محاضرات عقائدية

المستشار الدمرداش بن زكي العقالي

محاضرات عقائدية

المؤلف:

المستشار الدمرداش بن زكي العقالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-426-4
الصفحات: ١٦٠

هناك إحياء لمعنى الوفاء لسيد الشهداء عليه‌السلام.

ولذلك من يستنكر البكاء أو يقول : إنّ الشيعة يقيمون بكائيات وملاطم ويزعمون أنّ هذا ممّا لا يرضي الله حسبهم ـ إن كانت لهم عقول فليتدبّروا ـ أنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم : نبيّ ابن نبيّ ابن نبيّ ، لمّا غاب له ولد ولم يكن يعرف أنّه مات أو لا ، مجرّد غياب يوسف عليه‌السلام .. ظلّ يبكيه ويبكيه ويضج ويضج حتى فقد بصره من البكاء ، هذا عمل الأنبياء وأبناء الأنبياء ، ووالله إنّ الفجيعة في يوسف وفي مائة يوسف ليست كالفجيعة في الإمام الحسين عليه‌السلام.

الشطر الأوّل وهو الإنتقام من السفيانية تمّ.

[ مرحلة أخذ الثأر : ( أوْ نُرِيَنَّكَ الَّذي وَعَدْنَاهُمْ فَإنَّا عَلَيهِمْ

مُقتَدِرُونَ ) ]

وأمّا الشطر الثاني : ( أوْ نُرِيَنَّكَ الَّذي وَعَدْنَاهُمْ فَإنَّا عَلَيهِمْ مُقتَدِرُونَ ) (١) ، لقد وعد الله وعد الصدق على لسان النبي الصادق الأمين ، أنّه لا تقوم الساعة حتى يتمّ الأمر لصاحب الأمر صلوات الله عليه ، هذا الوعد هو صاحب الأمر .. ولي العصر .. أنفسنا وأرواحنا وأموالنا وأولادنا وخلجاتنا وسكناتنا فداء أنفاسه الشريفة ، فهو ترجمان الشطر الثاني من الآية : ( أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذي

__________________

١ ـ الزخرف : ٤٢.

١٠١

وَعَدْنَاهُمْ فَإنَّا عَلَيهِمْ مُقتَدِرُونَ ) .. الإقتدار والمقتدر هو صيغة بلاغية عن القدرة.

إنّ الله تبارك وتعالى في القرآن يصف نفسه في أكثر من موضع أنّه ( عَلَى كُلِّ شَيء قَدِير ) ، وكلمة مقتدر لم ترد إلاّ في وصف نعيم أهل الجنّة أنّهم عند مليك مقتدر : ( إنَّ المُتَّقينَ فِي جَنَّات وَنَهَر * فِي مَقعَدِ صِدق عِندَ مَليك مُقتَدِر ) (١) ، ووردت في الإنتقام من أهل الباطل : ( أوْ نُرِيَنَّكَ الَّذي وَعَدْنَاهُمْ فَإنَّا عَلَيهِمْ مُقتَدِرُونَ ) ، معنى هذا واضح أنّه عند مجيء ولي العصر .. عند ظهور ولي العصر ـ فهو بيننا قائم عند ظهوره ـ تكون له القدرة التي يؤيّده بها الله فوق حدود أيّ قدرة ، قدرة .. إقتدار .. مقتدرون.

[ واجب المسلم : التمهيد لظهور الإمام عليه‌السلام واستنقاذ

الناس من حمأة النواصب : ]

واجب المسلم الآن أن يعمل على الآتي :

أن يمهّد للإمام القائم صلوات الله عليه تمهيداً في نفسه أوّلا ، نريد أن نمهّد أنفسنا لأن نكون أهلا لجنديتنا في الجيش المظفّر بقيادة الإمام ، الجندية التي ننسجم فيها مع العبودية لله طهراً ونقاءً ووفاءً وإخلاصاً وجدّاً وتواصلا ، كلّ منّا يبني نفسه ويوطؤها بأن

__________________

١ ـ القمر : ٥٤ ـ ٥٥.

١٠٢

تكون أهلا للشهود في اليوم الموعود.

