كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
ISBN: 978-964-470-562-5
الصفحات: ٤١٩

الثامن : [أقسام تعلّق النهي بالعبادة]

إنّ متعلّق النهي إمّا أن يكون نفس العبادة (١) ، أو جزأها (٢) ، أو شرطها الخارج عنها (٣) ، أو وصفها الملازم لها كالجهر والإخفات للقراءة (٤) ، أو وصفها الغير الملازم كالغصبيّة لأكوان الصلاة المنفكّة عنها.

لا ريب في دخول القسم الأوّل في محلّ النزاع. وكذا القسم الثاني ، بلحاظ أنّ جزء العبادة عبادة (٥) ، إلّا أنّ بطلان الجزء لا يوجب بطلانها (٦) إلّا مع الاقتصار

__________________

(١) كالنهي عن الصلاة في أيّام الحيض.

(٢) كالنهي عن قراءة العزائم في الصلاة.

(٣) كالنهي عن الطهارة.

(٤) فإنّ كلّ واحد منهما لا يكاد ينفكّ عن القراءة وإن كانت هي تنفكّ عن أحدهما ، فالنهي عن أيّهما يكون مساوقا للنهي عنها ، كما لا يخفى. منه [أعلى الله مقامه].

(٥) فالنهي عنه نهي عن العبادة.

(٦) بل إنّما يقتضي بطلان ذلك الجزء.

وأورد عليه المحقّق النائينيّ ، فذهب إلى أنّ النهي عن الجزء يدلّ على فساد العبادة. ومحصّل كلامه : أنّ الجزء المنهي عنه إمّا أن يؤخذ فيه العدد الخاصّ كالسورة بناء على حرمة القران ، وإمّا أن لا يؤخذ فيه عدد خاصّ.

أمّا الأوّل : فالنهي المتعلّق به يقتضي فساد العبادة لا محالة ، لأنّه إن لم يأت غيره كانت العبادة باطلة ، لعدم الإتيان بجزئها ، وإن لم يقتصر عليه وأتى بغيره تبطل العبادة ، للزوم القران.

وأمّا الثاني : فالنهي المتعلّق به يقتضي فساد العبادة لوجهين :

الأوّل : أنّ دليل الحرمة يخصّص دليل جواز القران بغير الفرد المنهي عنه ، فيحرم القران لا محالة.

الثاني : أنّ تحريم الجزء يستلزم أخذ العبادة بالإضافة إليه بشرط لا. ويترتّب عليه ثلاثة امور توجب بطلان العبادة المشتملة على أحدها :

١ ـ كون الجزء مانعا عن صحّة العبادة ، إذ لا يراد بالمانع سوى ما أخذ عدمه فيها ، فمع وجوده تبطل العبادة.

٢ ـ كونه زيادة في الفريضة ، وهي مبطلة.

٣ ـ خروجه عن أدلّة جواز مطلق التكلّم في العبادة ، لاختصاصها بغير الفرد المحرّم ، فيندرج الفرد المحرّم في عموم أدلّة مبطليّة التكلّم. فوائد الاصول ٢ : ٤٦٥ ـ ٤٦٦.

وأجاب عنه السيّد الخوئيّ بأنّ حرمة الجزء في نفسها لا توجب اعتبار عدم القران في ـ

٨١

عليه (١) ، لا مع الإتيان بغيره ممّا لا نهي عنه ، إلّا أن يستلزم محذورا آخر (٢).

وأمّا القسم الثالث : فلا تكون حرمة الشرط والنهي عنه موجبا لفساد العبادة إلّا فيما كان عبادة (٣) كي تكون حرمته موجبة لفساده المستلزم لفساد المشروط به (٤).

وبالجملة : لا يكاد يكون النهي عن الشرط موجبا لفساد العبادة المشروطة به لو لم يكن موجبا لفساده كما إذا كان عبادة.

وأمّا القسم الرابع : فالنهي عن الوصف اللازم مساوق للنهي عن موصوفه ، فيكون النهي عن الجهر في القراءة ـ مثلا ـ مساوقا للنهي عنها ، لاستحالة كون القراءة الّتي يجهر بها مأمورا بها مع كون الجهر بها منهيّا عنه فعلا ، كما لا يخفى.

وهذا بخلاف ما إذا كان مفارقا ـ كما في القسم الخامس ـ ، فإنّ النهي عنه لا يسري إلى الموصوف إلّا فيما إذا اتّحد معه وجودا ، بناء على امتناع الاجتماع. وأمّا بناء على الجواز : فلا يسري إليه كما عرفت في المسألة السابقة.

هذا حال النهي المتعلّق بالجزء أو الشرط أو الوصف.

__________________

ـ صحّة العبادة ليكون القران مانعا عنها. مضافا إلى أنّه لو كانت حرمة جزء العبادة موجبة لتقييد العبادة بغيره من الأجزاء لكانت حرمة غيره من المحرّمات موجبة لذلك أيضا ، كالنظر إلى الأجنبيّة في أثناء الصلاة ، وهذا واضح البطلان. مع أنّ صدق عنوان الزيادة في الجزء يتوقّف على قصد الجزئيّة إلّا في الركوع والسجود. مع أنّه لا دليل على بطلان العبادة بالذكر المحرّم. المحاضرات ٥ : ١٨ ـ ٢٠.

(١) كأن يقتصر بقراءة العزائم في الصلاة ولم يأت بسورة اخرى ممّا لم يتعلّق به النهي.

(٢) كتكرار السورة المستلزم لتحقّق القران بين السورتين ، وهو مبطل.

(٣) وفي النسخة الأصليّة : «كانت عبادة». والصحيح ما أثبتناه.

وذهب المحقّق النائينيّ إلى أنّ الشرط يرجع إلى الوصف ، فإن كان الشرط متّحدا مع العبادة في الوجود ـ كالجهر والإخفات في القراءة ـ فالنهي عنه يرجع إلى النهي عن العبادة الموصوفة به ويقتضي فسادها ، وإن كان مغايرا في الوجود ـ كالتستّر والاستقبال ـ فالنهي عنه لا يقتضي فسادها. فوائد الاصول ٢ : ٤٦٦.

والمحقّق الخوئيّ تعرّض لهذا التفصيل ثمّ ناقش فيه. فراجع المحاضرات ٥ : ٢١ ـ ٢٥.

(٤) كالوضوء ، فإنّ النهي عن الوضوء بالماء المغصوب يوجب بطلان الوضوء المستلزم لبطلان الصلاة.

