محاضرات عقائدية

المستشار الدمرداش بن زكي العقالي

محاضرات عقائدية

المؤلف:

المستشار الدمرداش بن زكي العقالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-426-4
الصفحات: ١٦٠

لكنه اللجاج ، يعني عندما تأتي آية المودّة بعد آية المباهلة من الطبيعي أن يفهم السامع أن هؤلاء هم أهل المباهلة ـ « يا رسول الله مَن قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال : علي وفاطمة وابناهما » (١).

ولمّا جاء الأمر بالصلاة على النبي ، كرّر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البيان عندما سألوا : مَن آلك الذين نصلّي عليهم ولا تصح عبادتنا إلاّ بالصلاة عليهم ، فقال : علي وفاطمة وابناهما (٢).

وأمّا القول القاطع والجامع المانع فهو قول ربّنا على سبيل التأكيد والحصر : ( إنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطهِيراً ) (٣) ، فيجمع الله لآل محمّد مواقف التبيين لنصلّي عليهم ونبايعهم وأن بعض ـ لا أقول من آمن بمحمّد ، لأنّه لو آمن لم يتردّد في إعطاء الحقّ لآل محمّد ـ من تبعوا محمّداً :

[ الفرق بين من تبع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين من آمن به : ]

انتبهوا ، فهناك فرق بين مَن تبع محمّداً وبين مَن آمن بمحمّد ، إذ التبعية قد يتبع الرجل الرجل على دخيلة في نفسه لا ينفي

____________

١ ـ مجمع الزوائد : ٧ / ١٠٣ و ٩ / ١٦٨ ، المعجم الكبير : ٣ / ٤٧ و ١١ / ٣٥١ ، وانظر : شواهد التنزيل : ٢ / ١٩١ ـ ١٩٩ ، فضل آل البيت للمقريزي : ٧٦ ، ينابيع المودة : ٢ / ٣٢٥ ، فتح القدير : ٤ / ٥٣٧.

٢ ـ أنظر : فتح الباري : ١١ / ١٣٦.

٣ ـ الأحزاب : ٣٣.

١٢١

المتابعة الظاهرية ، وهذا شخص مصاحبة ، يعني قد يصحب الرجل الرجل مع اختلاف نيّة كل من الصاحبين ، ليس معنى أن زيداً صاحب عمرو هو أن زيداً وعمرواً كلاهما على نيّة واحدة.

نحن نقرأ في القرآن في سورة الكهف أن اثنين : واحد مؤمن وواحد كافر ، القرآن يجعلهم صاحبين : ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أكَفَرتَ بالَّذي خَلَقَكَ مِنْ تُراب ) (١) ، يسميهم صاحبين واحد منهم مؤمن والثاني كافر!

بل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرص على أن يبيّن أن مصطلح الصحابة لا يتطابق مع مصطلح الإيمان ـ فهذا شيء وذاك شيء ـ حرص على أن يبيّن أن كلمة أصحاب تخاطب صحبة الأبدان لا افتراق القلوب والوجدان ، فما أعجب هذا القول النبوي!

عندما نزل القرآن يفضح نفاق عبد الله بن أُبيّ ويبيّن أنه رأس النفاق ، وتداعى من يقول اضرب عنقه ، فيردّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الردّ الذي غابت حكمته عن العقول التي لا تريد أن تعقل ، فقال : « دعه لا يتحدث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه » (٢).

فعبد الله بن أُبيّ وصفه رسول الله بأنّه صاحبه!

هذا المصطلح مصطلح مضلل ، فالتبعية غير الإيمان.

__________________

١ ـ الكهف : ٣٧.

٢ ـ صحيح البخاري : ٦ / ٦٦ ، صحيح مسلم : ٨ / ١٩ ، السنن الكبرى : ٩ / ٣٢ ، شرح صحيح مسلم للنووي : ١٦ / ١٣٨ ، صحيح ابن حبان : ١٣ / ٣٣١ ، وغيرها.