والمسؤولية الأُخرى أن يعمل كلّ منّا على استنقاذ أيّ نفس بشرية يستطيع استنقاذها من حمأة النواصب أو حمأة أعداء أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كيف نستطيع أن نستنقذ هؤلاء؟

يا أخي الحبيب ، يا إبني الحبيب ، أنتم أطباء هذه الأُمة ، أنتم حزب محمد وعلي والحسن والحسين عليهم‌السلام ، فلا تطغوا قلوبكم على غضب يجعلكم تقابلوا الحمق بالحمق ولا السيئة بالسيئة ، أنتم أطباء ، وكلّ من لا يؤمن بمذهب أهل البيت عليهم‌السلام مريض ، وهؤلاء مرض بعضهم عضال وبعضهم مرضه بسيط ، فما دور الطبيب مع المريض ، هل يبادله غضباً بغضب وقسوة بقسوة ، أم يبادله رفقاً؟

لعلّ الله أن يستنقذ بك نفساً ، فإذا كان الإمام صلوات الله عليه يخاطبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا علي لئن يهدي الله على يديك رجلا خير لك ممّا طلعت عليه الشمس » (١).

الإمام الذي أوتي فعلا من فضل الله خيراً مما طلعت عليه الشمس ، فما بالنا نحن؟

نريد أن تكون رسالتنا في دعوة الآخرين مصحوبة بالرحمة ، نحن أحباب النبي الرؤوف الرحيم ، نحن أحباب علي

__________________

١ ـ المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٥٩٨ ، مجمع الزوائد : ٥ / ٣٣٤ ، وانظر : المعجم الكبير : ١ / ٣٣٢ ، كنز العمال : ١٣ / ١٠٧.

١٠٣

الذي أبت عليه عاطفته وإنسانيته ونبله ونبض الوحي في عروقه واتّباعه لمنهج نبيّه وحبيبه وأخيه ، أبت عليه أن يبادل بني أمية يوم صفين عدواناً بعدوان ، منعوه من مورد الماء ، فلمّا أزاحهم عنه وأصبح المورد في يده أتاح لهم أن يشربوا! لأنّه رؤوف رحيم.

ولذلك يا أحباب ، إذا اعتصمنا بإصلاح أنفسنا والرفق في دعوة غيرنا والصبر على ما نلقى في دعوتنا وبذل ما نستطيع ، فإن شاء الله سيكتب الله لنا أن نكون من الممهدين لولي العصر صلوات الله عليه ، وقد بدأت يا أحباب تباشير الظهور.

[ تباشير الظهور في المخترعات الحديثة : ]

وأختم بهذه القضية التي شغلتني ، وهي تباشير الظهور في المخترعات الحديثة التي ترونها الآن :

الدنيا أرقام ، وكلّ رقم يحرك طاقة عجيبة ، فالأنترنت والتلفاز .. أزرار وأرقام وحروف إلاّ أنّ ذلك أعادني إلى مزيد من التأمّل في فواتح السور التي استهلت بحروف : الم ، المر ، المص ، حمعسق ... هذه الحروف التي ذهب المتأوّلون في شأنها مذهباً صحيحاً في حدود ما فُهم منها ، وهو أنّها إشارة إلى إعجاز القرآن المكوّن من هذه الحروف التي يتخاطب بها العرب ، وهذا معنىً يصح في وقت نزول القرآن بين الأعراب ، لكن نحن اطّلعنا أنّه في

١٠٤

حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جرت الواقعة الآتية.

فأسأل الله أن يكون السادة العلماء الحاضرون معي بأذهانهم ليحقّقوها ، لأنّ معلوماتي ضعيفة ، ولذلك لمّا أكون بينهم أتكلم بجرأة ليصوّبوني.

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا هاجر إلى المدينة ودعى اليهود إلى اتّباعه والشهادة له بأنّه رسول الله ، قال أحدهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألست الذي أُنزل عليك : الم؟

قال : بلى.

قالوا : أفنترك موسى من أجل نبيٍّ مدة بعثته هي عدد حروف الجمل : ل ـ ( الم )؟.

هم فهموا أنّ هذا الخطاب يرمز إلى عدد الحروف ، حساب الجمل القائم على عدّ أرقام لكلّ حرف الذي تقوم عليه الأبجدية الرقمية : أبجد هوّز حطّي كلمن.

فقالوا : ألست الذي أُنزل عليه : الم ، فهذه حسبتها في سنين! نترك موسى لكي نتّبع نبياً هذه مدته؟!