٨٢

وأمّا النهي عن العبادة لأجل أحد هذه الامور : فحاله حال النهي عن أحدها إن كان من قبيل الوصف بحال المتعلّق ؛ وبعبارة اخرى : كان النهي عنها بالعرض (١). وإن كان النهي عنها على نحو الحقيقة والوصف بحاله (٢) ـ وإن كان بواسطة أحدها ، إلّا أنّه من قبيل الواسطة في الثبوت (٣) ، لا العروض ـ كان حاله حال النهي في القسم الأوّل ، فلا تغفل (٤).

وممّا ذكرنا في بيان أقسام النهي في العبادة يظهر حال الأقسام في المعاملة ، فلا يكون بيانها على حدة بمهمّ. كما أنّ تفصيل الأقوال في الدلالة على الفساد وعدمها الّتي ربما تزيد على العشرة ـ على ما قيل (٥) ـ كذلك.

[بيان الحقّ في المسألة]

إنّما المهمّ بيان ما هو الحقّ في المسألة ، ولا بدّ في تحقيقه على نحو يظهر

__________________

(١) أي : يكون متعلّق النهي حقيقة نفس هذه الامور ويكون النهي عن العبادة بالمجاز ، كالنهي عن قراءة العزائم في الصلاة وعن الغصب في الصلاة والطواف.

(٢) أي : وإن كان النهي عن العبادة على نحو الحقيقة والوصف بحال المنهي عنه بحيث يكون النهي متعلّقا حقيقة بنفس العبادة لأجل تلك الامور.

(٣) أي : يكون أحدها علّة لتعلّق النهي بنفس العبادة.

(٤) وذهب المحقّق الأصفهانيّ إلى عدم الوجه لهذا التقسيم ، فقال : «لا يخفى عليك : أنّ الجزء أو الشرط أو ما يتّحد مع العبادة إن كان بنفسه عبادة فالنهي عنه نهي عن العبادة ولا مجال للبحث عن كلّ واحد منها ، إذ لا فرق بين عبادة وعبادة. وحديث فساد المركّب بفساد الجزء وفساد المشروط بفساد الشرط لا ربط بدلالة النهي على فساد العبادة ولا بفساد العبادة المنهي عنها ، فالبحث عن تعلّق النهي بجزء العبادة وشرطها ونحوها على أيّ حال أجنبيّ عن المقام. كما أنّ البحث عن المنهي عنه لجزئه أو لشرطه أو لوصفه ـ سواء كان حرمة الجزء والشرط والوصف واسطة في العروض أو واسطة في الثبوت ـ من حيث اقتضاء الفساد خال عن السداد».

ثمّ أفاد أنّه يمكن أن يجعل هذا التقسيم من مبادئ هذه المسألة ، بأن يكون البحث في سراية الحرمة حقيقة من الجزء إلى المركّب ومن الشرط إلى المشروط ومن الوصف إلى الموصوف. نهاية الدراية ٢ : ٥٩٠ ـ ٥٩١.

(٥) راجع مطارح الأنظار : ١٦٢.

٨٣

الحال في الأقوال من بسط المقال في مقامين :

[المقام] الأوّل : في العبادات

فنقول ـ وعلى الله الاتّكال ـ : إنّ النهي المتعلّق بالعبادة بنفسها ولو كانت جزء عبادة بما هو عبادة ـ كما عرفت (١) ـ مقتض لفسادها ، لدلالته على حرمتها ذاتا (٢) ، ولا يكاد يمكن اجتماع الصحّة ـ بمعنى موافقة الأمر أو الشريعة ـ مع الحرمة (٣) ، وكذا بمعنى سقوط الإعادة ، فإنّه مترتّب على إتيانها بقصد القربة وكانت ممّا يصلح لأن يتقرّب به ، ومع الحرمة لا تكاد تصلح لذلك ويتأتّى (٤) قصدها من الملتفت إلى

__________________

(١) في الصفحة : ٨١ من هذا الجزء ، حيث قال : «وكذا القسم الثاني ...».

(٢) لا يخفى : أنّ ظاهر العبارة أنّ النهي يدلّ على حرمة العبادة بالدلالة الوضعيّة. ولا بدّ من حمله على المسامحة في التعبير ، وإلّا فإن أراد دلالته عليه بالمطابقة أو التضمّن فهي تنافي ما ذكره من أنّ النهي لا يدلّ إلّا على الطلب. وإن أراد دلالته بالالتزام فهي ممنوعة ، إذ ليس بين مدلول النهي ـ وهو طلب الترك ـ وبين الحرمة لزوم عقليّ بيّن بالمعنى الأخصّ ، ولا لزوم عرفيّ. فيحمل كلامه على الدلالة العقليّة وإن كان خلاف ظاهر كلامه ، فيكون المعنى : أنّ النهي يقتضي حرمة العبادة ذاتا.

ولا يخفى أيضا : أنّ في قوله : «ذاتا» وجوه :

الأوّل : أن يكون قيدا للدلالة والاقتضاء ، فيكون المعنى : أنّ النهي يقتضي حرمة العبادة اقتضاء ذاتيّا.

وهذا الوجه وإن كان مناسبا لظاهر العبارة ، إلّا أنّه ليس بمقصود قطعا ، ضرورة أنّ النهي بذاته لا يقتضي حرمة متعلّقه ، وإلّا يلزم حرمة متعلّقه في النواهي التنزيهيّة أيضا ، وهو كما ترى.

الثاني : أن يكون قيدا للنهي ، فيكون المعنى : أنّ النهي الذاتيّ يقتضي حرمة العبادة.

والمراد من النهي الذاتيّ هو النهي المولويّ قبال الإرشاديّ.

وهذا الوجه أيضا غير مقصود ، لعدم اختصاص النزاع بالنهي التحريميّ ، كما مرّ.

الثالث : أن يكون قيدا للحرمة ، فيكون المعنى : أنّ النهي يقتضي الحرمة الذاتيّة للعبادة.

وهذا الوجه يلائم ما يأتي ذيل قوله : «لا يقال».

(٣) لأنّه لا أمر مع الحرمة كي يتحقّق موافقة الأمر.

(٤) أي : ولا يكاد يتأتّى ...

٨٤

حرمتها ، كما لا يخفى.

