المغرب في حلى المغرب - ج ١

علي بن موسى بن محمّد بن عبد الملك بن سعيد الغرناطي الأندلسي

المغرب في حلى المغرب - ج ١

المؤلف:

علي بن موسى بن محمّد بن عبد الملك بن سعيد الغرناطي الأندلسي


المحقق: خليل المنصور
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

ترجمة المؤلف

هو علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد العماري الغرناطي نور الدين أبو الحسن المؤرخ المالكي ولد سنة ٦١٠ ه‍ ، دار البلاد من مصر والشام وبغداد وبصرة ثم الحرمين ورجع إلى أفريقية. سكن تونس ، وتوفي بها سنة ٦٨٥ ه‍. من تصانيفه (ديوان شعره) و (ريحانة الأدب في المحاضرات) و (الشهب الثابتة في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة و (الصبيحة الغراء في حلى حضرة الزهراء) و (الطالع السعيد في تاريخ بني سعيد) و (كتاب المحلى بالأشعار) و (المغرب في محاسن حلى أهل المغرب) و (المشرق في حلى أهل المشرق) و (المقتطف من أزاهر الطرف) ترجم له صاحب كشف الظنون (ح ٥ / ص ٧١٥).

وكتاب المغرب في محاسن حلى أهل المغرب لأبي الحسن نور الدين علي بن سعيد الغرناطي الأندلسي ، ألفه لمحيي الدين محمد بن الصاحب بن ندى الجزري وذكره في أوله وذكر في مرقصه أن المغرب والمشرق كتابان وهما في مائة وخمسين سفرا صنفهما سعيد نفسه في مائة وخمس عشرة سنة جماعة من أهل الاعتناء بالأدب خاتمتهم ابن سعيد نفسه ، وذكر علي القاري في طبقاته أنه لأحمد بن علي بن سعيد العنسي وأنه ستون مجلد وهو وهم ، ترجمته في كشف الظنون (ح ٢ / ص ١٧٤٧).

فأحمد بن علي بن سعيد الغرناطي الأندلسي المالكي المتوفى سنة ٦٧٣ ه‍ وقد صنّف (تاريخ غرناطة) و (ظلّ الغمامة في مولد سيد تهامة). وترجمته في كشف الظنون (ح ٥ / ص ٩٦).

أما طريقة الكتاب والمنهج الذي سار عليه صاحبه في سرد مضامينه ، فإنّ ابن سعيد عمل على تصنيف البلاد تصنيفا مرتبا. فكلما ذكر بلدا ذكر كوره وما يحيط بها من أنهار ومنتزهات وكل من وفد إليها من ملوك وأدباء وشعراء فبدأ في كل بلد بذكر طبقة الأمراء ـ فطبقة الرؤساء ـ ثم طبقة العلماء ـ ومن ثم طبقة الشعراء وبعدها طبقة من الأشخاص الذين لم يذكر لهم نظم بالإضافة إلى ذكر النوادر لإبعاد الملل عن القارىء.

٣

 ـ وهذا الكتاب استمدّ ابن سعيد مادته من المسامرات والمشاهدات والروايات الشفوية ، والمصنّفات التي ألّفت حول الأندلس والأدب والأندلسي. وقد ذكر ابن سعيد المصنّفات والمصادر التي أخذ عنها ومنها كتاب : (المسهب في غرائب المغرب) الحجاري وكتاب (فرحة الأنفس) لابن غالب وكتاب (المسالك والممالك) لابن حوقل. وقد اعتمد في ترجمته للأعلام على كتاب (تاريخ علماء الأندلس) لابن الفرضي و (جذوة المقتبس) للحميدي و (الصلة) لابن بشكوال. و (قلائد العقيان) للفتح ابن خاقان و (الذخيرة) لابن بسام وكتاب (زاد المسافر) لأبي بحر صفوان بن إدريس. وكتاب (المطرب من أشعار أهل المغرب) لابن دحية و (اليتيمة) للثعالبي و (خريدة القصر وجريدة العصر) للعماد الأصفهاني و (عقود الجمان في شعراء الزمان) لابن الشعّار.

