كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
ISBN: 978-964-470-562-5
الصفحات: ٤١٩

١
٢

المقصد الثاني

في النواهي

[وفيه فصول :]

٣
٤

فصل

[في عدم دلالة النهي إلّا على الطلب]

الظاهر أنّ النهي بمادّته (١) وصيغته (٢) في الدلالة على الطلب مثل الأمر بمادّته وصيغته (٣) ، غير أنّ متعلّق الطلب في أحدهما (٤) الوجود وفي الآخر (٥) العدم ، فيعتبر فيه ما استظهرنا اعتباره فيه (٦) بلا تفاوت أصلا (٧).

__________________

(١) ك «نهى ، ينهى ، الناهي ، المنهي عنه» وغيرها ممّا يؤلّف من «ن ، ه ، ي».

(٢) المراد من صيغة النهي هو كلّ صيغة تدلّ على طلب ترك الفعل ك «لا تفعل» و «إيّاك أن تفعل» وغيرهما ممّا يدلّ على طلب ترك الفعل.

(٣) فكلاهما يدلّان على نفس الطلب.

(٤) وهو الأمر.

(٥) وهو النهي.

(٦) أي : فيعتبر في النهي ما يعتبر في الأمر من كونه صادرا من العالي أو المستعلي أو غيره.

(٧) وحاصل ما أفاده : أنّه لا فرق بين الأمر والنهي في الدلالة الوضعيّة ، فكما أنّ الأمر يدلّ ـ بمادّته وصيغته ـ على الطلب فكذلك النهي يدلّ ـ بمادّته وصيغته ـ على الطلب ، وإنّما الفرق بينهما في أنّ متعلّق الطلب في طرف النهي هو الترك وفي طرف الأمر هو الفعل.

وهذا ما اختاره المصنّف تبعا للمحقّق القميّ في القوانين ١ : ١٣٧ ، وصاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ١١٩. وذهب إليه أيضا المحقّق النائينيّ على ما في أجود التقريرات ١ : ٣٢٨.

وقد خالفهم كثير من المتأخّرين.

فذهب المحقّق العراقيّ إلى أنّ مدلول الهيئة في الأمر عبارة عن البعث إلى وجود الطبيعة ، وفي النهي عبارة عن الزجر عن وجودها. وأمّا مفاد المادّة فيهما فعبارة عن صرف الطبيعة. نهاية الأفكار ٢ : ٤٠٢. ـ

٥

نعم ، يختصّ النهي بخلاف ، وهو أنّ متعلّق الطلب فيه هل هو الكفّ أو مجرّد الترك وأن لا يفعل؟ (١) والظاهر هو الثاني.

وتوهّم أنّ الترك ومجرّد أن لا يفعل خارج عن تحت الاختيار فلا يصحّ أن يتعلّق به البعث والطلب (٢) ؛ فاسد ، فإنّ الترك أيضا يكون مقدورا ، وإلّا لما كان الفعل مقدورا وصادرا بالإرادة والاختيار (٣).

وكون العدم الأزليّ لا بالاختيار (٤) لا يوجب أن يكون كذلك بحسب البقاء

__________________

ـ وذهب السيّد المحقّق البروجرديّ إلى أنّ مفاد الأمر عبارة عن البعث الإنشائيّ نحو العمل المطلوب. ومفاد النهي عبارة عن الزجر الإنشائيّ عن الوجود. نهاية الأصول : ٢٢٢.

وذهب السيّد المحقّق الخوئيّ إلى أنّهما مختلفان بحسب المعنى ومتّفقان في المتعلّق ، فإنّ الأمر معناه الدلالة على ثبوت شيء في ذمّة المكلّف ، والنهي معناه الدلالة على حرمانه عنه. المحاضرات ٤ : ٨٧ ـ ٨٩.

(١) والفرق بين الكفّ ومجرّد الترك أنّ الكفّ أمر وجوديّ ، لأنّ معناه صرف النفس عن إرادة الفعل. وأمّا الترك فهو أمر عدميّ ويصدق على مطلق العدم. نعم ، صرف النفس عن إرادة الفعل مستلزم للترك.

وذهب إلى الأوّل أكثر العامّة كما ذهب إلى الثاني أكثر الإماميّة. فراجع شرح العضديّ ١ : ١٠٣ ، المحصول في علم اصول الفقه ١ : ٣٥٠ ، إرشاد الفحول : ١٠٩ ، قوانين الاصول ١ : ١٣٧ ، الفصول الغرويّة : ١٢٠ ، فوائد الاصول ٢ : ٣٩٤.

(٢) هذا ما توهّمه العضديّ في شرحه على مختصر ابن الحاجب ١ : ١٠٣. وحاصله : أنّه لو كان متعلّق النهي نفس أن لا تفعل والترك لكان هذا خارجا عن الاختيار ، إذ العدم حاصل بنفس عدم علّته ، فليس مقدورا له حتّى يصحّ تعلّق النهي به.

(٣) حاصل الجواب : أنّ الترك ليس خارجا عن تحت الاختيار ، وإلّا يلزم أن لا يكون الوجود والفعل مقدورا. بيان ذلك : أنّه لا معنى لمقدوريّة الوجود إلّا أنّ للفاعل أن يوجد الشيء وأن لا يوجده ، فإذا تعلّق مشيئته بوجوده يوجد وإذا لم يتعلّق مشيئته بالوجود لا يوجد. وعدم الوجود ملازم لبقاء العدم السابق. فكما كان الفاعل قادرا على إيجاد الشيء كذلك كان قادرا على عدم إيجاده المستلزم لبقاء العدم السابق ، والقدرة على الملزوم قدرة على اللازم ، وهذا معنى اختياريّة العدم. وإن لم يكن ترك الشيء وعدمه اختياريّا فلا يكون الفاعل قادرا على عدم إيجاده ، وإذا لم يكن قادرا على عدم إيجاده كان موجبا بالنسبة إلى إيجاده ، وهو كما ترى.

