تاريخ دمشق - ج ٢

تاريخ دمشق - ج ٢

المؤلف:


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: التكوين للتأليف والترجمة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٨٩٤

١
٢

سنة أربع وخمسين وستمائة

... وفيها تواترت الأخبار بوصول عساكر هولاكو إلى أذربيجان قاصدة بلاد الشام ، فوردت قصاد الديوان العزيز على الشيخ نجم الدين الباذرائي ، وهو إذ ذاك بدمشق تأمره أن يتقدم إلى الملك الناصر بمصالحة الملك المعز صاحب مصر ، وأن يثني عزمه عن قصده ، ويتفق معه على قتال التتار ، وأجاب إلى ذلك ، وأعاد العسكر إلى دمشق بعد أن كان قد وصل إلى غزة ، وأقام بها صحبة الملك المعظم توران شاه ابن صلاح الدين يوسف بن أيوب ، فدخل العسكر دمشق في العشر الأول من شوال ، وفي جملتهم الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري ، فأقطعه الملك الناصر مثل ما كان له بمصر من الإقطاع.

وفي شوال توجه كمال الدين عمر بن العديم رسولا من الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه‌الله إلى الخليفة المستعصم بالله على البرية بتقدمة كبيرة ، فوصل بغداد في الثاني والعشرين من ذي القعدة ، وطلب من الخليفة : خلعة لمخدومه ، وكان قد قدم بغداد الأمير شمس الدين سنقر الأقرع ، وهو في الأصل من غلمان الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن العادل ، رسولا من الملك المعز صاحب مصر إلى الخليفة بسبب تعطيل الخلعة ، فتحير الخليفة فيما يفعل ، فأحضر الوزير مؤيد الدين بن العلقمي جمال الدين بن كمال الدين بن العديم وكان سافر مع أبيه ، وناوله سكينة كبيرة من نشم ، وقال له : خذ هذه علامة على أنه لا بد من الخلعة للملك الناصر في وقت آخر.

وفيها عزل القاضي بدر الدين السنجاري عن قضاء الديار المصرية ووليها القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن خلف المعروف بابن بنت الأعز.

ذكر ما تجدد للملك الناصر داود بن الملك المعظم في السنة

كان له وديعة سنية عند الخليفة من جواهر وغيرها ، فتوقف في ردها عليه ، وشرهت نفسه إليها ، واحتج بحجج لا معنى لها ، وجرى في ذلك

٣

خطوب يطول شرحها ، وكان الملك الناصر حج في السنة الخالية ، وعاد إلى العراق بسببها فأنزل بالحلة ، وأجرى عليه راتب لا يليق به ، ولا يناسب محله ، وكان الخليفة قد عمر ببغداد قصرا فلما تم هنته الشعراء ، وهناه الملك الناصر بقصيدة تلطف فيها ، وعدد خدمه وخدم أسلافه فلم يجد ما يكافيه أن سير إليه من حاسبه على جميع ما وصل إليه طول المدة من النفقات ، وما أوصلوه إليه مفرقا ، وما ضيفوه به في تردده وإقامته وظعنه من خبز ولحم وعليق ، وقالوا : قد وصل إليك قيمة وديعتك ، فاكتب خطك بوصوله وأنه لم يبق لك عند الديوان حق ولا مطالبة ، فلم يمكنه إلا الإجابة والمسارعة ، فكتب ولم يصله من ثمنها إلا دون العشر ، فانصرف ساخطا ، واجتمع عليه جماعة من العرب وأرادوا التوصل به إلى النهب والفساد ، فامتنع وأقام عند العرب وبلغ الملك الناصر صلاح الدين يوسف ، فأهمه مقامه عندهم فأحضر الملك الظاهر شاذي أكبر أولاد الملك الناصر داود ، وحلف له اليمين المغلظة أنه لا يتعرض له بأذى ، فوصل شاذي إلى والده ، وعرفه ذلك ، فقدم دمشق ووجد الملك الناصر يوسف قد أوغر صدره عليه ، فنزل بتربة والده الملك المعظم بسفح قاسيون ، وشرط عليه أن لا يركب فرسا ، ثم أذن له في الركوب بشرط أنه لا يدخل البلد ، ولا يركب في موكب فاستمر الحال على ذلك إلى آخر السنة.

فصل

وفيها توفي إبراهيم بن أنبا بن عبد الله الصوابي ، الأمير مجاهد الدين والي دمشق ، وليها بعد الأمير حسام الدين بن أبي علي في سنة أربع وأربعين وستمائة ، وكان في بداية سعادته أمير جاندار الملك الصالح نجم الدين ، وكان أميرا جليلا فاضلا عاقلا رئيسا ، كثير الصمت ، مقتصدا في إنفاقه ، وكان بينه وبين الأمير حسام الدين بن أبي علي مصافاة كثيرة ، ومودة أكيدة ، ولما مرض مرض موته أسند نظر الخانقاه التي عمرها على

٤

شرف الميدان القبلي ظاهر دمشق إلى الأمير حسام الدين المذكور ، فتوقف في قبول ذلك ، ثم قبله على كره منه ، وتوفي مجاهد الدين رحمه‌الله تعالى في أوائل هذه السنة ، وقيل في أواخر سنة ثلاث وخمسين ، ودفن بالخانقاه المذكورة رحمه‌الله وله نظم فمنه :