ـ إنّ كتاب المغرب في حلى المغرب من مفاخر ابن سعيد ومحاسنه وقد جمع فيه بين العلم والأدب ، والجدّ والهزل ، وعلى كثرة ما جاء فيه من علم ومعرفة بالأدب واللغة والشعر وغيره. يطلبه طالب الأدب أكثر مما يطلبه طالب العلم. وهو بذلك يمتاز بسلاسة الأسلوب ونصاعة البيان ، وثراء اللغة ، ودقة التعبير ، وتحديد الأسماء والتمييز بين الأوصاف والعبارات.

ـ ولقد عملنا في هذا الكتاب على التعريف بكثير ممن ورد ذكرهم فيه من العلماء والأدباء والشعراء والأمراء وتخريج الكثير من الشعر ونسبته إلى قائليه وتصحيح مفرداته من مصادر متعددة ومن الديوان إن وجد. والتعريف بالبلدان والأماكن ليسهل تناوله م قبل الباحثين والقراء.

٤

كتاب

وشي الطّرس

في حلى جزيرة الأندلس

٥
٦

كتاب

وشي الطّرس في حلى جزيرة الأندلس

الذي صنفه بالموارثة في مائة وخمس عشرة سنة ستة من أهل الأندلس :

أبو محمد الحجاري

عبد الملك بن سعيد

أحمد بن عبد الملك

محمد بن عبد الملك

موسى بن محمد

علي بن موسى

ينقسم هذا الكتاب إلى ثلاثة كتب ، هي :

١ ـ كتاب العرس في حلى غرب الأندلس

٢ ـ كتاب الشفاه اللّعس في حلى موسطة الأندلس

٣ ـ كتاب الأنس في حلى شرق الأندلس

٧

١ ـ كتاب العرس في حلى غرب الأندلس

ينقسم هذا الكتاب إلى سبعة كتب ، هي :

أ ـ كتاب الحلّة المذهّبة في حلى مملكة قرطبة

ب ـ كتاب الذهبية الأصيلية في حلى المملكة الإشبيلية

ج ـ كتاب الفردوس في حلى مملكة بطليوس

د ـ كتاب الخلب في حلى مملكة شلب

ه ـ كتاب الديباجة في حلى مملكة باجة

و ـ كتاب الرياض المصونة في حلى مملكة أشبونه

ز ـ كتاب خدع الممالقة في حلى مملكة مالقه

٨

أ ـ كتاب الحلة المذهبية في حلى مملكة قرطبة

ينقسم هذا الكتاب إلى أحد عشر كتابا ، هي :

١ ـ كتاب الحلة الذهبيّة في الكورة القرطبية

٢ ـ كتاب الدرة المصونة في حلى كورة بلكونة

٣ ـ كتاب محادثة السّير في حلى كورة القصير

٤ ـ كتاب الوشي المصوّر في حلى كورة المدوّر

٥ ـ كتاب نيل المراد في حلى كورة مراد

٦ ـ كتاب المزنة في حلى كورة كزنة

٧ ـ كتاب الدر النافق في حلى كورة غافق

٨ ـ كتاب النغمة الأرجة في حلى كورة إستجة

٩ ـ كتاب الكواكب الدرية في حلى كورة القبريّة

١٠ ـ كتاب رقة المحبة في حلى كورة إستبّة

١١ ـ كتاب السّوسانة في حلى كورة اليسانة

٩

١ ـ كتاب الحلة الذهبية في الكورة القرطبية

ينقسم هذا الكتاب إلى خمسة كتب ، هي :

أ ـ كتاب النغم المطربة في حلى حضرة قرطبة

ب ـ كتاب الصبيحة الغراء في حلى حضرة الزهراء

ج ـ كتاب البدائع الباهرة في حلى حضرة الزاهرة

د ـ كتاب الوردة في حلى مدينة شقندة

ه ـ كتاب الجرعة السيغة في حلى قرية وزعة

١٠

كتاب النغم المطربة في حضرة قرطبة

[حضرة قرطبة إحدى عرائس مملكتها. وفي اصطلاح الكتاب : للعروس الكاملة الزينة منصّة وهي مختصة بما يتعلق بذكر المدينة في نفسها ، وتاج وهو مختص بالإيالة السلطانية وسلك وهو مختص بأصحاب درّ الكلام من النثار والنظام وحلّة وهي مختصة بأعلام العلماء والمصنّفين الذين ليس لهم نظم ولا نثر ، ولا يجب إهمال تراجمهم ، وأهداب وهي مختصة بأصحاب فنون الهزيل وما ينحو منحاه .. المنصة .. التاج ..]