(٤) هذا إشارة إلى ما استدل به المتوهّم على كون العدم غير مقدور. وتوضيحه : أنّ الشيء ـ

٦

والاستمرار الّذي يكون بحسبه محلّا للتكليف (١).

ثمّ إنّه لا دلالة لصيغته على الدوام والتكرار ، كما لا دلالة لصيغة الأمر ، وإن كان قضيّتهما عقلا تختلف ولو مع وحدة متعلّقهما ؛ بأن يكون طبيعة واحدة بذاتها وقيدها تعلّق بها الأمر مرّة والنهي اخرى (٢) ، ضرورة أنّ وجودها يكون بوجود فرد واحد وعدمها لا يكاد يكون إلّا بعدم الجميع ، كما لا يخفى (٣).

__________________

ـ قبل وجوده معدوم بالعدم الأزليّ ، والعدم الأزليّ خارج عن حيّز القدرة لكونه سابقا على وجود المكلّف ، فلو تعلّق به التكليف لزم تعلّقه بأمر غير مقدور.

(١) وهذا جواب عن الاستدلال المذكور. وحاصله : أنّ العدم الأزليّ وإن كان بحسب ذاته غير مقدور ـ إمّا لكونه سابقا على وجود المكلّف ، وإمّا لكونه محض البطلان ـ ، لكن المكلّف قادر على إيجاد الشيء ، ولازمه قطع استمرار العدم ، كما أنّه قادر على إيجاده ولازمه استمرار العدم ، والقدرة على الملزوم قدرة على اللازم ، وهذا المقدار من القدرة كاف في صحّة تعلّق النهي بالعدم.

(٢) كأن يقول المولى : «صلّ صلاة الجمعة في زمان الحضور ولا تصلّها في عصر الغيبة».

(٣) لا إشكال في أنّ مقتضى النهي يختلف مقتضى الأمر لدى العقلاء ، سواء تعدّد متعلّقهما أو اتّحد ، فإنّ الأمر إذا تعلّق بطبيعة يكتفى في امتثاله بإتيان فرد واحد ، بخلاف النهي ، فإنّه إذا تعلّق بطبيعة فلا يمتثل إلّا بترك جميع أفراده.

وإنّما الخلاف في بيان الوجه في ذلك :

فذهب المصنّف رحمه‌الله إلى أن هذا الاختلاف يرجع إلى حكم العقل في مقام الامتثال ، لأنّ المطلوب في باب الأمر وجود الطبيعة ، ومقتضى العقل أنّها توجد بوجود فرد واحد منها ؛ والمطلوب في باب النهي ترك الطبيعة ، ومقتضى العقل أنّ تركها لا يتحقّق إلّا بترك جميع الأفراد.

وذهب المحقّق الأصفهانيّ ـ بعد المناقشة فيما أفاد المصنّف رحمه‌الله ، بدعوى أنّ الطبيعة كما توجد بوجود فرد منها كذلك تنتفي بانتفائه ، ولا مقابلة بين الطبيعة الملحوظة على نحو تتحقّق بتحقّق فرد منها والطبيعة على نحو تنتفي بانتفاء جميع أفرادها ـ إلى أنّ المنشأ حقيقة ليس شخص الطلب المتعلّق بعدم الطبيعة كذلك ، بل سنخ الطلب الّذي لازمه تعلّق كلّ فرد من الطلب بفرد من طبيعة العدم عقلا ، بمعنى أنّ المولى ينشئ النهي بداعي المنع نوعا عن الطبيعة بحدّها الّذي لازمه إبقاء العدم بحدّه على حاله ، فتعلّق كلّ فرد من الطلب بفرد من العدم ـ تارة بلحاظ الحاكم ، واخرى بحكم العقل ـ لأجل جعل الملازمة بين سنخ الطلب وطبيعيّ العدم بحدّه. نهاية الدارية ١ : ٥٠٨ ـ ٥٠٩. ـ

٧

ومن ذلك يظهر أنّ الدوام والاستمرار إنّما يكون في النهي إذا كان متعلّقه طبيعة مطلقة غير مقيّدة بزمان أو حال ، فإنّه حينئذ لا يكاد يكون مثل هذه الطبيعة معدومة إلّا بعدم جميع أفرادها الدفعيّة والتدريجيّة (١).

وبالجملة : قضيّة النهي ليس إلّا ترك تلك الطبيعة الّتي تكون متعلّقة له ، كانت مقيّدة أو مطلقة ، وقضيّة تركها عقلا إنّما هو ترك جميع أفرادها (٢).

__________________

ـ وذهب المحقّق النائينيّ إلى أنّ المصلحة في باب الأوامر قائمة بصرف وجود الطبيعة على نحو الإيجاب الجزئيّ ، لا مطلق الوجود على نحو الإيجاب الكلّي ، ما لم تقم قرينة على الخلاف ؛ وصرف الوجود يتحقّق بأوّل وجود الطبيعة. وأمّا المفسدة في باب النواهي قائمة بمطلق وجود الطبيعة ، إلّا إذا قامت قرينة على أنّها قائمة بصرف وجودها ؛ فيكون النهي لأجل مبغوضيّة الطبيعة ، وهي تسري إلى جميع أفرادها ، فينحلّ النهي حسب تعدّد الأفراد ويكون المطلوب في النهي هو ترك كلّ فرد فرد على نحو العامّ الاستغراقيّ. فوائد الاصول ٢ : ٣٩٥.

وأمّا العلمان السيّدان الإمام الخمينيّ والسيّد الخوئيّ ـ بعد ما ناقشا في ما أفاد المصنّف رحمه‌الله والمحقّقان الأصفهانيّ والنائينيّ ـ : فذكر كلّ منهما وجها آخر لبيان الفرق بينهما.

أمّا السيّد الإمام الخمينيّ : فذهب إلى أنّ هذا الاختلاف يرجع إلى حكم العرف ، لأنّ الطبيعة لدى العرف توجد بوجود فرد ما وتنعدم بانعدام جميع الأفراد. مناهج الوصول ٢ : ١٠٤ ـ ١٠٨.