فقال لهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ولكنّي أُنزل عليّ ... ، وعدّد لهم كل حروف فواتح السور التي أُنزلت عليه (١) ، ممّا يشير إلى أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حيث المبدأ قبل أن يكون هناك معنىً للحروف غير المعنى

__________________

١ ـ أنظر : الدرّ المنثور : ١ / ٢٣ و ٢ / ٥ ، عون المعبود : ١٢ / ٢٢٦.

١٠٥

البسيط الظاهر.

إعلم يا أخي الحبيب ، إنّ هذه الحروف مفاتيح كنوز العلوم التي لا يعرفها إلاّ الإمام المعصوم عليه‌السلام ، هذه الكنوز العلمية التي عند ظهور الإمام يحرّكها فيحرك بها كل الطاقات الموجودة في الأرض ، الطاقة الكهربائية والطاقة الذرية ، ويفاجىء الدنيا بمدخل للقدرة ، لا هو بمعمل تجارب ولا بصاروخ جرت عليه تجارب ولا سفينة فضاء ، يفاجىء الدنيا بأن كل علوم الدنيا التي وصلوا إليها هو يستعلي عليها ويجندها للحق بهذه المفاتيح ، لأني أستيقن وأحسب هذا اليقين له حظّ من كتاب الله.

إنّ المتشابه في القرآن المشار إليه في سورة آل عمران في الآية السابعة : ( مِنهُ آيَاتٌ مُحكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأمَّا الَّذينَ فِي قُلوبِهِمْ زَيغٌ فَيتَّبعونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ وَابتِغَاءَ تَأويلِهِ وَمَا يَعلَمُ تَأويلَهُ إلاّ اللهُ وَالرَّاسِخونَ فِي العِلمِ ) (١).

إنتبه يا أخي ، إنّ في المصحف بقراءة أهل السنة توجد وقفة لزوم على : ( وَمَا يعلَمُهُ إلاّ اللهُ ) يعني يريدون أنّ هذا المتشابه لا يعلمه إلاّ الله ، وأمّا الراسخون في العلم شأنهم شأن غيرهم : ( يَقُولونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنا ) (٢) ، وهذا الفهم لا يستقيم مع

__________________

١ ـ آل عمران : ٧.

٢ ـ آل عمران : ٧.

١٠٦

القرآن الذي أنزل لكي يُتَّبع ويُفهم من قبل أهله ، ولو أراد أحد من غير أهله أن يفهم المتشابه لأثار الفتنة واتّبع الفساد.

فالمتشابه لا يفهمه إلاّ الثقة القرين للقرآن ـ وهو الإمام ـ فإنّ الم وغيرها من متشابه القرآن الذي لا يعرف سره إلاّ الإمام.

وحيث أنّ لي أن أقول : إنّ الإمام المعصوم عنده علمه ، قد يقول لي قائل : كذلك الأئمة ، فلماذا لم يقولوا علمهم في الحروف ، هل كانوا لا يعلمون؟

لا بل يعلمون ، لكن نحن نعلم في مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثّ العلم كله إلى علي عليه‌السلام وأمره أن يبثّه إلى الإمام الذي بعده ، فالإمام الذي بعده .. إماماً بعد إمام .. ولا يبدي أيّ إمام من العلوم إلاّ ما يناسب عصره ، يعني لو حدّث الأئمة إلى الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام ، لو حدّثوا بمعالم عن حروف القرآن ومفتتح السور ، لما طاقتها عقول من حولهم.

لكن العلم الحديث الآن بما وصل إليه ، وحيث أنّهم كانوا يعلمون ولم يتحدّثوا ، وحيث أنّه لم يبق إلاّ الإمام القائم عليه‌السلام ولا تقوم الساعة إلاّ بعد أن تعرف كل علوم القرآن ، ففي اليقين أنّ الإمام القائم عليه‌السلام سيحل هذا اللّغز ، وحلّه هو الذي ستعلوا له أعناق البشرية كلّها ، أعناق البشرية ستعلوا أمام معجزة في عصر علم تفوّق بالمعجزات ، فيأتي الإمام ويبطل معجزاتهم ويبدأ سجل معجزات

١٠٧

أُخرى مفاتيحها فواتح سور القرآن.

أسأل الله العظيم أن يثبّتنا بما هو حقّ ، وأن يرينا الحقّ حقّاً ويرزقنا اتّباعه ، وأن يرينا الباطل باطلا ويوفقنا إلى اجتنابه ، وأن يجعلنا من خدّام آل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن يحيي أنفسنا باتّباعهم ، ويلحقنا بهم في الصالحين.

