربعة سلاطين من المروانية ، آخرهم محمد ، وفيه يقول :

__________________

(١) انظر ترجمته في المطرب لابن دحية (ص ١٩٨) والبغية للسيوطي (ص ٦١) والتكملة لابن الأبار (ص ٢٢٩) توفي سنة ٥٦٧ ه‍ ، والديباج لابن فرحون (ص ٣٠٢).

(٢) الأبيات في المطرب (ص ١٩٨ وما بعدها). وفي البغية (ص ٦١).

(٣) انظر ترجمته في البغية (ص ٣٢٤) وتاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي (ص ٢٤٩).

(٤) هو حبيب بن أوس بن الحرث بن قيس أبو تمام الطائي الشيعي الشاعر والمشهور ولد في قرية جاسم ونشأ بمصر وانتقل إلى العراق وسكن الموصل توفي بها سنة ٢٣١ ه‍ من تصانيفه الحماسة الصائية مشهورة ، ديوان شعره ، فحول الشعراء ، كتاب الاختيارات من شعر الشعراء ، كتاب الاختيار من أشعار القبائل.

٦٨

لو لم أكن أدركت ملك محمّد

وزمانه لحسبتني لم أخلق

وزاره بعض إخوانه في مكتبه بقصر الخلافة ، وهو يعلّم ولدا للأمير محمد ، جميل الصورة ، فقال له : كيف حالك مع هذا الرشأ؟ فقال : لا أزال أشرب خمر عينيه فلا أروى ، وهو يسقينيها دائما. وأنشأ يقول :

صناعة عينيّ السّهاد وإنما

صناعة عينيه الخلابة والسّحر

ولو بفناء الدّهر أرجو نواله

إذا لوددنا أنّه فني الدّهر

وتوفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين عن أربع وتسعين سنة ، وجعله الحجاري أحد أئمة النحاة اللغويين.

٥٠ ـ أبو محمد عبد الله بن بكر بن سابق الكلاعي وقيل البكري المعروف بالنذل (١)

من تاريخ ابن حيان : أن مؤمن بن سعد لقبه بذلك ، وكان مؤدّبا بالنحو ، عالما باللسان ، مبرّزا في الشعر ، أديبا بليغا.

أدّب أولاد الأمير عبد الرحمن بن الحكم ، وكان يحبّ الغلمان وهو القائل من قصيدة في الأمير المذكور :

أيرجوا المشركون لهم بقاء

وقد عزم الأمير على الجهاد

ومن لطيف شعره قوله :

إذا لم يكن لي من ضميرك شافع

إليك فإني ليس لي منك ناصر

ألآن لداود الحديد بقدرة

مليك على تليين قلبك قادر

صبرت ومالي بالتصبّر طاقة

فيا ليت قلبي مثل قلبك صابر

وفارقتني فالدّار غير بعيدة

وأوحش شيء أن يفارق حاضر

وله من شعر :

وما ضمّني يوما وإياك مجلس

من الدهر إلا وهو لي منك غائظ

وإنّي لأغنى الناس عن كل مجلس

يلاحظني فيه على الكره لا حظ

__________________

(١) انظر ترجمته في البغية (ص ٢٠٢) والتكملة لابن الأبار (ص ٤٣٤).

٦٩

٥١ ـ أبو عثمان سعيد بن الفرج المعروف بالرشاش مولى بني أمية القرطبي اللغوي (١)

من تاريخ ابن حيان : أنه كان من آداب الناس في زمانه ، وأقومهم على لسان العرب ، وأحفظهم للغة ، وأعلمهم بالشعر. وحكى عنه أنه كان يحفظ أربعة آلاف أرجوزة ، وكان شديد التّقعير في كلامه ، وقد ضرب به المثل في الفصاحة في الأندلس ، كما ضرب ببكر الكناني رسيله.

