محاضرات عقائدية

المستشار الدمرداش بن زكي العقالي

محاضرات عقائدية

المؤلف:

المستشار الدمرداش بن زكي العقالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-426-4
الصفحات: ١٦٠

ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحشَرونَ ) (١) ، ثمّ يقول في آية أخرى : ( وَإنْ مِنْ أُمَّة إلاّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ) (٢) ، على سبيل الحصر ، إذن حتى أمم الطيور والحيوان قد يكون فيها اختيار.

[ الاختيار في مملكة النحل ]

تعالوا نتأمل الإختيار في مملكة النحل ، وهو الاختيار المذهل الذي دعى إلى أن يختصّ النحل بسورة من طوال السور في القرآن ، ويختصّ بوحي ، ومعجزة النحل وحدها دليل على الإمامة ، الله يقول : ( وَأَوحَى رَبُّكَ إلى النَّحلِ ) ، ياهل ترى جمع مذكر أم جمع مؤنث؟

سيظهر في الخطاب الآتي : ( وَأوحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ أنِ اتَّخِذِي ) ، فقد عدل بعدما كان يخاطب جمعاً ، عدل في الأمر الصادر وكأنّه يخاطب مفرداً مؤنثاً ، لأنّ لا جمع مؤنث أن اتخذن ، ولا جمع مذكر : اتخذوا ، قال : ( أنِ اتَّخِذي مِنَ الجِبَالِ بُيوتَاً وَمِنَ الشَّجرِ وَمِمَّا يَعرِشونَ ) (٣).

لقد أصبح معلوماً ـ وأيّ دارس في الإعدادية يعرف ـ أنّ في مملكة النحل ملكة.

فما هذه الملكة؟

____________

١ ـ الأنعام : ٣٨.

٢ ـ فاطر : ٢٤.

٣ ـ النحل : ٦٨.

٦١

هل جاءت من السقيفة؟! أم اختاروها بالسقيفة؟!

إذن كيف جاءت هذه الملكة؟

بيض النحل عندما يفقس ، يفقس عن ثلاثة أنواع : ذكور ، وعاملات ، وواحدة فقط ملكة.

فالذكور وظيفتهم التلقيح فقط ، والعاملات مهمتهن الخدمة فقط ، والملكة مهمتها توجيه الخلية.

علماء النحل يقولون : إنّ الخلية عندما تريد أن تهاجر من مكان إلى مكان فإنّ أيتام النحل يدورون حول الملكة ولا يغادرون المقر ، وتطير الملكة فيتبعها النحل ولا يتخلّف عنها.

ولو فقس بيض الملكة عن أكثر من ملكة يستحيل أن تبقى الملكتان في الخلية ، لابدّ أن تنفصل واحدة ببعض العاملات وتغادر لتكوّن خلية جديدة ، لا إمامان في خلية. فملكة النحل هذه كيف اكتسبت صفاتها؟

هذه صفات تكوينية من الله عزّ وجلّ ، ولأجل أن يضرب المثل بها ، فإذا كانت حشرة قد انتظمت في طاعة إمامها وانتظمت في طاعة قائدها فأنتجت عسلا وشهداً وشفاءً للناس ، فكيف لو انتظم الناس في طاعة إمامهم دون أن يدخلوا في المجادلة والمشاحّة ، فماذا كانوا ينتجون؟

والله لو أنّهم انخرطوا فيها ـ إذا كان الحق يقول لأهل الكتاب : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ

٦٢

رَبِّهِمْ لاَكَلُوا مِنْ فَوقِهِمْ وَمِنْ تَحتِ أرجُلِهِمْ ) (١) ، كذلك : ( وَألَّوِ استَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) (٢) ـ لأصبحت هذه الأرض جنّة لو أنّ الإنسانية لو أنّ النواصب لو أنّ الأصنام أذعنوا لإمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام ولأنتجوا للبشرية.