وصلى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله الطاهرين.

١٠٨

المحاضرة الرابعة :

«انتخاب الطريق من الظلمات إلى النور»

١٠٩

١١٠

بسم الله الرحمن الرحيم

[ تمهيد : ]

الحمد لله حمداً كثيراً دائماً لا ينقطع أبداً ، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على عبده ورسوله محمد وآله سلاماً دائماً سرمداً.

أمّا بعد ، فيا أيّها الأحباب ، إنّه لمن جزيل فضل الله تعالى عليّ أن كتب لي هذه الخطى على هذه الأرض المباركة التي استردّت للإسلام كرامته وأعلت للقرآن غايته وأعادت إلى مسمع الدنيا من جديد دولة محمد وعلي صلّى الله عليهما وآلهما ، فرحم الله كلّ جهد وكلّ نفس زكية عملت على بناء هذه الدولة الإسلامية الرائدة.

ونظّر الله وجه الإمام الخميني ومَنَّ عليه بشآبيب الرحمة والرضوان جزاء ما اقتحم ظلمات القرون وحطم أصنام الزمان وأقام هذا الكيان.

أما أنتم فيا أيّها الإخوة أبناء العراق ، دعوني أستقي من كتاب ربّي مخاطبتكم بما خاطبكم الله تعالى به ، أحسبكم المخاطبون بقول ربكم : ( الّذينَ استجابُوا للهِِ والرَّسولِ مِنْ بَعدِ مَا أصابَهُمُ القَرحُ لِلَّذينَ أحسَنُوا مِنهُمْ وَاتَّقوا أجرٌ عَظيمٌ * الَّذينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَد جَمَعوا لَكُمْ فَاخشَوهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وَقَالوا حَسبُنَا اللهُ

١١١

وَنِعمَ الوَكيلُ ) (١).

أسأل الله أن يكتب لكم في موازين الصابرين ستراً هو في الحقيقة فريد في نوعه ، فقد تكاتفت عليكم العواتي وأجلب إبليس بخيله وركبه يشارك صدام في كيده ومكره ( وَيَمكُرونَ وَيَمكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيرُ المَاكِرينَ ) (٢) ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) (٣) ، فقد تعرّضتم لمكر تزول منه الجبال ، ولذلك فإنّي تواضعاً لربّي وحياءاً أن أكون بينكم وأنا من القاعدين وأنتم من المجاهدين الذين جمع الله لكم كل موازين الجهاد ، فالهجرة والنصرة والصبر والمواظبة .. وأسأل الله أن يكون ختام ذلك كله نصراً للإسلام ورضاً لله وعودةً إلى العراق الحبيب قريباً إن شاء الله ربّ العالمين.

لقد تفضّل الإخوة المنظّمون لهذه الندوة فحددوا لها موضوعاً نزلت على رغبتهم فيه مع استئذانهم أن أحذف من مضمون الموضوع ما يتحدّث عن نفس العبد القريب من حيث الطريق الذي اقتحمه من الظلمات إلى النور.

انتخب المقدّمات فيما عانيناه من الظلمات حتى أكرمنا ربّنا بأن أشرق في قلوبنا نداء التثبيت والتبيين في قوله تعالى : ( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثَّابِتِ في الحَياةِ الدُّنيا وَفي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ

__________________

١ ـ آل عمران : ١٧٢ ـ ١٧٣.

٢ ـ الأنفال : ٣٠.

٣ ـ إبراهيم : ٤٦.

١١٢

الظَّالمينَ وَيَفعَلُ اللهُ مَا يَشاءُ ) (١).

[ ضمن اللجنة للبحث عن الكتب الشيعية التي

صادرتها السعودية ]

لمّا كانت نفسي وروحي تحسّ بغربة ـ من مدرسة القيل والقال وكثرة السؤال وانعدام المنهاج ـ وكانت تحنّ إلى حقّ أصبوا إليه ولا أعرف طريقه ، فقد قدّر لي منذ خمس وعشرين عاماً بأن أكون مستشاراً لوزارة الداخلية في السعودية ، معاون من قبل القضاء المصري.