اشبهك الغصن في خصال

القد واللين والتثني

لكن تجنيك ماحكاه

الغصن يجنى وأنت تجني

وله في صبي اسمه مالك :

ومليح قلت : ما الاسم

حبيبي قال : مالك

قلت : صف لي قدك الزا

هي وصف حسن اعتدالك

قال : كالغصن وكالبد

روما أشبه ذلك

إبراهيم بن أيبك بن عبد الله مظفر الدين ، كان والده الأمير عز الدين أيبك المعظمي صاحب صرخد قد اشتراه الملك المعظم عيسى بن العادل سنة سبع وستمائة ، وترقى عنده حتى جعله أستاذ داره ، فكان عنده في المنزلة العليا يؤثره على أولاده وأهله ، ولم يكن له نظير في حشمته ورياسته ، وكرمه وشجاعته ، وسداد رأيه ، وعلو همته بحيث كان يضاهي الملوك الكبار ، وأقطعه الملك المعظم صرخد وقلعتها وأعمالها ، وقرى كثيرة أمهات غيرها ، ولما توفي الملك المعظم بقي في خدمة ولده الملك الناصر صلاح الدين داود ، فلما حضر الملك الكامل كان الأمير عز الدين المذكور هو المدبر للحرب وأمور الحصار ، فلما حصل الاتفاق على تسليم دمشق ، كان هو المتحدث في ذلك فاشترط للملك الناصر من البلاد والأموال والحواصل فوق ما أرضاه ، ثم اشترط لنفسه صرخد وأعمالها وسائر أملاكه بدمشق وغيرها ، وأن يسامح بما يؤخذ من المكوس على سائر ما يباع ويبتاع له من سائر الأصناف ، ويفسح له في الممنوعات ،

٥

وأن يكون له حبس في دمشق يحبس فيه نوابه من لهم عليه حق ، فأجيب إلى ذلك جميعه بعد توقف ، وبقي على ذلك سائر الأيام : الأشرفية ، والكاملية ، والصالحية ، والعمادية ، وإلى أوائل الدولة الصالحية النجمية ، فحصل له وحشة من الملك الصالح نجم الدين ، وكان مع الخوارزمية لما كسروا على القصب في يوم الجمعة مستهل المحرم سنة أربع وأربعين وستمائة ، فمضى إلى صرخد وامتنع بها ، ثم أخذت منه صرخد في أواخر السنة المذكورة ، وأخذ إلى الديار المصرية فاعتقل بها بدار صواب ، فكان إبراهيم هذا قد مضى إلى الملك الصالح نجم الدين ووشى به ، وقال : أموال أبي قد بعث بها إلى الجبلين وأول ما نزل بها صرخد كانت ثمانين خرجا فأودعها عند الشيخ شمس الدين سبط ابن الجوزي ، وبلغ الأمير عز الدين اجتماعة بالملك الصالح فمرض ووقع إلى الأرض ، وقال : هذا آخر عهدي بالدنيا ، ولم يتكلم بعدها حتى مات ، ودفن ظاهر القاهرة بباب النصر سنة خمس وأربعين وستمائة ، وقيل سنة سبع وأربعين ، ثم نقل بعد ذلك إلى القبة التي بناها برسم دفنه في المدرسة التي أنشأها على شرف الميدان ظاهر دمشق من جهة الشمال ، ووقفها على أصحاب أبي حنيفة رحمة الله عليه ، وهي من أحسن المدارس وأنضرها ، وله مدرسة أخرى بالكشك داخل مدينة دمشق.

وبالجملة فكان من سادات الأمراء ، كثير البر والمعروف ، وإنعامه يشمل الأمراء والأكابر والفقراء والصلحاء ، والعوام رحمه‌الله ورضي عنه ، فلقد كان من محاسن الدهر ، ثم إن ولده هذا سعى بحاشيته مثل البرهان كاتبه ، وابن الموصلي صاحب ديوانه ، والبدر الخادم ومسرور وغيره فأمر الملك الصالح نجم الدين بحملهم إلى مصر ، فأما البرهان فإنه من خوفه يوم أخرج ليتوجه إلى مصر مات بمسجد النارنج ، والباقون حملوا إلى مصر ولم يظهر عليهم مما قيل درهم واحد ، فرجعوا إلى دمشق بعد وفاة الملك الصالح ، وقد لاقوا شدائد وأهوالا وختم للأمير عز الدين بالشهادة رحمه‌الله تعالى.

٦

وذكر الشيخ شمس الدين سبط ابن الجوزي رحمه‌الله ما يدل على أن إبراهيم هذا ولد جاريته ، وأنه تبناه وليس بولده ، وهو أخبر بذلك ، ويدل عليه ما فعله به وبحاشيته والله أعلم بذلك.

بشارة بن عبد الله أبو البدر الأرمني الكاتب مولى شبل الدولة المعظمي ، سمع من الشيخ تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وغيره ، وكان يكتب خطا حسنا ، وتوفي ليلة النصف من شهر رمضان بدمشق ، ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه‌الله وذريته يدعون النظر على المدرسة والخانقاه والتربة المنسوب ذلك إلى شبل الدولة رحمه‌الله تعالى.

