كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
ISBN: 978-964-470-562-5
الصفحات: ٤١٩

غالبة على مصلحته ، ولذا لا يقع صحيحا على الامتناع ، فإنّ الحزازة والمنقصة فيه مانعة عن صلاحيّة التقرّب به ، بخلاف المقام ، فإنّه (١) على ما هو عليه من الرجحان وموافقة الغرض ـ كما إذا لم يكن تركه راجحا ـ بلا حدوث حزازة فيه أصلا.

وإمّا لأجل (٢) ملازمة الترك لعنوان كذلك من دون انطباقه عليه ، فيكون كما إذا انطبق عليه من غير تفاوت ، إلّا في أنّ الطلب المتعلّق به حينئذ ليس بحقيقيّ ، بل بالعرض والمجاز ، فإنّما يكون (٣) في الحقيقة متعلّقا بما يلازمه من العنوان بخلاف صورة الانطباق لتعلّقه به حقيقة (٤) ، كما في سائر المكروهات من غير فرق ، إلّا أنّ منشأه فيها حزازة ومنقصة في نفس الفعل وفيه رجحان في الترك من دون حزازة في الفعل أصلا ، غاية الأمر كون الترك أرجح.

نعم (٥) ، يمكن أن يحمل النهي في كلا القسمين على الإرشاد إلى الترك الّذي

__________________

ـ كونه مقدّمة له ـ حراما ويفسد لو كان عبادة. مع أنّه لا حزازة في فعله وإنّما كان النهي عنه وطلب تركه لما فيه من المقدّميّة له وهو على ما هو عليه من المصلحة ، فالمنع عنه لذلك كاف في فساده لو كان عبادة.

قلت : يمكن أن يقال : إنّ النهي التحريميّ لذلك وإن كان كافيا في ذلك بلا إشكال ، إلّا أنّ التنزيهيّ غير كاف إلّا إذا كان عن حزازة فيه ، وذلك لبداهة عدم قابليّة الفعل للتقرّب به منه تعالى مع المنع عنه وعدم ترخيصه في ارتكابه. بخلاف التنزيهيّ عنه إذا كان لا لحزازة فيه بل لما في الترك من المصلحة الراجحة ، حيث إنّه معه مرخوص فيه وهو على ما هو عليه من الرجحان والمحبوبيّة له تعالى ، ولذلك لم تفسد العبادة إذا كانت ضدّ المستحبّة أهمّ اتّفاقا ، فتأمّل. منه [أعلى الله مقامه].

(١) أي : الفعل ، وهو الصوم يوم عاشوراء ـ مثلا ـ.

(٢) هذا ثاني الوجوه الّتي أجاب بها المصنّف رحمه‌الله عن إشكال القسم الأوّل. وحاصله : أنّ الوجه في النهي التنزيهيّ عن صوم عاشوراء هو ملازمة تركه لعنوان راجح ذي مصلحة أكثر من مصلحة فعله ، فيرجّح الترك لتحقّق تلك المصلحة الملازمة له. مثلا : تعلّق النهي بصوم يوم عاشوراء لملازمة تركه لحال البكاء على أبي عبد الله عليه‌السلام. والمفروض أنّ مصلحة البكاء في يوم عاشوراء أكثر من مصلحة صومه.

(٣) أي : يكون الطلب.

(٤) أي : لتعلّق الطلب بالترك حقيقة.

(٥) وهذا هو الوجه الثالث من الوجوه الّتي ذكرها المصنّف رحمه‌الله في الجواب عن إشكال القسم ـ

٤١

هو أرجح من الفعل أو ملازم لما هو الأرجح وأكثر ثوابا لذلك ، وعليه يكون النهي على نحو الحقيقة لا بالعرض والمجاز ، فلا تغفل (١).

وأمّا القسم الثاني (٢) : فالنهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما ذكر في القسم الأوّل طابق النعل بالنعل. كما يمكن أن يكون بسبب حصول منقصة في الطبيعة المأمور بها ، لأجل تشخّصها في هذا القسم بمشخّص غير ملائم لها ، كما في الصلاة في الحمّام ، فإنّ تشخّصها بتشخّص وقوعها فيه (٣) لا يناسب كونها معراجا ، وإن لم يكن

__________________

ـ الأوّل. حاصله : أنّ المقصود بالنهي عن صوم عاشوراء هو الإرشاد إلى أن تركه أو ملازم تركه مشتمل على مصلحة أكثر من مصلحة فعله ، من دون أن يكون طلب الترك مولويّا ، بل تعلّق الطلب حقيقة بترك الصوم إرشادا. وعليه فلا يلازم اجتماع الحكمين في شيء واحد.

(١) وقد أورد السيّد الإمام الخمينيّ على ما أفاده المصنّف رحمه‌الله في الجواب عن إشكال القسم الأوّل بما حاصله : أنّ الترك عدميّ ، لا يمكن انطباق عنوان وجوديّ عليه ، ولا يمكن أن يكون ملازما لشيء ، فإنّ الانطباق والملازمة من الوجوديّات الّتي لا بدّ في ثبوتها للشيء من ثبوت ذلك الشيء. مناهج الوصول ٢ : ١٤٠.

وأورد عليه المحقّق النائينيّ أيضا بما حاصله : أنّه إذا فرض اشتمال كلّ من الفعل والترك على مصلحة فبما أنّه يستحيل تعلّق الأمر بكلّ من النقيضين في زمان واحد يكون المؤثّر في نظر الآمر إحداهما على تقدير كونها أقوى من الاخرى. وعلى تقدير التساوي تسقط كلتاهما معا عن التأثير ، لاستحالة تعلّق الطلب التخييريّ بالنقيضين ، فإنّه طلب الحاصل. وعليه يستحيل كون كلّ من الفعل والترك مطلوبا بالفعل.

ثمّ تصدّي لجواب آخر ، حاصله : أنّ الإشكال في اتّصاف العبادة المكروهة في هذا القسم إنّما نشأ من الغفلة عن أنّ متعلّق النهي فيها غير متعلّق الأمر ، فإنّ متعلّق الأمر هو ذات العبادة ومتعلّق النهي هو التعبّد بها ، لأنّ التعبّد بها منهيّ عنه ، لما فيه من المشابهة والموافقة لبني أميّة (لعنهم الله) ، فلا يلزم اجتماعهما في شيء واحد. فوائد الاصول ٢ : ٤٣٩ ، أجود التقريرات ٢ : ٣٦٥ ـ ٣٦٧.

ولكن ناقش السيّدان العلمان : الإمام الخمينيّ والسيّد الخوئيّ في ما أفاده المحقّق النائينيّ من وجوه. فراجع مناهج الوصول ٢ : ١٤١ ـ ١٤٢ ، والمحاضرات ٤ : ٣١٧ ـ ٣٢٥.

(٢) وهو ما تعلّق النهي بذات العبادة وكان لها بدل ، كالصلاة في الحمّام.

(٣) هكذا في جميع النسخ. ولكن الصحيح أن يقول : «فإنّ تشخّصها بوقوعها فيه ...». ويكون المعنى : فإنّ تشخّص الصلاة بوقوعها في الحمّام لا يناسب معراجيّتها.