١١
١٢

بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا محمّد نبيه

١ ـ أبو العاصي الحكم الربضي (١) ابن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام ابن عبد الملك بن مروان

ولي سلطنة الأندلس بعد أبويه. وتلخيص ترجمته من مقتبس ابن حيان : أمه زخرف أم ولد. ومولده سنة أربع وخمسين ومائة. مدته ستّ وعشرون سنة وعشرة أشهر وعشرة أيام. سنّه ثلاث وخمسون سنة. وولي وهو ابن ستّ وعشرين. وبيعته يوم الجمعة لأربع عشر خلت من صفر سنة ثمانين ومائة ..

صفته : أسمر طوال نحيف لم يخضب.

ذكور أولاده عشرون ، إناثهم ثلاثون. وكان أفحل بني أمية بالأندلس وأشدّهم إقداما وصرامة وأنفة وأبّهة وعزّة ، إلى ما جمع لذلك من جودة الضّبط وحسن السياسة وإيثار النّصفة. وكان يشبّه بالمنصور العبّاسيّ في شدّ الملك وقهر الأعداء وتوطيد الدولة.

وقال الرّازي : هو أول من استكثر من الحشم والحفد ، وارتبط الخيول على بابه ، وناوأ جبابرة الملوك في أحواله ، وبلغ مماليكه خمسة آلاف : ثلاثة آلاف منهم فرسان وهم الخرس سموا بذلك لعجمتهم. وكان يقول : ما تحلّى الخلفاء بأزين من العدل ، ولا امتطوا مثل التثبّت ، ولا ازدلفوا بمثل العفو. وكان يستريح إلى لذّاته من غير إفحاش. وكان خطيبا مفوّها أدبيا شاعرا.

ومن حكاياته المستحسنة أنه توجه عليه حكم في أمّ ولد من القاضي فانقاد للحق ، ودفع ثمنها لمولاها. وسايره يوما زياد بن عبد الرحمن ، وقد أردف زياد ولده خلفه ، فلما انتهى إلى القنطرة وهو يحادثه سمع الأذان فقطع زياد حديثه ، وقال : معذرة إلى الأمير ، فإنا كنا في حديث عارضه

__________________

(١) هو الحكم الربضي ابن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام ابن عبد الملك بن مروان ولي الحكم بعد والده فاستكثر من المماليك. توفي آخر سنة ٢٠٦ ه‍. نفح الطيب (ج ١ / ص ٣٢٧ ـ ٣٤٩).

١٣

هذا المنادي إلى الله تعالى ، وهو أحق بالإجابة ، ومرّ إلى المسجد ، فلم ينكر عليه شيئا بل زاده حظوة ، وكان يكثر من مجالسته. وبلي بمحاربة عمّيه عبد الله وسليمان ، وكانا قد خرجا إلى برّ العدوة ، فلما سمعا بموت الرّضا كرّا إلى الأندلس ، وكان السابق بالعبور عبد الله ، تعصّب معه أهل بلنسية ، وتلوّم بعده سليمان بطنجة (١) ، فكتب له عبد الله ، فجاز إليه ، ونهض سليمان إلى قرطبة ، فهزمه الحكم الهزيمة القبيحة ، ثم هزمه أقبح منها ، وانكبّ به فرسه ، وسيق أسيرا ؛ فجاء رسول من الحكم بقتله ، فقتل ، وشهّر رأسه بقرطبة ، وسقط. في يد عبد الله ، فصالح الحكم على الإقامة ببلنسية ، ولم يزل على ذلك حياة الحكم. واتهم الحكم عمّه أمية ، فحبسه.

نسق التاريخ

سنة ثمانين ومائة

غزا بالصّائفة الحاجب عبد الكريم بن عبد الواحد (٢) ، وقفل مثقلا بالغنائم.

سنة إحدى وثمانين

ظهر بهلول بن أبي الحجاج بجهة الثغر الأعلى وملك سرقسطة (٣).

وفيها ثار عبيد بن خمير بطليطلة ، فكاتب الحكم أعيانا منها ، عملوا في قتله.

[سنة اثنتين وتسعين

جمع لذريق بن قارلة ملك الإفرنج جموعه وسار إلى حصار طرطوشة فبعث الحكم ابنه عبد الرحمن في العساكر فهزمه وفتح الله على المسلمين وعاد ظافرا].