وأمّا السيّد المحقّق الخوئيّ : فذهب إلى أنّ نتيجة مقدّمات الحكمة في طرف الأمر هي الإطلاق البدليّ وصرف الوجود ، فيجوز الاكتفاء في مقام الامتثال بإيجاد فرد من أفراد الطبيعة ؛ وفي طرف النهي هي الإطلاق الشموليّ وحرمان المكلّف عن جميع أفرادها الدفعيّة والتدريجيّة. المحاضرات ٤ : ٨٩ ـ ١١٣.

ولا يخفى : أنّ ثمرة هذا الاختلاف تظهر فيما إذا تعارض دليل النهى مع دليل آخر يتكفّل بيان مفاده بمقتضى الوضع ـ كالعموم الوضعيّ ـ ، فإنّه بناء على أن يكون منشأ استفادة إطلاق الطبيعة في مورد النهي هو العقل تعارض الدليلان ، ولم يقدّم الدليل الآخر على دليل النهي ، لكون ظهور كلّ منهما تنجيزيّا. وأمّا بناء على أن يكون منشأ استفادة إطلاقها في مورد النهي من مقدّمات الحكمة فيكون الدليل الآخر مقدّما على دليل النهي ، لتقدّم الظهور الوضعيّ على الظهور الإطلاقيّ.

(١) المراد من الدفعيّة هو الأفراد العرضيّة ، والمراد من التدريجيّة هو الأفراد الطوليّة.

(٢) لا أنّ قضيّة النهي هي الدوام والتكرار.

٨

ثمّ إنّه لا دلالة للنهي على إرادة الترك لو خولف أو عدم إرادته ، بل لا بدّ في تعيين ذلك من دلالة ولو كان (١) إطلاق المتعلّق من هذه الجهة ، ولا يكفي إطلاقها (٢) من سائر الجهات (٣) ، فتدبّر جيّدا.

__________________

(١) هكذا في النسخ. ولكن الصواب أن يقول : «ولو كانت» ، فيكون المعنى : ولو كانت الدلالة إطلاق المتعلّق من جهة شموله ما بعد العصيان.

(٢) أي : إطلاق الطبيعة. والاولى أن يقول : «إطلاقه» ، كي يرجع الضمير إلى المتعلّق.

(٣) كالإطلاق من حيث الزمان والمكان والفور والتراخي وغيرها.

٩

فصل

[في اجتماع الأمر والنهي]

اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد وامتناعه (١) على أقوال ،

__________________

(١) لا يخفى : أنّ المتقدّمين عنونوا النزاع في المقام هكذا : «هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد أم لا؟». راجع القوانين ١ : ١٤٠ ، الفصول الغرويّة : ١٢٤.

والمصنّف رحمه‌الله وإن وافقهم في التعبير ولكن ما يأتي منه ـ من أنّ النزاع في سراية كلّ من الأمر والنهي إلى متعلّق الآخر ـ صريح في أنّه لم يرد ظاهر هذا العنوان ، فإنّ ظاهر هذا العنوان أنّ النزاع كبرويّ ، وما يأتي منه صريح في أنّ النزاع في المقام صغرويّ.

والمحقّق النائينيّ ناقش في العنوان المذكور بما حاصله : أنّ عنوان النزاع على ما حرّره الأصحاب يوهم كون النزاع في المسألة كبرويّا ، بمعنى أنّهم اتّفقوا على الصغرى ـ وهي لزوم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وسراية أحدهما إلى متعلّق الآخر إذا اجتمع متعلّقهما وجودا ـ واختلفوا في الكبرى ، فمنهم من ادّعى أنّه لا مانع من اجتماعهما في شيء واحد بدعوى عدم المضادّة بينهما ، ومنهم من ادّعى استحالة اجتماعهما فيه بدعوى وجود المضادّة بينهما. ولكن التحقيق : أنّ تضادّ الأحكام بأسرها أمر مفروغ عنه غير قابل للنزاع ، فلا شبهة في استحالة اجتماعهما في شيء واحد حتّى عند القائل بجواز الاجتماع ، فلا نزاع في الكبرى ، بل إنّما النزاع في الصغرى ، فيبحث عن أنّه إذا اجتمع متعلّق الأمر والنهي من حيث الإيجاد والوجود هل يلزم من الاجتماع كذلك أن يتعلّق كلّ من الأمر والنهي بعين ما تعلّق به الآخر ، فيلزم اجتماعهما حقيقة ، وهو ممتنع ـ كما هو مقالة القائل بالامتناع ـ ، أو لا يلزم ذلك ، فلا يلزم الاجتماع حقيقة ـ كما هو مقالة القائل بالجواز ـ؟

وبالجملة : فلا نزاع بينهم في الكبرى ، بل اتّفقوا على امتناع استحالة الاجتماع ، وإنّما ـ

١٠

ثالثها جوازه عقلا وامتناعه عرفا (١).

[تقديم مقدّمات]

وقبل الخوض في المقصود يقدّم امور :

الأوّل : [المراد بالواحد في عنوان النزاع]

المراد بالواحد مطلق ما كان ذا وجهين ومندرجا تحت عنوانين ، بأحدهما

__________________

ـ النزاع بينهم في الصغرى ـ أي لزوم الاجتماع حقيقة وعدمه ـ. فوائد الاصول ٢ : ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

والتحقيق : أنّ النزاع في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد لا يرجع إلى النزاع في مضادّة الأحكام وعدمها حتّى يقال : «إنّ مضادّة الأحكام أمر مفروغ عنه غير قابل للنزاع» ، بل النزاع في المقام يرجع إلى أنّه هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في واحد ذي عنوانين أم لا؟ فإن قلنا بأنّ الواحد ذا العنوانين واحد حقيقة يمتنع اجتماعهما ـ كما قال القائل بالامتناع ـ ، وإن قلنا بأنّه متعدّد حقيقة يجوز الاجتماع ـ كما قال القائل بالجواز ـ.