لا يقال : هذا لو كان النهي عنها دالّا على الحرمة الذاتيّة ، ولا يكاد يتّصف بها العبادة ، لعدم الحرمة بدون قصد القربة ، وعدم القدرة عليها مع قصد القربة بها إلّا تشريعا ، ومعه تكون محرّمة بالحرمة التشريعيّة لا محالة ، ومعه لا تتّصف بحرمة اخرى ، لامتناع اجتماع المثلين كالضدّين (١).

فإنّه يقال : لا ضير في اتّصاف ما يقع عبادة لو كان مأمورا به بالحرمة الذاتيّة (٢) ، مثلا صوم العيدين كان عبادة منهيّا عنها ، بمعنى أنّه لو امر به كان عبادة لا يسقط الأمر به إلّا إذا أتى به بقصد القربة ، كصوم سائر الأيّام (٣). هذا فيما إذا لم يكن ذاتا عبادة ، كالسجود لله ونحوه. وإلّا كان محرّما مع كونه فعلا عبادة ، مثلا : إذا نهي الجنب أو الحائض عن السجود له تبارك وتعالى كان عبادة محرّمة ذاتا حينئذ ، لما فيه من المفسدة والمبغوضيّة في هذا الحال (٤).

مع أنّه لا ضير في اتّصافه بهذه الحرمة مع الحرمة التشريعيّة ، بناء على أنّ الفعل فيها لا يكون في الحقيقة متّصفا بالحرمة ، بل إنّما يكون المتّصف بها ما هو من أفعال

__________________

(١) حاصل الإشكال : أنّ النهي لا يدلّ على الفساد إلّا إذا دلّ على الحرمة الذاتيّة ، واتّصاف العبادة بالحرمة الذاتيّة ممتنع ، فدلالة النهي على الفساد ممنوع.

والوجه في امتناع اتّصافه بالحرمة الذاتيّة أنّه إن أتى بالعمل بدون قصد القربة كصلاة الحائض لتمرين الصبيّ فلا تتّصف بالحرمة ، لأنّ العمل بدون قصد القربة لا يكون عبادة كي تتّصف بالحرمة ؛ وإن أتى به مع قصد القربة ـ ولا أمر به مع حرمته ـ فلا يقدر على نيّة القربة إلّا بتشريع أمر ليقصد التقرّب به ، وحينئذ يحرم العمل للتشريع ، ومع هذه الحرمة التشريعيّة يمتنع اتّصافه بالحرمة الذاتيّة ، للزوم اجتماع المثلين ، وهو محال.

(٢) قوله : «بالحرمة الذاتيّة» متعلّق بقوله : «اتّصاف».

(٣) وأورد عليه المحقّق الأصفهانيّ بوجهين :

أحدهما : أنّ الالتزام بحرمة العبادة وإن لم يقصد بها القربة في غاية الإشكال.

ثانيهما : أنّ مثل هذه العبادة فاسد ولو لم يتعلّق به النهي ، لعدم اشتماله على ما يصلح للمقرّبيّة. نهاية الدراية ١ : ٥٩٣.

(٤) والحاصل : أنّه لا مانع من اتّصاف العبادة الشأنيّة والعبادة الذاتيّة بالحرمة الذاتيّة.

٨٥

القلب (١) ، كما هو الحال في التّجرّي والانقياد ، فافهم.

هذا مع أنّه لو لم يكن النهي فيها دالّا على الحرمة لكان دالّا على الفساد ، لدلالته على الحرمة التشريعيّة (٢) ، فإنّه لا أقلّ من دلالته على أنّها ليست بمأمور بها وإن عمّها إطلاق دليل الأمر بها أو عمومه.

نعم ، لو لم يكن النهي عنها إلّا عرضا ، كما إذا نهي عنها فيما كانت ضدّ الواجب ـ مثلا ـ لا يكون مقتضيا للفساد ، بناء على عدم اقتضاء الأمر (٣) بالشيء للنهي عن الضدّ إلّا كذلك ـ أي عرضا ـ ، فيخصّص به أو يقيّد (٤).

__________________

(١) فإنّ التشريع عبارة عن البناء القلبيّ على جعل الحكم ، والعمل إنّما يكشف عن ذلك البناء ، فلا وجه لتحريمه.

(٢) توضيحه : أنّ النهي عن العبادة يدلّ على عدم الأمر بالعبادة ، فلا يجوز الإتيان بها بعنوان أنّها مأمور بها ، وإلّا يلزم التشريع المحرّم ، وحرمة التشريع كاف في الفساد.

(٣) وفي بعض النسخ : «عدم الاقتضاء للأمر».

(٤) فحاصل مختار المصنّف رحمه‌الله في النهي عن العبادة أنّه يقتضي فساد العبادة فيما إذا تعلّق بنفس العبادة أو وصفها الملازم لها.

وأمّا جزؤها : فالنهي عنه لا يقتضي فساد العبادة إلّا إذ اقتصر المكلّف عليه في مقام الامتثال ، فحينئذ بطلت العبادة من جهة كونها فاقدة للجزء.

وأمّا شرطها : فإن كان عبادة فالنهي عنه موجب لفساده المستلزم لفساد المشروط به ، وإلّا فلا يقتضي فساد العبادة المشروطة به.

وتبعه في المقام السيّد المحقّق الخوئيّ في المحاضرات ٥ : ١٤ ـ ٢٦ و ٥٢.

وذهب المحقّق النائينيّ إلى أنّ النهي عن العبادة ـ سواء تعلّق النهي بنفس العبادة أو بجزئها أو بشرطها ـ يقتضي فساد العبادة إلّا إذا تعلّق النهي بوصفها الّذي يغايرها وجودا. فوائد الأصول ٢ : ٤٦٤ ـ ٤٦٦.

وذهب السيّد الإمام الخمينيّ إلى أنّ النهي تارة يكون تحريميّا نفسيّا متعلّقا بعبادة ، فلا شبهة في اقتضائه الفساد عقلا ؛ واخرى يكون تنزيهيّا نفسيّا ، فمع بقائه على تنزيهيّته ودلالته على مرجوحيّة متعلّقه لا يجتمع مع الصحّة ؛ وثالثة يكون غيريّا ، فلا يقتضي الفساد ؛ ورابعة تعلّق بجزء العبادة أو شرطها أو وصفها الملازم أو المفارق ، فلا يقتضي الفساد مطلقا. مناهج الوصول ٢ : ١٦٠ ـ ١٧١.