[ الاختيار في الهدهد ]

ثم اسمع يا أخي قصة الهدهد مع سليمان عليه‌السلام :

أتظنّ أنّ الهدهد الذي يقصّ القرآن خبره مع سليمان شأنه كشأن كل الهداهد؟!

لو ظننت هكذا يا أيها الإنسان لأخّرت الإنسان عن مرتبة الهدهد ، لو كان هدهد يعرف ما يعرفه هدهد سليمان عليه‌السلام!

لا ، فهذا هدهد مختار يا حبيبي ، هدهد له اختيار ، فلأجل أن يلقّن البشرية طائر على امتداد التاريخ درساً في أنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، درس هذا الهدهد لم يستوعبه بعض أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما أطاعوا معاوية!!

( وَحُشِرَ لِسُلَيمانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ والإنسِ وَالطَّيرِ فَهُم ْيُوزَعُونَ ) (١) يطيعون ، فأخذ سليمان عليه‌السلام يتفقّد الجيش ـ لاحظوا

__________________

١ ـ المائدة : ٦٦.

٢ ـ الجن : ١٦.

٣ ـ النمل : ١٧.

٦٣

أدب الأنبياء ـ قال مالي لا أرى الهدهد ، وأوّل دليل على أنّه هدهد متميز أنه معرّف هنا بالألف واللام ، فهو لم يقل مالي لا أرى هدهداً من الهداهد غائباً؟ لا فهذا هدهد معين ( مَالِي لاَ أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغَائِبينَ ) (١).

من أدبه عليه‌السلام أن يتهم نفسه أوّلا بأنّه لم يره وإلاّ فهو غائب ، فلمّا تحقق أنّه غائب ، غضب فهدّد ، فلمّا جاء الهدهد هدّده بالتعذيب أو الذبح : ( لاَُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَديداً أوْ لاََذْبَحَنَّهُ أو لَيَأتِيَنّي بِسُلْطَان مُبين * فَمَكثَ غَيرَ بَعيد ) (٢).

سياق الآية هنا يدلّ على ماذا؟

أنّ الهدهد جاء يقول لسليمان عليه‌السلام قولا يدل على أنّه أحاط بقول سليمان قبل أن يأتي ، لأنّه لمّا جاء : ( قَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ) ، يعني جاء يقدم دفاعه بدلالة أنه أحاط بالتهمة قبل أن يُحاط بها في المجلس ، أيّ شيء هذا؟!

( قَالَ أحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَاً بِنَباً يَقين * إنِّي وَجَدتُ امرَأةً تَملِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيء وَلَها عَرْشٌ عَظيمٌ ) (٣).

فالهدهد يعلمه الله بما دار في مجلس سليمان عليه‌السلام ، ويعلّمه الله

__________________

١ ـ النمل : ٢٠.

٢ ـ النمل : ٢١ ـ ٢٢.

٣ ـ النمل : ٢٢ ـ ٢٣.

٦٤

بعبادة قوم بلقيس وسجودهم للشمس من دون الله ، ثمّ يتحمّل أمانة الرسالة : ( إذهَبْ بِكِتابي هَذَا فَأَلقِهْ إلَيهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرجِعونَ ) (١).

أليس هذا هدهد مختار؟ يعني هل يصحّ أنّ الهداهد الثانية التي نراها في زماننا تعاند فيه وتقول نحن نريد أن نكون كهدهد سليمان؟ يعني مثل ما أحبّ البعض أن يكون معاوية أميراً للمؤمنين!!! لا حول ولا قوة إلاّ بالله ..

هذه الصفات التي أرادها الله اختياراً وتكويناً.

[ الاختيار في النملة ]

ونملة سليمان عليه‌السلام!

لمّا مرّ سليمان عليه‌السلام على وادي النمل ( قَالَتْ نَملَةٌ يَا أيُّها النَمْلُ ادخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ) ، واضح من النصّ أنّه لو كان النمل كلّه عنده القدرة التي عندها في رؤية الخطر لما احتاج للتنبيه أو كان على الأقل ينبّه من قبل أكثر من نملة ، يعني لو كان الخطر مرئي وأحسّ به الجميع كانت الصورة مختلفة.