وعليه فلا نزاع في الصغرى ـ أي اجتماع الأمر والنهي في الواحد ذي العنوانين ـ ، وإنّما النزاع في الكبرى وجواز الاجتماع وامتناعه.

ولعلّه قال السيّد الإمام الخمينيّ ـ بعد اعترافه بلزوم تغيير العنوان المذكور في كلمات المتقدّمين ـ : «إنّ الأولى أن يقال : هل يجوز اجتماع الأمر والنهي على عنوانين متصادقين على واحد أو لا؟ ويكون النزاع حينئذ كبرويّا». مناهج الوصول ٢ : ١١٠.

(١) وأوّلها : القول بالجواز. واختاره صاحب القوانين ونسبه إلى الأشاعرة وقال : «وهو الظاهر من كلام السيّد في الذريعة. وذهب إليه جلّة من فحول متأخّرينا ، كمولانا المحقّق الأردبيليّ وسلطان العلماء والمحقّق الخوانساريّ وولده المحقّق والفاضل المدقّق الشيروانيّ والفاضل الكاشانيّ والسيّد الفاضل صدر الدين وأمثالهم». قوانين الاصول ١ : ١٤٠.

وذهب إليه أيضا بعض المعاصرين ، كالمحقّق النائينيّ في فوائد الاصول ٢ : ٣٩٨ ، والسيّد البروجرديّ في نهاية الاصول : ٢٣٢ ، والإمام الخمينيّ في المناهج ٢ : ١٢٨.

وثانيها : القول بالامتناع. وهذا منسوب إلى أكثر المعتزلة. وذهب إليه كثير من الإماميّة ، كصاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ١٢٥ ، وصاحب المعالم في معالم الدين : ١٠٧ ، وصاحب الجواهر في جواهر الكلام ٨ : ١٤٣.

وذهب المحقّق الخوئيّ إلى التفصيل بين ما إذا كان المجمع واحدا وجودا وماهيّة فيمتنع الاجتماع وبين ما إذا كان المجمع متعدّدا كذلك فيجوز الاجتماع. المحاضرات ٤ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

١١

كان موردا للأمر وبالآخر للنهي (١) ، وإن كان كلّيّا مقولا على كثيرين ، كالصلاة في المغصوب (٢).

وإنّما ذكر (٣) لإخراج ما إذا تعدّد متعلّق الأمر والنهي ولم يجتمعا وجودا ـ ولو جمعهما واحد مفهوما ، كالسجود لله تعالى والسجود للصنم مثلا ـ ، لا لإخراج الواحد الجنسيّ أو النوعيّ (٤) ، كالحركة والسكون الكلّيّين المعنونين بالصلاتيّة والغصبيّة (٥).

الثاني : [الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي عن العبادة]

الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي في العبادة (٦) هو أنّ الجهة المبحوث عنها فيها ـ الّتي بها تمتاز المسائل ـ هي أنّ تعدّد الوجه والعنوان في الواحد يوجب تعدّد متعلّق الأمر والنهي ـ بحيث يرتفع به غائلة استحالة الاجتماع في الواحد بوجه واحد ـ أو لا يوجبه ، بل يكون حاله حاله؟ فالنزاع في سراية كلّ من الأمر والنهي إلى متعلّق الآخر ، لاتّحاد متعلّقيهما وجودا ، وعدم سرايته ، لتعدّدهما

__________________

(١) فالمراد من الواحد هو الواحد بالوجود ، الذي يقابل المتعدّد ، لا ما يقابل الكلّي. فلا فرق بين أن يكون واحدا شخصيّا أو واحدا جنسيّا أو نوعيّا.

(٢) فإنّ الصلاة في الأرض المغصوبة واحدة في الوجود ، وإن لم يكن واحدة شخصا ، بل هي واحدة نوعا وكلّيّ مقول على كثيرين ، فإنّها كما تصدق على الصلاة قائما في المغصوبة تصدق على الصلاة قاعدا فيها وعلى الصلاة مع فتح العينين ومع غمضهما وعلى الصلاة في هذا الآن وعلى الصلاة في الآن الثاني وهكذا.

(٣) أي : ذكر قيد «في واحد».

(٤) هذا تعريض بالمحقّق القميّ وصاحب الفصول ، فإنّهما خصّصا النزاع بالواحد الشخصيّ.

راجع قوانين الاصول ١ : ١٤٠ ، والفصول الغرويّة : ١٢٤.

(٥) فإذا أمر المولى بالصلاة ونهى عن الحركة فبما أنّ العنوانين يتصادقان على الصلاة يقع المجمع موردا للنزاع ، وإن كانت الحركة كلّيّ ينطبق عليه عنوان الصلاة والغصب. وكذا السكون.

(٦) وفي بعض النسخ «في العبادات».

١٢

وجها. وهذا بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الاخرى ، فإنّ البحث فيها عن أنّ النهي في العبادة (١) يوجب فسادها بعد الفراغ عن التوجّه إليها.

نعم ، لو قيل بالامتناع مع ترجيح جانب النهي في مسألة الاجتماع يكون مثل الصلاة في الدار المغصوبة من صغريات تلك المسألة.

فانقدح أنّ الفرق بين المسألتين في غاية الوضوح.

وأمّا ما أفاده في الفصول من الفرق ـ بما هذه عبارته : «ثمّ اعلم أنّ الفرق بين المقام والمقام المتقدّم ـ وهو أنّ الأمر والنهي هل يجتمعان في شيء واحد أو لا؟ ـ أمّا في المعاملات فظاهر (٢) ، وأمّا في العبادات فهو (٣) أنّ النزاع هناك (٤) فيما إذا تعلّق الأمر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة وإن كان بينهما عموم مطلق ، وهنا فيما إذا اتّحدتا حقيقة وتغايرتا بمجرّد الإطلاق والتقييد بأن تعلّق الأمر بالمطلق والنهي بالمقيّد» (٥) ، انتهى موضع الحاجة (٦) ـ فاسد ، فإنّ مجرّد تعدّد الموضوعات وتغايرها بحسب الذوات لا يوجب التمايز بين المسائل ما لم يكن هناك اختلاف الجهات. ومعه لا حاجة أصلا إلى تعدّدها (٧) ، بل لا بدّ من عقد

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «في العبادة أو المعاملة».