٤٢

نفس الكون في الحمّام بمكروه ولا حزازة فيه أصلا ، بل كان راجحا كما لا يخفى. وربما يحصل لها (١) ـ لأجل تخصّصها بخصوصيّة شديد الملاءمة (٢) معها ـ مزيّة فيها (٣) ، كما في الصلاة في المسجد والأمكنة الشريفة. وذلك (٤) لأنّ الطبيعة المأمور بها في حدّ نفسها ـ إذا كانت مع تشخّص لا تكون له شدّة الملاءمة ولا عدم الملاءمة ـ لها مقدار من المصلحة والمزيّة (٥) ، كالصلاة في الدار ـ مثلا ـ ، وتزداد تلك المزيّة فيما كان تشخّصها بماله شدّة الملاءمة ، وتنقص فيما إذا لم تكن له ملائمة (٦). ولذلك ينقص ثوابها تارة ، ويزيد اخرى. ويكون النهي فيه ـ لحدوث نقصان في مزيّتها فيه (٧) ـ إرشادا إلى ما لا نقصان فيه من سائر الأفراد ويكون أكثر ثوابا منه (٨). وليكن هذا مراد من قال : «إنّ الكراهة في العبادة بمعنى أنّها تكون أقلّ ثوابا».

ولا يرد عليه (٩) : بلزوم اتّصاف العبادة الّتي تكون أقلّ ثوابا من الاخرى بالكراهة ، ولزوم اتّصاف ما لا مزيّة فيه (١٠) ولا منقصة بالاستحباب ، لأنّه أكثر ثوابا

__________________

(١) أي : للصلاة.

(٢) هكذا في النسخ : والصحيح أن يقول : «شديدة الملاءمة».

(٣) هكذا في النسخ. والصواب أنّ قوله : «فيها» مستدرك.

(٤) أي : حصول المنقصة في الطبيعة المأمور بها أو المزيّة لها.

(٥) هكذا في جميع النسخ. والأولى أن يقول : «وذلك لأنّ للطبيعة المأمور بها في حدّ نفسها ـ إذا كانت ... ـ مقدار من المصلحة والمزيّة».

(٦ ـ ٧) أي : فيما إذا لم تكن للتشخّص ملائمة مع العبادة.

(٨) لا يخفى : أنّ متعلّق النهي هو العبادة المتشخّصة بخصوصيّة غير الملاءمة معها. ولو فرض كونه إرشاديّا يكون إرشادا إلى متعلّقه ، فيكون النهي عن العبادة فيما إذا لم تكن للخصوصيّة ملائمة معها إرشادا إلى نقصان هذا الفرد بالنسبة إلى سائر الأفراد وأقلّيّة ثوابه عن سائر الأفراد. فكان الأولى أن يقول : «ويكون النهي في العبادة الّتي تنقص مزيّتها بسبب تشخّصه بالخصوصيّة الخاصّة إرشادا إلى نقصان هذا الفرد بالنسبة إلى سائر أفراد الطبيعة وأنّه أقلّ ثوابا من الأفراد الأخر».

نعم ، لازم إرشاده إليه هو البعث إلى ما لا نقصان فيه.

(٩) هذا الإيراد تعرّض له المحقّق القميّ واعترف بعدم وروده ، كما ذكره الشيخ الأعظم ـ على ما في تقريراته ـ ثمّ أجاب عنه. راجع قوانين الاصول ١ : ١٤٣ ، ومطارح الأنظار : ١٣٢.

(١٠) وفي بعض النسخ : «ما لا مزيد فيه».

٤٣

ممّا فيه المنقصة. لما عرفت من أنّ المراد من كونه أقلّ ثوابا إنّما هو بقياسه إلى نفس الطبيعة المتشخّصة بما لا يحدث معه مزيّة لها ولا منقصة من المشخّصات ، وكذا كونه أكثر ثوابا.

ولا يخفى : أنّ النهي في هذا القسم لا يصحّ إلّا للإرشاد (١). بخلاف القسم الأوّل ، فإنّه يكون فيه مولويّا ، وإن كان حمله على الإرشاد بمكان من الإمكان.

وأمّا القسم الثالث : فيمكن أن يكون النهي فيه عن العبادة المتّحدة مع ذاك العنوان أو الملازمة له بالعرض والمجاز (٢). وكان المنهيّ عنه به (٣) حقيقة ذاك العنوان (٤). ويمكن أن يكون ـ على الحقيقة ـ إرشادا إلى غيرها (٥) من سائر الأفراد ممّا لا يكون متّحدا معه أو ملازما له ، إذ المفروض التمكّن من استيفاء مزيّة العبادة بلا ابتلاء بحزازة ذاك العنوان أصلا.

هذا على القول بجواز الاجتماع.

وأمّا على الامتناع : فكذلك في صورة الملازمة (٦). وأمّا في صورة الاتّحاد وترجيح جانب الأمر ـ كما هو المفروض ، حيث إنّه (٧) صحّة العبادة ـ فيكون حال النهي فيه (٨) حاله في القسم الثاني ، فيحمل على ما حمل عليه فيه طابق النعل بالنعل ، حيث إنّه بالدقّة يرجع إليه ، إذ على الامتناع ليس الاتّحاد مع العنوان الآخر

__________________

(١) وقد ذكر المحقّق النائينيّ وجها آخر للجواب عن الإشكال في هذا القسم ، من دون التصرّف في ظاهر النهي ، بل حمله على حقيقته من كونها تنزيهيّا مولويّا. فراجع أجود التقريرات ٢ : ٣٦٢.

(٢) قوله : «بالعرض والمجاز» خبر عن قوله : «أن يكون».

(٣) أي : بالنهي.

(٤) وبتعبير آخر : كان النهي في الحقيقة متعلّقا بالعنوان المتّحد أو الملازم مع المأمور به. كما كان الأمر في الحقيقة متعلّقا بعنوان العبادة المتّحدة مع ذات العنوان أو الملازمة له. فيختلف متعلّق الأمر عن متعلّق النهي ، ويكون النهي مولويّا تنزيهيّا.

(٥) أي : غير العبادة المتّحدة مع ذاك العنوان أو الملازمة له.

(٦) أي : إن كان العنوان ذو الحزازة ملازما للمأمور به جرى في حلّ الإشكال كلا الوجهين السابقين.

(٧) أي : المفروض.

(٨) أي : في هذا القسم الثالث.

٤٤

إلّا من مخصّصاته ومشخّصاته الّتي تختلف الطبيعة المأمور بها في المزيّة ـ زيادة ونقيصة ـ بحسب اختلافها في الملاءمة ، كما عرفت.

وقد انقدح بما ذكرناه : أنّه لا مجال أصلا لتفسير الكراهة في العبادة بأقلّيّة الثواب في القسم الأوّل (١) مطلقا (٢) ، وفي هذا القسم على القول بالجواز (٣).

كما انقدح حال اجتماع الوجوب والاستحباب فيها (٤) ؛ وأنّ الأمر الاستحبابيّ يكون على نحو الإرشاد إلى أفضل الأفراد مطلقا (٥) على نحو الحقيقة ، ومولويّا اقتضائيّا كذلك (٦) ، وفعليّا بالعرض والمجاز فيما كان ملاكه ملازمتها لما هو مستحبّ (٧) ، أو متّحدة معه (٨) على القول بالجواز.

ولا يخفى : أنّه لا يكاد يأتي القسم الأوّل هاهنا (٩) ، فإنّ انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الّذي لا بدل له إنّما يؤكّد إيجابه ، لا أنّه يوجب استحبابه أصلا ،

__________________

(١) كصوم يوم عاشوراء والنوافل المبتدئة وغيرها ممّا لا بدل له. والوجه في عدم كون الكراهة بمعنى أقلّيّة الثواب أنّ الطبيعة منحصرة في فرد واحد ، وهو صوم يوم عاشوراء ـ مثلا ـ. فلا فرد آخر لطبيعة صوم يوم عاشوراء كي يقاس عليه قلّة الثواب وكثرته في سائر الأفراد ويكون النهي إرشادا إلى إتيان الطبيعة في ضمن غيره من الأفراد الّتي لا منقصة فيها.