( قَالَتْ نَملَةٌ يَا أيُّها النَّملُ ادخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ) ، فهي لم تتفرّد بالعلم بالخطر فقط ، بل صدر عنها أمر! لأنّ العبارة ( ادخُلُوا ) أمر ،

__________________

١ ـ النمل : ٢٨.

٦٥

وأدقّ من هذا فقد كان عندها وفاء وعدم أنانية.

يعني لو واحد من بني أمية شاهد الخطر فإنّه يجري ليخلّص نفسه ولا يخبر الناس.

( قَالَتْ نَملَةٌ يا أيُّها النَّملُ ادخُلوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيمانُ وَجُنودُهُ وَهُمْ لاَيَشعُرُونَ ) (١).

[ الإمامة تسري في المادّيات ]

أيها الأحباب : إن الإمامة تسري في الكون حتى في الماديّات! إن ما نقرأه عن البروتونات والنيوترونات والإلكترونات رغم أنّه بسيط فإنّه غريب إنّ الذرة التي تتكون من نواة وإلكترونات تدور حول نواة الذرة التي فيها ، والنواة لها مركز ثابت وتتحرك بثبات.

مَن الذي صنع لهذه النواة هذا المركز وللإلكترونات هذه المدارات؟

[ مسك الختام ]

أيها الأحباب : إنّ الله الذي أكرمكم بأن جعلكم من أصحاب الولاء لمحمد وآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يندبكم لأمر عظيم ، لأن تتهيّأوا ، ولأن تكونوا في كتيبة الإمام القائم صلوات الله عليه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

__________________

١ ـ النمل : ١٨.

٦٦

الإجابة على الأسئلة

( س ) : رغم وجود الآيات الكثيرة ـ كما تفضّلتم ـ حول موضوع الإمامة والولاية في القرآن الكريم وعلى رأسها آية الولاية المعروفة وهي قوله تعالى : ( إنَّما وَليُّكُم اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (١) ، ورغم أنّ المفسرين جميعاً اتفقوا على أنّها نزلت في أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولكنهم يؤوّلون معنى الولاية والإمامة في الآية إلى ما ليس لها ، فما رأيكم في هذا الموضوع ، وكيف يمكن أن نقنع المخالفين لنص القرآن وروايات أهل البيت عليهم‌السلام؟

( ج ) : بسم الله الرحمن الرحيم .. ابتداءً : منهج القرآن في البيان ينصّ على أنّه لا يبيّن القرآن إلاّ ربّ القرآن ومَن ائتمنهم على البيان ، فالله تعالى يقول في سورة القيامة : ( لاَ تُحرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ * إنَّ عَلَينَا جَمْعَهُ وَقُرآنَهُ * فَإذَا قَرَأناهُ فَاتَّبِعْ قُرآنَهُ * ثُمَّ إنَّ عَلَينَا بَيَانَهُ ) (٢) ، وانتبه إلى « ثم » هنا ، لأن معناها على سبيل التراخي إلى يوم القيامة ( علينا بيانه ) ، فما دام الحق يسند بيان القرآن إليه فكلّ مَن نطح برأسه الآيات يحاول أن يؤوّل فتأويله من حيث المبدأ مرفوض ، إذ ليس من شأنه أن يتناول القول الإلهي

__________________

١ ـ المائدة : ٥٥.

٢ ـ القيامة : ١٦ ـ ١٩.

٦٧

حسب فهمه ، بل القول قول الأئمة لا قول غيرهم ، فلا يجوز لأحد أن يقول في القرآن قولا ما إلاّ ربّ القرآن أو مَن أُنزل عليه القرآن أو مَن جُعل عدلا للقرآن وثقلا مع القرآن ، وهم الأئمة عليهم‌السلام.