(٢) ولعلّ الوجه في الظهور أنّ الأوامر لا تتعلّق بالمعاملات إلّا نادرا ، فلا يتحقّق مورد الاجتماع فيها.

(٣) أي : الفرق.

(٤) أي : في مسألة الاجتماع.

(٥) وحاصل ما أفاده في الفرق بين المسألتين أنّ الموضوع في مسألة اجتماع الأمر والنهي متعدّد حقيقة ، لتعلّق الأمر بطبيعة مغايرة للطبيعة الّتي تعلّق بها النهي ، سواء كانت النسبة بين الطبيعتين عموما من وجه كما في قوله : «صلّ ، ولا تغصب» أم عموما مطلقا كقوله : «أكرم الناطق ، ولا تكرم الشاعر» ، فإنّ الطبيعتين ـ أعني الصلاة والغصب ، والناطق والشاعر ـ متغايرتان. بخلاف الموضوع في مسألة النهي في العبادة ، فإنّ الموضوع فيها متّحد حقيقة ، بأن توجّه النهي إلى ما توجّه به الأمر ، والتغاير إنّما هو في الإطلاق والتقييد ، كقوله : «صلّ ، ولا تصلّ في الثوب المغصوب».

(٦) الفصول الغرويّة : ١٤٠.

(٧) أي : ومع اختلاف جهات البحث لا حاجة أصلا إلى تعدّد الموضوعات.

١٣

مسألتين مع وحدة الموضوع وتعدّد الجهة المبحوث عنها (١) ، وعقد مسألة واحدة في صورة العكس (٢) ، كما لا يخفى (٣).

ومن هنا انقدح أيضا فساد الفرق بأنّ النزاع هنا في جواز الاجتماع عقلا ، وهناك في دلالة النهي لفظا ، فإنّ مجرّد ذلك لو لم يكن تعدّد الجهة في البين لا يوجب إلّا تفصيلا في المسألة الواحدة ، لا عقد مسألتين. هذا مع عدم اختصاص النزاع في تلك المسألة بدلالة اللفظ ، كما سيظهر (٤).

__________________

(١) كما كان كذلك في مباحث الأوامر ، فإنّ الموضوع فيها ـ وهو الأمر ـ واحد ، ولكن جهات البحث عن الأمر متعدّدة. فقد يبحث عن كونه ظاهرا في الوجوب ، وقد يبحث عن دلالته على الفور أو التراخي ، وقد يبحث عن دلالته على المرّة أو التكرار ، وهكذا. ولأجل تعدّد جهات البحث عقدوا لكلّ منها مسألة.

(٢) أي : في صورة وحدة جهة البحث وتعدّد الموضوع ، كالاستثناء المتعقّب للجمل المتعدّدة الموضوع التي جهة البحث عنها واحدة ، فلذا عقدت لها مسألة واحدة.

(٣) وذهب المحقّق النائينيّ إلى أنّ المسألتين يفترقان موضوعا وجهة.

أمّا موضوعا : فلأنّ موضوع البحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي هو ما إذا تعلّق الأمر بعنوان والنهي بعنوان آخر وكانت النسبة بين العنوانين العموم من وجه. وموضوع البحث في مسألة النهي عن العبادة هو ما إذا تعلّق النهي ببعض ما تعلّق الأمر به على وجه تكون النسبة بين المتعلّقين العموم المطلق.

وأمّا جهة : فلأنّ جهة البحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي هو اتّحاد المتعلّقين وعدمه. وهي في مسألة النهي عن العبادة اقتضاء النهي للفساد. فوائد الأصول ٢ : ٤٥٤.

وأفاد المحقّق العراقيّ أنّ الفرق بينهما أنّ الفساد في مسألتنا هذه ـ على الامتناع ـ يدور مدار العلم بالنهي ، لا مدار النهي بوجوده الواقعيّ النفس الأمريّ. بخلافه في مسألة النهي عن العبادة ، فإنّ الفساد فيها ـ على الاقتضاء ـ يدور مدار وجود النهي واقعا وعدمه. نهاية الأفكار ٢ : ٤٥٠ ـ ٤٥١.

وقال السيّد المحقّق الخوئيّ : «إنّ النقطة الرئيسيّة لامتياز إحدى المسألتين عن الاخرى هي أنّ جهة البحث في إحداهما ـ وهي مسألة اجتماع الأمر والنهي ـ صغرويّة ، وفي الاخرى كبرويّة». المحاضرات ٤ : ١٦٦.

والفارق بينهما عند السيّد الإمام الخمينيّ هو اختلافهما في الموضوع والمحمول.

مناهج الوصول ٢ : ١١٠.

(٤) والحاصل : أنّه قد يتخيّل أنّ الفرق بين المسألتين أنّ البحث في هذه المسألة عقليّ ، ـ

١٤

الثالث : [إنّ المسألة اصوليّة]

أنّه حيث كانت نتيجة هذه المسألة (١) ممّا يقع في طريق الاستنباط (٢) كانت المسألة من المسائل الاصوليّة ، لا من مبادئها الأحكاميّة ولا التصديقيّة ، ولا من المسائل الكلاميّة ، ولا من المسائل الفرعيّة (٣) ، وإن كانت فيها جهاتها ، كما

__________________

ـ لأنّ الحاكم بالجواز أو الامتناع إنّما هو العقل. والبحث في تلك المسألة لفظيّ ، لأنّ المبحوث عنه هناك أنّ النهي المتعلّق بالعبادة هل يدلّ على فسادها أم لا؟

وناقش فيه المصنّف بوجهين :

الأوّل : أنّ مجرّد كون الجواز أو عدمه عقليّا وكون البحث في مسألة النهي عن العبادة لفظيّا ـ ما لم يرجع إلى تعدّد جهة البحث ـ لا يوجب إلّا التفصيل في المسألة الواحدة ، بأن يقال : «النهي عقلا لا يجتمع مع الأمر ، ولفظا يدلّ على الفساد» ، أو يقال : «النهي عقلا لا يجتمع مع الأمر ، ولفظا يدلّ على الفساد».