(٢) أي : سواء بنينا على الجواز أو الامتناع. أمّا على الأوّل فلتعدّد متعلّق الأمر والنهي. وأمّا على الثاني فلعدم بدل للعبادة.

(٣) إذ على هذا القول يتعدّد متعلّق الأمر والنهي ، ولا مانع من اجتماع الأمر والنهي المولويّين ، فلا حاجة إلى تأويل النهي وحمله على غير ظاهره من الإرشاديّة.

(٤) أي : في العبادات.

(٥) أي : على كلا القولين.

(٦) أي : على نحو الحقيقة.

(٧) أي : فيما كان ملاك الأمر الاستحبابيّ ملازمة العبادة الواجبة لما هو مستحبّ ، كملازمة الصلاة لاجتماع المسلمين في مكان ، والمفروض أنّ اجتماعهم مستحبّ.

(٨) هكذا في النسخة الأصليّة. والتحقيق أنّه إن كان معطوفا على قوله : «مستحبّ» فالصحيح أن يقول : «أو متّحد معه» ، ويكون معنى العبارة : أو ملازمتها لما هو متّحد مع مستحبّ. وأمّا إن كان معطوفا على قوله: «ملازمتها» فالصحيح أن يقول : «أو اتّحادها معه».

(٩) هكذا في جميع النسخ. والصحيح أن يقول : «لا يكاد يأتي ما ذكر في القسم الأوّل هاهنا».

٤٥

ولو بالعرض والمجاز ، إلّا على القول بالجواز. وكذا فيما إذا لازم مثل هذا العنوان ، فإنّه لو لم يؤكّد الإيجاب لما يصحّح الاستحباب إلّا اقتضائيّا بالعرض والمجاز. فتفطّن.

[الأمر الثاني والجواب عنه]

ومنها (١) : أنّ أهل العرف يعدّون من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرّم مطيعا وعاصيا من وجهين ، فإذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاصّ ـ كما مثّل به الحاجبيّ والعضديّ (٢) ـ فلو خاطه في ذاك المكان عدّ مطيعا لأمر الخياطة ، وعاصيا للنهي عن الكون في ذلك المكان.

وفيه : مضافا إلى المناقشة في المثال بأنّه ليس من باب الاجتماع ، ضرورة أنّ الكون المنهيّ عنه غير متّحد مع الخياطة وجودا أصلا ، كما لا يخفى (٣) ـ المنع إلّا عن صدق أحدهما : إمّا الإطاعة بمعنى الامتثال فيما غلب جانب الأمر ، أو العصيان فيما غلب جانب النهي ، لما عرفت من البرهان على الامتناع. نعم ، لا بأس بصدق الإطاعة ـ بمعنى حصول الغرض ـ والعصيان في التوصّليّات. وأمّا في العبادات فلا يكاد يحصل الغرض منها إلّا فيما صدر من المكلّف فعلا غير محرّم وغير مبغوض عليه ، كما تقدّم (٤).

__________________

(١) وهذا هو الدليل الثالث الّذي استدلّ به المحقّق القميّ على الجواز ، فراجع القوانين ١ : ١٤٨.

(٢) راجع شرح العضديّ على مختصر الحاجبيّ ١ : ٩٢ ـ ٩٣.

(٣) ولعلّه ذكر الشيخ الأعظم الأنصاريّ مثالا آخر ، فقال : «كما إذا أمر المولى بالمشي ونهاه عن الحركة في مكان خاصّ ، فإنّ العبد لو خالف المولى وأوجد المشي المأمور به في ضمن الحركة في ذلك المكان عدّ عاصيا ومطيعا ، يستحقّ بالأوّل اللوم والعقاب ، وبالثاني المدح والثواب». مطارح الأنظار : ١٤٨.

(٤) تقدّم في الأمر العاشر من الامور المتقدّمة على الخوض في المقصود ، حيث قال : «إلّا أنّه مع التقصير لا يصلح لأن يتقرّب به» ، راجع الصفحة : ٢٧ من هذا الجزء.

٤٦

[القول بالجواز عقلا والامتناع عرفا]

بقي الكلام في حال التفصيل من بعض الأعلام والقول بالجواز عقلا والامتناع عرفا(١).

وفيه : أنّه لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز أو الامتناع إلّا طريق العقل ، فلا معنى لهذا التفصيل إلّا ما أشرنا إليه من النظر المسامحيّ غير المبتني على التدقيق والتحقيق. وأنت خبير بعدم العبرة به بعد الاطّلاع على خلافه بالنظر الدقيق.

وقد عرفت فيما تقدّم (٢) : أنّ النزاع ليس في خصوص مدلول صيغة الأمر والنهي ، بل في الأعمّ (٣). فلا مجال لأن يتوهّم أنّ العرف هو المحكّم في تعيين المداليل ؛ ولعلّه (٤) كان بين مدلوليهما حسب تعيينه تناف لا يجتمعان في واحد ولو بعنوانين وإن كان العقل يرى جواز اجتماع الوجوب والحرمة في واحد بوجهين (٥). فتدبّر.

__________________

(١) وهو الظاهر من كلام المحقّق الأردبيليّ في مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١١٢.

وأنكر الشيخ الأنصاريّ نسبة هذا القول إلى المحقّق الأردبيليّ ، ونسبه إلى السيّد الطباطبائيّ ـ صاحب الرياض ـ ، واستظهره من المحقّق القميّ وسلطان العلماء. راجع مطارح الأنظار : ١٥٠.

(٢) تقدّم في الأمر الرابع من الامور المتقدّمة على الخوض في المقصود. راجع الصفحة : ١٧.

(٣) أي : الأعمّ من مدلول الصيغة ومدلول الدليل اللبّي كالإجماع.

(٤) هذا من تتمّة التوهّم.

(٥) حاصل التوهّم : أنّ المجمع ذا العنوانين متعدّد عند العقل كما أنّه واحد عند العرف. فما يراه العقل بالدقّة متعدّدا يراه العرف واحدا. ولذا جوّز العقل اجتماع الأمر والنهي في المجمع ذي العنوانين ، بخلاف العرف ، فإنّه استحال اجتماعهما فيه.

وحاصل الجواب : أنّ الجواز والامتناع في المقام من أحكام العقل ، إذ الحاكم بارتفاع غائلة اجتماع الضدّين وعدم ارتفاعها هو العقل. ولا سبيل للعرف إلى الدقّيات العقليّة ، بل إنّما يرجع إليه في تعيين مفاهيم الألفاظ ، وأمّا في غيرها من الأحكام العقليّة فلا طريق للعرف إلّا الرجوع إلى العقل. وعليه فلا معنى لحكم العرف بامتناع اجتماع الأمر والنهي وهو من الأحكام العقليّة.

٤٧

[تنبيهات مسألة الاجتماع]

وينبغي التنبيه على امور :

[الأمر] الأوّل : [مناط الاضطرار الرافع للحرمة]

إنّ الاضطرار إلى ارتكاب الحرام وإن كان يوجب ارتفاع حرمته والعقوبة عليه مع بقاء ملاك وجوبه ـ لو كان (١) ـ مؤثّرا له (٢) ، كما إذا لم يكن بحرام بلا كلام ، إلّا أنّه إذا لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار بأن يختار (٣) ما يؤدّي إليه لا محالة ، فإنّ الخطاب بالزجر عنه حينئذ (٤) وإن كان ساقطا (٥) ، إلّا أنّه حيث يصدر عنه مبغوضا عليه وعصيانا لذاك الخطاب ومستحقّا عليه العقاب لا يصلح لأن يتعلّق به الإيجاب. وهذا في الجملة ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب.