ولما لحقته سعاية عند نصر خصي الأمير عبد الرحمن ، وأمر بضربه ، جعل يستغيث ويقول : تحنّن عليّ أبا الفتح سيدي! شيخ كبير يفن أبق عليّ ولا تسط بي. ورحل إلى المشرق ، وحج ودخل بغداد ، وروى عن الأكابر ، وقفل ، فسكن مصر ، ثم القيروان ، إلى أن بلغه أنّ عبد الرحمن ولى سلطنة الأندلس ، وكانت بينهما وصلة ، فوفد عليه ، فرعاه ، وقربه ، وأكثر الرّشّاش مدحه ، وله يقول :

أصبحت لا أحسد إلا امرءا

ينال من قربك ما أحرمه

وذكره معاوية بن هشام ، وعبادة (٢) ، والحجاري ووصفه بالتندير ، وهو القائل في ابن الشّمر :

إنني أكره الهجاء ولك

نّ إلى الله في هجائك قربه

٥٢ ـ أبو مروان عبد الملك بن سراج بن عبد الله بن محمد بن سراج (٣)

من الذخيرة : أن جدّه سراج بن قرّة الكلابي صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصاب سلفه سباء صيّرهم في موالي بني أمية ، وأثنى على عظم بيتهم بقرطبة ، وأفرط في تعظيم أبي مروان هذا ، وقال في وصفه : محيي علم اللسان بجزيرة الأندلس ، قال : ولم ير مثله قبله ، ولا يرى بعده ، والله أعلم.

ولد لإثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة أربعمائة ، وتوفّي ليلة الجمعة لثمان خلون من ذي الحجة سنة تسع وثمانين وأربعمائة ، ورثاه جماعة ، منهم ابن عبدون ، وأنشد له ابن بسام :

__________________

(١) من علماء الأندلس المشهورين ، وهو أخو أحمد بن فرج صاحب كتاب الحدائق. انظر ترجمته في البغية (ص ٢٥٦) والجذوة (ص ٢١١) وتاريخ علماء الأندلس (ص ١٤١).

(٢) هو عبادة بن عبد الله بن محمد ابن عبادة بن أفلح الأنصاري أبو بكر الخزرجي القرطبي الشاعر يعرف بابن ماء السماء. توفي سنة ٤١٩ ه‍ ، له ديوان شعره وانظر ترجمته في الصلة (٤٢٦) والبغية (ص ٢٥٦) والوافي (ج ٣ / ص ١٨٩) والمسالك (ج ١١ / ص ٣٩٧) والجذوة (ص ٢٧٤) والذخيرة (ج ١ / ق ١ / ص ٤٦٨).

(٣) ذكره السيوطي في البغية (ص ٢٠٣).

٧٠

جدرت فقالوا بها علة

ستقبح بعد بآثارها!

ألا إنها روضة نوّرت

فزادت جمالا بأنوارها

وأطنب في وصفه صاحب القلائد وقال : أودى فطويت المعارف ، وتقلّص ظلّها الوارف ، إلا أنه كان يضجر عند السؤال فما يكاد يفيد ، ويتفجّر غيظا على الطالب حتى يتبلّد ولا يستفيد. وأنشد له من قصيدة في مدح المظفّر بن جهور (١) :

أمّا هواك ففي أعزّ مكان

كم صارم من دونه وسنان

وبنى (٢) حروب لم تزل تغذوهم

حتى الفطام ثديّها بلبان

في كل أرض يضربون قبابهم

لا يمنعون تحيّز الأوطان

أوما ترى أوتادها قصد (٣) القنا

وحبالهنّ ذوائب الفرسان

وجعله الحجاري أصّمعيّ الأندلس ، وأخبر أن صاحب سفط اللآلىء أثنى عليه وعلى بيته ، وذكر أن عبد الملك بن أبي الوليد بن جهور عتبه في كونه جاء لزيارته ، وأبو مروان لا يزوره ، فقال : أعزك الله ، أنت إذا زرتني قال الناس : أمير زار عالما تعظيما للعلم ، واقتباسا منه ، وأنا إذا زرتك قيل : عالم زار أميرا للطمع في دنياه ، والرغبة في رفده ، ولا يصون علمه. فتعجبوا من جوابه.

٥٣ ـ ابنه أبو الحسين سراج بن أبي مروان بن سراج (٤)

من الذخيرة : اسم وافق مسمّاه ، ولفظ طابق معناه ، فإنه سراج علم وأدب ، وبحر لغة ولسان العرب ، وإليه في وقتنا هذا بحضرة قرطبة تشدّ الأقتاب ، وتنضى الرّكاب. وأثنى على نظمه ونثره ، وأنشد له قوله (٥) :

لما تبوّأ (٦) من فؤادي منزلا

وغدا يسلّط مقلتيه عليه

__________________

(١) الأبيات في القلائد (ص ١٩٠).

(٢) في القلائد : وبين.

(٣) في القلائد : قطع.