طغريل بن عبد الله الأمير سيف الدين أستاذ دار الملك المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة ، كان من أعيان الأمراء ، شجاعا ، حسن التدبير والسياسة للأمور ، ولما توفي الملك المظفر قام بتدبير أمور ولده الملك المنصور ناصر الدين محمد بمراجعة والدته غازية خاتون بنت الملك الكامل ناصر الدين ابن أبي المعالي محمد بن الملك العادل ، ومشاورتها في الأمور وأخذ رأي الصاحب شرف الدين عبد العزيز محمد ابن شيخ الشيوخ ، ولم يزل على ذلك ، وهو أتابكه إلى أن توفي في ثالث شوال رحمه‌الله ...

يعقوب بن أبي بكر محمد بن أيوب بن شاذي أبو اسحاق ، الملك المعز محيي الدين بن الملك العادل سيف الدين ، وكان شقيق الملك المظفر شهاب الدين غازي ، وله الحرمة العظيمة في الدول وكان بخلاط لما أخذها خوارزم شاه من الملك الأشرف رحمه‌الله تعالى ، فأخذه أسيرا ، ثم أطلقه بعد ذلك ، وأجاز له جماعة من الحفاظ منهم : أبو الحسن المؤيد بن محمد الطوسي وغيره ، وحدث وتوفي بدمشق في سادس عشر ذي القعدة ، ودفن من يومه بقبر والده الملك العادل بمدينة دمشق رحمه‌الله تعالى.

قال سيف الدين مسعود بن حموية : أنشدني الملك المظفر نجم الدين يعقوب المذكور سنة تسع وعشرين وستمائة :

٧

إذا ما جرى من جفن غيري أدمع

جرت من جفوني أبحر وسيول

ووالله ما ضاعت دموعي فيكم

ولو أن روحي في الدموع تسيل

إتفق أهل التاريخ على أن نجم الدين أيوب رحمه‌الله من دوين ، وهي في آخر عمل أذربيجان من جهة أرّان ، وبلاد الكرج وأنهم أكراد روادية ، والروادية بطن من الهذبانية ، وهي قبيلة كبيرة ، وقيل إن على باب دوين قرية يقال لها أجدا ، وجميع أهلها أكراد رواديه ، ومولد نجم الدين بها ، وكان شاذي أخذ ولديه نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه وخرج بهما إلى بغداد ، ومن هناك نزلوا تكريت ، ومات شاذي بتكريت ، وعلى قبره قبة داخل البلد.

وقال قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه‌الله : لقد تتبعت نسبهم كثيرا فلم أجد أحدا ذكر بعد شاذي أبا آخر ، حتى أني وقفت على كتب كثيرة بأوقاف وأملاك باسم شيركوه ، وأيوب فلم أر فيها سوى شيركوه بن شاذي ، وأيوب بن شاذي لا غير ، ورأيت مدرجا رتبه الحسن بن غريب بن عمران الحوشي ، وقد سمعه عليه الملك المعظم عيسى وولده الملك الناصر داود رحمهما‌الله تعالى ، وهو يتضمن أن أيوب بن شاذي بن مروان ابن أبي علي بن عنترة بن الحسن بن علي بن أحمد بن أبي علي بن عبد العزيز بن هدبة بن الحصين بن الحارث بن سنان بن عمرو بن مرة بن عوف بن أسامة بن بيهس بن الحارث ـ صاحب الحمالة ـ بن عوف بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن إلياس ابن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، ثم رفع في النسب إلى آدم عليه‌السلام ، ثم ذكر أن علي بن أحمد بن أبي علي بن عبد العزيز يقال إنه ممدوح المتنبي ويعرف بالخراساني ، وفيه يقول من قصيدة :

شرق الجو بالغبار إذا سا

ر علي بن أحمد القمقام

٨

وأما حارثة بن عوف بن أبي حارثة ، صاحب الحمالة ، فهو الذي حمل الدماء بين عبس وذبيان وشاركه في الحمالة خارجة بن سنان أخو هرم بن سنان ، وفيهما يقول زهير بن أبي سلمى المزني قصائد منها قوله :

على مكثريهم حق من يعتريهم

وعند المقلين السماحة والبذل

وهل ينبت الخطي إلّا وشيجه

وتغرس إلا في منابتها النخل

قلت : وقد كان المعز فتح الدين إسماعيل بن سيف الإسلام طغتكين بن أيوب بن شاذي ملك اليمن ، ادعى نسبا في بني أمية ، وادعى الخلافة ، وبلغ ذلك عمه الملك العادل رحمه‌الله ، فأنكر ذلك ، وقال : ليس لهذا أصل.

وسمعت الملك الأمجد تقي الدين عباس بن العادل رحمه‌الله ، وقد جرى ذكر نسبهم ، وقول بعض الناس إنهم من بني أمية ينكر أن يكون لهم نسب في بني أمية ، وقال ما معناه لو كان عمي صلاح الدين رحمه‌الله قرشيا لولي الخلافة فإن شروطها اجتمعت فيه ما عدا النسب ، وكان نجم الدين أيوب رحمه‌الله قد جعله عماد الدين زنكي دوادار ببعلبك لما فتحها ، وفي قلعة بعلبك ولد له الملك العادل سيف الدين أبو بكر رحمه‌الله والد صاحب هذه الترجمة ، والله أعلم.