١٢٢

أخطر آية يحتج بها مَن يأكلون ولا يعقلون ويهتفون بما لا يعرفون ويقلدون وفي كل تقليد يسجدون ، أذكر آية في سورة الفتح : ( مُحَمَّدٌ رَسولُ اللهِ وَالَّذينَ مَعَهُ أشِدَاءُ عَلى الكُفَّارِ رُحَماءُ بَينَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعَاً سُجَّداً ) (١) إلى قوله تعالى من خلال الآية : ( وَعَدَ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصَّالِحَاتِ مِنهُمْ مَغفِرَةً وَأجراً عَظِيماً ) (٢).

فالعاقل يندهش ، والمتألم يندهش! يا ربّ : بعدما ذكرت الكلّ ( وَالَّذينَ مَعَهُ ) إذا بالنص الشريف الذي في آخر الآية يقول : لا ، انتبه : ( وَعَدَ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصَّالِحَاتِ مِنهُمْ ) لم يقل وعدهم مغفرةً وأجراً عظيماً ، فلابد أن يكون الوعد متطابقاً مع المعيّة ، لا! فالوعد للذين آمنوا.

ورغم أنّ القرآن وصفهم بأنّهم أشدّاء على الكفار ، وكم من شديد على الكفار ولكن شدّته لا تخرجه من زمرتهم ، لأنّها شدّةٌ يريد أن يتفاخر بها!

وعند مصادر العامة هذا الحديث الذي ترويه مسانيدهم : جاء أصحاب رسول الله إلى رسول الله وذكروا له أن فلاناً ـ وهم ما شاء الله ـ أن فلاناً رؤي في هذا اليوم يجاهد جهاداً ويبلي بلاءاً لم نر مثله! يقول الخبر كما هو عندهم : إنّه من أهل النار ، فذهبوا يتكشفون حال هذا الرجل ،

__________________

١ ـ الفتح : ٢٩.

٢ ـ الفتح : ٢٩.

١٢٣

فوجوده على ما يقول الخبر عندهم ـ أنا لم أقرأه في مصادرنا ، وأسأل الله أن يكرمني ربّي لبقية الوقوف على قراءة مصادرنا ـ فذهبوا فوجدوه قتل نفسه!! اتكأ على ذؤابة سيفه فقتل نفسه ، هذا الخبر عندهم (١).

وهو يبيّن أنّ الإيمان شيء آخر غير كل ما تصنعه الأبدان في الظاهر.

[ الإيمان يكتمل بموالاة محمّد وآل محمد : ]

أبشروا يا أحباب آل محمّد ، الإيمان يكتمل بموالاة محمّد وآل محمّد ، فقد تكفّل الله عزّ وجلّ بأن يعطي شهادة تخرّج لمدرسة الإيمان ، لمن اطمأن قلبه إلى حبّ محمّد وآل محمّد ، ولا يلزمه أن يملأ الدنيا ادعاءاً أنّه يحب محمّداً ، لكن آله ، كما قال بعض المتخرّصين : آله غير معصومين!

لا يختلف حبّ محمّد عن آل محمّد ، ولا يتجزأ الإيمان ببعضهم عن كلّهم ، لماذا؟ لماذا حبّ محمّد وآل محمّد وبالتخصيص حبّ آل محمّد ، لماذا هو علامة الإيمان؟

أولا : نقول هو مجال الحبّ ، الحبّ الذي يعطي آل محمّد حقوقهم كلّها : علم الكتاب فلا يناطحه فيه علم ، الحكمة وهي بيان الكتاب فلا يناطحه بيان ، الملك وهو ولاية أمر الأمة فلا يزاحمهم في ذلك .. إذا أعطى

__________________

١ ـ أنظر : صحيح البخاري : ٥ / ٧٤ و ٧ / ٢١٢ ، صحيح مسلم : ١ / ٧٣ ـ ٧٤ ، مجمع الزوائد : ٦ / ١١٦ ، مسند أبي يعلى ١٣ / ٥٣٩.

١٢٤

آل محمّد ما أعطاهم الله دلّ ذلك على تجرّده عن الأشرة وابتعاده عن الأنانية وابتغائه بإيمانه وجه الله عزّ وجلّ ، وهذا هو المطلوب ، فالمطلوب أن يكون الإيمان ممحّض من غير قصد إلى السباق في الدنيا ، لأنّ الله عزّ وجلّ أكرم هذه الأمة بكرامة لم تنتفع بها وضيّعتها!