(٤) هو الوزير سراج بن عبد الملك بن سراج ، عالم بالأندلس في النحو والصرف. توفي سنة ٥٠٨ ه‍ وبغية الوعاة (ص ٢٥١) ونفح الطيب (ج ١ / ص ١٥٥) والذخيرة (ج ٢ / ص ٣١٩) والصلة (ص ٢٢٦) والقلائد (ص ٢٠٢).

(٥) الأبيات في قلائد العقيان (ص ٢٠٢) ، وفي الذخيرة (ج ٢ / ق ١ / ص ٣١٩).

(٦) في الذخيرة : تمكن.

٧١

ناديته مسترحما من لوعة

أفضت بأسرار الضلوع (١) إليه

رفقا بمنزلك الذي تحتلّه

يا من يخرّب بيته بيديه

علماء التاريخ

٥٤ ـ ابن حيان (٢)

ثلب أبا الحزم فقال : والله لقد صدق ، وإني والله ما أصلح لهذا الأمر ، ولكن مكرها لزمته.

وحلف عبد الملك بن جهور أن يسفك دمه ، فأحضره أبوه أبو الوليد ، وقال : والله لئن طرأ على ابن حيان أمر لا آخذنّ أحدا فيه سواك أتريد أن يضرب بنا المثل في سائر البلدان بأنا قتلنا شيخ الأدب والمؤرّخين ببلدنا تحت كنفنا مع أن ملوك البلاد القاصية تداريه وتهاديه؟. وأنشد له نظما ، وقال : سبحان من جعله إذا نثر في السماء ، وإذا نظم تحت تخوم الماء.

٥٥ ـ أبو عبد الله محمد بن الصفار الأعمى الزمن القرطبي (٣)

من بني الصّفّار المنتمين إلى بني مغيث مولى بني أمية ، وهو بيت عظيم بقرطبة. وكان هذا الشيخ باقعة قد أخذ نفسه بالوقوع في الأعراض مأخذ ابن حيان على ما تقدم ، وتركته بتونس ، فنعي إليّ سنة أربعين وستمائة ، ولم أر أعجب من شأنه فإنه كان أعمى ، معطّل اليدين والرجلين ، شنيع الخلقة ، لا يزال لعابه يسيل ووجهه يهتزّ ، وإذا جاذبته أهداب الآداب رأيت منه بحرا زاخرا.

وكان آية في الحساب والفرائض مقدما على أعراض الملوك والوجوه ، وحسبك أنه لما قال أبو زيد الفازازي كاتب المأمون بن المنصور ابن يوسف بن عبد المؤمن قصيدته التي أولها : (الحزم والعزم منسوبان للعرب) وكان أنصاره عرب جشم ، قال ابن الصفار في مناقضتها قصيدته التي منها في ذكر المأمون عم يحيى بن الناصر ومخاصمه على الخلافة : [البسيط](٤)

وإن ينازعك في المنصور ذو نسب

فنجل نوح ثوى (٥) في قسمة العطب

__________________

(١) في الذخيرة : الضمير.

(٢) انظر ترجمته في الذخيرة (ج ٢ / ق ١ / ص ٨٤) والصلة (ص ١٥٤) والوافي (ص ١٦١).

(٣) انظر ترجمته في نفح الطيب (ج ٢ / ص ٣٣٣ / ٣٣٤) واختصار القداح المعلى (ص ٢٠٣) والتكملة (ص ٣٥٣) توفي سنة ٦٣٩ ه‍.

(٤) البيتان في نفح الطيب (ج ٢ / ص ٣٣٤) واختصار القدح (ص ٢٠٣).

(٥) في اختصار القدح : «توى».

٧٢

وإن يقل أنا عمّ فالجواب له

عمّ النبيّ بلا شكّ أبو لهب

وشاعت القصيدة ، وبلغت المأمون فحرص على قتله ، فلما كبس مدينة فاس وفرّ أمامه منها يحيى بن الناصر وكان ابن الصفّار في خدمته اختفى عند عجوز في خوص على قارعة الطريق ، وقامت بحاله لما رأته عليه في الأعذار الموجبة للصّدقة ، وأمر المأمون المنادين في الأسواق بالبحث عنه وتحذير من كتمه بإراقة الدم والإحسان لمن أظهره ، وأذكيت العيون عليه ، فستره الله إلى أن سكنت تلك النّائرة ، ولحق بإفريقية ، فأحسن إليه سلطانها أبو زكريا بن عبد الواحد وأجرى عليه مشاهرة ، وجالسه ، إلى أن كرهه لما شاهده من كثرة وقوعه في الأحياء والأموات ، فحجبه عن مجلسه ، ولم يقطع الإحسان عنه.