٨٦

المقام الثاني : في المعاملات

ونخبة القول : أنّ النهي الدالّ على حرمتها لا يقتضي الفساد ، لعدم الملازمة فيها ـ لغة ولا عرفا ـ بين حرمتها وفسادها أصلا ، كانت الحرمة متعلّقة بنفس المعاملة بما هي فعل بالمباشرة (١) ، أو بمضمونها بما هي فعل بالتسبيب (٢) ، أو بالتسبّب بها إليه وإن لم يكن السبب ولا المسبّب ـ بما هو فعل من الأفعال ـ بحرام (٣). وإنّما يقتضي الفساد فيما إذا كان دالّا على حرمة ما لا يكاد يحرم مع صحّتها ، مثل النهي عن أكل الثمن أو المثمن في بيع (٤) أو بيع شيء (٥).

نعم ، لا يبعد دعوى ظهور النهي عن المعاملة في الإرشاد إلى فسادها ، كما أنّ الأمر بها يكون ظاهرا في الإرشاد إلى صحّتها من دون دلالته على إيجابها أو استحبابها ، كما لا يخفى. لكنّه في المعاملات بمعنى العقود والإيقاعات ، لا المعاملات بالمعنى الأعمّ المقابل للعبادات.

فالمعوّل هو ملاحظة القرائن في خصوص المقامات ، ومع عدمها لا محيص عن الأخذ بما هو قضيّة صيغة النهي من الحرمة ؛ وقد عرفت أنّها غير مستتبعة للفساد لا لغة ولا عرفا.

نعم ، ربما يتوهّم استتباعها له شرعا من جهة دلالة غير واحد من الأخبار عليه : منها: ما رواه في الكافي والفقيه عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام : سألته عن مملوك

__________________

(١) لا بما هو سبب ، كالنهي عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة ، بناء على تعلّق النهي بذوات الألفاظ الّتي توجد بها المعاملة ، لأنّها شاغلة عن صلاة الجمعة.

(٢) كتمليك العبد المسلم الكافر ، فإنّ النهي تعلّق بمضمون المعاملة ، وهو تمليكها من الكافر ، لأنّه مبغوض عند الله تعالى ، لا نفس المعاملة بما أنّها فعل مباشريّ.

(٣) كما إذا تعلّق النهي بتملّك الربا بالبيع والقرض الربويّين ، فإنّ النهي لم يتعلّق بالسبب ـ وهو العقد ـ ، ولا بالمسبّب ـ وهو تملّك الزيادة ، لجواز تملّكها بناقل شرعيّ ـ ، بل تعلّق بالتسبّب بالبيع أو القرض لتملّك الزيادة.

(٤) كبيع المنابذة والملامسة.

(٥) كبيع الميتة وبيع الخنزير.

٨٧

تزوّج بغير إذن سيّده ، فقال : «ذاك إلى سيّده ، إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما». قلت : ـ أصلحك الله تعالى ـ إنّ الحكم بن عتيبة وإبراهيم النّخعيّ وأصحابهما يقولون : «إنّ أصل النكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السيّد له». فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «إنّه لم يعص الله ، إنّما عصى سيّده ، فإذا أجاز فهو له جائز» (١).

حيث دلّ بظاهره [على] (٢) أنّ النكاح لو كان ممّا حرّمه الله تعالى عليه كان فاسدا(٣).

ولا يخفى (٤) : أنّ الظاهر أن يكون المراد بالمعصية المنفيّة هاهنا أنّ النكاح ليس ممّا لم يمضه الله ولم يشرّعه كي يقع فاسدا ، ومن المعلوم استتباع المعصية بهذا المعنى للفساد كما لا يخفى ، ولا بأس بإطلاق المعصية على عمل لم يمضه الله ولم يأذن به ، كما اطلق عليه بمجرّد عدم إذن السيّد فيه أنّه معصية (٥).

__________________

(١) الكافي ٥ : ٤٧٨ ، باب أنّ المملوك يتزوّج بغير إذن مولاه ، ومن لا يحضره الفقيه ٣ : ٣٥٠ ، باب طلاق العبد.

ومنها : ما عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل تزوّج عبده بغير إذن سيّده ، فدخل بها ، ثمّ اطّلع على ذلك مولاه؟ قال عليه‌السلام : «ذاك لمولاه إن شاء فرّق بينهما ...». فقلت لأبي جعفر عليه‌السلام : فإنّ في أصل النكاح كان عاصيا. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «إنّما أتى شيئا حلالا ، وليس بعاص لله ، إنّما عصى سيّده ، ولم يعص الله ، إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله عليه من نكاح في عدّة وأشباهه». الكافي ٥ : ٤٧٨ ، باب أنّ المملوك يتزوّج بغير إذن مولاه.

(٢) وما بين المعقوفتين ليس في النسخ.

(٣) وتقريب الاستدلال به : أنّ الإمام عليه‌السلام علّل عدم فساد نكاح العبد الفاقد لإذن سيّده ب «إنّه لم يعص الله». وهذا التعليل يقتضي فساد كلّ ما يكون عصيانا لله تبارك وتعالى. ولا شكّ أنّ فعل المحرّم عصيان له تعالى ، فهو فاسد.

(٤) هذا الجواب ذكره المحقّق القميّ في قوانين الاصول ١ : ١٦٢.

(٥) وجه ذلك : أنّ العبوديّة تقتضي عدم صدور [أمر من] العبد إلّا عن أمر سيّده وإذنه ، حيث إنّه كلّ عليه لا يقدر على شيء ، فإذا استقلّ بأمر كان عاصيا حيث أتى بما ينافيه مقام عبوديّته ، لا سيّما مثل التزوّج الّذي كان خطيرا. وأمّا وجه أنّه لم يعص الله فيه : فلأجل كون التزوّج بالنسبة إليه أيضا كان مشروعا ماضيا ، غايته أنّه يعتبر في تحقّقه إذن سيّده ورضاه ، وليس ـ

٨٨

وبالجملة : لو لم يكن ظاهرا في ذلك لما كان ظاهرا فيما توهّم.

وهكذا حال سائر الأخبار الواردة في هذا الباب ، فراجع وتأمّل.

تذنيب : [حول ما حكي عن أبي حنيفة والشيبانيّ]

حكي (١) عن أبي حنيفة والشيبانيّ دلالة النهي على الصحّة ، وعن الفخر (٢) أنّه وافقهما في ذلك (٣).

والتحقيق (٤) : أنّه في المعاملات كذلك إذا كان عن المسبّب أو التسبّب ، لاعتبار القدرة في متعلّق النهي كالأمر ، ولا يكاد يقدر عليهما إلّا فيما كانت المعاملة مؤثّرة صحيحة.