مشكلة كبرى في علاقتها بحكامها عبر التاريخ ، لمّا بعث الله محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليردّ للإنسان إنسانيته وليكرّمه ويذهب بالطبقية والاستكبار والاستضعاف ويحجر الناس على قاعدة العبودية لله وحده ، أراد أن يريحكم من التنافس على الملك ، وقال : أنا أرحمكم يا عبادي ، بأن أجعل شأنكم إلى من عصمتهم ، عصمت عقولهم من الهوى وبطونهم من أكل الحرام ، عصمتهم عن أن يستلزموا بشيء ، فسأريحكم من مشكلة الحكم والقيادة والتوجيه ، بأن أعيّن لكم مدرسة معصومة لتنطلقوا في الحياة بغير جدال في مسائل الحكم ، ولتتّفقوا على هداية البشرية ، لأنّه لم يضيّع المسلمين إلاّ انقلابهم على ما خصّص الله به آل محمّد ، فأخذ يأكل بعضهم بعضاً ، وياليتهم عقلوا بعض مقالة الزهراء عليها‌السلام وهي تقول : « إمامتنا لمّاً للفرقة » (١).

نعم هي الرحمة ، لكن الأمة اتبعت إبليس وقد صدّق

__________________

١ ـ دلائل الإمامة : ١١٣ ، كشف الغمة : ٢ / ١١٠ ، وانظر : من لا يحضره الفقيه : ٣ / ٥٦٨ ، الاحتجاج : ١ / ١٣٤ ، بحار الأنوار : ٦ / ١٠٧ ، بلاغات النساء : ١٦.

١٢٥

عليها ظنّه : ( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيهِمْ إبليسُ ظَنَّهُ فاتَّبَعوهُ إلاّ فَريقاً مِنَ المُؤمِنينَ ) (١).

[ سأل سائل بعذاب واقع : ]

وأنتم إن شاء الله هذا الفريق الذي أبى أن يتّبع إبليس وهو يوسوس للقوم ويقول لهم قولة الأعرابي الذي نزلت فيه مقدّمة سورة المعارج ، الأعرابي الذي جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الغدير بعد خطبة رسول الله وعقد الولاية لأمير المؤمنين عليه‌السلام ومبايعة القوم له بالولاية وقولهم : « بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم » (٢). هذا مبايع يمزج البيعة بالتهنئة ويمزج التهنئة بالحسد ويمزج الحسد بالتلصص!

جاء هذا الأعرابي ـ أحمق لا يعرف تلوين الكلام ، لا يعرف أن يأخذ البيعة بنيّة النقض والإنقلاب ـ بعد أن تمّت البيعة من قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعطى الولاية لعلي عليه‌السلام.

وهو مشهد غريب! المشهد في تفصيلاته لو أراد مخرج من مخرجي الأحداث في العصر الحديث أن يخرج هذا المشهد لأخرج عرضا ًبادي الوضوح والدلالة على أنّ الإنسان هنا يكمّل شعائره ، والذي يرفض

__________________

١ ـ سبأ : ٢٠.

٢ ـ إشارة إلى مقولة عمر بن الخطاب ، أنظر : تاريخ بغداد : ٨ / ٢٨٤ ، البداية والنهاية : ٧ / ٣٨٦ ، شواهد التنزيل : ١ / ٢٠٤ ، تاريخ دمشق : ٤٢ / ٢٣٣.

١٢٦

الشعيرة التي ستتم الآن يكون قد انقلب على عقبيه وخسر الدنيا والآخرة.