وسايرته يوما فأنشدني لنفسه قوله : [السريع](١)

لا تحسب الناس سواء متى

ما اشتبهوا (٢) فالناس أطوار

وانظر إلى الأحجار ، في بعضها

ماء ، وبعض ضمنه (٣) نار

وقوله : [المجتث](٤)

يا طالعا في جفوني

وغائبا في ضلوعي

بالغت في السّخط ظلما

وما رحمت خضوعي

إذا نويت انقطاعا

فاعمل (٥) حساب الرجوع

ومن نثره : لا يتهلّل عند سؤاله ولا يأخذ رائده من أدبه ولا ماله. أيها الغبي المتعثّر في ذيول جهله وجاهه ، الأشوس الطّرف من غير حول ، الرافع أنفه دون شمم ، الساري إلى العلياء سرى العين ، الذي لا يظفر منه قاصده المخدوع بغير التعب والمين وغضّ اليدين. من دلك عليّ ، ومن هداك إليّ ، متى استدعيتني إلى ربعك ، وتكلّفت من التّجمّل لحضور الفضلاء ما ليس في طبعك ، وما العجب منك حين رغبت عن كنيف في تلطيخ بطيب ، بل العجب ممن كان في طيب ، فجاء يتلطخ بكنيف. وكأني بك في منزلك العامر بالحرمان ، الغامر من الفضل والإحسان ، وقد قعدت في بهوه ، ونفخت شخصك الضّئيل في زهوه. ومنه : ذو اللحية الطويلة ، والجثّة الضئيلة ، الوسخ الأثواب ، العريّ من الآداب ، المرسل لسانه في كل عرض ، الآخذ في كل قبيح بالطول والعرض.

__________________

(١) البيتان في نفح الطيب (ج ٢ / ص ٣٣٥) واختصار القدح (ص ٢٠٤).

(٢) في النفح : تشابهوا ، وفي اختصار القدح : ما اشتبهوا.

(٣) في النفح : ضمنها ، وفي اختصار القدح : «ضمنه».

(٤) الأبيات في نفح الطيب (ج ٢ / ص ٣٣٥) واختصار القدح (ص ٢٠٤).

(٥) في النفح : فاحسب ، وفي اختصار القدح : فاعمل.

٧٣

ومنه : ثم قلت لي ابدأ بمذهب أبي حنيفة أو بمذهب امرىء القيس فكدت والله أضرط ضحكا ، ولا أخاف في تبعة الأدب دركا ، فاتّق الله بستر نفسك ، ولا تكن في غدك أجهل منك في أمسك.

٥٦ ـ الأديب أبو محمد عبد الحق الزهري القرطبي (١)

من حفّاظ مؤرخي الأندلس وأدبائها ، جالسته كثيرا في إشبيلية ومالقة ، وكان والدي يكرمه لحفظه ، والذي في ذكري الآن من شعره قوله من قصيدة في ذمّ بني هود (٢) حين خلعوا عن إشبيلية :

كأنّما الرّاية السوداء قد نعبت

لهم غرابا ببين الأهل والولد

مات الهدى تحتها من فرط روعته

فأظهر الدهر منها لبسة الكمد

علماء الفلسفة

٥٧ ـ سعيد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد ربه القرطبي (٣)

هو ابن أخي أبي عمر بن عبد ربه (٤) صاحب العقد ، ذكره صاعد في كتاب طبقات الأمم وأخبر أنه فصد يوما ، فبعث إلى عمه المذكور راغبا في الحضور عنده ، فلم يسعفه ، فكتب له (٥) :

لما عدمت مؤانسا وجليسا

نادمت بقراطا وجالينوسا

وجعلت كتبهما شفاء تفرّدى

وهما الشفاء لكل برح (٦) يوسى

فجاوبه عمه :

__________________

(١) انظر ترجمته في صلة الصلة لابن الزبير (ص ١٠) واختصار القدح المعلى (ص ١٣٤).

(٢) بنو هود من ملوك الطوائف بالأندلس ملوك سرقسطة وما إليها ، ومن أشهرهم المقتدر بالله. نفح الطيب (ج ١ / ص ٤٢٢).

(٣) انظر ترجمته في طبقات الأطباء (ج ٢ / ص ٤٤) والتكملة (ص ٧١٠) والجذوة (ص ٢١٣).