وأمّا إذا كان عن السبب فلا ، لكونه مقدورا وإن لم يكن صحيحا. نعم ، قد عرفت (٥) أنّ النهي عنه لا ينافيها (٦).

__________________

ـ كالنكاح في العدّة غير مشروع من أصله ، فإن أجاز ما صدر عنه بدون إذنه فقد وجد شرط نفوذه وارتفع محذور عصيانه ، فعصيانه لسيّده. منه [أعلى الله مقامه].

(١) راجع قوانين الاصول ١ : ١٦٣ ، مطارح الأنظار : ١٦٦ ، الإحكام «للآمديّ» ٢ : ٤١١.

(٢) وهو فخر المحقّقين نجل العلّامة الحلّي قدس‌سرهما.

(٣) نقل الشيخ الأنصاريّ ـ على ما في مطارح الأنظار : ١٦٦ ـ موافقته معهما في نهاية المأمول.

واستدلّوا عليه بأنّ النهي لا يتعلّق بالشيء إلّا فيما إذا كان مقدورا ، لامتناع التكليف بغير المقدور. وإذا فرض فساد المنهي عنه لزم عدم القدرة على تحقّقه بالنهي ، وهو ينافي تعلّق النهي به ، فلا بدّ أن يفرض وقوعه كما يصحّ تعلّق النهي به.

(٤) ملخّصه : أنّ الكبرى ـ وهي أنّ النهي حقيقة إذا تعلّق بشيء ذي أثر كان دالّا على صحّته وترتّب أثره عليه ، لاعتبار القدرة فيما تعلّق به النهي كذلك ـ وإن كانت مسلّمة ، إلّا أنّ النهي كذلك لا يكاد يتعلّق بالعبادات ، ضرورة امتناع تعلّق النهي كذلك بما تعلّق به الأمر كذلك. وتعلّقه بالعبادات بالمعنى الأوّل وإن كان ممكنا ، إلّا أنّ أثر المرغوب منها عقلا أو شرعا غير مترتّب عليها مطلقا ، بل على خصوص ما ليس بحرام منها. وهكذا الحال في المعاملات فإن كان الأثر في معاملة مترتّبا عليها ولازما لوجودها كان النهي عنها دالّا على ترتّبه عليها لما عرفت. منه [أعلى الله مقامه].

(٥) راجع الصفحة : ٨٧ من هذا الجزء.

(٦) أي : النهي عن السبب لا ينافي صحّته.

٨٩

وأمّا العبادات : فما كان منها عبادة ذاتيّة (١) ـ كالسجود والركوع والخشوع والخضوع له تبارك وتعالى ـ فمع النهي عنه يكون مقدورا ، كما إذا كان مأمورا به (٢). وما كان منها عبادة لاعتبار قصد القربة فيه لو كان مأمورا به ، فلا يكاد يقدر عليه إلّا إذا قيل باجتماع الأمر والنهي في شيء ولو بعنوان واحد ، وهو محال. وقد عرفت (٣) أنّ النهي في هذا القسم إنّما يكون نهيا عن العبادة ، بمعنى أنّه لو كان مأمورا به كان الأمر به أمر عبادة لا يسقط إلّا بقصد القربة ، فافهم (٤).

__________________

(١) وهو ما كان عبادة من غير توقّف على قصد القربة.

(٢) فالنهي في هذا القسم يدلّ على الصحّة.

(٣) راجع الصفحة : ٨٥ من هذا الجزء.

(٤) قال المحقّق الأصفهانيّ : «إنّ العبادة بمعنى لو تعلّق الأمر به لكان أمره عباديّا لا يسقط إلّا إذا قصد به القربة ، كالعبادة الذاتيّة من حيث المقدوريّة ؛ كما أنّ العبادة الذاتيّة مثل العبادة بهذا المعنى في عدم كون المقرّبيّة من لوازم وجودها ، فما يتراءى في العبارة من الفرق بينهما من حيث المقدوريّة لا وجه له. ولعلّه أشار إليه بقوله : فافهم». نهاية الدراية ١ : ٦٠٣.

٩٠

المقصد الثالث

في المفاهيم

[وفيه فصول :]

٩١
٩٢

مقدّمة

[في تعريف المفهوم]

وهي : أنّ المفهوم ـ كما يظهر من موارد إطلاقه ـ هو عبارة عن حكم إنشائيّ أو إخباريّ تستتبعه خصوصيّة المعنى الّذي اريد من اللفظ بتلك الخصوصيّة ، ولو بقرينة الحكمة ، وكان يلزمه لذلك ، وافقه في الإيجاب والسلب أو خالفه (١). فمفهوم

__________________

(١) ونلخّص ما أفاده المصنّف رحمه‌الله في تعريف المفهوم ذيل امور :

الأوّل : أنّ المفهوم حكم غير مذكور في القضيّة. بخلاف المعنى المنطوقيّ ، فإنّه حكم مذكور في القضيّة.

الثاني : أنّه حكم لازم للقضيّة باعتبار أنّها مشتملة على خصوصيّة تلازم ذلك الحكم غير المذكور.

الثالث : أنّه حكم إنشائيّ في الجمل الإنشائيّة ، كحرمة إكرام زيد المستفادة من قضيّة : «إن جاءك زيد فأكرمه» ، وحكم إخباريّ في الجمل الخبريّة ، كالإخبار عن عدم إعطاء الدينار بقوله : «إن جئتني فأنا أعطيك دينارا» ، فإنّه أخبر بكلامه هذا عن أنّه لا يعطيه دينارا على تقدير عدم المجيء.

الرابع : أنّه يعتبر أن يكون ذلك الحكم ممّا تستلزمه خصوصيّة المعنى المنطوقيّ. فلا بدّ أن تكون القضيّة دالّة على تلك الخصوصيّة كما تكون دالّة على المعنى المنطوقيّ ، فتكون تلك الخصوصيّة مدلولا عليها باللفظ. وبذلك تخرج المداليل الالتزاميّة ، كوجوب المقدّمة ، حيث لا يدلّ اللفظ هنا إلّا على ذي الخصوصيّة وهو وجوب ذي المقدّمة ، والخصوصيّة يستفاد من خارج اللفظ.