الأعرابي يسأل ـ ماذا يقول ـ : يا رسول الله أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله فشهدنا ـ مستكثر ويمنّ ـ وأمرتنا أن نصلّي الخمس فصلّينا ، وأمرتنا أن نخرج من أموالنا الزكاة فأخرجنا ، وأمرتنا أن نصوم فصمنا ، وأمرتنا أن نحج فحججنا ، وقد علمتُ أنّك عمدت إلى صهرك وابن عمك فوضعته على أعناقنا ، اللّهم إن كان كذلك فأمطر علينا حجارةً من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم ، ثمّ لم يتمهل حتى يسمع جواب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فولّى لبعيره ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أدركوه فقد حاق به ما توعّد نفسه به ، فأدركوه فإذا بصاعقة قد شطرته ببعيره ، وإذا بقول ربنا تعالى : ( سَألَ سَائِلٌ بِعَذاب وَاقِع * لِلكَافِرينَ لَيسَ لَهُ دَافِعٌ ) (١).

هذا العذاب الذي عجّل الله به لمن تمرّد على ولاية آل محمد تمرداً صريحاً ظاهراً.

وأمّا الذين تمرّدوا تمرّداً خفيّاً ، فقد ادّخر لهم رأي الأمة المسكينة التي انخدعت بهم ، عذاب القرون التي تجرّعناه همّاً ووصماً ونحن نستهتف لوعيد ربّنا الذي حذّر منه القرآن وبيّن مدلوله رسول الله صلوات الله عليه وآله في بيان قوله تعالى : ( قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلى أن يَبعَثَ عَلَيكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوقِكُمْ أوْ مِنْ تَحتِ

__________________

١ ـ المعارج : ١ ـ ٢ ، أنظر : شواهد التنزيل : ٢ / ٣٨١ ـ ٣٨٥ ، جامع أحكام القرآن : ١٨ / ٢٧٨ ، نظم درر السمطين : ٩٣ ، ينابيع المودة : ٢ / ٣٦٩ ـ ٣٧٠.

١٢٧

أرجُلِكُمْ ) (١) الآية لما نزلت ، ومصادر السنة هي التي أوّلت التفسير الذي أضعه بين أيديكم ، يفسّرون ولا يفقهون ، تقول المصادر : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أعوذ بوجهك ، فلمّا نزلت : ( أوْ مِنْ تَحتِ أرْجُلِكُمْ ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أعوذ بوجهك ، فلمّا نزلت : ( أوْ يُلبِسَكُمْ شِيَعَاً وَيُذيقَ بَعضَكُمْ بَأسَ بَعض ) (٢) قال : هذه أهون وأيسر (٣).

فرّقونا .. وقسّمونا .. وجعلونا هدفاً لانتقام ربّنا في قوله تعالى : ( إنَّ الَّذينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانوا شِيَعَاً لَستَ مِنهُمْ فِي شَيء ) (٤).

كل ذلك يا أحباب ، منذ أن عرفت وتيقّنت وتبيّنت أن مذهب أهل البيت عليهم‌السلام هو خلاصة مدرسة الأنبياء والمرسلين.

[ الأئمة عليهم‌السلام ورثة الأنبياء وبقيّة الرسالات : ]

وبالأمس ، وأنا أمثل بين يدي سيدتي المعصومة صلوات الله عليها وعلى آبائها ، وأستمع إلى الدعاء يتلوه أحد الأحباب ،

__________________

١ و ٢ ـ الأنعام : ٦٥.

٣ ـ مسند أحمد : ٣ / ٣٠٩ ، وانظر : صحيح البخاري : ٥ / ١٩٣ ، سنن الترمذي : ٤ / ٣٢٧ ، سنن النسائي : ٤ / ٤١٢ ، المعجم الأوسط : ٩ / ٣٦ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ١٤٥ ، الدر المنثور : ٣ / ١٧ ، تفسير الثعالبي : ٢ / ٤٧٧ ، فتح القدير : ٢ / ١٢٧ وغيرها.

٤ ـ الأنعام : ١٥٩.

١٢٨

شدّني هذا الحرص من الأئمّة في هذه الأدعية على الوفاء لشجرة الأنبياء بدءاً من آدم : السلام عليك يا آدم صفوة الله .. السلام عليك يا نوح .. السلام عليك يا إبراهيم .. السلام عليك يا موسى .. السلام عليك يا عيسى .. صلوات الله عليهم ; هذا هو البرهان على أنّكم ورثة الأنبياء وبقيّة الرسالات ، لأنّكم توفّون للأنبياء بما قدّموه في حقّ نبيّكم.