(٤) هو أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه ولد بقرطبة ونشأ فقيرا. انظر ترجمته في جذوة المقتبس (ص ٩٤) وبغية الملتمس : (ص ١٣٧) ومطمح الأنفس (ص ٢٥١) ومعجم الأدباء (ج ٤ / ص ٢١١) ووفيات الأعيان (ج ١ / ص ١١٠) ورايات المبرزين (ص ٤٧) والمطرب (ص ١٤١) ويتيمة الدهر (ج ٢ / ص ٧٤) ونفح الطيب (ج ٤ / ص ٢٦٢).

(٥) الأبيات في طبقات الأطباء (ج ٢ / ص ٤٤).

(٦) في طبقات الأطباء ب جرح.

٧٤

ألفيت بقراطا وجالينوسا

لا يأكلان ويرزآن جليسا

فجعلتهم دون الأقارب جنّة

ورضيت منهم صاحبا وأنيسا

وأظن بخلك لا يرى لك تاركا

حتى تنادم بعدها (١) إبليسا

قالوا : وكان جميل المذهب ، طيبا ، شاعرا ، منقبضا عن الملوك ، وهو القائل :

أمن بعد غوصي في علوم الحقائق

وطول انبساطي في مواهب خالقي

وفي حين إشراقي على ملكوته

أرى طالبا رزقا إلى غير رازق

ومن المسهب : أنه كان آية في فنون العلم القديم ، لكنه ثقيل الطّلعة ، سيّىء الأدب والمقابلة ، ولذلك كان عمه أبو عمر يكرهه. وذكر أن الناصر المرواني استحضره لينظر عليه في العلم القديم ، فقابله من الكلام العامي الجلف بما كرهه من أجله ، وأبعده.

٥٨ ـ أبو عبد الله محمد بن سليمان بن الحناط الرعيني الأعمى القرطبي (٢)

من المسهب : أن أباه كان يبيع الحنطة بقرطبة ، ونشأ هذا الأعمى نشأة أعانته على أن بلغ غاية من العلم الحديث والعلم القديم. وكان بنو ذكوان هم الذين كفوه مؤونة الدهر ، وفرّغوه للاشتغال بالعلم. وكان الغالب عليه المنطق حتى اتّهم في دينه ونفي عن قرطبة. وله في فراره واستقراره بالجزيرة الخضراء تحت كنف أميرها محمد بن القاسم بن حمود قصيدة ، منها (٣) :

تفرّغت من شغل العداوة والظّعن

وصرت إلى دار الإقامة والأمن

أمقتولة الأجفان من دمع حزنها

أفيقي فإني قد أفقت من الحزن

وما عن قلى فارقت تربة أرضكم

ولكنني أشفقت فيها من الدّفن

قال : وكفاك من شعره قوله من قصيدة في علي بن حمود العلوي : [الكامل](٤)

راحت تذكّر بالنسيم الرّاحا

وطفاء تكسر للجنوح جناحا

مرّت (٥) على التّلعات فاكتست الرّبى

حللا أقام لها الربيع وشاحا

__________________

(١) في طبقات الأطباء : بعد هم.

(٢) أديب شاعر غلب عليه المنطق حتى اتهم في دينه ، ونفي عن قرطبة ، مات سنة ٤٣٨ ه‍. الصلة (ص ١٠٠٤) والذخيرة (ج ١ / ص ٣٤٧) ونفح الطيب (ج ١ / ص ٢٨٥).

(٣) الأبيات في الذخيرة (ج ١ / ق ١ / ص ٤٥٠) دون تغيير عمّا هنا.

(٤) الأبيات في الذخيرة (ق ١ / ص ٤٤٥) والبيت الأول في نفح الطيب (ج ٢ / ص ٢٨).

(٥) في الذخيرة : جادت.

٧٥

فانظر إلى الروض الأريض وقد غدا

يبكي الغوادي ضاحكا مرتاحا

والنّور يبسط نحو ديمتها يدا

أهدى لها ساقي النّدى أقداحا

وتخاله حيّى الحيا من عرفه

بذكيّه فإذا سقاه فاحا

روض يحاكي الفاطميّ شمائلا

طيبا ، ومزن قد حكاه سماحا

ومن نثره : زففتها إليك بنت ليلتها عذراء ، وجلوتها عليك كريمة فكرها حسناء ، تتلفّع بحبرة حبرها ، وتتبختر في شعار شعرها ، مؤتلف بين رقّها ومدادها ، ومجتمع في بياضها وسوادها : (اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) [التكوير : ١٧].