فمن حيث المبدأ هذا قول غير مقبول شكلا بلغة القانون.

( س ) : بسم الله الرحمن الرحيم .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. الأستاذ الجليل : أسأل كما هو الوارد عند الكثير من أهل السنة : هو أنه إذا كانت مسألة الإمامة ـ كما تفضلتم بها ، وكذلك كما هو وارد في الروايات الشيعية وروايات أهل السنة ـ لها هذه الأهمية بحيث أنها تصبح مسألة هامة يرتبط بها تنظيم الكون ، فلماذا لم تكن واضحة بنفس الصورة التي اتضحت فيها صورة النبوة في القرآن الكريم؟

( ج ) : بسم الله الرحمن الرحيم .. إنّ الله تعالى يتعبد الناس بالإذعان له ، والإذعان ماذا يعني؟ يعني القبول بالحكم حينما يبدو ويظهر ، ولذلك يقول تعالى : « لاَتَسأَلُوا عَن أَشيَاءَ إنْ تُبدَ لَكُمْ تَسُؤكُمْ وَإنْ تَسأَلُوا عَنْها حِينَ يَنَزَّلُ القُرآنُ تُبْدَ لَكُمْ » (١).

فالإمامة من البداهة في القرآن بحيث أن الذين كانوا معاصرين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بايعوا أمير المؤمنين عليه‌السلام في الغدير

__________________

١ ـ المائدة : ١٠٢.

٦٨

مسلّمين عليه بأنه مولى المؤمنين ، حتى قال عمر : « بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم » (١).

فالذين عاصروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يشكّوا في أن الإمامة انعقدت لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، لكنّما كبر عليهم ذلك! وصدّهم الشيطان عن الإستجابة لأمر الله ورسوله ، فأدخلوا التشويش فيما هو واضح.

يا ولدي ، الأمر في غاية الوضوح ، فأي وضوح أكثر من سورة هود في الآية ١٦ وهي تقرن أمير المؤمنين عليه‌السلام بأنبياء بني إسرائيل وتعتبره مساو لهم جميعاً : ( أَفَمَنْ كَانَ عَلى بَيِّنَة مِن رَبِّهِ ) الذي هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَيَتلُوهُ شَاهِدٌ مِنهُ ) ، وقد أجمع علماء التفسير على أن المقصود ب ـ ( شَاهِدٌ مِنْهُ ) مَن قال له : « أنت مني وأنا منك » (٢) ، وهو الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ( وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنهُ وَمِنْ قَبلِهِ كِتَابُ مُوسى إمَاماً وَرَحمَةً ) (٣).

فالآية تقول : أنّ محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجمع النور الذي قبله كتاب موسى ومنبع النور الذي بعده في الشاهد منه وهو علي بن أبي

__________________

١ ـ تاريخ بغداد : ٨ / ٢٨٤ ، البداية والنهاية : ٧ / ٣٨٦ ، شواهد التنزيل : ١ / ٢٠٤ ، التفسير الكبير للرازي : ١٢ / ٤٠١ وغيرها من المصادر التي ذكرت هذه العبارة.

٢ ـ صحيح البخاري : ٣ / ١٦٨ و ٤ / ٢٠٧ و ٥ / ٨٥ ، خصائص النسائي : ٨٨ و ١٢٢ و ١٥١ و ١٥٢ ، المستدرك للحاكم : ٣ / ١٢٠ ، السنن الكبرى للبيهقي : ٨ / ٥ و ٦.

٣ ـ هود : ١٦.

٦٩

طالب ، وهذا واضح جداً ، يعني الآيات واضحة لمن كان له قلب ، ولذلك يسّر الله القرآن ( وَلَقَد يَسَّرنَا القُرآنَ لِلذِّكرِ فَهلْ مِن مُدَّكِر ) (١) ، لأن المدّكر هو المعتبر الذي يريد أن يقرأ ويتدبر ، بينما الذي يريد أن يتمحل الأعذار لن يجد أي دلالة!