[حكم المضطرّ إليه بسوء الاختيار]

وإنّما الإشكال فيما إذا كان ما اضطرّ إليه بسوء اختياره ممّا ينحصر به التخلّص عن محذور الحرام ـ كالخروج عن الدار المغصوبة فيما إذا توسّطها بالاختيار ـ في كونه منهيّا عنه (٦) أو مأمورا به مع جريان حكم المعصية

__________________

(١) أي : لو كان ملاك الوجوب موجودا فيه بعد سقوط التحريم بالاضطرار.

(٢) أي : حال كون الملاك مؤثّرا للوجوب.

(٣) بيان للاضطرار بسوء الاختيار.

(٤) أي : حين كون الاضطرار بسوء الاختيار.

(٥) لعدم قدرته على الاجتناب عن الحرام ، والتكليف بغير المقدور ممتنع عقلا.

(٦) هذا القول نسبه السيّد كاظم الطباطبائيّ اليزديّ في رسالة في اجتماع الأمر والنهي : ١٥١ إلى إبراهيم الكرباسيّ صاحب إشارات الاصول. ولكنّي بعد المراجعة إلى الإشارات لم أجد تصريحه بكونه منهيّا عنه. نعم ، نفى كونه مأمورا به. فراجع إشارات الاصول : ١١٣.

وهذا القول خيرة السيّد الإمام الخمينيّ في مناهج الوصول ٢ : ١٤٣ ـ ١٤٤ ، حيث قال : «أقواها أنّه حرام فعليّ ولا يكون واجبا». ثمّ استدلّ على دعواه بما حاصله : أنّ التصرّف ـ

٤٨

عليه (١) أو بدونه (٢) ، فيه أقوال. هذا على الامتناع.

وأمّا على القول بالجواز : فعن أبي هاشم : «أنّه مأمور به ومنهيّ عنه» (٣). واختاره الفاضل القمّيّ ناسبا له إلى أكثر المتأخّرين وظاهر الفقهاء (٤).

[١ ـ المختار في المقام]

والحقّ أنّه منهيّ عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه ، وعصيان

__________________

ـ في الأرض المغصوبة بالخروج منه حرام فعليّ ولا يكون واجبا.

أمّا عدم الوجوب : فلعدم دليل على وجوب التصرّف بعنوان الخروج من الأرض المغصوبة أو التخلّص عن الغصب أو ردّ المال إلى صاحبه أو ترك التصرّف في مال الغير.

وأمّا حرمته فعلا : فلأنّ الأحكام المتعلّقة بالعناوين الكلّيّة فعليّة على عناوينها من غير لحاظ حالات كلّ واحد من المكلّفين. فالحكم بعدم جواز التصرّف في مال الغير فعليّ على عنوانه غير مقيّد بحال من الأحوال. نعم ، العقل يحكم بمعذوريّة العاجز إذا طرأ عليه لا بسوء اختياره ، وأمّا معه فلا يراه معذورا في المخالفة.

(١) أي : يعاقب عليه ، لا بالنهي الفعليّ ، بل بالنهي السابق على الدخول الساقط حال الخروج.

وهذا ما اختاره صاحب الفصول ، ونسبه إلى الفخر الرازيّ. راجع الفصول : ١٣٨.

وقوّاه السيّد كاظم الطباطبائيّ اليزديّ بناء على مختاره من أنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون. راجع رسالة في اجتماع الأمر والنهي : ١٥٥.

(٢) أي : بدون جريان حكم المعصية عليه. فلا يعاقب عليه.

وهذا ما اختاره الشيخ الأعظم الأنصاريّ ؛ واستظهره من حكم الفقهاء بصحّة الصلاة في حال الخروج ؛ واستدلّ عليه بأنّ التخلّص عن الغصب واجب عقلا وشرعا ، ولا شكّ أنّ الخروج تخلّص عن الغصب ، بل لا سبيل إليه إلّا الخروج ، فيكون واجبا. مطارح الأنظار : ١٥٣ ـ ١٥٤.

وقوّاه المحقّق النائينيّ بناء على عدم كون المقام من صغريات قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، ثمّ قال : «ولكن لو بنينا على كون المقام من صغريات تلك القاعدة فالحقّ ما عليه المحقّق الخراسانيّ من أنّه ليس بمأمور به ولا منهيّا عنه مع كونه يعاقب عليه». فوائد الاصول ٢ : ٤٤٧.

(٣) قال في مطارح الأنظار : ١٥٣ : «فقيل بالجواز ، وهو المحكيّ عن أبي هاشم على ما نسب إليه العلّامة ...».

(٤) قوانين الاصول ١ : ١٥٣.

٤٩

له بسوء الاختيار. ولا يكاد يكون مأمورا به ـ كما إذا لم يكن هناك توقّف عليه (١) أو عدم الانحصار به (٢) ـ وذلك ضرورة أنّه حيث كان قادرا على ترك الحرام رأسا (٣) لا يكون عقلا معذورا في مخالفته فيما اضطرّ إلى ارتكابه بسوء اختياره ، ويكون معاقبا عليه ـ كما إذا كان ذلك بلا توقّف عليه أو مع عدم الانحصار به ـ.

ولا يكاد يجدي توقّف انحصار التخلّص عن الحرام به (٤) ، لكونه بسوء الاختيار (٥).

إن قلت : كيف لا يجديه ، ومقدّمة الواجب واجبة؟

قلت : إنّما تجب المقدّمة لو لم تكن محرّمة ، ولذا لا يترشّح الوجوب من الواجب

__________________

(١) لا يخفى : أنّه لا توقّف هاهنا حقيقة ، بداهة أنّ الخروج إنّما هو مقدّمة للكون في خارج الدار ، لا مقدّمة لترك الكون فيها الواجب لكونه ترك الحرام. نعم ، بينهما ملازمة ، لأجل التضادّ بين الكونين ووضوح الملازمة بين وجود الشيء وعدم ضدّه ، فيجب الكون في خارج الدار عرضا لوجوب ملازمه حقيقة ، فتجب مقدّمته كذلك. وهذا هو الوجه في المماشاة والجري على أنّ مثل الخروج يكون مقدّمة لما هو الواجب من ترك الحرام ، فافهم. منه [أعلى الله مقامه].

(٢) هذا الضمير وضمير «عليه» يرجعان إلى «ما اضطرّ إليه» ، كالخروج من الدار.

وحاصل مختاره : أنّ المضطرّ إليه لا يكون مأمورا به كما لا يكون منهيّا عنه بالنهي الفعليّ ، وإن كان منهيّا عنه بالنهي السابق الساقط فعلا للاضطرار إليه. ولكن يعاقب عليه ، لأنّ العقل يحكم باستحقاقه العقاب ، حيث كان قادرا على ترك الخروج الحرام بترك الدخول في الدار.

وتبعه السيّد المحقّق الخوئيّ في المحاضرات ٤ : ٣٦٧.

(٣) فإنّه كان قادرا على عدم الدخول في الدار المغصوبة.