وذكر : أن الوزير أبا بكر بن ذكوان مرض له ولد جميل طبّه ابن الحنّاط ، فلما خلا به يوما سأله عن حاله ، فضجر الغلام من طول العلة ، فقال : أعرف والله دواء يريحك ، وقال : وما هو؟

قال : تقبّلني ، وآتيك به ، فاغتاظ الغلام ، ثم سهّل عليه ذلك التماس الراحة ، فقبله وقام ليأتيه بالدواء. فقال : عمدته خيار شنبر ، وها هو حاضر! وكشف عن ... وقد قام ، فاغتاظ الغلام ، وضربه بزبديّة ، كانت أمامه ، فخرج هاربا. وبلغت الحكاية أباه ، فضحك منها وتمثل :

كيف يرجو الحياء منه جليس

ومكان الحياء منه خراب

وقيل له : كيف كان هشام المعتدّ؟ فقال : يكفي من الدلالة على اختياره أنه استكتبني واتخذ ابن شهيد جليسا!! وكان ابن الحنّاط أعمى وابن شهيد أصمّ.

ومن المتين لابن حيان : وفي سنة سبع وثلاثين وأربعمائة نعي إلينا أبو عبد الله بن الحنّاط الشاعر الأديب القرطبي بقيّة الأدباء النحارير في الشعر. هلك بالجزيرة الخضراء في كنف الأمير محمد بن القاسم بن حمود ، وكان من أوسع الناس علما بعلوم الجاهلية والإسلام وسائر التعاليم.

ووصفه بفساد الدين ، وأنه ولد أعشى الحملاق ، ثم طفىء نور عينيه بالكلّيّة بعد القراءة الكثيرة ، فازداد براعة ، وكان يتطبّب عنده الملوك والخاصة. وقال في وصفه ابن بسام : زعيم من زعماء العصر ، ورئيس من رؤساء النظم والنثر ، وبينه وبين أبي عامر بن شهيد مناقضات نظما ونثرا أشرقت أبا عامر بالماء ، وأخذت عليه بفروج الهواء ، ومما أنشده له قوله في مخاطبة المظفر بن الأفطس ملك بطليوس (١) :

كتبت على البعد مستجديا

لعلمي بأنّك (٢) لا تبخل

فجاء الرسول كما أشتهي

وقد ساق فوق الذي آمل

__________________

(١) الأبيات في الذخيرة (ج ١ / ق ١ / ص ٤٤٤).

(٢) في الذخيرة : أنّك.

٧٦

وما كان وجهك ذاك الجميل

ليفعل غير الذي يجمل

وقوله من قصيدة علي بن حمود (١) :

لوينا بأعناق المطيّ إلى اللّوى

وقد علّمتنا البثّ (٢) تلك المعالم

سقى منبت اللذات منها ابن هاشم

إذا انهملت من راحتيه الغمائم

إمام أمام (٣) الدين حدّ حسامه

طرير (٤) ومنه في يد الله قائم

ويزهر في يمناه زهر (٥) من الظّبا

له من رءوس الدّارعين كمائم

بكل خميس طبّق الأرض (٦) نقعه

وضيّق مسراه الجلاد (٧) الصّلادم

كأن مثار النّقع إثمد عينه

وأشفار جفنيه الشفار الصوارم

وقوله من قصيدة في القاسم بن حمود يذكر فيها خيران الصقلبي وقتل المرتضى المرواني لما هزمهما صنهاجة (٨) على غرناطة (٩) :

لك الخير ، خيران مضى لسبيله

وأصبح ملك الله في ابن رسوله

وفرّق جمع الكفر واجتمع الورى

على ابن حبيب الله بعد خليله

وقام لواء النّصر (١٠) فوق ممنّع

من العزّ (١١) جبريل إمام (١٢) رعيله

وأشرقت الدنيا بنور خليفة

به لاح بدر الحقّ بعد أفوله

فلا تسأل (١٣) الأيام عما أتت به

فما زالت الأيام تأتي بسوله

__________________

(١) الأبيات في الذخيرة (ج ١ / ق ١ / ص ٤٤٦ / ٤٤٧).

(٢) في الذخيرة : اللبث.

(٣) في الذخيرة : أقام.

(٤) في الذخيرة : طريرا.