والمراد من خصوصيّة المعنى هو ترتّب المحمول على الموضوع أو الجزاء على الشرط ـ

٩٣

«إن جاءك زيد فأكرمه» مثلا ـ لو قيل به (١) ـ قضيّة شرطيّة سالبة بشرطها وجزائها (٢) لازمة للقضيّة الشرطيّة الّتي تكون معنى القضيّة اللفظيّة ويكون لها خصوصيّة بتلك الخصوصيّة كانت مستلزمة لها. فصحّ أن يقال : «إنّ المفهوم إنّما هو حكم غير مذكور» ؛ لا أنّه حكم لغير مذكور (٣) ـ كما فسّر به (٤) ـ ؛ وقد وقع فيه النقض والإبرام بين الأعلام (٥) ، مع أنّه لا موقع له ، كما أشرنا إليه في غير مقام ، لأنّه من قبيل شرح الاسم ، كما في التفسير اللغويّ.

ومنه قد انقدح حال غير هذا التفسير ممّا ذكر في المقام ، فلا يهمّنا التصدّي لذلك ، كما لا يهمّنا بيان أنّه من صفات المدلول أو الدلالة ؛ وإن كان بصفات المدلول أشبه (٦) ، وتوصيف الدلالة به (٧) أحيانا كان من باب التوصيف بحال المتعلّق (٨).

__________________

ـ نحو ترتّب المعلول على العلّة المنحصرة.

فتحصّل : أنّ المفهوم حكم غير مذكور في القضيّة ، لازم لها باعتبار استعمالها في المعنى الّذي له خصوصيّة تلازم ذلك الحكم غير المذكور.

فقوله : «تستتبعه خصوصيّة المعنى» أي : تستلزم خصوصيّة المعنى ذلك الحكم.

وقوله : «الّذي اريد من اللفظ بتلك الخصوصيّة» وصف للحكم غير المذكور ، فيكون المعنى : أنّ المفهوم عبارة عن الحكم الّذي اريد من اللفظ ـ أي القضيّة ـ لثبوت تلك الخصوصيّة في معناه المنطوقيّ. فالأولى أن يقول : «لتلك الخصوصيّة» أو «لأجل تلك الخصوصيّة».

وقوله : «ولو بقرينة الحكمة» أي : ولو كانت دلالة اللفظ على الخصوصيّة بقرينة الحكمة.

وقوله : «وكان يلزمه لذلك» أي : كان المعنى المنطوقيّ يلزم ذلك الحكم لأجل وجود تلك الخصوصيّة في المعنى المنطوقيّ.

(١) أي : بمفهوم الشرط.

(٢) وهي قضيّة : «إن لم يجئك زيد فلا تكرمه» ، فتكون القضيّة سالبة شرطا وجزاء.

(٣) أي : لا أنّ المفهوم حكم لموضوع غير مذكور في المنطوق.

(٤) هكذا عرّفه العضديّ في شرحه على مختصر ابن الحاجب ١ : ٣٠٦ ، والشوكانيّ في إرشاد الفحول : ١٧٨.

(٥) راجع مطارح الأنظار : ١٦٧ ، والفصول الغرويّة : ١٤٥.

(٦) لما مرّ من أنّ المفهوم لازم لخصوصيّة المدلول المنطوقيّ.

(٧) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «ووصف الدلالة به».

(٨) هكذا في النسخ. والصواب أن يقول : «من باب الوصف بحال المتعلّق».

٩٤

وقد انقدح من ذلك : أنّ النزاع في ثبوت المفهوم وعدمه في الحقيقة إنّما يكون في أنّ القضيّة الشرطيّة أو الوصفيّة أو غيرهما هل تدلّ بالوضع أو بالقرينة العامّة على تلك الخصوصيّة المستتبعة لتلك القضيّة الاخرى أم لا؟ (١)

__________________

(١) والحاصل : أنّ النزاع في ثبوت المفهوم وعدمه ليس في حجّيّة المفهوم بعد الفراغ عن ثبوته كي يكون بحثا كبرويّا ، بل النزاع في أصل وجود المفهوم وعدمه ، فيكون البحث صغرويّا ، بأن يبحث عن إثبات خصوصيّة المعنى المستلزمة للحكم غير المذكور وأنّ المنطوق ـ كالجملة الشرطيّة ـ هل يدلّ على تلك الخصوصيّة بالوضع أو بالقرينة العامّة فيثبت المفهوم ، أو لا يدلّ عليها فلا يثبت المفهوم؟

ولا يخفى : أنّه يمكن أن يقال : إنّ مسألة المفاهيم من المسائل العقليّة ، لأنّ المفهوم حكم غير مذكور اريد من اللفظ لأجل خصوصيّة المعنى ، بمعنى أنّ خصوصيّة المعنى يرشدنا إليه ، من دون أن يدلّ اللفظ عليه ، بل اللفظ إنّما يدلّ على المعنى المنطوقيّ المتشخّص بتلك الخصوصيّة.

وهذا هو الظاهر من كلمات المصنّف رحمه‌الله حيث قال : «يستتبعه خصوصيّة المعنى» ، وقال أيضا : «بتلك الخصوصيّة كانت مستلزمة لها».

وذهب المحقّق النائينيّ إلى أنّ المسألة من المسائل اللفظيّة. والمفهوم عبارة عن معنى التزاميّ يدلّ اللفظ عليه بالدلالة الالتزاميّة بالمعنى الأخصّ. فوائد الاصول ٢ : ٤٧٧.

٩٥

فصل

[مفهوم الشرط]

[ملاك ثبوت المفهوم]

الجملة الشرطيّة هل تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء (١) ـ كما تدلّ على الثبوت عند الثبوت بلا كلام ـ أم لا؟ فيه خلاف بين الأعلام.

لا شبهة في استعمالها وإرادة الانتفاء عند الانتفاء في غير مقام ، إنّما الإشكال والخلاف في أنّه بالوضع أو بقرينة عامّة بحيث لا بدّ من الحمل عليه (٢) لو لم تقم على خلافه قرينة من حال أو مقال؟

فلا بدّ للقائل بالدلالة من إقامة الدليل على الدلالة بأحد الوجهين (٣) على تلك الخصوصيّة المستتبعة لترتّب الجزاء على الشرط نحو ترتّب المعلول على علّته المنحصرة.

وأمّا القائل بعدم الدلالة ففي فسحة ، فإنّ له منع دلالتها على اللزوم ـ بل على مجرّد الثبوت عند الثبوت ولو من باب الاتّفاق ـ. أو منع دلالتها على الترتّب ، أو على نحو الترتّب على العلّة ، أو العلّة المنحصرة بعد تسليم اللزوم أو العلّيّة (٤).