يا ولدي ، أكثر من أن ينزل قوله تعالى : ( يَا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغ مَا أُنزلَ إلَيكَ مِن رَبِّكَ وَإنْ لَمْ تَفعَلْ فَمَا بَلَّغتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (٢) ، إرجع إلى كتب التفسير عند السنة ، وتحديداً إلى فتح القدير للشوكاني في تفسير الآية ٦٧ من سورة المائدة واقرأ ما يورده من الروايات التي لا توجد حتى في مصادر الشيعة ، حيث يورد بسنده عن ابن مسعود قال : « كنّا نقرأ على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يَا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغ مَا أُنزِلَ إلَيكَ مِنْ رَبِّكَ ) أنّ علياً مولى المؤمنين ( وَإنْ لَم تَفعَلْ فَمَا بَلَّغتَ رِسَالَتَهُ ) (٣).

يعني هم كانوا يعلمون أن المعني بالبلاغ ولاية أمير المؤمنين ولكنهم ( جَحَدُوا بِهَا وَاستَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوَّاً ) (٤).

__________________

١ ـ القمر : ١٧.

٢ ـ المائدة : ٦٧.

٣ ـ فتح القدير : ٢ / ٦٠ ، واعلم أنّ الاضافات في هذه الآية تحمل على التأويل ، لا على التحريف ، بالأخصّ إذا علمنا أن جبرئيل عليه‌السلام لمّا كان ينزل بالآيات القرآنية ، كان في بعض الأحيان يقرئها بالتأويل ، فكثير من الروايات أمثال هذه محمولة على أنّها نزلت مع التأويل.

٤ ـ النمل : ١٤.

٧٠

أتذكر في إحدى المرات ، أن أحد علماء الأزهر تحدثت معه بمثل هذا الحديث فقال مثل ما قال الابن الحبيب ، وزاد عليه : لكن أبا بكر وعمر لم يكونوا عارفين بهذه الأحكام فكيف راغموا أمير المؤمنين رغم هذا الوضوح؟!

فقلت له : يا أخي عُدْ إلى القرآن وقف بين يدي سورة يوسف وعندها ستسعفك الإجابة على احتجاجات المحتجين بأبي بكر وعمر ، فالإجابة موجودة في هذه السورة ، وهي سورة مكّية ، وكونها مكّية لها دلالة على ما ادّعى به بعض المفسّرين ، فقوله تعالى : ( الر تِلكَ آياتُ الكِتابِ المُبينِ * إنَّا أنزَلنَاهُ قُرآناً عَرَبياً لَعَلَّكُم تَعقِلُون * نَحنُ نَقصُّ عَليكَ أحسَنَ القَصَصِ بِمَا أوحَينَا إلَيكَ هَذا القُرآنَ وَإنْ كُنتَ مِن قَبلِهِ لَمِنَ الغَافِلينَ ) إلى قوله تعالى : ( لَقَد كَانَ في يُوسُفَ وَإخوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلينَ ) (١) ، وأخوة يوسف أسباط ، وهؤلاء الأسباط كادوا له كيداً ، كما ورد في السورة!!

فهل أبو بكر وعمر أعرف بالحق من إخوة يوسف الأسباط؟

وهل هم أقرب لعلي عليه‌السلام من قرابة إخوة يوسف ليوسف؟

لقد سمّاهم أمير المؤمنين في بعض خطبه ، وهو يكشف خبيئة القوم! (٢)

__________________

١ ـ يوسف : ١ ـ ٧.