يوسف بن قز أوغلي بن عبد الله ، أبو المظفر شمس الدين البغدادي الواعظ المشهور ، سبط أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي رحمه‌الله ، كان والده حسام الدين قز أوغلي من مماليك الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة رحمه‌الله ، وكان عنده بمنزلة الولد ، فأعتقه وخطب له ابنة الحافظ جمال الدين ، وكانت قد تأيمت بوفاة زوجها ، فلم يمكن الشيخ جمال الدين إلا إجابة الوزير إلى ذلك ، فزوجها منه فأولدها شمس الدين المذكور ، فلما ترعرع اجتذبه جده إليه وأشغله ، وتفقه وأسمعه الكثير عليه وعلى غيره ، وكان أوحد زمانه في الوعظ ، حسن الإيراد ترق لرؤيته

٩

القلوب ، وتذرف لسماع كلامه العيون ، وتفرّد بهذا الفن وحصل له فيه القبول التام ، وفاق فيه من عاصره ، وكثيرا ممن تقدمه ، حتى أنه كان يتكلم في المجلس الكلمات اليسيرة المعدودة ، أو ينشد البيت الواحد من الشعر ، فيحصل لأهل المجلس من الخشوع والاضطراب والبكاء مالا مزيد عليه ، فيقتصر على ذلك القدر اليسير ، ويترك فكانت مجالسه نزهة القلوب والأبصار ، يحضرها الصلحاء والعلماء والملوك والأمراء والوزراء ، وغيرهم ولا يخلو المجلس من جماعة يتوبون ويرجعون إلى الله تعالى ، وفي كثير من المجالس يحضر من يسلم من أهل الذمة ، فانتفع بحضور مجالسه خلق كثير ، وكان الناس يبيتون ليلة المجلس في جامع دمشق ، ويتسابقون على مواضع يجلسون فيها لكثرة من يحضر مجالسه ، وكان يجري فيها من الطرف ، والوقائع المستحسنة ، والملح الغريبة ما لا يجري في مجالس غيره ممن عاصره ، وتقدم عصره أيضا ، وكان له الحرمة الوافرة ، والوجاهة العظيمة عند الملوك وغيرهم من الأمراء والأكابر ، ولا ينقطعون عن التردد إليه ، وهو يعاملهم بالفراغ منهم ، ومما في أيديهم ، وينكر عليهم فيما يبدو منهم من الأمور التي يتعين فيها الإنكار ، وهم يتطفلون عليه وكان في أول أمره حنبلي المذهب ، فلما تكرر اجتماعه بالملك المعظم عيسى ابن الملك العادل رحمهما‌الله اجتذبه إليه ، ونقله إلى مذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه ، وكان الملك المعظم شديد التغالي في مذهب أبي حنيفة فغاظ ذلك الشيخ شمس الدين عند كثير من الناس وانتقدوه عليه.

حكي لي أن بعض الفقراء أرباب الأحوال قال له وهو على المنبر : إذا كان الرجل كبيرا ما يرجع عنه إلّا لعيب ظهر له فيه ، وأي شيء ظهر لك في الإمام أحمد حتى رجعت عنه؟ فقال له : اسكت ، فقال : أما أنا ، فقد سكت ، وأما أنت ، فتكلم فرام الكلام فلم يستطعه ولا قدر عليه ، فنزل عن المنبر ، ومع ذلك كان يعظم الإمام أحمد رحمة الله عليه ، ويبالغ

١٠

في المغالاة فيه وتوفيته بعض ما يستحق ، وعندي أنه لم ينتقل عن مذهبه إلّا في الصورة الظاهرة والله أعلم.

ومع هذا فكان له القبول التام من الخاص والعام من أهل الدنيا وأهل الآخرة ، وكان لطيف الشمائل ، ظريف الحركات ، حسن المعاملة لسائر الناس ، محبوبا إليهم معظما في صدورهم ، وكان عنده فضيلة تامة ومشاركة في العلوم جمة ، ولو لم يكن من ذلك إلا التاريخ الذي ألفه وسماه بمرآة الزمان ، وهو بخطه في سبعة وثلاثين مجلدا ، جمع فيه أشياء مليحة جدا ، وأودعه كثيرا من الأحاديث الشريفة النبوية صلوات الله وسلامه على قائلها ، وجملة من أخبار الصالحين ، وقطعة كبيرة من الأشعار المستحسنة وسلك في جمعه مسلكا غريبا ، وهو من أول الزمان إلى أوائل سنة أربع وخمسين وستمائة ، هذه السنة التي توفي فيها إلى رحمة الله تعالى ، وكنت اختصرته كما ذكرت في خطبة هذا المذيل ، ثم خطر لي أن أذيل عليه ، فشرعت في تعليق الحوادث والوفيات حسب ما نمي إلى علمي ، لاستقبال هذه السنة ، وبالله التوفيق والله المستعان.

وللشيخ شمس الدين المذكور رحمه‌الله تصانيف أخر مفيدة ، في أنواع من علوم شتى ، ومولده سنة إحدى وثمانين وخمسمائة تقريبا ، وذكر قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه‌الله عنه أنه قال : ذكرت والدتي أن مولدي في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة ، وقال لي خالي محيي الدين يوسف : أنه في سنة احدى وثمانين ، قال : وكان مولدي في رجب ، سمع ببغداد من جده الإمام أبي الفرج وعبد المنعم بن عبد الوهاب بن كليب ، وأبي محمد عبد الله بن أحمد بن أبي المجد ، وأبي حفص عمر بن محمد بن طبرزد ، والحافظ أبي محمد بن عبد العزيز بن محمود بن الأخضر ، وغيرهم ، وبالموصل من أبي طاهر أحمد ، وأبي القاسم عبد المحسن ابني عبد الله الطوسي وغيرهما ، وبدمشق من شيخ الإسلام موفق الدين أبي محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة

١١

المقدسي ، ومن العلامة أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وغيرهما ، وسمع بغير هذه البلاد من جماعة من المشايخ ، وحدث بدمشق ، وبالديار المصرية وغيرها ، وكان أحد العلماء المشهورين ، محمود الفضائل ، وتوفي ليلة الثلاثاء ثلث الليل العشر من ذي الحجة أو الحادي والعشرين منه بمنزله بجبل الصالحية ، ظاهر دمشق ، ودفن هناك ، وحضر جنازته الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه‌الله سلطان الشام ، إذ ذاك وسائر الأمراء والأكابر ، وغيرهم من الناس ، ودرس بالمدرسة الشبلية مدة وبالمدرسة البدرية الحسنية ، وبالمدرسة المعزية التي على شرف الميدان من جهة الشمال ، وكان إماما عالما فاضلا منقطعا عن الناس ، والتردد إليهم ، متواضعا لين الكلمة لزم في آخر عمره ركوب الحمار من منزله بالجبل إلى مدرسته ، وإلى غيرها مقتصدا في لباسه ، مواظبا على المطالعة والاشتغال والتصنيف ، منصفا لأهل العلم والفضل مباينا لأهل الزيغ والجهل ، ويأتي الملوك وأرباب الدول إلى بابه زائرين وقاصدين ومتأنسين بمحادثته ، والإقتباس من فوائده ، وعاش طول عمره في جاه طويل عريض ، وعيش رقيق الحواشي ، جعل الله ذلك مواصلا بنعيم الآخرة وسعادتها السرمدية ، وولده عز الدين كان عنده فضيلة ووعظ بعده ، فلم يكن يدانيه في ذلك ، وبقي سنيات يسيرة ثم توفي إلى رحمة الله تعالى ، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى ، وخلف ولدا صغيرا فلم يكن له من يربيه ، ويقوم بأمره ، فنشأ على غير طريقة سلفه ، وخدم بعض ذرية الملك المعظم عيسى رحمه‌الله كاتبا وغيرهم ، وهو إلى الآن على ذلك.

أبو الحسن يوسف بن أبي الفوارس بن موسك ، الأمير سيف الدين القيمري ، واقف المارستان بجبل الصالحية ومدفنه في القبة المقابلة له من جهة الشمال ، بينهما الطريق ، كان أكبر الأمراء في آخر عمره وأعظمهم مكانة ، وأعلاهم همة ، وجميع أمراء الأكراد من القيمرية وغيرهم يتأدبون

١٢

معه ، ويقفون في خدمته وهم بين يديه كالأتباع ، مطاعا فيهم ، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى في ليلة الإثنين ثالث شعبان من هذه السنة ، أعني سنة أربع وخمسين وستمائة رحمه‌الله تعالى ، وكان كثير البر والمعروف والصدقة ، ولو لم يكن له من ذلك إلا المارستان الذي ضاهى به مارستان نور الدين رحمه‌الله تعالى لكفاه.

حكى لي شجاع الدين محمد بن شهري رحمه‌الله ، ما معناه أن الأمير سيف الدين المذكور رحمه‌الله كان تزوج ابنة الأمير عز الدين بن المحلي رحمه‌الله على صداق كبير ، وجهزت بجهاز كثير ، واستصحبها معه إلى الديار المصرية ، فتوفيت هناك من غير ولد ، فلما ملك الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد رحمهما‌الله تعالى دمشق والشام ، حضر الأمير سيف الدين من الديار المصرية إلى خدمته ، وأخذ قماش زوجته المتوفاة وجهازها وما لها من الفضيات والمصاغ ، وغير ذلك ، وحمله على عشرين بغلا ووزن باقي صداقها ومائتي ألف درهم وجعلها في صناديق ، وحملها على البغال وسير الجميع إلى الأمير نور الدين علي بن المحلي بحكم أنه وارثها مع زوجها ، فلما وصل ذلك إلى الأمير نور الدين أنكره غاية الإنكار ورده وقال لرسوله : الأكراد ما جرت عادتهم يأخذون صداقا ولا ميراثا ، فلما عاد إلى الأمير سيف الدين قال : هذا شيء خرجت عنه وما يعود إلى ملكي ، وصرفه جميعه في بناء المارستان ، وأوقافه وتصدق به.

سنة خمس وخمسين وستمائة

استهلت هذه السنة والخليفة والملوك على ما كانوا عليه في السنة الخالية ، وفي شهر رمضان منها توجه الملك العزيز بن الملك الناصر إلى هولاكو بهدية سنيّة جليلة ، وكان في خدمته الأمير سيف الدين إبراهيم الجاكي والحافظي وغيرهما.