ولبث كليب في السجن بداخل القصر ستّا وعشرين سنة ، إذ كان الأمير هشام هو الذي سجنه ، وكان له فيما بعد ذلك غزوات في النصارى والمنافقين ظفر فيها.

سنة أربع وتسعين

حاصر الحكم ماردة (٤) بنفسه.

__________________

(١) طنجة : مدينة في المملكة المغربية على مضيق جبل طارق. كانت مركزا تجاريا للفينيقيين ثم مستعمرة يونانية ، أصبحت منطقة دولية عام ١٩٢٣ ـ ١٩٥٦ م. المنجد في اللغة والأعلام (ج ٢ / ص ٤٣٧).

(٢) عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث وزير الحكم وقائد جيوشه. بعث الحكم العساكر مع عبد الكريم بن عبد الواحد إلى ألبة والقلاع. نفح الطيب (ج ١ / ص ٣٢٦).

(٣) سرقسطة : مدينة في إسبانيا ، كانت في عهد العرب الذين فتحوها ، تنسج الثياب الرقيقة المعروفة بالسرقسطية. المنجد في اللغة والأعلام (ج ٢ / ص ٣٥٤).

(٤) ماردة : من مدن مملكة بطليوس ، أفرد لها المؤلف كتابا في هذا الجزء (ص ٣٦١).

١٤

وفيها عصي عمروس (١) بالثغر ، ثم أناب للطاعة ، ومات مخلصا في مدة الحكم ، فكانت ولايته على الثغر تسع سنين وعشرة أشهر وأياما.

سنة سبع وتسعين

فيها غزا عبيد الله بن عبد الله (٢) البلنسي صاحب الصوائف ، فحلّ ببرشلونة (٣) ، فلما كان حضور صلاة الجمعة ، وقد تقدم في ملاقاة العدو صلى ركعتين ، وركب ، فنصره الله عليهم ، فدعا بقناة طويلة ، فركزت ، وصفّت رؤوس النصارى حولها ، حتى ارتفعت فوقها ، وغيّبت سنانها ، فأمر المؤذنين ، فعلوها ، وأذّنوا ، فكانت غزوة اختال الإسلام في أردية عزّتها دهرا.

سنة تسع وتسعين

غزا الحكم طليطلة ، وقد أظهر قصد مرسية ، فعاث فيهم أشدّ العيث ونقل وجوههم إلى قرطبة ، فذلّوا بعدها دهرا طويلا.

سنة إحدى ومائتين

فيها نكث أهل ماردة ، وقام بأمرها مروان بن الجليقي.

سنة اثنتين ومائتين

فيها كانت وقعة الرّبض ، كان أصل ما هاجها أن بعض مماليك الحكم دفع سيفا إلى صيقل فمطله ، والغلام يتكرّر عليه ، والصّيقل يتهكّم به ، فأغلظ الغلام للصّيقل ، وآل الأمر إلى أن خبطه به الصيقل ، فقتله ، وثار الهيج لوقته ، كأنما الناس كانوا يرتقبونه ، فهتفوا بالخلعان ، وأوّل من شهر السلاح أهل الرّبض القبلي بعدوة النهر ، ثم ثار أهل المدينة والأرباض ، وانحاز الأمويون وأتباعهم إلى القصر ، فارتقى الحكم السّطح ، وحرّك حفائظ جنده ، فآل الأمر إلى أن غلبهم الجند ، وأفشوا القتل ، وتتبعوا في الدور. وقتل الحكم بعد ذلك من أسراهم نحو ثلاثمائة ، صلبهم على النهر. وكان يوم هذه الوقعة يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من رمضان سنة اثنتين ومائتين. فلما كان في اليوم الثاني أمر بهدم الرّبض القبليّ ، حتى صار مزرعة ، ولم يعمر طول مدة بني أمية ، وتتبّع دور أهل الخلاف في غيره بالهدم والإحراق. وبعد ثلاثة أيام أمر برفع القتل والأمان على أن يخرجوا

__________________

(١) هو عمروس بن يوسف ، تولى الحكم على الثغر. ترجمته في تاريخ ابن خلدون (ج ٤ / ص ١٢٦).