٢ ـ أنظر : شرح النهج لابن أبي الحديد : ١ / ١٥١ و ٢ / ٥١ و ١٧ / ١٥٢ ، شرح النهج

٧١

أتدري من هم السائلون في قوله تعالى : ( لَقَد كَانَ في يُوسُفُ وَإخوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلينَ ) (١)؟

لقد ذهب قسم من أهل السنة إلى أن السائلين هم اليهود (٢)!! في حين أنّ السورة مكّية ، وتتبعت ترتيبها في النزول حسب مصاحف أهل السنة فوجدت أنّ ترتيبها مبكر جداً ، رقم ٥٠ ، وبما أنّ السور المكّية معظمها قصار ، إلاّ أنّها تختلف عنها ، فهي من السور المبكرة جداً التي نزلت في مكة جملة واحدة!

فمن السائلون إذن؟

من المستبعد أن يكونوا يهوداً ، فمكة لم تكن مكاناً لهم ، كما أنهم ـ اليهود ـ لم يكونوا قد دخلوا في جدال مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ بعد الهجرة إلى المدينة.

وأرجو من الاخ الحبيب أن يحقق ويدقق ويتعب نفسه في سبب نزول هذه الآية.

قرأت الخبر الآتي : أنّ في مراحل الدعوة الأولى في مكّة كان عمر الإمام علي عليه‌السلام دون الثالثة عشرة ، أي في المرحلة التي يسمى فيها غلام ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا دخل مجلساً فيه

__________________

للشيخ محمد عبده : ١ / ٣٠.

١ ـ يوسف : ٧.

٢ ـ أنظر : تفسير زاد المسير لابن الجوزي : ٤ / ١٤٠ ، جامع أحكام القرآن للقرطبي : ٩ / ١٣٠ ، فتح القدير للشوكاني : ٣ / ٧ ، وغيرها.

٧٢

علي عليه‌السلام جلس بجانبه ، وإذا دخل عليّ مجلساً فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفسح له النبي فيجلسه بجانه.

فدخل علي عليه‌السلام يوماً على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو جالس فأفسح له ، وكان يجلس إلى جواره أبو عبيدة وعمر بن الخطاب ، فبدى في وجهيهما عدم الرضا ، حتى أنّهما بدءا بسد المجال الذي فسحه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكلّما فسح النبي المجال كانا يسدّان المجال ، حتى أجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً عليه‌السلام على فخذه!!

فتساءلا ، وقال أحدهما للآخر : ما بال رسول الله يحمل هذا الغلام على مشيخة قريش.

يا ولدي : أراد الله عز وجل أن يختبرهم فرسبوا في الإمتحان ، وقد كان بوسعهم ـ لو نجحوا ـ أن يكونوا في أعلى الدرجات.

لقد امتحنهم الله تعالى بصبي آمن دون أن يدعى ، لأن فطرته دعته إلى الإيمان ، واعترفوا جميعاً أنّه كرّم الله وجهه ، فأهل السنة يقولون علي كرّم الله وجهه ، ولا يستحوا من تقديمهم الذي لم يكرّم الله وجهه على مَنْ كرّم الله وجهه ، يقدموا مَنْ سجد للصنم عشرات السنين!!

لقد كبر عليهم وهم أهل قبلية ، إذ يكبّرون الكبير لمجرد أنّه كبير.

٧٣

وأنا عشت في السعودية ، وكنت في عمل هام وحساس جداً ، وكنت مستشاراً لقضايا خطيرة ، وكنت أحقق مع شيوخ القبائل في البادية ، فكانوا يكبّرون .. كبّر كبّر كبّر .. من دون أن يكون هناك بحث عن المحتوى ، وكنت أقول عندما أراهم يفعلون ذلك : أنّه ما جنى عليكم سوى كبّر كبّر كبّر.

فهم شقّ عليهم : ما بال رسول الله يحمل هذا الفتى على مشيخة قريش؟!

وفي سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيان على أن نوعاً من المرتدين ارتد عن بعض الأمر ـ الذي هو الإسلام ـ ظنّاً منه أن هذا لا يخرجه من الإسلام! فقد ارتدّ عن بعض الأمر رغم أنّه كان يعرف الحقّ ومن السابقين ، يقول : ( إنَّ الَّذينَ ارتَدّوا عَلَى أدبَارِهِمْ مِن بَعدِ مَا تَبيَّنَ لَهُمُ الهُدَى ).