(٥) في الذخيرة : نور.

(٦) في الذخيرة : الجو.

(٧) في الذخيرة : الجياد.

(٨) صنهاجة : قبائل من البربر في المغرب (القرون الوسطى). جاء ذكرهم في كتاب ديوان العبر لابن خلدون. منهم الطوارق وسكان الهقار والملثمون وغيرهم ممن مثلوا دورا خطيرا في حروب المغرب أسهموا في قيام دولة المرابطين القرن ١١ ، المنجد في اللغة والأعلام (ج ٢ / ص ٤٢٦).

(٩) الأبيات في الذخيرة (ج ١ / ق ١ / ص ٤٥٢).

(١٠) في الذخيرة : الجمع.

(١١) في الذخيرة : من النّصر.

(١٢) في الذخيرة : أمام.

(١٣) في الذخيرة : تسل.

٧٧

علماء التنجيم

٥٩ ـ عبد الله بن الشّمر بن نمير القرطبي (١) منجّم سلطان الأندلس عبد الرحمن بن الحكم ونديمه

من المقتبس : أنه كان نسيج وحده مجموعا له من الخصال النبيلة ما فرّق في عمر من جميع التعاليم والأدب والشعر والنثر. وكان لطيفا حلوا يغلب على قلب من شاهده. وصحب عبد الرحمن قبل السّلطنة أيام والد الحكم ، ولما صار الأمر إليه وفّى له ونادمه.

وذكر عبادة : أنه كان قد بشّر عبد الرحمن بأن الأمر سيصير إليه من جهة التنجيم ، فلما كان ذلك أحسن جزاءه ، وأجرى عليه رزقا للشعر ورزقا للتنجيم. وكان أيام تمكن نصر الخصيّ من عبد الرحمن يقل زيارة محمد ابن عبد الرحمن ، فلما هلك نصر قال شعرا منه :

لئن غاب وجهي عنك إنّ مودّتي

لشاهدة في كلّ يوم تسلّم

وما عاقني إلا عدوّ مسلّط

يذلّ ويشجي من يشاء ويرغم

ولم يستطل إلا بكم وبعزّكم

وما ينبغي أن يمنح العزّ مجرم

فنحمد ربّا سرّنا بهلاكه

فما زال بالإحسان والطّول ينعم

وذكر عبد الله بن الناصر (٢) في كتاب العليل والقتيل : أن الأمير عبد الرحمن قال يوما لابن الشّمر على الشراب : ما فعلت غفيّرتك التي كانت جرداء ، قد صارت أخياطها كالعروق؟ فقال : عملت منها لفائف لبغيلك الأشهب! وكان حينئذ الأمير عبد الرحمن ليس له ما يركب إلا البغيل المذكور ، لأنه كان مضيّقا عليه في زمان والده ، وكان له أخ مرشح للسلطنة ، ولم تتسع حاله حتى هلك أخوه.

وذكر الرازي : أن عبد الرحمن خرج مرة لصيد الغرانيق التي كان مولعا بها ، فأبعد ، وكان الشتاء ، فقال ابن الشّمر شعرا منه :

ليت شعري أمن حديد خلقنا

أم نحتنا من صخرة صمّاء

كل عام في الصيف نحن غزاة

والغرانيق غزونا في الشتاء

إذ نرى الأرض والجليد عليها

واقع مثل شقّة بيضاء

__________________

(١) انظر ترجمته في بدائع البدائه (ص ٥٠) وتاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي (ص ١٨٩).

(٢) سيترجم له ابن سعيد في مدينة الزهراء ١٨٧ في هذا الجزء.

٧٨

وكأنّ الأنوف تجدع منّا

بالمواسي لزعزع ورخاء

نطلب الموت والهلاك بإلحا

ح كأنّا نشتاق وقت الفناء

وبدر منه ما أوجب سجنه ، فكتب إليه شعرا منه :