__________________

(١) أي : انتفاء الحكم والجزاء عند انتفاء الشرط.

(٢) أي : على الانتفاء عند الانتفاء.

(٣) أي : الوضع والقرينة العامّة.

(٤) توضيح كلامه : أنّ المعروف في ملاك ثبوت المفهوم ـ في مثل القضيّة الشرطيّة ـ هو أنّ ـ

٩٦

لكن منع دلالتها على اللزوم ودعوى كونها اتفاقيّة في غاية السقوط ، لانسباق (١) اللزوم منها قطعا.

__________________

ـ ثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة متوقّفة على امور أربعة مترتّبة :

الأوّل : أن تكون بين الشرط والجزاء علاقة لزوميّة بأن تكون النسبة بينهما الوجوب بالقياس إلى الغير. فلو كانت القضيّة الشرطيّة اتّفاقيّة ، مثل : «إن كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا» فلا مفهوم لها.

الثاني : أن يكون التالي معلّقا على المقدّم ، والجزاء مترتّبا على الشرط ومتأخّرا عنه ، كأن يكون التالي معلولا للمقدّم. فلو كانا في رتبة واحدة ـ كما إذا كانا معلولي علّة ثالثة أو كانا متضايفين ـ أو كان التالي علّة للمقدّم فلا مفهوم لها.

الثالث : أن يكون ترتّب الجزاء على الشرط من باب ترتّب المعلول على العلّة التامّة. فلو كان الترتّب من باب ترتّب المعلول على العلّة الناقصة فلا مفهوم لها.

الرابع : أن يكون ترتّب الجزاء على الشرط من باب ترتّب المعلول على العلّة المنحصرة.

ولا يخفى : أنّه يمكن إرجاع الأمر الثالث إلى الأمر الثاني ، حيث لا ترتّب بين الشيء وما يعدّ علّة ناقصة له ، ضرورة أنّه لا علّيّة للعلل الناقصة ـ كما حقّق في محلّه ـ ، بل إنّما هي معدّات تهيّئ العلّة الحقيقيّة للتأثير في المعلول.

وفي الجملة : فالمعروف أنّ دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم تتوقّف على دلالتها على أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء.

ومن هنا يظهر : أنّ القائل بعدم الدلالة في فسحة ، فله منع دلالتها على أحد الامور المذكورة.

والمحقّق العراقيّ خالف المشهور ، فذهب إلى أنّ مدار البحث في المفهوم على أنّ القضيّة المتكفّلة للحكم هل هي ظاهرة في تعليق شخص الحكم على الشرط أو ظاهرة في تعليق سنخ الحكم على الشرط. فيبحث في المقام عن مضمون الخطاب وما علّق على الموضوع ، فهل هو شخص الحكم أو سنخ الحكم؟ فعلى الأوّل لا تدلّ القضيّة على المفهوم ، إذ انتفاء الشرط إنّما يقتضي انتفاء شخص الحكم ، وهو لا ينافي ثبوت فرد آخر للحكم في غير مورد الشرط. وعلى الثاني تدلّ على المفهوم ، إذ انتفاء الشرط يقتضي انتفاء سنخ الحكم حتّى في غير مورد الشرط ، وهو ينافي ثبوته في غير مورد الشرط. مقالات الاصول ١ : ١٣٨ ، نهاية الأفكار ٢ : ٤٦٩ ـ ٤٧٠

(١) هكذا في جميع النسخ ، ولكن لا تساعد عليه اللغة. والمراد منه التبادر.

٩٧

وأمّا المنع عن أنّه بنحو الترتّب على العلّة ـ فضلا عن كونها منحصرة ـ فله مجال واسع.

[الوجوه المذكورة في إثبات العلّيّة المنحصرة للشرط]

ودعوى تبادر اللزوم والترتّب بنحو الترتّب على العلّة المنحصرة (١) ـ مع كثرة استعمالها (٢) في الترتّب على نحو الترتّب على غير المنحصرة منها بل في مطلق اللزوم ـ بعيدة ، عهدتها على مدّعيها. كيف! ولا يرى في استعمالها فيهما (٣) عناية ورعاية علاقة ، بل إنّما تكون إرادتهما (٤) كإرادة الترتّب على العلّة المنحصرة بلا عناية ، كما يظهر على من أمعن النظر وأجال البصر (٥) في موارد الاستعمالات وفي عدم الإلزام والأخذ بالمفهوم في مقام المخاصمات والاحتجاجات وصحّة الجواب (٦) بأنّه لم يكن لكلامه مفهوم ، وعدم صحّته لو كان له ظهور فيه معلوم (٧).

وأمّا دعوى الدلالة بادّعاء انصراف إطلاق العلاقة اللزوميّة إلى ما هو أكمل

__________________

(١) هذا أوّل الوجوه المذكورة في إثبات دلالة القضيّة الشرطيّة على أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء. وحاصله : أنّها تدلّ بالوضع على وجود العلقة اللزوميّة والترتّب بنحو الترتّب على العلّة المنحصرة ، للتبادر.

والمستدلّون به طائفتان :

إحداهما : من يدّعي الدلالة الوضعيّة بوضع خصوص أداة الشرط ، كما في هداية المسترشدين : ٢٨٢.

وثانيتهما : من يدّعي الدلالة الوضعيّة بوضع الهيئة التركيبيّة للجملة الشرطيّة ، كما في الفصول الغرويّة : ١٤٧ ، وقوانين الاصول ١ : ١٧٥.

(٢) أي : استعمال الجملة الشرطيّة.

(٣) أي : استعمال الجملة الشرطيّة في الترتّب بنحو الترتّب على العلّة غير المنحصرة ، واستعمالها في مطلق اللزوم.

(٤) وفي بعض النسخ : «إرادته». وحينئذ يرجع الضمير إلى مطلق اللزوم ، وهو شامل للترتّب بنحو المنحصرة وغيره.

(٥) أي : أدار البصر.

(٦) أي : وفي صحّة الجواب.

(٧) أي : عدم صحّة الجواب بما ذكر معلوم لو كان لكلامه ظهور في المفهوم.