قِفْ عند هذا النص ، هؤلاء أناس مرتدون وليس حديثيعهد ، ( تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى ) ، إذن لماذا ارتدّوا؟ ، ( الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأمْلى لَهُمْ ) ، إستغلّ فيهم أي شيء؟ وما هي مصيدة الشيطان التي صادهم بها؟ ( ذَلِكَ بأنَّهُمْ قَالُوا لِلّذينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكم فِي بَعضِ الأمرِ ) (١) ، ثم قالوا لكفّار مكّة ، أبو عبيدة وعمر وغيرهم ، لأنّ كفار مكّة كانوا يقولون : أتتبعون الهاشمي وتصبح ال ـ ٢٤ بطناً

__________________

١ ـ محمد : ٢٥ ـ ٢٦.

٧٤

من بطون قريش تبع لبني هاشم إلى الأبد؟! ، فقالوا لهم : لا عليكم نطيعكم في أن لا يستقر الأمر لآل محمد ، ( سَنُطيعُكُمْ فِي بَعضِ الأمْرِ وَاللهُ يَعلَمُ إسرَارهُمْ فَكَيفَ إذَا تَوَفَّتهُمُ المَلائِكَةُ يَضرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأدبَارَهُمْ * ذَلِكَ بأنهُمْ اتَّبَعوا مَا أسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضوَانَهُ فَأحْبَطَ أعمَالَهُمْ ) (١) كلمة : ( أحبَطَ أعمَالَهُمْ ) قطعية في أن هؤلاء تقرّ لهم أعمال قبل ذلك وكان من الممكن لو أنّهم خلّصوا من هذه الآفة أن يكونوا في رضوان الله عزّ وجلّ.

اللّهم صلّ على محمّد وآل محمد.

( س ) : ذكرتم أنّ اختيار الإمامة يكون مساوياً ومتناسباً مع تقدّم الإنسانية ، فيعني ذلك أفضلية أئمتنا من إمامة رسول الله ، وأفضلية الإمام الحسن من إمامة الإمام علي هذا أولا.

وثانياً : ورد في تعليقكم للتقدم منه التطور المادي والحضاري ، مع العلم أنّ حقيقة الإنسان هي الروح ، وكمال الروح هو التقرّب إلى الله سبحانه وتعالى.

وورد في الحديث أنه كلّما يقترب في زماننا الفرج يعني أنّ الحجة يأتي يملأ الأرض قسطاً وعدلا بعدما ملئت ظلماً وجوراً.

فإذا كان التقدم الإنساني التقرب إلى الله سبحانه وتعالى

__________________

١ ـ محمد : ٢٦ ـ ٢٨.

٧٥

فالحداثة المعاصرة كالانترنت وما شابه ذلك أبعدت الإنسان عن الله ، فكيف نعترض على ذلك؟

( ج ) : هذه إشكالية بديعة تفتح أبواب المحاضرة من جديد ، جزاك الله خيراً يا ولدي.

كما قدّمت في تلاوة سورة الشورى قلت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جُمِعَ فيه هدى كل النبيين ثم جُمع له علم ما بعده إلى يوم القيامة ، وهو لا يبث من العلم إلاّ ما يناسب مرحلة وجوده على الأرض ، يعني الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكل إمام على علم بحقائق الأشياء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، ولكن غير مأذون بأن يبث من هذا العلم إلاّ ما يناسب حال الناس وتصديقاً لقوله تعالى : ( عِبَادٌ مُكْرَمونَ * لاَ يَسبِقُونَهُ بِالقَولِ وَهُمْ بِأمرِهِ يَعمَلُونَ ) (١) ، يعني رغم العلم الكامل لكنّهم يتصرّفون في ما لديهم من علوم بما يناسب حال العصر الذي يعيشون فيه. تتقدّم الإنسانية والإمام القائم ( صلوات الله عليه ) معجزته الكبرى ـ اجيب على الشبهة الوسطى ـ إنّ التقدّم المادي والحضاري رغم أنّه قد يكون فيه سواقط أخلاقية ، لكنّه ليس شرّاً كلّه ، بل هو نعمة إذا شُكرت ، فهو يفتح على الناس عبادة لم تكن مفتوحة قبل ذلك ، كيف؟

أجيبك يا أخي : ها أنا ذا العبد الفقير أتحدث الآن وأنت تأتي

____________

١ ـ الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٨.