الأنبياء والرسل أُخذ عليهم العهد من الله تعالى أن يؤمنوا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن يصطفّوا خلفه صفاً واحداً : ( وَإذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبيينَ لَمَا آتَيتُكُمْ مِن كِتَاب وَحِكمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرتُمْ وَأَخَذتُمْ عَلى ذَلِكُمْ إصْري قَالُوا أَقرَرْنا قَالَ فَاشهَدُوا وَأنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدينَ ) (١).

الميثاق الذي أُخذ على الأنبياء متأخّر بهذه النقطة جعلهم في حالة انتظار للنبي المنتظر ، بدءاً من آدم .. ونوح .. وإبراهيم .. وعاشوا كل العبادات التي كلّفهم الله بها ، بحيث كانت لا تلزمهم إلاّ أن يعيشوا في حالة انتظار للنبي الخاتم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن يتعهدوا بأنّهم إن شهدوه آمنوا به ونصروه ، ومعنى نصروه يعني ينقلبوا إلى جنود! فحالة الانتظار التي كتبت على الأنبياء ـ انتظار النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أصبحت عبادة من أفضل العبادات لأنّها انتظار لأيّ شيء؟ انتظار لأمر الله عزّ وجلّ وأعظم

__________________

١ ـ آل عمران : ٨١.

١٢٩

العبادات .. انتظار أمر الله ، لأنّها تنطوي على الآتي :

الإقرار بالله ربّاً ، وبأنّ له أمراً نافذاً ، وأنّ أمره لا يحيط به إلاّ هو ، وأنّه غيب وأنا في انتظار أمره لأطيع.

يا مَن شرّفكم ربّكم بعبادة الأنبياء .. بحالة الانتظار للإمام القائم صلوات الله عليه وعجّل الله فرجه الشريف ، زيدوا بيقينكم بفرجه الشريف في الميقات الذي يعلمه الله ، وتعجلوا الشوق إليه دون أن تتبرموا من إمضائه ، لأن كل ما تعيشون الانتظار فإنكم تعبدون الله العلي الرحمن.

لأنّ كل العبادات الأُخرى للإنسان يكتب أجره على قدر استغراقه فيها ، يعني ليس كل صلاة مثل بعضها ، وكتاب الآداب المعنوية للصلاة للسيد آية الله الإمام الخميني قدس الله سره الشريف يبيّن أنّ الصلاة يأخذ كل واحد نصيبه منها على قدر ما استغرقه من وجدان ومن صبر عليها ، ولذلك فالأجر عليها دائماً محدود بمحدودية أدائها وكذلك الصيام والحج والزكاة ...

أمّا الانتظار ، فكلّ ما ملأت وجدانك بالحبّ وأنت تنتظر الإمام ، أصبحت كل اعمالك « ٢٤ ساعة » تمثّل حالة عبادة.

أسأل الله أن يقسم لي ولكم صحّة الانتظار ، وأن يرينا وإيّاكم وجه القائم عليه‌السلام ، وأن يجعلنا جنوداً له مخلصين إن شاء الله.

اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

١٣٠

المحاضرة الخامسة :

« مَن هم الشيعة »

١٣١

١٣٢

بسم الله الرحمن الرحيم

[ تمهيد : ]

الحمد لله ربّ العالمين والحمد حمده كما يستحقه حمداً كثيراً ، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على عبده ورسوله محمّد وآله الطيبين الطاهرين صلاةً وسلاماً دائماً سرمداً.

أمّا بعد : فيا أيّها الأحباب دعوني أتأمّل معكم مَن نحن؟ مَن هم أتباع مذهب آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

فإذا عرفنا أنفسنا عرفنا رسالتنا ، وإذا عرفنا رسالتنا حدّدنا أهدافنا ، وإذا استقرت أهدافنا تبينت وسائلنا مَن نحن.

[ نحن الأوفياء لميثاق ربّنا : ]

نحن بحمد الله وفضله الأوفياء لميثاق ربّنا الذي أخذه علينا في أصلاب آبائنا في محكم كتابه من سورة الأعراف في قوله عزّ ثناؤه : ( وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَني آدَمَ مِن ظُهورِهِمْ ذُرِّيتَهُمْ وَأشهَدَهُمْ عَلَى أنفُسِهِمْ أَلَستُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدنَا ) (١).