(٤) تعريض للشيخ الأنصاريّ ، حيث استدلّ على كون الخروج مأمورا به بأنّه لا سبيل للتخلّص عن الغصب إلّا الخروج ، والتخلّص عن الغصب واجب ، فالخروج واجب. مطارح الأنظار : ١٥٣ ـ ١٥٤.

(٥) فإنّ الاضطرار الناشئ عن سوء الاختيار لا يرفع مبغوضيّة الخروج ، لأنّ العقل لا يحكم بمعذوريّته في المخالفة ، لقدرته على ترك الخروج الحرام بترك الدخول. وكأنّ المقام نظير قتل النفس الناشئ من الرمي ، فإنّ تحريمه يرتفع بعد الرمي لعدم قدرته على المنع عن ذلك ، لكنّه يقع مبغوضا ولا يحكم العقل بمعذوريّته ، لأنّه يقدر على ترك القتل بترك الرمي ، ولذا يعاقب عليه.

٥٠

إلّا على ما هو المباح من المقدّمات ، دون المحرّمة ، مع اشتراكهما في المقدّميّة.

وإطلاق الوجوب بحيث ربما يترشّح منه الوجوب عليها (١) مع انحصار المقدّمة بها (٢) إنّما هو فيما إذا كان الواجب أهمّ من ترك المقدّمة المحرّمة ؛ والمفروض هاهنا وإن كان ذلك إلّا أنّه كان بسوء الاختيار ، ومعه لا تتغيّر عمّا هي عليه من الحرمة والمبغوضيّة ، وإلّا لكان الحرمة (٣) معلّقة على إرادة المكلّف واختياره لغيره ، وعدم حرمته مع اختياره له (٤) ، وهو كما ترى ، مع أنّه خلاف الفرض وأنّ الاضطرار يكون بسوء الاختيار (٥).

__________________

(١ ـ ٢) الضميران يرجعان إلى المقدّمة المحرّمة.

(٣) هكذا في النسخ. ولكن الصحيح أن يقول : «لكانت الحرمة».

(٤) هكذا في جميع النسخ ، والصحيح أن يقول : «على اختياره له».

(٥) لا يخفى : أنّ العبارة لا تخلو من الغموض ، فيحتاج إلى إيضاح. فنقول :

قوله : «وإطلاق الوجوب بحيث ... انحصار المقدّمة بها» إشارة إلى توهّم. وحاصله : أنّ المقدّمة إذا كانت منحصرة يترشّح إليه الوجوب من ذي المقدّمة ، سواء كانت محرّمة أو مباحة ؛ والخروج ـ في المقام ـ يكون من المقدّمات المنحصرة في التخلّص عن الحرام ؛ فيترشّح وجوب التخلّص عن الحرام إليه ويصير واجبا.

وقوله : «إنّما هو فيما إذا كان الواجب ... من الحرمة والمبغوضيّة» إشارة إلى دفع التوهّم المذكور. وحاصله : أنّ المقدّمة المحرّمة لا تتّصف بالوجوب إلّا بعد اجتماع الشروط الثلاثة فيها : الأوّل : أن تكون من المقدّمات المنحصرة ، بأن لا يكون لها عدل مباح.

الثاني : أن يكون فعل الواجب أهمّ من تركها ، كأن يكون الواجب إنقاذ الغريق في ملك الغير ، حيث إنّه أهمّ من حرمة الدخول في ملك الغير من دون إذنه.

الثالث : أن لا يكون الاضطرار إلى المقدّمة المحرّمة والانحصار فيها ناشئا عن سوء الاختيار ، وإلّا فلا تتغيّر المقدّمة المحرّمة عمّا هي عليه من الحرمة والمبغوضيّة ، ولا تنقلب حرمتها إلى الوجوب.

والخروج ـ في المقام ـ وإن اجتمع فيه الشرط الأوّل والشرط الثاني ، إلّا أنّ الشرط الثالث مفقود فيه ، لأنّ المفروض أنّ الاضطرار إليه كان بسوء اختيار المكلّف ، ومعه لا يتغيّر حكم المقدّمة المحرّمة.

وقوله : «وإلّا لكانت الحرمة معلّقة على إرادة المكلّف واختياره لغيره ، وعدم حرمته ـ

٥١

__________________

ـ على اختياره له» إشارة إلى دليل اعتبار الشرط الثالث في ترشّح الوجوب إلى المقدّمة المحرّمة. وحاصله : أنّه لو تغيّرت حرمة المقدّمة المنحصرة فيما إذا كان الاضطرار إليها بسوء الاختيار ، يلزم أن تكون حرمة المقدّمة ـ وهي الخروج فيما نحن فيه ـ وعدم حرمتها معلّقة على إرادة المكلّف وعدم إرادته.

ويقع الكلام في المراد بهذه العبارة وما هو مرجع الضمير في قوله : «لغيره» و «له» ، بأنّه هل يرجع إلى الخروج أو يرجع إلى الدخول؟ فيه وجوه :

الأوّل : أن يرجع الضميران إلى الخروج ، ويكون المراد من غير الخروج هو الدخول ، فيكون المعنى : تكون حرمة الخروج معلّقة على إرادة المكلّف واختياره الدخول في المغصوب ، وعدم حرمته على اختياره نفس الخروج. وهذا الوجه ما اختاره المحقّق الأصفهانيّ في نهاية الدراية ١ : ٥٥٤.

الثاني : أن يرجع الضميران إلى الخروج ويكون المراد من غير الخروج هو ترك الدخول. وهذا الوجه ذكره المحقّق الأصفهانيّ ولم يرتض به.

الثالث : أن يرجع الضميران إلى الخروج ، ويكون المراد من غير الخروج هو ترك الدخول ، فيكون معناها : تكون حرمة الخروج معلّقة على اختيار المكلّف ترك الدخول في المغصوب ، فيكون الخروج والدخول ـ قبل الدخول ـ حرامين ، لصدق الغصب عليهما. ويكون عدم حرمته معلّقا على إرادة المكلّف الخروج بعد ما دخل في المغصوب ، فإنّ الخروج ـ حينئذ ـ واجب ، لكونه من المقدّمات المنحصرة. وهذا ما يظهر من كلام العلّامة المحشّي المشكينيّ في حواشيه على الكفاية ـ المطبوعة بالطبع الحجريّ ـ ١ : ٢٦٥.

الرابع : أن يرجع الضميران إلى الدخول ، ويكون المراد من غير الدخول هو ترك الدخول. وعليه يكون معنى العبارة هكذا : تكون حرمة الخروج معلّقة على إرادة المكلّف غير الدخول ، فإنّه إذا ترك الدخول في المغصوب يكون الخروج المتفرّع على الدخول حراما ، كما أنّ الدخول فيه أيضا حرام. ويكون عدم حرمة الخروج معلّقا على اختياره الدخول ، فإنّه إذا دخل المغصوب يكون الخروج ـ وهو مقدّمة محرّمة منحصرة للتخلّص عن الحرام ـ واجبا. وهذا ما اختاره المحشّي القوچانيّ في حاشيته على الكفاية ـ المطبوعة بالطبع الحجريّ ـ : ١٤٢.

الخامس : أن يرجع الضمير في «لغيره» إلى الدخول ويكون المراد من غير الدخول هو عدم الدخول وتركه ، ويرجع الضمير في «له» إلى الخروج. وهذا أيضا يحتمل أن يكون مراد المحشّي المشكينيّ. ـ

٥٢

[٢ ـ مختار الشيخ الأنصاريّ والإيراد عليه]

إن قلت (١) : إنّ التصرّف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول والبقاء حرام بلا إشكال ولا كلام. وأمّا التصرّف بالخروج الّذي يترتّب عليه رفع الظلم ويتوقّف عليه التخلّص عن التصرّف الحرام فهو ليس بحرام في حال من الحالات ، بل حاله حال مثل (٢) شرب الخمر المتوقّف عليه النجاة من الهلاك في الاتّصاف بالوجوب في جميع الأوقات.