١٣

وفيها اشتهر أن الملك المعز صاحب مصر قد عزم على أن يتزوج ابنة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ، وأنه قد تردد بينهما الرسائل في ذلك ، وبلغ زوجته شجر الدر ، وكانت جارية الملك الصالح نجم الدين أيوب وأم ولده خليل ، فعظم ذلك عليها ، وعزمت على الفتك به ، وإقامة غيره في الملك ، فطلبت صفي الدين إبراهيم بن مرزوق ، وكان مقيما بالديار المصرية ، وله تقدم في الدول ، ووجاهة عند الملوك فاستشارته في ذلك ، ووعدته أن يكون الوزير الحاكم في الدولة ، فأنكر عليها ذلك ونهاها عنه ، فلم تصغ إلى قوله ، وطلبت مملوكها الطواشي محسن الجوجري الصالحي وعرفته ما عزمت عليه ، ووعدته الوعد الجميل إن قتله ، واستدعت جماعة من الخدام الصالحية وأطلعتهم على هذا الأمر ، واتفقت معهم عليه ، فلما كان يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول ، لعب الملك المعز بالكرة في ميدان اللوق إلى آخر النهار ، ثم صعد إلى قلعة الجبل والأمراء في خدمته ، ووزيره شرف الدين الفائزي ، والقاضي بدر الدين السنجاري ، فلما دخل القلعة وفارقه الموكب ، وصار إلى داره أتى إلى حمام الدار ليغتسل فيه ، فلما خلع ثيابه وثب عليه سنجر مملوك الجوجري والخدام فرموه إلى الأرض ، وخنقوه ، وطلبت شجر الدر الصفي بن مرزوق على لسان الملك المعز ، فركب حماره وبادر ، وكانت عادته يركب الحمار في الموكب السلطاني وغيره ، مع عظم مكانته وكثرة أمواله ، ودخل القلعة من باب سر فتح له ، وأدخل الدار فرأى شجر الدر جالسة والملك المعز بين يديها ميتا ، فأخبرته الخبر ، فعظم عليه وخاف خوفا شديدا ، واستشارته فيما تفعل ، فقال : ما أعرف ما أقول ، وقد وقعت في أمر عظيم ، مالك منه مخلص ، وكان الأمير جمال الدين إيدغدي العزيزي معتقلا في بعض الآدر مكرما ، فأحضرته في تلك الليلة وطلبت منه أن يقوم بالأمر ، فامتنع وسيرت في تلك الليلة اصبع الملك المعز ، وخاتمه إلى الأمير عز الدين الحلبي الكبير ، وطلبت منه أن يقوم بالأمر ، فلم يجسر على ذلك ، وانطوت الأخبار عن الناس تلك

١٤

الليلة ، ولما كان سحر يوم الأربعاء الرابع والعشرين منه ، ركب الأمراء والأكابر إلى القلعة على عادتهم ، وليس عندهم خبر مما جرى ، ولم يركب الفائزي في ذلك اليوم ، وتحيرت شجر الدر فيما تفعل ، فأرسلت إلى الملك المنصور نور الدين علي بن الملك المعز تقول له عن أبيه أنه ينزل إلى البحر في جمع من الأمراء لإصلاح الشواني التي تجهزت ، للمضي إلى دمياط ، ففعل وقصدت بذلك أن يقل من على الباب لتتمكن مما تريد ، فلم يتم مرادها.

ولما تعالى النهار شاع الخبر بقتل الملك المعز ، واضطربت الناس في البلد واختلفت أقاويلهم ، ولم يقفوا على حقيقة الأمر ، وركب العسكر إلى جهة القلعة وأحدقوا بها ، ودخلها مماليك الملك المعز والأمير بهاء الدين بغدي الأشرفي مقدم الحلقة ، وطمع الأمير عز الدين الحلبي في التقدم ، وساعده على ذلك جماعة من الأمراء الصالحية ، فلم يتم لهم مرادهم ، ثم استحضر الذين في القلعة الوزير شرف الدين الفائزي ، واتفقوا على تمليك الملك المنصور نور الدين علي بن الملك المعز ، وعمره يومئذ نحو خمس عشرة سنة ، فرتبوه في الملك ، ونودي في البلد بشعاره ، وسكن الناس ، وتفرقت الأمراء الصالحية إلى دورهم ، ولما كان يوم الخميس خامس وعشرين الشهر ، وقع في البلد خبط عظيم ، وركب العسكر إلى القلعة ، واتفق رأي الذين في القلعة على نصب الأمير علم الدين سنجر الحلبي المعروف بالمشد أتابكا للملك المنصور ، واستحلفوا العسكر له ، وحلف له الأمراء الصالجية على كره من أكثرهم ، وامتنع الأمير عز الدين الحلبي ، ثم خاف على نفسه فحلف وانتظمت الأمور.

وفي يوم الجمعة سادس وعشرين منه خطب للملك المنصور بمصر والقاهرة ، وأما شجر الدر فامتنعت بدار السلطنة هي والذين قتلوا الملك المعز ، وطلب مماليك المعز هجوم الدار عليهم فحالت الأمراء الصالحية بينهم وبين ذلك ، فأمنها مماليك المعز ، وحلفوا لها أنهم

١٥

لا يتعرضون لها بمساءة ، ولما كان يوم الإثنين التاسع والعشرين منه خرجت من دار السلطنة إلى البرج الأحمر ، وعندها بعض جواريها ، وقبض على الخدام واقتسمت الجواري ، فكان نصر العزيزي الصالحي هو أحد الخدام القتلة قد هرب يوم ظهور الواقعة إلى الشام ، واحتيط على الدار ، وجميع ما فيها وكان يوم ظهور الواقعة أحضر الصفي بن مرزوق من الدار وسئل عن حضوره عند شجر الدر فعرفهم صورة الحال فصدقوه وأطلقوه ، وحضر الأمير جمال الدين إيدغدي العزيزي ، وكان الناس قد قطعوا بموته فأمر باعتقاله ، ثم نقل إلى الإسكندرية فاعتقل بها ، وفي يوم الإثنين المذكور صلب الخدام الذين اتفقوا على قتل المعز ، سنجر غلام الجوجري ثم ظفر به وصلب إلى جانب أستاذه محسن فمات سنجر وقت العصر من هذا اليوم على الخشبة ، وتأخر موت الباقين إلى تمام يومين.