٧٦

إلى هذه القاعة ، خرجت من بيتك وسلكت الطريق ووصلت وعانيت من الزحام ، هب أن هذه المحاضرة أو غيرها من المحاضرات الأخرى تبث على الانترنت ، فرآها عبد من عبيد الله وهو جالس على سريره فاستبصر بها وقال : الحمد لله ، أليس في هذه النعمة ما يدلّ على أنّ الحضارة المادية قدمت للإنسانية سلّماً إلى الله عزّ وجلّ؟

المسيح عليه‌السلام له كلمة في إنجيل مرقص : كلّ ما يعمل يعمل للخير إذا صلحت نيّة ابن آدم ، إذا صلحت نية ابن آدم أصبح الخير في كل ما ترى ، يعني التلفاز كما يبث برامج وزراء الثقافة العرب وغيرهم الذين يريدون أن يحلّلوا الأمة ، ممكن أن يبث الخير.

هل تعلم يا سيدي أنَّ برنامجاً زراعياً ناجحاً في الإرشاد الزراعي لو تمّ بثه على مستوى العالم واستطاعت الإنسانية أن تضاعف إنتاجها من المحاصيل الزراعية لوجود الإرشاد في وقته ـ لأنّ من بين عناصر الإنتاج الزراعي الإرشادي الصحيح في الوقت المناسب ـ أليست هذه نعمة لو أهتبلها الإنسان لانبثق من النمو الحضاري نمو روحاني؟

الإسلام لا يمكن أن يفصل التسامي الروحي عن التقدّم المادّي أبداً ، بدليل أنّه اعتبر الكفر والفقر قرينان ، والإمام علي عليه‌السلام هو الذي قال : « لو تمثّل لي الفقر رجلا لقتلته » لأنّه قرين الكفر

٧٧

، والله تبارك وتعالى وهو يمنّ على المخلوقات ليس على البشر فقط ، بالخلق جعل منّته مقرونة بتقدير الأقوات وهي السبب الموجب لعبادة الله.

يعني نحن نقول : الحمد لله ربّ العالمين ، ومعنى الربّ الذي يربّي ويقوت ، فإذا وجدت نعم مادية تسهّل على الإنسانية معاشها وتحسّن الإنسانية توظيفها ولا يمتطيها إبليس ، فالحضارة الماديّة تكون مركباً للخير تتقدّم بها الروح.

فعلم الأئمّة شامل لما كان ولما يكون ، وهم لا يبدون من العلوم إلاّ ما يناسب عصرهم.

وأسأل الله أن يجعلنا من عبيد إمامنا صلوات الله عليه ، لنستمتع بالتقدم العلمي الذي سيعطيه دفعةً قويةً جداً إن شاء الله ربّ العالمين.

( س ) : نعلم بأنّ الملائكة تنزل على الإمام في ليلة القدر ، فهل تختلف ليلة القدر من مكان إلى مكان لأجل اختلاف الآفاق؟

اللّهمّ صلّ على محمد وآل محمد ، ليلة القدر ليلة كونية ، وتكون مع الامام حيث يكون ، ونسأل الله أن يسعدنا فنظفر بكينونة إمامنا بيننا في ليلة قدر إن شاء الله.

٧٨

المحاضرة الثالثة :

« الإمام الحسين عليه‌السلام في سفر الشهداء »

٧٩

٨٠