(٢) عبيد الله بن عبد الله البلنسي : كان يقود الجيش في عهد الحكم وابنه عبد الرحمن نفح الطيب (ج ١ / ص ٣٣٢).

(٣) برشلونة : مرفأ في شمال شرقي إسبانيا على المتوسط قاعدة إقليم قتالونية ، فتحها العرب في عهد موسى بن نصير. المنجد في اللغة والأعلام (ج ٢ / ص ١٢٥).

١٥

من قرطبة ، فلحق جمهور منهم بطليطلة وكاتبوا مهاجر بن القتيل الذي كان قد لحق بدار الحرب ، وولّوه عليهم ، وصار معه نحو خمسة عشر ألفا في البحر إلى الإسكندرية ، وتقاتلوا مع أهلها فأنزلهم عبد الله (١) بن طاهر جزيرة إقريطش (٢) ، وكانت حينئذ خالية ، فعمروها.

وكان في حبس الحكم يومئذ شبريط. صاحب وشقة (٣) ، وهو ابن عم عمروس صاحب الثغر الأعلى ، فلما سمع بثورة الناس قال : أهي غنم؟ لو كان لها راع! كأني بهم قد مزّقوا ، فأمر الحكم بصلبه وأغرب الحكم في بأساء حربه هذه عندما حمي وطيسها بنادرة ما سمع لأحد من الملوك بمثلها ، وذلك أنه في مقامه بالسطح وعند بصره باشتداد الحرب دعا بقارورة غالية فجاءه بها خادم له ، فأفرغها على رأسه ، فلم يملك الخادم نفسه أن قال له : وأيّة ساعة طيب هذه؟ فقال : اسكت لا أمّ لك! ومن أين يعرف قاتل الحكم رأسه من رأس غيره ، ثم أعتق مماليكه ، ووالى الإحسان عليهم ، وجعل يقول : ما استعدت الملوك بمثل الرجال ، ولا حامى عنها كعبيدها. وكان ممن هرب من أهل الرّبض إلى طليطلة الفقيه يحيى بن يحيى (٤) ، ثم أمّنه الحكم. وكان منهم طالوت بن عبد الجبار المعافري (٥) أحد من لقي مالك بن أنس ، استخفى عند يهودي أحسن خدمته ، ثم انتقل إلى الوزير الإسكندراني (٦) واثقا به ، فسعى به إلى الحكم ، وأمكنه منه ، فوجده أغلظ ما كان عليه ، فلما قرّر عليه ذنوبه قال له : إني أبغضتك لله وحده ، فلم ينفعك عندي ما صنعته معي ، وأخبره ما جرى له مع اليهودي والوزير ، فرقّق الله قلبه عليه ، فقال له : إن الذي أبغضتني من أجله قد صرفني عنك ، ونقص الإسكندرانيّ في عين الحكم. قال : ولقد بلغ من استخفاف أهل الرّبض بالحكم أنهم كانوا ينادونه ليلا من أعلى صوامعهم : الصلاة الصلاة يا مخمور. ولم يتملّ بالعيش بعد هذه الوقعة من علّة طاولته أربعة أعوام ، فمات نادما مستغفرا. وكان مما نعوه عليه أن جعل العشر ضريبة على الناس بعد أن كان مصروفا إلى أمانتهم.

سنة ست ومائتين

بايع الحكم لابنيه بالعهد : عبد الرحمن ثم المغيرة ، فانخلع المغيرة لأخيه ومات مكرّما في

__________________

(١) عبد الله بن طاهر صاحب مصر للمأمون ابن الرشيد. نفح الطيب (ج ١ / ص ٣٢٧).

(٢) جزيرة إقريطش : جزيرة كبيرة في بحر المغرب. معجم البلدان (ج ١ / ص ٢٣٦).

(٣) وشقة : مدينة في شمال شرقي إسبانيا فتحها العرب سنة ٧١٣ ثم استعادها الإسبان سنة ١٠٩٦. المنجد في اللغة والأعلام (ج ٢ / ص ٧٤٢).

(٤) سيترجم له ابن سعيد في هذا الجزء (ص ١٦٣).

(٥) ترجمته في الذيل والتكملة (ج ٤ / ص ١٥٠) ، وتاريخ افتتاح الأندلس (ص ٧٠) ونفح الطيب (ج ١ / ص ٣٢٧).

(٦) هو الوزير عبد الواحد بن يزيد الإسكندراني. ترجمته في نفح الطيب (ج ٥ / ص ٨٥).