ومنه ظهر المنع عن كون جميع أنحاء التصرّف في أرض الغير ـ مثلا ـ حراما قبل الدخول وأنّه يتمكّن من ترك الجميع حتّى الخروج. وذلك لأنّه لو لم يدخل لما كان متمكّنا من الخروج وتركه ، وترك الخروج بترك الدخول رأسا ليس في

__________________

ـ ولا يخفى : أنّ الاحتمالات الثلاثة الأخيرة يرجع كلّها إلى معنى واحد. ولكن الأولى أن يحمل العبارة على الاحتمال الثالث.

أمّا الوجه في أولويّته من الاحتمالين الأخيرين أنّه لا يستلزم مخالفة الظاهر من جهة عدم سبق ذكر للدخول كي يعود الضمير إليه.

وأمّا الوجه في أولويّته من الاحتمال الأوّل أنّه يستدعي ثبوت الحرمة قبل الدخول وارتفاعها بعد الدخول. وهذا يؤدّي إليه قول الخصم من أنّ الخروج لمّا كان مقدّمة للتخلّص الأهمّ ارتفعت مبغوضيّته وصارت واجبة. والمصنّف رحمه‌الله يكون بصدد ذكر ما يلازمه قول الخصم.

وأمّا الوجه في أولويّته من الاحتمال الثاني أنّه لا يرد عليه ما أورده المحقّق الأصفهانيّ.

وقوله : «وهو كما ترى» إشارة إلى المحذور الأوّل الّذي يلزم من تعليق حرمة الخروج وعدمها على إرادة المكلّف وعدمها. وحاصله : أنّ إرادة المكلّف ليست من شرائط التكليف ، فلا دخل لها في أحكام الموضوعات.

وقوله : «مع أنّه خلاف الفرض ...» إشارة إلى المحذور الثاني اللازم من التعليق. وحاصله : أنّ المفروض ما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار ، وصدق الاضطرار بسوء الاختيار يتوقّف على حرمة الخروج ، فلو صار الخروج غير محرّم بعد الإرادة فلا اضطرار بالحرام كي يصدق كونه بسوء الاختيار.

(١) والقائل هو الشيخ الأعظم الأنصاريّ على ما في مطارح الأنظار : ١٥٣ ـ ١٥٤.

(٢) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «حاله مثل حال ....».

٥٣

الحقيقة إلّا ترك الدخول. فمن لم يشرب الخمر لعدم وقوعه في المهلكة الّتي يعالجها به ـ مثلا ـ لم يصدق عليه إلّا أنّه لم يقع في المهلكة ، لا أنّه ما شرب الخمر فيها ، إلّا على نحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع ، كما لا يخفى.

وبالجملة : لا يكون الخروج ـ بملاحظة كونه مصداقا للتخلّص عن الحرام أو سببا له ـ إلّا مطلوبا ، ويستحيل أن يتّصف بغير المحبوبيّة ويحكم عليه بغير المطلوبيّة.

قلت : هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون ما انحصر به التخلّص مأمورا به. وهو موافق لما أفاده شيخنا العلّامة أعلى الله مقامه ـ على ما في تقريرات بعض الأجلّة ـ. لكنّه لا يخفى : أنّ ما به التخلّص عن فعل الحرام أو ترك الواجب إنّما يكون حسنا عقلا ومطلوبا شرعا بالفعل ـ وإن كان قبيحا ذاتا ـ إذا لم يتمكّن المكلّف من التخلّص بدونه ولم يقع بسوء اختياره إمّا في الاقتحام في ترك الواجب (١) أو فعل الحرام (٢) ، وإمّا في الإقدام على ما هو قبيح وحرام (٣) لو لا أنّ به التخلّص بلا كلام ، كما هو (٤) المفروض فى المقام ، ضرورة تمكّنه منه قبل اقتحامه فيه بسوء اختياره.

وبالجملة : كان قبل ذلك متمكّنا من التصرّف خروجا كما يتمكّن منه دخولا ، غاية الأمر يتمكّن منه بلا واسطة ومنه بالواسطة (٥) ؛ ومجرّد عدم التمكّن منه إلّا بواسطة لا يخرجه عن كونه مقدورا كما هو الحال في البقاء ؛ فكما يكون تركه مطلوبا في جميع الأوقات فكذلك الخروج ، مع أنّه مثله في الفرعيّة على الدخول ،

__________________

(١) وهو التخلّص من الحرام في المثال المذكور.

(٢) كالبقاء في الدار المغصوبة.

(٣) وهو الخروج عن الدار ، فإنّه تصرّف آخر في المغصوب ، وهو حرام.

(٤) أي : عدم انحصار التخلّص به.

(٥) أي : غاية الأمر يتمكّن من الدخول بلا واسطة ومن الخروج بواسطة الدخول.

٥٤

فكما لا تكون الفرعيّة مانعة عن مطلوبيّته (١) قبله وبعده (٢) ، كذلك لم تكن مانعة عن مطلوبيّته (٣) ، وإن كان العقل يحكم بلزومه إرشادا إلى اختيار أقلّ المحذورين وأخفّ القبيحين.

ومن هنا ظهر حال شرب الخمر علاجا وتخلّصا عن المهلكة ، وأنّه إنّما يكون مطلوبا على كلّ حال لو لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار ، وإلّا فهو على ما هو عليه من الحرمة ، وإن كان العقل يلزمه إرشادا إلى ما هو أهمّ وأولى بالرعاية من تركه ، لكون الغرض فيه أعظم. فمن ترك الاقتحام فيما يؤدّي إلى هلاك النفس ، أو شرب الخمر لئلّا يقع في أشدّ المحذورين منهما ، فيصدق أنّه تركهما ولو بتركه ما لو فعله لأدّى لا محالة إلى أحدهما ، كسائر الأفعال التوليديّة ، حيث يكون العمد إليها بالعمد إلى أسبابها واختيار تركها بعدم العمد إلى الأسباب. وهذا يكفي في استحقاق العقاب على الشرب للعلاج وإن كان لازما عقلا للفرار عمّا هو أكثر عقوبة.

ولو سلّم عدم الصدق إلّا بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع فهو غير ضائر بعد تمكّنه من الترك ـ ولو على نحو هذه السالبة ـ ومن الفعل بواسطة تمكّنه ممّا هو من قبيل الموضوع (٤) في هذه السالبة فيوقع نفسه بالاختيار في المهلكة أو يدخل الدار فيعالج بشرب الخمر ويتخلّص بالخروج أو يختار ترك الدخول والوقوع فيها (٥) ، لئلّا يحتاج إلى التخلّص والعلاج.

إن قلت : كيف يقع مثل الخروج والشرب ممنوعا عنه شرعا ومعاقبا عليه عقلا مع بقاء ما يتوقّف عليه على وجوبه ، وسقوط الوجوب (٦) مع امتناع المقدّمة

__________________

(١) أي : عن مطلوبيّة البقاء.

(٢) أي : قبل الدخول وبعد الدخول.

(٣) أي : مطلوبيّة الخروج.

(٤) وهو الدخول.

(٥) وفي بعض النسخ : «فيهما» ، والأولى ما أثبتناه ، فإنّ الضمير يرجع إلى المهلكة.