__________________

١ ـ الأعراف : ١٧٢.

١٣٣

أيّها الأحباب ، أيّها الشاهدون ، منذ أن ضرب الله أنفسكم بالأصلاب ، إنّ الله ربّكم أكرمكم فدلّكم على الطريق إلى تحقيق عبوديتكم لله ، لأنّ الإقرار بالربوبيّة إذا خلى من تحقيق العبودية كان إقراراً ناقصاً مبتوراً.

أكرمكم ربّكم فعرفتم تحقيق طريق العبودية ، وأنتم تتلون أم الكتاب التي قال الحقّ في شأنها : ( وَلَقَد آتَينَاكَ سَبعاً مِن المَثَاني وَالقُرآنَ العَظيمَ ) (١) ، وأم الكتاب الفاتحة.

منذ أول سورة في كتاب الله ـ بترتيب القرآن بترتيب الجمع ـ أم الكتاب الفاتحة فيها الإمامة واضحة ، وفيها أنّ الله عزّ وجلّ تفضل على مَن أقرّ بالربوبيّة بأن جمعه في سورة الفاتحة.

إقرأ يا عبد الله هذه السورة الكريمة التي قسّمها الله بينه وبين عباده قسمين ، فجعلها تتردّد بين دعاء وإجابة ، استهلالا بقول الربّ ، لقد شهدت بأنّ الله ربّك بالميثاق ، فأكرمك الله بأن تشهد بأنّ الله ربّ العالمين كلّهم وليس ربّك وحدك ، الحمد لله ربّ العالمين ، ثمّ أكرمك بأن تعرف من صفاته العليا أنّه الرحمن الرحيم ، ثم أكرمك فعرّفك أنّ للرحمن والرحيم يوماً لا يملك أحد فيه شيئاً إلاّ الله مالك يوم الدين ، ثمّ وجّهك إلى أن تعرف حقّ العبادة مقروناً بحقّ الإستعانة ، حقّ العبادة مقرون بواجب الاستعانة : ( إيَّاكَ نَعبُدُ

__________________

١ ـ الحجر : ٨٧.

١٣٤

وَإيَّاكَ نَستَعينُ ) (١) ، ثم ألهمك الدعاء المقرون : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقيمَ ) (٢) ، فجاءت الإجابة : ( صِراطَ الَّذينَ أنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ ) (٣).

فأنت مع الذين أنعم الله عليهم ، مع الأئمّة الطاهرين ورثة النبيين وبقية المرسلين والّذين بدونهم يتغيّر نظام الكون ويخرج عن نظرة العبودية ويحيق به غضب الله الرحمن الرحيم.

[ القرآن دليلكم لمعرفة حقّ آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ]

أيّها الأحباب ، القرآن دليلكم لمعرفة حقّ آل محمّد ، إنّه الثقل يدلّكم على الثقل الممثّل بآل البيت تصديقاً للحديث الشريف : « تركت فيكم الثقلين » (٤) ، ووصفه الشريف إنّ أحدهما يصدّق الآخر.

القرآن رسم الطريق للإمامة وللإيمان بالإمامة على نحو ليس بعده وضوح ولا جلاء ، فمنذ أوّل سورة نبّهكم إلى أنّكم لن

__________________

١ ـ الفاتحة : ٥.

٢ ـ الفاتحة : ٦.

٣ ـ الفاتحة : ٧.

٤ ـ فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل : ١٥ ، مسند أحمد : ٣ / ٢٦ ، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري : ٣ / ١٠٩ ، مجمع الزوائد للهيثمي : ٩ / ١٦٣ ، سنن النسائي : ٥ / ٤٥ و ١٣٠ ، البداية والنهاية لابن كثير : ٥ / ٢٢٨ ، وغيرها من المصادر التي ذكرت حديث الثقلين بألفاظ وأسانيد متعدّدة.