وفي يوم الخميس ثاني ربيع الآخر ركب ودخل القاهرة من باب النصر ، وترجل جميع الأمراء خلا الأتابك علم الدين سنجر الحلبي ، وصعد القلعة ومد السماط للأمراء ، وتقرر في الملك ، ووزر له وزير أبيه شرف الدين الفائزي ، وفي يوم الجمعة ثالث ربيع الآخر خطب للملك المنصور وبعده لأتابكه علم الدين سنجر الحلبي.

وفي مستهل ربيع الآخر فوض القضاء بالقاهرة وأعمالها إلى القاضي بدر الدين السنجاري ، وعزل عن ذلك تاج الدين ابن بنت الأغر ، وأبقي عليه قضاء مصر وعملها.

وفي يوم الجمعة عاشر الشهر قبض الأمير سيف الدين قطز ، وعلم الدين سنجر الغتمي ، وسيف الدين بهادر ، وغيرهم من المعزية على الأتابك علم الدين سنجر الحلبي وأنزلوه إلى الجب بالقلعة لتخيلهم منه الاستيلاء على الملك ، فاضطرب الأمراء الصالحية ، وركب العسكر وخيف على البلد النهب ، ثم خاف الصالحية على أنفسهم فهرب أكثرهم

١٦

إلى جهة الشام وتقنطر بالأمير عز الدين أيبك الحلبي الكبير فرسه ، وكذلك خاص ترك الصغير فهلكا خارج القاهرة ، وأدخلا ميتين ، واتبع العسكر المنهزمين ، فقبض على أكثرهم وحملوا إلى القلعة ، واعتقلوا بها وقبض على الأمير شرف الدين الفائزي ، واعتقل وفوض أمر الوزارة إلى القاضي بدر الدين يوسف السنجاري مضافا إلى قضاء القاهرة وما معها ، واحتيط على موجود الفائزي ، وكان له مال كثير ، ولكن كان أكثره مودعا ، وأخذ خطه الأمير سيف الدين قطز بمائة ألف دينار ، واحتيط على بهاء الدين علي بن محمد بن سليم بن حنّا وزير شجر الدر ، وأخذ خطه بستين ألف دينار.

وفي يوم الأربعاء منتصف الشهر المذكور رتب الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب أتابكا للملك المنصور.

وفي رجب رفعت يد القاضي بدر الدين من الوزارة ، وأضيف إليه قضاء مصر وأعمالها فكمل له قضاء الاقليم بكماله ، وولي القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز الوزارة.

وفي هذه السنة وقعت وحشة في نفس الملك الناصر صلاح الدين يوسف من البحرية ، وأنهي إليه أنهم عزموا على اغتياله والتغلب على الملك ، فتقدم إليهم بالانتزاح عن دمشق ففارقوها على صورة العصيان والمشاققة ، ونزلوا غزة ، ثم انتموا إلى الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر ابن الملك الكامل صاحب الكرك ، وفي شعبان كثرت الأراجيف بالقاهرة بأن الأمراء والأجناد اتفقوا على إزالة أمر مماليك الملك المعز عن البلد ، وأن الملك المنصور تغير على الأمير سيف الدين قطز ، واجتمع أكثر الأمراء في دار الأمير بهاء الدين بغدي مقدم الحلقة ، ثم رضي الملك المنصور على قطز ، وخلع عليه وطيب قلبه.

١٧

وفي رابع شهر رمضان قبضوا على الأمير بهاء الدين بغدي ، وبدر الدين بلغان بعد أن جرح بلغان وانهزم من كان معهما وحملا إلى القلعة ودخل المعزية القاهرة فقبضوا على الأمير عز الدين أيبك الأسمر ، وأرزن الرومي ، وسابق الدين بوزبا الصيرفي وغيرهم من الأشرفية ، ونهبت دورهم ، ووقع في البلد اضطراب عظيم ، ثم نودي بالأمان لمن دخل في الطاعة وسكن الناس.

وفي خامس شهر رمضان ركب الملك المنصور وفي خدمته الأمير سيف الدين قطز وباقي مماليك أبيه ، وشق القاهرة ، وفي عيد الفطر نزل الملك المنصور وصلى في المصلى ، ثم ركب إلى القلعة ومد السماط ووردت الأخبار إلى الديار المصرية بمفارقة البحرية للملك الناصر صلاح الدين يوسف ، فظن المصريون أن ذلك خديعة من الملك الناصر وأنه قد عزم على قصد البلاد ، فأخذوا في التحرز.

وفي ثالث شوال خرج من القاهرة جماعة أمراء مقدمهم الدمياطي وخرج غد هذا اليوم آخرون ونزلت العساكر بالعباسة وما حولها ، ثم وردت الأخبار بأن عساكر الملك الناصر وصلت نابلس لحرب البحرية ، وكانوا نازلين غزة ، ثم ورد الخبر أن البحرية كبسوا عساكر الملك الناصر ، وقتلوا منهم جماعة ليلا ، ثم ورد الخبر أن عسكر الملك الناصر كسروا البحرية ، وأن البحرية انحازوا إلى ناحية زغر من الغور.