١٦

حياته ، وله عقب كثير. والحكم أوّل من عقد العهد منهم. وفيها توفّي الحكم.

حجب له عبد الكريم بن عبد الواحد وله ترجمة ، وعبيد العزيز بن أبي عبدة بعده ، وكان زاهدا كثير الصدفة. صاحب جيوشه وصوائفه ابن عمّه عبيد الله بن عبد الله. ومن أشهر وزرائه فطيس بن سليمان وكتب عنه أيضا. وكتب عنه حجاج المغيلي ، وهو شاعر. وقضاته مذكورون في تراجمهم. وفي مدته مات شهيد (١) بن عيسى الذي ينسب له بنو شهيد في سنة ثمان وثمانين ومائة ، وتمّام بن علقمة أحد أكابر النّقباء ، وعبد الواحد بن مغيث وفطيس بن سليمان ، وحجاج المغيلي في سنة ثمان وتسعين ومائة ، والفقيه زياد ابن عبد الرحمن اللّخمي راوية مالك سنة ستّ وتسعين ومائة ، والفقيه المفتي صعصعة بن سلام سنة اثنتين ومائتين.

وقال ابن حزم (٢) في نقط العروس (٣) : ومن المجاهرين بالمعاصي السفّاحين للدماء لدينا الحكم صاحب الرّبض ، وقد كان من جبروته يخصي من اشتهر بالجمال من أبناء رعيّته ، ليدخلهم إلى قصره. وأحسن ما أوردوا له من الشعر قوله بعد وقعة الرّبض [الطويل](٤).

رأبت صدوع الأرض بالسّيف راقعا

وقدما لأمت الشّعب مذ كنت يافعا

فسائل ثغوري هل بها اليوم ثغرة (٥)

أبادرها مستنضي السّيف دارعا

وشافه على الأرض الفضاء جماجما

كأقحاف شريان الهبيد لوامعا

تنبّيك أنّي لم أكن في قراعهم

بوان وأني (٦) كنت بالسّيف قارعا

وأني إذا حادوا سراعا عن الرّدى

فما كنت ذا حيد عن الموت جازعا

حميت ذماري فاستبحت ذمارهم

ومن لا يحامي ظلّ خزيان ضارعا

ولما تساقينا نهال حروبنا

سقيتهم سجلا من الموت ناقعا

وهل زدت أن (٧) وفّيتهم صاع قرضهم

فوافوا منايا قدّرت ومصارعا

__________________

(١) ترجمته في نفح الطيب (ج ٤ / ص ٣٨).

(٢) هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم ابن غالب فارسي الأصل ولد سنة ٣٨٤ ه‍ وتوفي سنة ٤٥٦ ه‍. مبلغ تصانيفه في الفقه والحديث والأصول والتاريخ والنسب. كشف الظنون (ج ٥ / ص ٦٩٠).

(٣) انظر كشف الظنون (ج ٢ / ص ١٩٧٥).

(٤) بعض هذه الأبيات في نفح الطيب (ج ١ / ص ٣٣٠ / ٣٣١ : ، والأبيات في أخبار مجموعة (ص ١٢٠). والبيان المغرب (ج ٢ / ص ٧١ ـ ٧٢) والحلة السيراء (ج ١ / ص ٤٧ / ٤٨) ببعض الاختلاف عمّا هنا.

(٥) في النفح : ثغرة.

(٦) في النفح : وقدما.

(٧) في النفح : إذ.

١٧

٢ ـ ابنه أبو المطرّف عبد الرحمن بن الحكم

من المقتبس : هو بكر والده. مولده بطليطلة في شعبان سنة ست وسبعين ومائة. عمره اثنتان وستون سنة. دولته إحدى وثلاثون سنة وثلاثة أشهر وستة أيام. وفاته بقرطبة ليلة الخميس لثلاث خلون من ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين.