وقدّر لي أن أعيّن عضواً ضمن لجنة شاركني فيها اثنان من علماء السعودية ، وصدر بتشكيلها ما يسمّونه هناك بأمر سام ، هذه اللجنة كُلِّفت بالإطلاع على بعض الكتب التي ضبطتها الشرطة السعودية مع وفد الحجيج الإيراني القادم عبر البر في عهد الشاه ، فقد كان هناك خط برّي للحجاج من المنطقة الشرقية ، فضبطت سيارة جيب فيها كتب.

وحتى تقول السعودية أنّها صادرت هذه الكتب بعد بحث ، قدّر الله لي كما قدّر تسجيل الشريط الذي أطّلع عليه بعضكم وهو ترتيب يعلم الله سرّه.

قدّر الله لي أن أكون عضواً في اللجنة فلمّا استلمت كتاب

__________________

١ ـ إبراهيم : ٢٧.

١١٣

تشكيل اللجنة من العضو السعودي وهو رئيس اللجنة سلّمني معه في نفس الوقت تقرير مكتوب من نصف صفحة ينسب إلى اللجنة التي لم تبدأ عملها بعد! وتقول أنّها إطّلعت على الكتب وتبيّن أنّها كتب رافضة واجبة المصادرة ، وطلب مني مع تسليمي قرار التشكيل ، التوقيع على التقرير!!

قلت له : يا أخي هذا أمر لا يجب إقراره ، تكلّفني بالإطلاع وتستوقعني على مالم أطلّع عليه ، على أي شيء اطلعت على كتب رافضة؟!

قلت له : أنت مدوّن رأيك لأنّك قرأت ، وأنا لم أقرأ ، ولذا لا أوقّع حتى أقرأ.

فوقّع هو وزميله السعودي ، ورفع إلى وكيل الوزارة طلباً بأن يكتفى بتوقيعهما ويستغنى عن توقيع المستشار القانوني المصري.

ولكن الذي رُفع إليه التقرير كان منصفاً وكان قوياً ، فقد استدعاني وطيّب خاطري وقال لي : أنت حرّ في أن تقرأ الكتب كما تشاء.

فأعاد أعضاء اللّجنة القول بأنّهم لن يقرأوا شيئاً من هذه الكتب! لأنّهم يعلمون ما فيها ، وهذا شأن كل العامة ، يعني كل شيء من غير قراءة ومن غير اطلاع.

وزاد الله من فضله عليّ ، فأجازني وكيل الوزارة عن العمل لمدّة شهرين ـ لأنّ الكتب كانت كثيرة وكان من بينها تحرير الوسيلة للإمام الخميني رحمه‌الله ـ وقد كان رجل مثقف ، فقصد أن البحث في الكتب يستغرق كل هذه الفترة.

١١٤

[ مع حديث الثقلين : ]

فأخذت الكتب وعكفت على قراءتها ، ووجدت نفسي عند كل سطر أقرأه يولد في أعماقي إنسان جديد! وكانت آخر ولادة أن عدت أقرأ حديث الثقلين وأقلّب النظر فيه ، سواءاً فيما هو وارد بشأنه في مذهب أهل البيت أم مرويات العامة.

فأودعني ربّي أن لا أعجل إلى اتخاذ قرار ، وهو قرار مصيري ، إنّه قرار الجنة أو النار!

فقلت : سأعرضه على القرآن ، فإن وجدت حديث الثقلين ثابت الأركان في كتاب الله فقد ( قطعت جهيزة قول كل خطيب ) (١).

عدت إلى كتاب الله ، وكان أول ما استوقفني آية من سورة المائدة : ( قَد جَاءَكُم مِن اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبينٌ * يَهدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتّبَعَ رِضوَانَهُ سُبَلَ السَّلامِ وَيُخرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ بِإذنِهِ وَيَهديهِمْ إلى صِراط مُستَقيم ) (٢).

قلت : قد جاءكم من الله نور وكتاب ، أيكون هذا النور هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والكتاب هو القرآن ، فيصدّق هذا متن حديث الثقلين تصديقاً مطابقاً.

ثمّ سألت الله المزيد من البيان ، فإذا بصدر سورة إبراهيم

__________________

١ ـ من الأمثال العربية المشهورة.

٢ ـ المائدة : ١٥ ـ ١٦.

١١٥

يقطع بأنّ المقصود بالنور هو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول الحق تبارك اسمه : ( الر كِتابٌ أنزَلناهُ إلَيكَ لِتُخرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ بإذنِ رَبِّهِم إلى صِراطِ العَزيزِ الحَميدِ * اللهِ الَّذِي لَهُ مَا في السّماواتِ ومَا في الأَرضِ ) (١).