(٦) وفي بعض النسخ : «لسقوط الوجوب» ، وفي بعض آخر : «ووضوح سقوط الوجوب». ومعنى العبارة ـ على ما في المتن ـ : والحال أنّ وجوب ذي المقدّمة يسقط مع امتناع المقدّمة المنحصرة. ـ

٥٥

المنحصرة ولو كان بسوء الاختيار ، والعقل قد استقلّ بأنّ الممنوع شرعا كالممتنع عادة أو عقلا؟! (١)

قلت : أوّلا : إنّما كان الممنوع كالممتنع إذا لم يحكم العقل بلزومه (٢) إرشادا إلى ما هو أقلّ المحذورين. وقد عرفت (٣) لزومه بحكمه ، فإنّه مع لزوم الإتيان بالمقدّمة عقلا لا بأس في بقاء (٤) ذي المقدّمة على وجوبه ، فإنّه حينئذ ليس من التكليف بالممتنع ، كما إذا كانت المقدّمة ممتنعة (٥).

وثانيا : لو سلّم فالساقط إنّما هو الخطاب فعلا بالبعث والإيجاب ، لا لزوم إتيانه عقلا ، خروجا عن عهدة ما تنجّز عليه سابقا ، ضرورة أنّه لو لم يأت به لوقع

__________________

(١) حاصل الإشكال : أنّه كيف تقع المقدّمة ـ كالخروج والشرب ـ حراما شرعا ومعاقبا عليه عقلا مع بقاء ذي المقدّمة ـ وهو التخلّص عن الغصب وعدم الوقوع في المهلكة ـ على الوجوب؟! ضرورة أنّه لا يمكن الجمع بين حرمة المقدّمة ووجوب ذيها ، فإنّ حرمة المقدّمة المنحصرة تنافي التكليف بما يتوقّف عليها ، لأنّه تكليف بما لا يطاق. فلا بدّ إمّا من سقوط الوجوب عن ذي المقدّمة ولم يلتزم به أحد في المقام ، وإمّا من سقوط حرمة المقدّمة ، فلا يكون مثل الخروج والشرب حراما ، وهو المطلوب.

(٢) أي : لزوم الممتنع شرعا.

(٣) في الصفحة السابقة ، حيث قال : «وإن كان العقل يلزمه إرشادا ...».

(٤) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «لا بأس ببقاء ...».

(٥) توضيح الجواب الأوّل : أنّ المراد من قاعدة «الممنوع شرعا كالممتنع عقلا» أنّ المقدّمة الممنوعة شرعا نظير المقدّمة الممتنعة عقلا في عدم القدرة على الإتيان بها ، وبامتناعها يمتنع التكليف بذي المقدّمة الّذي لا يمكن إتيانه إلّا بعد إتيان المقدّمة ، لأنّه من التكليف بغير المقدور.

ولكن هذه القاعدة إنّما تجري فيما إذا لم يحكم العقل بلزوم إتيان الممنوع شرعا ، وأمّا إذا حكم العقل بلزوم إتيانه ـ ولو كان ممنوعا شرعا ـ فلا بأس بأن لا يكون كالممتنع عقلا ، إذ لا يكون التكليف به ـ حينئذ ـ من التكليف بالممتنع. كيف ويحكم العقل بلزوم إتيانه إرشادا إلى ما هو أقلّ المحذورين؟ وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ الخروج عن الدار المغصوبة وإن كان ممنوعا شرعا بالنهي السابق إلّا أنّ العقل يحكم بإتيانه ، لكون ارتكابه أقلّ محذورا من البقاء في المغصوب.

٥٦

في المحذور الأشدّ ونقض الغرض الأهمّ ، حيث إنّه الآن كما كان عليه من الملاك والمحبوبيّة بلا حدوث قصور أو طروء فتور (١) فيه أصلا ، وإنّما كان سقوط الخطاب لأجل المانع ، وإلزام العقل به لذلك (٢) إرشادا كاف لا حاجة معه إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه والإيجاب له فعلا ، فتدبّر جيّدا (٣).

__________________

(١) وفي النسخة المطبوعة المذيّلة بحواشي العلّامة المشكينيّ ١ : ٢٦٩ «طروّ فطور» ، ولكنّه غلط.

(٢) أي : إلزام العقل بإتيان ذي المقدّمة للخروج عن العهدة.

(٣) وحاصل الجواب الثاني : أنّه لو سلّمنا سقوط وجوب ذي المقدّمة لكونه منافيا لحرمة مقدّمته حتّى فيما إذا حكم العقل بلزومها ، فنقول : إنّما يسقط بالمنافاة فعليّة البعث والإيجاب بذي المقدّمة ، فحرمة المقدّمة تمنع عن فعليّة وجوب ذيها فقط. وأمّا ملاكه فهو باق على حاله بعد الاضطرار ، كما كان عليه قبله. ولذا يحكم العقل بلزوم الإتيان به خروجا عن عهدة ما تنجّز عليه قبل الاضطرار. ومع هذا الحكم العقليّ لا حاجة إلى الخطاب الفعليّ الشرعيّ. وحينئذ يحكم بوجوب إتيان ذي المقدّمة بعد إتيان مقدّمته بحكم العقل.

ولا يخفى : أنّ المحقّق النائينيّ ذهب إلى أنّ المورد إن كان من موارد قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» فالحقّ ما ذهب إليه المصنّف رحمه‌الله ، وإن لم يكن من مواردها فالحقّ ما اختاره الشيخ الأنصاريّ ، ولكن المورد ليس من موارد القاعدة المزبورة ، فالمختار هو رأي الشيخ الأنصاريّ.

ثمّ استدلّ على مدّعاه بوجوه :

الأوّل : أنّ هذه القاعدة إنّما تجري في مورد يكون خارجا عن قدرة المكلّف ، كالحجّ يوم عرفة لمن ترك مقدّمته باختياره. ومعلوم أنّ الخروج ليس كذلك ، بل يكون مقدورا.

الثاني : أنّ مجرى القاعدة ما إذا كان ملاك الوجوب ثابتا للعمل في ظرفه مطلقا ، من دون فرق بين أن تكون مقدّمته موجودة في الخارج أو غير موجودة ، كوجوب الحجّ. وما نحن فيه ليس كذلك ، لأنّ ملاك الوجوب ثابت للخروج بعد الدخول ، وبدونه لا يكون الخروج واجدا للملاك.

الثالث : أنّ مورد القاعدة ما إذا كان وجود المقدّمة موجبا للقدرة على المكلّف به ، ليكون الآتي به قابلا لتوجيه التكليف إليه فعلا. وما نحن فيه على العكس ، لأنّ وجود الدخول ـ وهو مقدّمة للخروج ـ يوجب الاضطرار إلى الخروج.

الرابع : أنّ الخروج في المقام واجب عقلا. وهذا يكشف عن كونه مقدورا وقابلا لتعلّق التكليف به. ومورد القاعدة ما إذا كان الفعل غير قابل لتعلّق التكليف به ، لامتناعه. فوائد الاصول ٢ : ٤٤٧ ـ ٤٥٠. ـ

٥٧

[٣ ـ مختار صاحب الفصول وما فيه]

وقد ظهر ممّا حقّقناه فساد القول بكونه مأمورا به مع إجراء حكم المعصية عليه نظرا إلى النهي السابق (١).

مع ما فيه من لزوم اتّصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب والحرمة.