ذكر ابن حزم في نقط العروس : أن ولده مائة ، النصف ذكور. عني أبوه بتعليمه وتخريجه في العلوم الحديثة والقديمة. ووجّه عباس بن ناصح إلى العراق في التماس الكتب القديمة ، فأتاه بالسّند هند وغيره منها ، وهو أول من أدخلها الأندلس وعرّف أهلها بها ونظر هو فيها. وكان حسن الوجه بهيّ المنظر. ومن بديع التّعارض في كماله نقص ولادته ، لأنه ولد لسبعة أشهر. وكان من أهل التلاوة للقرآن والاستظهار للحديث. وأطنب في ذكره في العلوم وأنه كان يداخل كل ذي علم في فنه. وهو أول من فخّم السّلطنة بالأندلس بأمور يطول ذكرها ، من انتقاء الرجال والمباني وغير ذلك. وهو الذي بنى جامع إشبيلية وسورها. وتولّع جواريه ببناء المساجد وفعل الخير. وهو الذي ميّز ولاية السوق عن أحكام الشّرطة المسماة بولاية المدينة ، فأفردها ، وصيّر لواليها ثلاثين دينارا في الشهر ولوالي المدينة مائة دينار. وكان يقال لأيامه أيّام العروس. واستفتح دولته بهدم فندق الخمر وإظهار البرّ. وتملّى الناس معه العيش ، وخلا هو بلذاته ، وطال عمره وفشا نسله.

وقال الرازي : إنه الذي أحدث بقرطبة دار السّكّة ، وضرب الدراهم باسمه ، ولم يكن فيها ذلك مذ فتحها العرب. وفي أيامه أدخل للأندلس نفيس الجهاز من ضروب الجلائب لكون ذلك نفق عليه ، وأحسن لجالبيه. ووافق انتهاب الذخائر التي كانت في قصور بغداد عند خلع الأمين فجلبت إليه ، وانتهت جبايته إلى ألف ألف دينار في السنة. وهو الذي اتخذ للوزراء في قصره بيت الوزارة ، ورتب اختلافهم إليه في كل يوم يستدعيهم معه أو من يختصّ منهم ، أو يخاطبهم برقاع فيما يراه من أمور الدولة. وكان سعيدا. قال ابن مفرج : ما علمنا أنه خرج عليه مع طول أيامه خارج ، خلا ما كان من موسى بن موسى (١) بن قسي بناحية الثغر الأعلى. ولم يشغله النعيم عن وصل البعوث إلى دار المغرب.

وكان مكرّما لأصناف العلماء محسنا لهم ، وكان يخلو بكبير الفقهاء يحيى بن يحيى كثيرا ويشاوره ، وسرق بعض صقالبته بدرة فلمحه ، ولما عدّت البدر نقصت ، فأكثروا التنازع فيمن أخذها ، فقال السلطان : قد أخذها من لا يرّدها ورآه من لا يفضحه ، فإياكم عن العودة لمثلها فإن كبير الذنب يهجم على استنفاد العفو ، فتعجّب من إفراط كرمه وحيائه.

__________________

(١) عامل على تطيلة ، قاد العساكر إلى أرض الفرنجة. ترجمته في نفح الطيب (ج ١ / ص ٣٣٢).

١٨

ومن توقيعاته البليغة : من لم يعرف وجه مطلبه كان الحرمان أولى به. ومن مشهور شعره قوله في جاريته طروب التي هام بها [المتقارب](١) :

إذا ما بدت لي شمس النها

ر طالعة ذكّرتني طروبا

عداني عنك مزار العدى

وقودي إليهم لهاما (٢) مهيبا

ألاقي بوجهي سموم الهجير

إذا كاد منه الحصى أن يذوبا

وأجنب في بعض غزواته وقد دنا من وادي الحجارة ، فقام إلى الغسل ، وفكره موقوف على الخيال الذي طرقه ، فاستدعى ابن الشّمر وقال له : أجز :

شاقك من قرطبة السّاري

باللّيل لم يدر به الداري

فقال بديهة :

زار فحيّا في ظلام الدّجى

أهلا به من زائر زاري (٣)

فهاج اشتياقه لصاحبة الخيال ، فاستخلف على الجيش ، ورجع إلى قرطبة. وكان مولعا بالنساء ولا يتخذ منهن ثيّبا ألبتّة. وكملت لذّته بقدوم زرياب (٤) غلام إسحاق الموصلي.