٩٨

أفرادها ، وهو اللزوم بين العلّة المنحصرة ومعلولها (١) ؛ ففاسدة جدّا ، لعدم كون الأكمليّة موجبة للانصراف إلى الأكمل ، لا سيّما مع كثرة الاستعمال في غيره ، كما لا يكاد يخفى(٢). هذا مضافا إلى منع كون اللزوم بينهما أكمل ممّا إذا لم تكن العلّة بمنحصرة ، فإنّ الانحصار لا يوجب أن يكون ذاك الربط الخاصّ الّذي لا بدّ منه في تأثير العلّة في معلولها آكد وأقوى(٣).

إن قلت : نعم (٤) ، ولكنّه (٥) قضيّة الإطلاق بمقدّمات الحكمة ، كما أنّ قضيّة إطلاق صيغة الأمر هو الوجوب النفسيّ (٦).

__________________

(١) وهذا هو الوجه الثاني من الوجوه الّتي استدلّ بها على إثبات دلالة القضيّة الشرطيّة على العلّيّة المنحصرة. وتعرّض له الشيخ الأنصاريّ في مطارح الأنظار : ١٧٠.

وحاصله : أنّ العلّيّة المنحصرة أكمل أفراد العلاقة اللزوميّة الّتي تدلّ عليها القضيّة الشرطيّة ، والمطلق ينصرف إلى أكمل أفراده ، فإطلاق العلاقة اللزوميّة ينصرف إلى العلّيّة المنحصرة.

(٢) هذا جواب عن كبرى الوجه الثاني. وحاصله : أنّ الانصراف ينشأ من انس اللفظ بالمعنى ، وهو يحصل بكثرة الاستعمال ، وهي مفقودة في المقام. وأمّا نفس أكمليّة الأفراد بما هي لا تستلزم الانصراف.

(٣) وهذا جواب عن صغرى الوجه الثاني. بيان ذلك : أنّ الانحصار لا يوجب كون الربط الخاصّ الحاصل بين الشرط والجزاء آكد وأقوى.

ولكن أورد المحقّق العراقيّ على هذا الجواب بأنّ أشدّيّة الملازمة في صورة الانحصار إنّما هي من جهة ما يلزمه من الانتفاء عند الانتفاء. بخلافه في صورة عدم الانحصار ، فإنّ الملازمة ـ حينئذ ـ كانت بينهما من طرف الوجود الخاصّ. والعرف يرون الملازمة بينهما على النحو الأوّل أشدّ من الملازمة على النحو الثاني.

ثمّ تمسّك بإطلاق الملازمة ، بدعوى أنّ مقتضى مقدّمات الحكمة هو الحمل على أكمل أفراد اللزوم ، وهو اللزوم بين المعلول والعلّة المنحصرة. راجع نهاية الأفكار ٢ : ٤٨١.

(٤) أي : لو سلّم أنّ الجملة الشرطيّة لا تدلّ بالوضع على انحصار العلّة في الشرط.

(٥) أي : انحصار العلّة.

(٦) هذا هو الوجه الثالث. وتوضيحه : أنّ إطلاق التعليق ـ بمقتضى مقدّمات الحكمة ـ يستلزم كون الشرط علّة منحصرة ، لأنّ الترتّب على المنحصر لا يحتاج إلى مئونة زائدة على بيان نفس ترتّب الجزاء على الشرط المذكور في القضيّة. وأمّا الترتّب على غير المنحصر ترتّب على الغير أيضا. فإذا لم يبيّنه المتكلّم الحكيم فإطلاق التعليق في كلامه ـ بمقتضى مقدّمات ـ

٩٩

قلت : أوّلا : هذا فيما تمّت هناك مقدّمات الحكمة ، ولا تكاد تتمّ فيما هو مفاد الحرف ، كما هاهنا ، وإلّا لما كان معنى حرفيّا ، كما يظهر وجهه بالتأمّل (١).

وثانيا : تعيّنه من بين أنحائه (٢) بالإطلاق المسوق في مقام البيان بلا معيّن. ومقايسته مع تعيّن الوجوب النفسيّ بإطلاق صيغة الأمر مع الفارق ، فإنّ النفسيّ هو الواجب (٣) على كلّ حال ، بخلاف الغيريّ ، فإنّه واجب على تقدير دون تقدير ، فيحتاج بيانه إلى مئونة التقييد بما إذا وجب الغير ، فيكون الإطلاق في الصيغة مع مقدّمات الحكمة محمولا عليه ، وهذا بخلاف اللزوم والترتّب بنحو الترتّب على العلّة المنحصرة ، ضرورة أنّ كلّ واحد من أنحاء اللزوم والترتّب محتاج في تعيّنه إلى القرينة مثل الآخر بلا تفاوت أصلا ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه ربما يتمسّك للدلالة على المفهوم بإطلاق الشرط بتقريب أنّه لو لم يكن بمنحصر يلزم تقييده ، ضرورة أنّه لو قارنه أو سبقه الآخر لما أثّر وحده ، وقضيّة إطلاقه أنّه يؤثّر كذلك مطلقا (٤).

__________________

ـ الحكمة ـ يقتضي كون الشرط المذكور علّة منحصرة. نظير الوجوب النفسيّ المستفاد من إطلاق صيغة الأمر ، حيث يكون قيده عدميّا ولا يحتاج إلى بيان زائد على أصل الوجوب ، بخلاف الوجوب الغيريّ ، كما مرّ.

(١) ولعلّ وجهه أنّ الإطلاق يستلزم لحاظ المطلق استقلالا ، كما أنّ التقييد يستلزم لحاظ المقيّد كذلك. ومعنى الحرفيّ لا يقبل اللحاظ الاستقلاليّ.

ولا يخفى : أنّه ينافي ما تقدّم منه في الواجب المشروط ، حيث قال : «وأمّا حديث عدم الإطلاق في مفاد الهيئة فقد حقّقنا سابقا أنّ كلّ واحد من الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف يكون عامّا كوضعها». راجع الجزء الأوّل : ١٨٤.

(٢) أي : تعيّن اللزوم بمعنى العلّيّة المنحصرة من بين أنحاء اللزوم.

(٣) والأولى أن يقول : «هو الوجوب».

(٤) هذا هو الوجه الرابع. وتوضيحه : أنّ إطلاق الشرط يقتضي كونه وحده شرطا ، سواء سبقه الآخر أو قارنه أو لم يسبقه. وهذا يستلزم كونه علّة منحصرة ، لأنّه لو لم يكن شرطا منحصرا لكان التأثير للسابق عليه في صورة سبق غيره وللجامع بينهما في صورة المقارنة ، وهذا ينافي مقتضى إطلاق الشرط. ـ

١٠٠