الثاني : أنّه سيجيء أنّ الجهة المبحوث عنها في تلك المسألة هي ثبوت الملازمة بين حرمة العبادة وفسادها وعدم ثبوت الملازمة. ومن الواضح أنّ البحث عن تلك الجهة لا يختصّ بما إذا كانت الحرمة مدلولا لدليل لفظيّ ، بل يعمّ الجميع.

(١) وهي جواز الاجتماع أو امتناعه.

(٢) فيقال ـ مثلا ـ : «الصلاة في الدار المغصوبة ممّا اجتمع فيه الأمر والنهي ، وكلّما اجتمع فيه الأمر والنهي فهو صحيح ـ على الجواز ـ ، فهذه الصلاة صحيحة». أو يقال : «الصلاة في الدار المغصوبة ممّا اجتمع فيه الأمر والنهي ، وكلّما اجتمع فيه الأمر والنهي فهو باطل ـ على الامتناع وترجيح جانب النهي ـ ، فهذه الصلاة باطلة».

(٣) اعلم أنّ في مسألتنا هذه وجوه ، بل أقوال :

الأوّل : أنّها من المسائل الفقهيّة ، لأنّ البحث في هذه المسألة يرجع إلى البحث عن عوارض فعل المكلّف ، وهي صحّة العبادة في المجمع ـ كالصلاة في الدار المغصوبة ـ أو فسادها فيه.

وهذا القول لم أجد من صرّح بذلك.

وفيه : أنّ البحث في هذه المسألة ليس عن صحّة العبادة وفسادها ابتداء كي تكون من المسائل الفقهيّة ، بل إنّما يبحث فيها عن جواز الاجتماع وامتناعه. وأمّا الصحّة والفساد فيترتّبان على القول بالجواز والامتناع.

الثاني : أنّها من المسائل الكلاميّة ، لأنّ البحث فيها عن استحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وإمكانه عقلا. والبحث عن الاستحالة والإمكان يناسب المسائل الكلاميّة. ـ

١٥

لا يخفى ، ضرورة أنّ مجرّد ذلك لا يوجب كونها منها إذا كانت فيها جهة اخرى يمكن عقدها معها من المسائل (١) ، إذ لا مجال حينئذ لتوهّم عقدها من غيرها في

__________________

ـ وهذا ما ذهب إليه المحقّق القميّ في قوانين الاصول ١ : ١٤٠.

وفيه : أنّ الضابط في كون المسألة كلاميّة هو أن يكون البحث فيها عن أحوال المبدأ والمعاد. والمبحوث عنه في مسألتنا هذه أجنبيّ عن أحوال المبدأ والمعاد والعقائد الدينيّة ، فإنّ المبحوث عنه فيها جواز الاجتماع وعدمه أو سراية النهي إلى متعلّق الأمر وعدمه.

الثالث : أنّها من المبادئ الأحكاميّة. وهي ما يكون البحث فيه عن حال الحكم ولوازمه. ويبحث في مسألتنا هذه عن حال الأحكام من حيث إمكان اجتماع اثنين منها في شيء واحد وعدمه. وهذا ما اختاره الشيخ الأعظم الأنصاريّ ، ونسبه إلى العضديّ والشيخ البهائيّ ، فراجع مطارح الأنظار : ١٢٦.

وأورد عليه المحقّق الخوئيّ بأنّ المبادئ إمّا تصوّريّة ـ وهي عبارة عن تصوّر نفس الموضوع والمحمول بذاتها وذاتيّاتها ـ وإمّا تصديقيّة ـ وهي الّتي تكون مبدءا للتصديق بالنتيجة ، كالمسائل الاصوليّة بالقياس إلى المسائل الفقهيّة ـ ، ولا ثالث لهما. فإن كان المراد من المبادئ الأحكاميّة تصوّر نفس الموضوع والمحمول فهي من المبادئ التصوّريّة. وإن كان المراد ما يوجب التصديق بثبوت حكم أو نفيه فهي من المبادئ التصديقيّة لعلم الفقه. المحاضرات ٤ : ١٧٨ ـ ١٧٩.

الرابع : أنّها من المبادئ التصديقيّة لعلم الاصول ، لأنّ البحث في هذه المسألة صغرويّة ، ولا تقع في طريق الاستنباط بلا واسطة ضمّ كبرى اصوليّة حتّى تكون اصوليّة ؛ وفي الحقيقة أنّ البحث يرجع إلى البحث عمّا يقتضي وجود الموضوع لمسألة التعارض والتزاحم ، بأنّه على القول بالامتناع تكون المسألة من صغريات مسألة التعارض ، وبعد إعمال قواعد التعارض ينتج صحّة العبادة. هذا ما اختار المحقّق النائينيّ في فوائد الاصول ٢ : ٤٠ وأجود التقريرات ١. ٣٣٣.

وأورد عليه السيّد الإمام الخمينيّ بما حاصله : أنّ كون بحث محقّقا لموضوع بحث آخر لا يوجب أن يكون من المبادئ التصديقيّة ، وبراهين إثبات وجود الموضوع ـ لو سلّم كونها من المبادئ ـ غير علل وجوده. مع أنّ في كون المسألة محقّقة لوجود الموضوع لمسألة التعارض نظرا ، لأنّ الموضوع في باب التعارض هو الخبران المختلفان ، والمناط في الاختلاف هو الفهم العرفيّ ، والجمع هناك عرفيّ ، لا عقليّ ؛ بخلافه في المقام ، فإنّ المسألة عقليّة صرفة ، فلا ربط بين البابين. مناهج الوصول ٢ : ١١٢ و ١١٧.

الخامس : أنّها أصوليّة. وهذا ما اختاره المصنّف رحمه‌الله وتبعه كثير من المتأخرين.