وفي مدته في سنة سبع ومائتين

أظهر العصيان عمّ أبيه عبد الله ، عسكر بمرسية ، وصلّى الجمعة على أن يخرج يوم السبت وقال في خطبته : اللهم إن كنت أحقّ بهذا الأمر من عبد الرحمن حفيد أخي فانصرني عليه ، وإن كان هو أحقّ به مني وأنا صنو جدّه فانصره عليّ ، فأمّنوا على دعائه. ولم يستتم كلامه حتى ضربته الريح الباردة ، فسقط مفلوجا ، فكمّل الناس صلاتهم بغيره ، وافترق الجمع ، وصار إلى بلنسية ، فمات بها في سنة ثمان ومائتين. وأحسن عبد الرحمن الخلف على ولده ، وعليه قدم بنو عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم صاحب تيهرت ، وأنفق عليهم ألف ألف دينار.

وفي السنة المذكورة

ثارت فتنة تدمير (٥) بين اليمن ومضر ودامت سبع سنين ، وكان انبعاثها من ورق دالية جمعها

__________________

(١) الأبيات في نفح الطيب (ج / ص ٣٣٦). وبعضها في الحلة السيراء (ج ١ / ص ١١٤ ، ١١٥) وفي تاريخ افتتاح الأندلس (ص ٧٧) والبيان المغرب (ج ٢ / ص ٨٦) منسوبة إلى عبد الرحمن بن الشمر.

(٢) في النفح : سهاما مصيبا.

(٣) في النفح : ساري.

(٤) ترجمته في جذوة المقتبس (ص ٨٧ / ٩٠ / ٢١٩) ونفح الطيب (ج ٤ / ص ١٠٧ / ١٠٨).

(٥) تدمير : من كور الأندلس ، سميت باسم ملكها تدمير. الروض المعطار (ص ١٣١).

١٩

مضريّ من جنان يمنيّ بغير أمره ، فقتله اليماني ، وكان أكثرها دائرا على اليمانية.

وفي سنة عشر ومائتين

أمر عبد الرحمن عامله جابر بن مالك أن يتخذ مرسية منزلا للولاية ، وتحرّك بنفسه إلى حصار طليطلة وماردة ، وفتح حصونا كثيرة من جلّيقيّة ، ووصله كتاب صاحب القسطنطينية يذكر ما كان بين السلفين في المشرق والأندلس ، فجاوبه بكتاب فيه إنحاء على المأمون والمعتصم.

وفي سنة خمس وعشرين ومائتين

هلك محمود بن عبد الجبار البربري البطل المشهور المنتزى بماردة الذي دامت محاربته مع أصحاب عبد الرحمن واشتهرت وقائعه. وكان قد فر إلى أذفنش (١) وأراد أن يرجع إلى السلطان وهو بحصن من جلّيقيّة ، فحاربه أذفنش ، فجمح به فرسه في الحرب وصدم بشجرة بلوط قتلته وبقي مجدّلا في الأرض حينا ، وفرسان النصارى قيام على ربوة يهابون الدنوّ إليه ويخافون أنها حيلة منه.

وفي سنة سبع وعشرين ومائتين

عصى موسى بن موسى صاحب تطيلة ، واستولى على الثغر الأعلى ، وله وقائع مشهورة في العدو والإسلام ، وغزاه عبد الرحمن غزوات متتابعة إلى أن صالحه.

وفي سنة تسع وعشرين

ظهرت مراكب الأردمانيين (٢) المجوس بسواحل غرب الأندلس. ويوم الأربعاء لأربع عشرة خلت من محرم سنة ثلاثين ومائتين حلّت على إشبيلية ، وهي عورة ، فدخلوها واستباحوها سبعة أيام إلى أن جاء نصر الخصي ، وهزم عنها النصارى المعروفين بالمجوس ، وعاث في مراكبهم ، وفي ذلك يقول عثمان بن المثنى (٣) :

يقولون إن الأردمانين أقبلوا

فقلت إذا جاءوا بعثنا لهم نصرا

وبعد هذا بنى سور إشبيلية بإشارة عبد الملك بن حبيب.

__________________

(١) أذفنش : اسم أطلقه العرب في الأندلس على ملوك إسبانيا المسمين ألفونس. المنجد في اللغة والأعلام (ج ٢ / ص ٣١).

(٢) اسم أطلق على الغزاة «الفايكنغ» القادمين من بحار اسكندنافية ، دعاهم مؤرخو العرب في الأندلس الأردمان. المنجد في اللغة والأعلام (ج ٢ / ص ٧١٨).

(٣) سيترجم له ابن سعيد في هذا الجزء من المغرب.

٢٠