إذن تحدد على سبيل القطع أنّ الكتاب هو القرآن والنور هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قلت : الآن وضعت قدمي على أوّل الطريق ، طريق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكيف أستكشف الطريق لاستكمال طاقة النور لآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

وسرت مع القرآن فإذا منه أمام هذا التكريم الإلهي الذي لم يحدث لنبي قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهذا التكريم الإلهي أن يخاطب به الله عباده المؤمنين بأمر فيقدم للخطاب بأن ينزل نفسه ويسمي بملائكة كرسه بما يوصي به عباده المؤمنين : ( إنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصلّونَ عَلى النَّبيِّ يَا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا صَلّوا عَليهِ وَسَلِّموا تَسليماً ) (٢) ، وهنا تذكرت ما كان لدي من معلومات عامة حول الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قلت : إنّ العامة يقرّون والحجّة عليهم قائمة فيما يقرّون به : من أنّ صلاتهم على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تظل بتراء ناقصة فيما تقوله

__________________

١ ـ إبراهيم : ١ ـ ٢.

٢ ـ الأحزاب : ٥٦.

١١٦

مروياتهم : لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء ، فقالوا : وما الصلاة البتراء؟ قال : تقولون اللّهم صلّ على محمّد وتمسكون ، بل قولوا : اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد (١).

والأمر ـ أمر الصلاة على محمّد وآل محمّد ـ تجاوز حدود الأمر القولي إلى العبادة العملية في الصلاة ، فأصبحت الصلاة عند العامة لا تصحّ! بينما أهل البيت يصحّ عندهم أن يكتفوا بالصلاة بقولهم : اللّهم صلِّ على محمّد وآل محمّد.

عند العامّة ـ وتلك معجزة عجيبة وإشارة دقيقة ونقطة عميقة ـ لا يصح أن تختتم الصلاة إلاّ بالصيغة التي أجمعت عليها مذاهب العامة الأربعة : « اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمّد وآل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم ».

تذكرت الصيغة وقلت : هلاّ سألنا القرآن بماذا اختص الله به آل ابراهيم حتى يكون من شأن آل محمّد قطعاً؟ بدليل المناسبة التي دعت للصلاة بين آل محمّد وآل إبراهيم ، الذي جعله الله لآلإبراهيم في كتابه ، ونطق الوحي بآيات سورة النساء تقدّم بهذا التقديم المذهل : ( أَمْ يَحسُدونَ النَّاسَ عَلى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إبرَاهيمَ الكِتابَ وَالحِكمَةَ وَآتَيناهُمْ مُلكَاً عَظيماً * فَمِنهُمْ

__________________

١ ـ خصائص الوحي المبين للحصني الدمشقي : ٢٠٧ ، فضل آل البيت للمقريزي : ٤٣ ، وانظر : ينابيع المودة للقندوزي الحنفي : ١ / ٣٧ و ٢ / ٤٣٤.

١١٧

مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنهُمْ مَنْ صَدَّ عَنهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ) (١).

الله تعالى ينصب لآل إبراهيم هذا المقام العظيم ، فهم أهل الكتاب والحكمة ، ماذا يقول العامة؟ إنّ آل محمّد أهل الكتاب والحكمة ، ونحن نقول : لولا علي لهلك فلان ، ونقول : أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن (٢).

فهم يقرّون وأيّ إقرار؟! وقد آمنتم ببعض الكتاب وفعلتم الأُخرى بالمرّة ، أفتؤمنون بأنّه مؤمن بالكتاب والحكمة وتسكتون عن باقي الآية : ( وَآتَينَاهُمْ مُلكَاً عَظِيماً ) (٣).

هذا الوعيد بجهّنم مسجّل في الآية لمن أنكر حقّ آل محمّد في الملك العظيم ، لأنّ قوله تعالى : ( وَآتَيناهُمْ مُلكَاً عَظِيماً فَمِنهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ ) فعبارة « به » عائدة على أقرب ضمير وهو الملك ( فَمِنهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنهُمْ مَنْ صَدَّ عَنهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ) (٤).

__________________

١ ـ النساء : ٥٤ ـ ٥٥.