وفي الثالث عشر منه دخل جماعة من البحرية إلى القاهرة منهم : الأمير عز الدين أيبك الأفرم ، فتلقوا بالإكرام ، وأفرج عن أملاك الأفرم ونزل بداره بمصر ، وترادفت الأخبار بالديار المصرية أن البحرية رحلوا من زغر طالبين بعض الجهات ، فاتضح من أمرهم أنهم خرجوا من دمشق على حمية ، وأنهم قصدوا القدس الشريف ، وهو مقطع الأمير سيف الدين أيبك من جهة الملك الناصر ، وطلبوا منه أن يكون معهم ، فامتنع فاعتقلوه وخطبوا للملك المغيث ، وجاءوا إلى غزة ، وقبضوا

١٨

واليها وأخذوا حواصل الملك الناصر بغزة والقدس وغيرهما ، وقصدتهم عساكر الملك الناصر فجرى ما تقدم ذكره من كبسهم للعسكر الناصري ، ثم انتصر عليهم العسكر الناصري فانهزموا إلى البقاء ، ثم إلى زغر ، ودخلوا في طاعة الملك المغيث ، وأنفق فيهم جملة كثيرة من المال ، وطمعوا في أخذ مصر له وأنزل إليهم بعض عسكره والطواشي بدر الدين الصوابي.

وفي الثاني عشر ذي القعدة وردت الأخبار إلى الديار المصرية بأن البحرية عازمون على قصد البلاد ، فخرج الأمير علم الدين الغتمي المعزي وبعض العسكر ، وفي غد هذا اليوم وقع الانزعاج الشديد ، وخرجت الأمراء والحلقة ، واجتمع العسكر المصري بالصالحية ، فلما كان سحر ليلة السبت منتصف ذي القعدة وصلت البحرية ومن معهم من عسكر المغيث ، ووقعت الحرب بين الفريقين واشتد القتال ، وجرح جماعة من الناس ، والمصريون مع ذلك يزدادون كثرة ، وطلعت الشمس ، ورأت البحرية كثرة المصريين فانهزموا وأستؤسر منهم سيف الدين بلبان الرشيدي وبه جراحات ، وهرب الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري ، وبدر الدين الصوابي إلى الكرك ، وبعض البحرية دخل في العسكر المصري ، ودخل العسكر إلى القاهرة وزين البلد لهذه الوقعة.

وفيها وصل الشيخ نجم الدين محمد الباذرائي رسول الخليفة المستعصم بالله إلى دمشق المحروسة ، وأفاض الخلعة المكملة على الملك الناصر صلاح الدين يوسف ، والفرس والطوق الذهب ، ومعه التقليد بالسلطنة فركب بالخلعة الإمامية ، وكان يوما مشهودا.

ذكر ما تجدد للملك الناصر داود

كنا ذكرنا وصوله إلى دمشق ، وإقامته بتربة والده ، فلما رأى إعراض الملك الناصر صلاح الدين يوسف عنه ، وبلغه أنه ربما يقبض عليه

١٩

مضى إلى الشيخ نجم الدين الباذرائي فاستجار به ، وسأله أن يتوجه صحبته إلى العراق ، فأجابه فتوجه ومعه جماعة من أولاده ، فلما وصلوا حلبا ، وكان بها الملك العزيز غياث الدين محمد بن الملك الناصر يوسف ، وكان أبوه قد أرسله إلى ملك التتر ، فورد إلى الملك العزيز ومن معه بكتاب الملك الناصر يوسف بأن تشيروا على الشيخ نجم الدين الباذرائي أن لا يستصحب الملك الناصر داود معه ، وأنهم يتحيلون في انقطاعه عنه ، ويقبضون عليه ، فلما خرج الشيخ نجم الدين متوجها إلى العراق ، ومعه الملك الناصر داود ، خرج الملك العزيز وجماعة من أعيان الدولة لوداعه ، وتقدم إليه بعضهم وحدثه في ذلك وأحس الناصر داود بالقضية ، فتقدم إلى الشيخ نجم الدين ، وأخذ بذيله وقال : معاذ الله أن يمنعني مولانا من قصد الأبواب الشريفة والاستظلال بظلها ، وأنا معي كتاب السلطان الملك الناصر لما كنت المرة الأولى بالعراق أنه يقرر لي كل سنة مائة ألف درهم ، ويأذن لي في التوجه إلى حيث شئت ، ولم يصل إليّ منه ذلك ، وأخرج خط الملك الناصر يوسف فقال الباذرائي : هذا قد استجار بالديوان ، وطلب التوجه إلى الخدمة الشريفة ، فما يسعني منعه ، ومعه خط الملك الناصر أنه لا يمنع من ذلك فرجعت الجماعة إلى حلب وسافر الملك الناصر داود ، فلما وصلوا قرقيسيا خاف الشيخ نجم الدين أن يصل به إلى العراق من غير تقدم ، فأشار عليه أن يقيم بقرقيسيا حتى يأخذ له دستورا بالوصول ، فأقام بها وأبطأ عليه الأذن ، فعدا الفرات إلى جهة الشام متوجها إلى تيه بني إسرائيل ، واجتمع عليه جماعة من العرب ، ثم كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى ...

فصل

وفيها توفي أيبك بن عبد الله الصالحي الملك المعز عز الدين ، المعروف بالتركماني ، كان في بداية أمره مملوكا للملك الصالح نجم الدين أيوب ، اشتراه في حياة أبيه الملك الكامل ، وتنقلت به الأحوال عنده ، ولازمه في

٢٠