ولا ترتفع غائلته (٢) باختلاف زمان التحريم والإيجاب قبل الدخول وبعده ـ كما في الفصول (٣) ـ مع اتّحاد زمان الفعل المتعلّق لهما ، وإنّما المفيد اختلاف زمانه (٤) ولو مع اتّحاد زمانهما. وهذا أوضح من أن يخفى ، كيف ولازمه وقوع الخروج بعد الدخول عصيانا للنهي السابق وإطاعة للأمر اللاحق فعلا ، ومبغوضا ومحبوبا كذلك بعنوان واحد؟ وهذا ممّا لا يرضى به القائل بالجواز فضلا عن القائل بالامتناع.

كما لا يجدي في رفع هذه الغائلة كون النهي مطلقا وعلى كلّ حال وكون الأمر مشروطا بالدخول ، ضرورة منافاة حرمة شيء كذلك مع وجوبه في بعض الأحوال.

[٤ ـ مختار أبي هاشم والمحقّق القميّ والإيراد عليه]

وأمّا القول بكونه مأمورا به ومنهيّا عنه (٥) : ففيه ـ مضافا إلى ما عرفت من امتناع الاجتماع فيما إذا كان بعنوانين ، فضلا عمّا إذا كان بعنوان واحد ، كما في

__________________

ـ وأجاب السيّد المحقّق الخوئيّ عن الوجوه الأربعة بعد ما اختار مذهب المصنّف رحمه‌الله ، فراجع المحاضرات ٤ : ٣٧٦ ـ ٣٨٨.

(١) وهذا ما ذهب إليه صاحب الفصول ، ونسبه إلى الفخر الرازيّ. وقوّاه السيّد محمّد كاظم الطباطبائيّ اليزديّ. فراجع الفصول الغرويّة : ١٣٨ ، ورسالة في اجتماع الأمر والنهي : ١٥٥.

(٢) أي : غائلة اتّصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب والحرمة.

(٣) الفصول الغرويّة : ١٣٨.

(٤) أي : زمان الفعل المتعلّق لهما.

(٥) وهو مذهب أبي هاشم. واختاره المحقّق القميّ في القوانين ١ : ١٥٣.

٥٨

المقام ، حيث كان الخروج بعنوانه سببا للتخلّص ، وكان بغير إذن المالك ؛ وليس التخلّص إلّا منتزعا عن ترك الحرام المسبّب عن الخروج (١) ، لا عنوانا له ـ : أنّ الاجتماع هاهنا لو سلّم أنّه لا يكون بمحال ، لتعدّد العنوان وكونه مجديا في رفع غائلة التضادّ ، كان محالا ، لأجل كونه طلب المحال ، حيث لا مندوحة هنا ، وذلك لضرورة عدم صحّة تعلّق الطلب والبعث حقيقة بما هو واجب أو ممتنع ، ولو كان الوجوب أو الامتناع بسوء الاختيار.

وما قيل : «إنّ الامتناع أو الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار» (٢) إنّما هو في قبال استدلال الأشاعرة للقول بأنّ الأفعال غير اختياريّة بقضيّة «إنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد».

فانقدح بذلك فساد الاستدلال لهذا القول : بأنّ (٣) الأمر بالتخلّص والنهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما ولا موجب للتقييد عقلا ، لعدم استحالة كون الخروج واجبا وحراما باعتبارين مختلفين ، إذ منشأ الاستحالة إمّا لزوم اجتماع الضدّين وهو غير لازم مع تعدّد الجهة ، وإمّا لزوم التكليف بما لا يطاق وهو ليس بمحال إذا كان مسبّبا عن سوء الاختيار. وذلك (٤) لما عرفت (٥) من ثبوت الموجب للتقييد عقلا ولو كانا بعنوانين ، وأنّ اجتماع الضدّين

__________________

(١) قد عرفت ممّا علّقت على الهامش أنّ ترك الحرام غير مسبّب عن الخروج حقيقة. وإنّما المسبّب عنه إنّما هو الملازم له ، وهو الكون في خارج الدار. نعم ، يكون مسبّبا عنه مسامحة وعرضا.

وقد انقدح بذلك : أنّه لا دليل في البين إلّا على حرمة الغصب المقتضي لاستقلال العقل بلزوم الخروج من باب أنّه أقلّ المحذورين ؛ وأنّه لا دليل على وجوبه بعنوان آخر ، فحينئذ يجب إعماله أيضا بناء على القول بجواز الاجتماع كإعمال النهي عن الغصب ليكون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه ، فافهم. منه [أعلى الله مقامه].

(٢) شوارق الإلهام : ٥٠٢.

(٣) متعلّق ب «الاستدلال» وتقريب له.

(٤) أي : فساد الاستدلال.

(٥) في المقدّمة الثالثة من المقدّمات الأربع الّتي ذكرها المصنّف رحمه‌الله قبل ذكر الأقوال في المسألة ، فراجع الصفحة : ٣٤ من هذه الجزء.

٥٩

لازم ولو مع تعدّد الجهة : مع عدم تعدّدها هاهنا. والتكليف بما لا يطاق محال على كلّ حال (١). نعم ، لو كان بسوء الاختيار لا يسقط العقاب بسقوط التكليف بالتحريم أو الإيجاب.

ثمّ لا يخفى : أنّه لا إشكال في صحّة الصلاة مطلقا في الدار المغصوبة ، على القول بالاجتماع (٢).

وأمّا على القول بالامتناع : فكذلك مع الاضطرار إلى الغصب لا بسوء الاختيار ، أو معه (٣) ولكنّها وقعت في حال الخروج على القول بكونه مأمورا به بدون إجراء حكم المعصية عليه (٤) ، أو مع غلبة ملاك الأمر على النهي مع ضيق الوقت.

أمّا مع السعة : فالصحّة وعدمها مبنيّان على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ واقتضائه ، فإنّ الصلاة في الدار المغصوبة وإن كانت مصلحتها غالبة على ما فيها من المفسدة ، إلّا أنّه لا شبهة في أنّ الصلاة في غيرها تضادّها ، بناء على أنّه لا يبقى مجال مع إحداهما للاخرى مع كونها أهمّ منها ، لخلوّها من المنقصة الناشئة من قبل اتّحادها مع الغصب. لكنّه عرفت (٥) عدم الاقتضاء بما لا مزيد عليه ، فالصلاة في الغصب اختيارا في سعة الوقت صحيحة وإن لم تكن مأمورا بها.

__________________

(١) أي : وإن كان بسوء الاختيار.

(٢) وخالفه المحقّق النائينيّ في إطلاق الحكم بالصحّة ، فذهب إلى بطلانها في صورة العلم بالحرمة وصحّتها في صورة الجهل بها. أجود التقريرات ١ : ٣٦٩ ـ ٣٧٠.

ولكن أورد عليه تلميذه المحقّق الخوئيّ على ما في المحاضرات ٤ : ٢٢٠ ـ ٢٢٥ ، كما أورد على المصنّف أيضا ، وذهب إلى الصحّة فيما إذا لم يكن مندوحة في البين وتقع المزاحمة بين الواجب والحرمة وكان الحرام أهمّ. فراجع المحاضرات ٤ : ٢٣١ ـ ٢٣٢.

(٣) أي : مع سوء الاختيار.

(٤) كما ذهب إليه الشيخ الأنصاريّ ، وقوّاه المحقّق النائينيّ. راجع مطارح الأنظار : ١٥٣ ، فوائد الاصول ٢ : ٤٤٧.

(٥) في مسألة اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه. راجع الجزء الأوّل : ٢٣٦ ـ ٢٤٥.

٦٠