٢ ـ إشارة إلى مقولات عمر بن الخطاب الذي كان لا يجد جواباً عند مواجهته لمشاكل المسلمين الفقهية والعقائدية والاجتماعية ... فكان يستنجد بالإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام لإنقاذه من هذه المطبات!!

أنظر : فتح الباري : ١٣ / ٢٨٦ ، تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة : ١٥٢ ، كنز العمال للمتقي الهندي : ١٠ / ٣٠٠ ، فيض القدير للمناوي : ٤ / ٤٧٠ ، جواهر المطالب لابن الدمشقي : ١ / ١٩٥ ، ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي : ٢ / ١٧٢ وغيرها.

٣ ـ النساء : ٥٤.

٤ ـ النساء : ٥٥.

١١٨

قلت : هذا لآل إبراهيم نصّاً.

إن قلت : أنّه لآل محمّد من باب أولى بحكم فضل محمّد على كل نبي قبله ، إن قلت : من باب أولى فما عدوت ، لكنّي كرهت أن أقف عند حدود هذا الاستدلال وحده فأكون قد أدخلت القياس في استخلاص حقّ آل محمّد.

قلت : والله إن رائحة القياس تجعلني أبحث عن بديل من بيان ربّي ، وها هو البيان عجيب واضح بيّن ، يقول الحقّ في سورة فاطر مخاطباً عبده ورسوله محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( وَالَّذي أوْحَيْنا إلَيكَ مِنَ الكِتابِ هُوَ الحَقُّ ) إلى قوله تعالى الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ثُمَّ أورَثْنَا الكِتَابَ الَّذينَ اصطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنا ) (١).

الكتاب الذي أُنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يقول ربّنا نحن أورثناه لمن اصطفينا من عبادنا ، فمن يا ربّ الذين اصطفيتهم من عبادك؟

أولا : أورثنا ، وما قال ثم آتينا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ، فأورثنا هذه مقطع وفيصل في القضية ، لأنّه لو قال : آتينا الكتاب فقد يمكن أن يؤتى واحد الكتاب بتحصيله العلمي وبقراءتهوباجتهاده ، فإتيانه هذا يقوم على الميراث وليس في الميراث إجتهاد للوارث ، إذ أنّ الوارث لا يكتب ميراثه ، وإنّما يحدّده الله عزّوجلّ : ( ثُمَّ أورَثْنَا الكِتَابَ الَّذينَ اصْطَفَينَا مِن عِبَادِنَا ).

__________________

١ ـ فاطر : ٣١ ـ ٣٢.

١١٩

العباد الوارثون ، معيّنون من قبل الله ، فما هي علامتهم؟ علامتهم أنّ الصلاة والسلام عليهم وآلهم بفضل ربّنا تعالى : ( قُل الحَمدُ للهِِ وَسَلامٌ عَلى عِبَادِهِ الَّذينَ اصْطَفى ) (١).

إذن ربّنا اختار الصلاة عليهم ، فهم المصطفون ، والمصطفون هم الوارثون ، فقد حدّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ مَن تجب الصلاة عليهم على سبيل الحصر ، حدّده لا في مناسبة ولا مناسبتين ولا ثلاثة ... في أكثر من مناسبة ، يحضرني منها ثلاث مناسبات قرآنية هي : ملازمة الصلاة والمباهلة والمودة :

لمّا نزلت آية المباهلة في سورة آل عمران وأُمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يباهل : ( فَقُلْ تَعَالَوا نَدْعُ أبنَاءَنا وَأبناءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأنفُسَنا وَأنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبتَهِلْ فَنجعَلْ لَعنَةَ اللهِ عَلى الكَاذِبينَ ) (٢) دعى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باقي الخمسة : علي والزهراء وابناهما الحسنان عليهم‌السلام ، وشرع يباهل ، وشهود المباهلة جمع من الصحابة وأهل الحجاز ، أي جمع متواتر.

ثم جاءت آية المودّة : ( قُلْ لاَ أسأَلُكُمْ عَلَيهِ أجرَاً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُربَى ) (٣) فسألوا ـ ويعلم الله أنّ إلحاحهم بالسؤال كل مرة كي تكون الحجة عليهم ، وكان ممكن أن يهديهم الله فيعرفوا دون أن يسألوا ،

__________________

١ ـ النمل : ٥٩.

٢ ـ آل عمران : ٦١.

٣ ـ الشورى : ٢٣.

١٢٠