١٣٥

تعرفوا الله حتى تكونوا مع الذين أنعم الله عليهم ، وحدّد لكم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أُولئك رفيقاً.

إنّ قصّة الإمامة في القرآن هي قصة الخليقة كلّها .. هي قصّة الكون كلّه.

إنّ الله تعالى لمّا تعلّقت مشيئته وإرادته بأن يستخلف في الأرض خليفة واصطفى آدم ..

وأنا بين يدي سيدتي المعصومة وأستمع إلى الزيارة ، هزني توقير الشيعة لأنبياء الله جميعاً وهم يسلّمون على آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، إنّ أتباع الأنبياء لا يعرفون حقّهم كما تعرفون أنتم شيعة آل محمّد الذين أعدّكم الله للشهادة للأنبياء يوم القيامة.

إنّ المرء يندهش أن يكون شيعة آل محمّد هم الشهود على مواكب الأنبياء يوم القيامة ، ولكن القرآن يقطع بهذا! يقول الحق في سورة المائدة : ( يَومَ يَجمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لاَعِلمَ لَنَا إنَّكَ أنتَ عَلاّمُ الغُيُوبِ ) (١) ، فالرسل شهود على أممهم ، كل رسول على أمته شهيد ( فَكَيفَ إذَا جِئنَا مِن كُلِّ أُمَّة بِشَهيد ) (٢) ، جاء الشهداء على أممهم قد ألجمهم الفزع الأكبر .. ألجمهم الروع ،

____________

١ ـ المائدة : ١٠٩.

٢ ـ النساء : ٤١.

١٣٦

( قَالُوا لاَعِلمَ لَنَا إنَّكَ أنتَ عَلاّمُ الغُيوبِ ) (١) ، الحقّ تبارك وتعالى لا يبرئ ساحتهم حتى يبيّنوا أنّهم بلّغوا.

الكفّار أتباع الأنبياء السابقين لمّا يسمعوا رسلهم يقولون أمام المحكمة الكبرى : ( لاَ عِلْمَ لَنَا ) ، أتباع نوح وهود وصالح وشعيب لمّا يسمعوا الأنبياء يقولون : ( لاَ عِلْمَ لَنَا ) ، يقول أحدنا جاءك الفرج يا مسلم! أنا يسألني عن عملي أقول لم يأتني أحد .. لم يوجهني أحد .. لم يرسل إليّ أحد!!

إنّ من مشاهد القيامة أن يموج الخلق فى إنكار رسالة الرسل تخلّصاً من عبء الحساب ، فيعود الله إلى الرسل : أنتم تقولون لا علم لكم ـ عدل مطلق ـ وأتباعكم يقولون أنّكم لم تبلّغوا؟!

عندئذ يتلاوم الأنبياء والرسل أنفسهم ويعود إليهم إحساسهم ، لأنّ الأمر في غاية الخطورة ، فيقولون : لا يا ربّنا وعزّتك وجلالك بلّغنا كما أردتنا.

فيقول : مَن يشهد لكم أنّكم بلّغتم قلتم لا علم لنا وأقوامكم ينكرون أنّكم بلّغتم؟

فيقولون : يشهد لنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تصديقاً لقول ربّنا تعالى : ( فَكَيفَ إذَا جِئنَا مِن كُلِّ أُمَّة بِشهيد وَجِئنَا بِكَ عَلَى هَؤلاءِ شَهِيداً ) (٢)

__________________

١ ـ المائدة : ١٠٩.

٢ ـ النساء : ٤١.

١٣٧

الموقف يلجم الأنبياء والمرسلين قبل رسولنا الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعصوم في حركاته وسكناته .. في قوله وفعله .. في منامه ويقظته .. المعصوم في كل شيء.

فكما أخذ الله العهد على الأنبياء أن يؤمنوا به ، أخذ بدوره العهد علينا وعلى البشرية كلها أن نؤمن بالأئمة من بعده.