(١) أي : مجرّد وجود سائر الجهات لا يوجب كون هذه المسألة من سائر العلوم ، إذا كانت في المسألة جهة اخرى قويّة يمكن عقدها مع تلك الجهة من المسائل الاصوليّة.

١٦

الأصول (١) ، وإن عقدت كلاميّة في الكلام ، وصحّ عقدها فرعيّة أو غيرها بلا كلام. وقد عرفت في أوّل الكتاب (٢) : أنّه لا ضير في كون مسألة واحدة يبحث فيها عن جهة خاصّة من مسائل علمين ، لانطباق جهتين عامّتين على تلك الجهة ، كانت بإحداهما من مسائل علم وبالاخرى من آخر. فتذكّر.

الرابع : [إنّ المسألة عقليّة]

إنّه قد ظهر من مطاوي ما ذكرناه : أنّ المسألة عقليّة ، ولا اختصاص للنزاع في جواز الاجتماع والامتناع فيها بما إذا كان الإيجاب والتحريم باللفظ ، كما ربّما يوهمه التعبير بالأمر والنهي الظاهرين في الطلب بالقول ، إلّا أنّه لكون الدلالة عليهما غالبا بهما ، كما هو أوضح من أن يخفى.

وذهاب البعض (٣) إلى الجواز عقلا والامتناع عرفا ليس بمعنى دلالة اللفظ ، بل بدعوى أنّ الواحد بالنظر الدقيق العقليّ اثنين (٤) ، وأنّه بالنظر المسامحيّ العرفيّ واحد ذو وجهين ، وإلّا فلا يكون معنى محصّلا للامتناع العرفيّ. غاية الأمر دعوى دلالة اللفظ على عدم الوقوع بعد اختيار جواز الاجتماع (٥) ، فتدبّر جيّدا.

__________________

(١) أي : لا مجال لأن يتوهّم عقد هذه المسألة في علم الاصول من غير مسائل الاصول استطرادا مع ثبوت جهة قويّة فيها يمكن عقدها مع تلك الجهة من المسائل الاصوليّة.

(٢) راجع الأمر الأوّل من المقدّمة في الجزء الأوّل : ٢٠.

(٣) وهو المحقّق الأردبيليّ في مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١١٢.

(٤) هكذا في النسخ. ولكن الصحيح أن يقول : «اثنان» ، فإنّه خبر «أنّ».

(٥) أي : غاية ما يمكن أن يدّعى هو أنّ اللفظ يدلّ على عدم الوقوع بعد اختيار الجواز عقلا ، لا أنّه يدلّ على الامتناع كي يتوهّم كون المسألة لفظيّة.

والأولى أن يقال : «غاية الأمر أنّه يمكن أن يدّعى عدم الدلالة على الوقوع». والوجه في ذلك أنّه ليس في المقام لفظ مخصوص يدلّ على عدم الوقوع.

١٧

الخامس : [إنّ المسألة تعمّ جميع أقسام الإيجاب والتحريم]

لا يخفى أنّ ملاك النزاع (١) في جواز الاجتماع والامتناع يعمّ جميع أقسام الإيجاب والتحريم (٢) ، كما هو قضيّة إطلاق لفظ الأمر والنهي (٣).

ودعوى الانصراف إلى النفسيّين التعيينيّين العينيّين في مادّتهما (٤) غير خالية عن الاعتساف ، وإن سلّم في صيغتهما ، مع أنّه فيها ممنوع.

نعم ، لا يبعد دعوى الظهور والانسباق من الإطلاق (٥) بمقدّمات الحكمة الغير الجارية في المقام ، لما عرفت من عموم الملاك لجميع الأقسام ، وكذا ما وقع في البين من النقض والإبرام (٦).

مثلا (٧) : إذا أمر بالصلاة والصوم تخييرا بينهما ، وكذلك نهى عن التصرّف في الدار والمجالسة مع الأغيار ، فصلّى فيها مع مجالستهم ، كان حال الصلاة فيها (٨) حالها كما إذا أمر بها تعيينا (٩) ونهى عن التصرّف فيها كذلك في جريان النزاع

__________________

(١) وهو لزوم اجتماع الضدّين على القول بالامتناع.

(٢) فإنّ الوجوب ـ سواء كان نفسيّا أو غيريّا أو عينيّا أو غيرها ـ يضادّ الحرمة بجميع أصنافها.

(٣) أي : كما أنّ إطلاق لفظ الأمر والنهي في عنوان المسألة تقتضي التعميم.

(٤) هذا ما ادّعاه صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ١٢٤.

(٥) أي : إطلاق صيغة الأمر والنهي ، لا إطلاق مادّتهما كي يقال : «ظاهر كلامه أنّ إطلاق المادّة يقتضي النفسيّة والتعيينيّة والعينيّة لو لا قيام القرنية على الخلاف. وهذا ينافي ما في صدر كلامه من أنّ قضيّة إطلاق لفظ الأمر والنهي هو التعميم».

(٦) فعموم الملاك لجميع الأقسام وجريان النقض والإبرام في جميعها قرينتان على العموم ، ومع وجود القرينة لا تتمّ مقدّمات الحكمة.

(٧) هذا مثال للوجوب والحرمة التخييريّين.

(٨) أي : في الدار.

(٩) هكذا في النسخة الأصليّة. وفي بعض النسخ : «حالها كما إذا أمر بها تعيّنا». والصحيح أن يقول : «حالها إذا أمر بها تعيينا» ، فإنّ كلمة «كما» مستدركة. والأولى أن يقول : «حالها فيما إذا امر بها تعيينا ...». ويكون معنى العبارة : أنّه كان حال الصلاة في الدار المغصوبة حال الصلاة الّتي امر بها تعيينا ونهي عن التصرّف في الدار تعيينا في كونها مجمعا لعنوان الصلاة ـ

١٨

في الجواز والامتناع ومجيء أدلّة الطرفين وما وقع من النقض والإبرام في البين. فتفطّن (١).