قل لمن أمسى بأرض ال

غرب للخلق ربيعا

لا يضيق لي منك ما قد

وسع الناس جميعا

وذكر ابن حيان : أن الأمير عبد الرحمن كان مصغيا لأحكام التنجيم ، ولم يكن عنده في المنجمين مثل ابن الشّمر. وغضّ يوما من علم المنجمين ، وقال : إنه مخرقة ورجم بالغيب ، فأراد ابن الشمر أن يقيم له برهانا على صحته : بأن قال للأمير ، اختبر في مقامك بما شئت؟ فقال : إن أنبأتني على أي باب من أبواب هذا المجلس أخرج في قيامي صدّقت بعلمك ، فكتب ابن الشمر في ورقة مختومة ما اقتضى له الطّالع ، ودعا الأمير من فتح له بابا محدثا في غارب المجلس الذي يلي مقعده ، ثم خرج منه وترك الخروج من أبواب المجلس الأربعة وفتح الورقة ، فوجد فيها ما فعله الأمير ، فتعجب ، ووصله. ونزل بفحص السّرادق (١) أعلى قرطبة وقد قفل من غزاة مزمعا على الدخول إلى قرطبة صبيحة غده في تعبئة كاملة ، فقال له ابن الشمر : لتعلم أنك مغلوب على ذلك ، ولا بد لك الليلة من المبيت في قصرك ، فقال : والله أنك مغلوب على ذلك ، ولا بد الليلة من المبيت في قصرك ، فقال : والله لأدخلنّه ، فقال : والله لتدخلنه مكرها ، ولأكوننّ في هيئتي شبهك في طريقك إليه ، وسوف ترى. فغضب ووكّل به ، وكان ذلك اليوم مشمسا صائفا ، فما هو إلّا أن دنا المساء ، فانهمل من المطر وهبّ من الريح ما ضجّ له الناس ، وتداعوا للدخول لقرطبة ، ولم يجد الأمير بدّا من مبادرة قصره ، وركب في نفر من خاصته ، وابن الشمر إلى جانبه يسايره ، فوطئت دابة ابن الشمر مسمارا فلم تنهض ، فأمر له بفرس من جنائبه بسرجه ولجامه ، فركبه ، وشكا نفوذ الماء لغفارته التي كان يتوقّاه بها ووصوله إلى جسده ، فأمر له الأمير بممطر خزّ من مماطره ، وقنزعة من قنازعه ، صبّا عليه ، فاستوى والأمير في لبوسه ، ومضى يسايره. فلما نزل قال له : يا مولاي كيف رأيت قولي؟ فقال : انطلق بما عليك وتحتك ، والصلة لا حقة بك. كتب ابن الشّمر في الحين رقعة فيها :

تحرّك حين حرّكه

لوقت إيابه القدر

فيا من دونه الحجّا

ب والأستار والحجر

لئن كنت امرءا تخشى

بوادر زجره البشر

__________________

(١) من متنزهات قرطبة الجميلة والمشهورة ذكرها المقري في نفح الطيب (ج ١).

٧٩

فما يخشاك بهرام

ولا زحل ولا القمر

وجعله الحجاري رئيس المنجمين بالأندلس ، إلى ما حباه الله به من حسن الخلال ، التي بأقلها يبلغ الكمال.

علماء الموسيقى

٦٠ ـ إسحاق بن شمعون اليهودي القرطبي

من المسهب : أحد عجائب الزمان ، في الاقتدار على الألحان ، وكان قد لازم ابن باجة ، وأحسن الغناء بلسانه ويده ، وأخذ طرائق كثيرة عن كلب النار واعتبط شابّا وكان له نظم رائق ، كفاك من قوله :

قم هات كأسك فالنعيم قد اتّسق

والعود عن داعي المسرّة قد نطق

ولديك من حثّ الكؤوس أزاهرا

في الخزّ يمرح كالأراكة في الورق

والزّهر زهر والرياض سماؤها

والفجر نهرق والشقائق كالشّفق

وكان كثير المقام ، على شرب المدام ، وهو القائل :

خبرت العالمين فلم أجد من

يثير لي المنى غير المدام

تجلّى الهمّ عن فكري وتبدي

لي اللذات أجمع في نظام

وتطعمني بما لا أرتجيه

بأحلى من لذاذات المنام

وتخرج بي إذا واليت حثّا

بها في الشّرب من خلق الطّعام

ولو أني أحكّم لم أذرها

تحلّ بغير آقاق الكرام

علماء الطب

٦١ ـ أبو عبد الله محمد بن قادم القرطبي (١)

من المسهب : من أطباء قرطبة المشهورين في الدولة المروانية. وأنشد له من قصيدة :

__________________

(١) هو محمد بن أحمد قادم القرطبي أبو عبد الله ، ذكره الثعالبي في اليتيمة (ج ٢ / ص ٢٨) وأنشد مقاطع من شعره ، وذكر له الضبي في البغية (ص ١١٥) والحميدي في الجذوة (ص ٨١).

٨٠