إقرأ يا أخي وتأمل هذه العبادة التي أكرمنا الله بها نحن معشر شيعة آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأسأل الله أن يحشرنا بها ـ إنّ الله تعالى خلق الأنبياء أرواحاً وأنواراً وكتب لهم شرف النبوة والرسالة ، ولكنّه أخذ عليهم ميثاقاً غليظاً يجعلهم في حالة انتظار التي تعتبر أشرف العبادات .. حالة الإنتظار الماثلة في قول الله عزّ وجلّ : ( وَإذ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيينَ ) النبيون والمرسلون جميعاً لأنّ كل رسول نبي وليس كل نبي رسول ، ( وَإذ أخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيينَ لَمَا آتَيتُكُمْ مِن كِتَاب وَحِكمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشهَدُوا وَأنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) (١).

كل نبي منذ آدم عليه‌السلام لا يبرئ ذمّته أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله حتى يؤمن بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى يؤمن بالنبي الخاتم ، وأن يكون في حالة انتظار ، ربّما أنّه يجتمع بالنبي الخاتم فيسارع

__________________

١ ـ آل عمران : ٨١.

١٣٨

إلى الإيمان به وتصديقه والاصطفاف خلفه كل الأنبياء.

وما أروع هذا الخطاب المحمدي لمعشر اليهود الذي ينمّ عن غيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لمّا دخل المدينة فوجد اليهود صياماً ، فسأل عن ذلك؟ فقالوا : هذا يوم نجّى الله فيه موسى من فرعون وقومه ، فقال : أنا أولى بموسى منكم.

وليس هذا قول نبوي فحسب ، بل هو القرآن : ( إنَّ أوْلَى النَّاسِ بِإبراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذا النَّبيُّ وَالَّذينَ آمَنُوا وَاللهُ وَليُّ المُؤمِنينَ ) (١).

فالأنبياء في حالة انتظار ليتشرفوا ، يتشرفون بأي شيء؟

إعلم أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّل خلق الله ابتداءاً وآخر رسل الله ابتعاثاً ، ... الله كان موجوداً وآدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومن قصّ الله ومن لم يقصص من النبيّين ، لكن وجود يختص به مكنون في علم الله ، وجود التقدير الذي يختصّ به علم الله.

فالأنبياء مطلوب منهم إذا ظهر محمّد على كوكب الأرض أن يصطفوا خلفه ويؤمنوا به ويتّبعوه. وأخصّ كتابين ـ التوراة والإنجيل ـ من الكتب التي كتب الله لها البقاء إلى ما بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجد فيها تحديداً ـ بنصّ القرآن وبنصّ التوراة وبشهادة الإنجيل ـ أنّ المقبولين عند الله لا يكفيهم أن يكونوا قد آمنوا بأحد من الأنبياء

__________________

١ ـ آل عمران : ٦٨.

١٣٩

قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى يؤمنوا به : ( النَّبيَّ الأُمِّيَّ الَّذي يَجِدُونَهُ مَكتُوبَاً عِندَهُمْ في التَّوْرَاةِ وَالإنجيلِ يَأمُرُهُمْ بِالمَعرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنهُمْ إصرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الَّتي كَانَتْ عَلَيهِمْ ) (١).

كانت الإنسانية موعودةً بأن تدخل في طريق العبودية رويداً رويداً ، نبياً بعد نبي ، حتى إذا أتمّت مناهجها في معرفة الله شرّفها الله بالرحمة التامة ببعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أتظنّ يا أخي أنّ الله قد كتب على الأنبياء أن يكونوا في حالة انتظار ـ وحالة الانتظار حالة متّصلة ـ اعتباطاً؟ كتبها عليهم لأنّها أشرف العبادات.

كلّ عبادة بدنية تستغرق وقتاً محدوداً .. تصلي في عشر دقائق أو ربع ساعة أو ساعة أو ساعتين ، تزكّي مالا خمسه أو يزيد ، تصوم أياماً معدودات .. أمّا الإنتظار فحالة استقرار بين النفس والروح تستغرق الوقت كلّه ، لأنّك لا تعلم متى يأتي الموعود!

فالأنبياء وهم مأمورون بانتظار أنوار محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا في حالة مستمرة من العبادة.

لقد بدأ بمجيئه حالة انتظار جديدة .. حالة ترقب جديدة ..

__________________

١ ـ الأعراف : ١٥٧.

١٤٠