السادس : [أخذ قيد المندوحة]

انّه ربما يؤخذ في محلّ النزاع قيد «المندوحة» (٢) في مقام الامتثال (٣). بل

__________________

ـ والتصرّف في الدار ؛ فيجري فيها النزاع المعروف وتجيء أدلّة الطرفين.

(١) واستثنى المحقّق الخوئيّ خصوص الإيجاب والتحريم التخييريّين ، وذهب إلى عدم جريان النزاع فيهما ، بدعوى عدم إمكان اجتماع الوجوب والحرمة التخييريّين في شيء واحد.

واستدلّ عليه بأنّ الحرمة التخييريّة تمتاز عن الوجوب التخييريّ في أنّها ترجع إلى حرمة الجمع بين فعلين ، لقيام المفسدة بالمجموع ، لا بالجامع بينهما ، وإلّا لكان كلّ من الفعلين محرّما تعيينا. وأمّا الوجوب التخييريّ فيرجع إلى إيجاب الجامع بين شيئين أو أشياء ، لا إلى إيجاب كلّ منها ـ أو منهما ـ بخصوصه. ولا تنافي بين إيجاب الجامع بين شيئين وحرمة الجمع بينهما ، لا في المبدأ ولا في المنتهى.

أمّا المبدأ : فلعدم المانع من قيام مصلحة ملزمة بالجامع بينهما وقيام مفسدة ملزمة بالمجموع منهما.

وأمّا المنتهى : فلأنّ المكلّف قادر على امتثال كلا التكليفين معا ، بأن يأتي بأحدهما ويترك الآخر. المحاضرات ٤ : ١٨٨.

ولكن المحقّق الاصفهانيّ ـ بعد ما تعرّض للفرق المذكور بين الوجوب التخييريّ والحرمة التخييريّة ـ قال : «لكنّه لا يؤثّر في الخروج عن محلّ النزاع جوازا ومنعا». نهاية الدراية ١ : ٥١٣.

ولعلّ الوجه فيما ذكره المحقّق الاصفهانيّ أنّ قيام المصلحة في الوجوب التخييريّ بالجامع محلّ تأمّل ، بل يمكن أن يكون لكلّ واحد من الطرفين أو الأطراف مصلحة خاصّة ولكن اكتفى الشارع بالواحد تسهيلا.

(٢) المراد من المندوحة أن يكون المكلّف متمكّنا من موافقة الأمر في مورد آخر غير مورد الاجتماع.

(٣) أوّل من أخذ قيد «المندوحة» في محلّ النزاع هو المحقّق القميّ ، وإن لم يصرّح بذلك.

قوانين الاصول : ١٤٠ و ١٤٢ و ١٥٣.

وأوّل من صرّح بذلك هو صاحب الفصول ، حيث قال : «وإن اختلفت الجهتان وكان للمكلّف مندوحة في الامتثال فهو موضع النزاع». الفصول الغرويّة : ١٢٤.

١٩

ربما قيل (١) بأنّ الإطلاق إنّما هو للاتّكال على الوضوح ، إذ بدونها يلزم التكليف بالمحال(٢).

ولكنّ التحقيق ـ مع ذلك ـ : عدم اعتبارها في ما هو المهمّ في محلّ النزاع من لزوم المحال ، وهو اجتماع الحكمين المتضادّين وعدم الجدوى في كون موردهما موجّها بوجهين في دفع غائلة اجتماع الضدّين ، أو عدم لزومه (٣) وأنّ تعدّد الوجه يجدي في دفعها. ولا يتفاوت في ذلك (٤) أصلا وجود المندوحة وعدمها. ولزوم التكليف بالمحال بدونها محذور آخر (٥) لا دخل له بهذا النزاع.

نعم ، لا بدّ من اعتبارها في الحكم بالجواز فعلا لمن يرى التكليف بالمحال محذورا ومحالا (٦) ، كما ربما لا بدّ من اعتبار أمر آخر (٧) في الحكم به كذلك (٨) أيضا.

وبالجملة : لا وجه لاعتبارها إلّا لأجل اعتبار القدرة على الامتثال وعدم لزوم التكليف بالمحال ، ولا دخل له بما هو المحذور في المقام من التكليف المحال (٩).

__________________

(١) والقائل صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ١٢٤.

(٢) توضيح ذلك : أنّ المكلّف إن كان متمكّنا من إيجاد متعلّق التكليف في غير مورد الاجتماع ـ بأن يتمكّن من فعل الصلاة في غير الدار المغصوبة ـ فحينئذ لا مانع من توجيه التكليف بالصلاة إليه ، لتمكّنه من فعلها. وأمّا إذا لم يكن متمكّنا من الإتيان بالصلاة ـ مثلا ـ ، لا في الدار لأنّ الممنوع الشرعيّ كالممتنع العقليّ ، ولا في خارج الدار لعدم المندوحة له ، فإذن لا يمكن توجيه التكليف بالصلاة إليه ، لأنّه من التكليف بالمحال ، وعليه فلا معنى للبحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه.

(٣) أي : أو عدم لزوم المحال.

(٤) أي : في محلّ النزاع.

(٥) غير محذور استحالة التكليف.

(٦) كالعدليّة.

(٧) كالبلوغ والعقل وغيرهما.

(٨) أي : فعلا.

(٩) وتوضيح ما أفاده المصنّف في المقام : أنّ النزاع في المقام يقع في مرحلتين :

الأولى : النزاع في مرحلة الجعل والانشاء. بأن يقال : هل يمتنع تعلّق حكمين متضادّين بشيء واحد ذي وجهين ـ لعدم كفاية تعدّد الوجه في دفع غائلة اجتماع الضدّين ، فيكون نفس التكليف محالا ـ أم يمكن ذلك ـ لكون تعدّد الوجه موجبا لتعدّد المتعلّق ـ؟

ومن الواضح أنّ هذا المعنى لا يختلف الحال فيه بين وجود المندوحة وعدم وجودها. وهذا هو محلّ البحث في مسألتنا هذه. ـ

٢٠