كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
ISBN: 978-964-470-562-5
الصفحات: ٤١٩

وذلك لأنّه إنّما يلزم فيما إذا كان الشكّ في أطرافه فعليّا ؛ وأمّا إذا لم يكن كذلك ، بل لم يكن الشكّ فعلا إلّا في بعض أطرافه ، وكان بعض أطرافه الآخر غير ملتفت إليه فعلا أصلا ـ كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الأحكام ، كما لا يخفى ـ فلا يكاد يلزم ذلك ، فإنّ قضيّة «لا تنقض» ليست (١) حينئذ إلّا حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك ، وليس فيه علم بالانتقاض ، كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له ، فافهم.

ومنه قد انقدح ثبوت حكم العقل وعموم النقل بالنسبة إلى الاصول النافية أيضا ، وأنّه لا يلزم محذور لزوم التناقض من شمول الدليل لها ، لو لم يكن هناك مانع عقلا أو شرعا من إجرائها ، ولا مانع كذلك لو كانت موارد الاصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا أو نهض عليه علميّ بمقدار المعلوم إجمالا ، بل بمقدار لم يكن معه مجال لاستكشاف إيجاب الاحتياط ، وإن لم يكن بذاك المقدار ، ومن الواضح أنّه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.

وقد ظهر بذلك : أنّ العلم الإجماليّ بالتكاليف ربما ينحلّ ببركة جريان الاصول المثبتة وتلك الضميمة ، فلا موجب حينئذ للاحتياط عقلا ولا شرعا أصلا ، كما لا يخفى.

كما ظهر : أنّه لو لم ينحلّ بذلك كان خصوص موارد الاصول النافية مطلقا ولو من مظنونات عدم التكليف (٢) محلّا للاحتياط فعلا ـ ويرفع اليد عنه فيها كلّا أو بعضا بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر على ما عرفت ـ ، لا محتملات التكليف مطلقا.

وأمّا الرجوع إلى فتوى العالم : فلا يكاد يجوز ، ضرورة أنّه لا يجوز إلّا

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «ليس». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) وفي بعض النسخ : «مظنونات التكليف». والصحيح ما أثبتناه.

٣٦١

للجاهل ، لا للفاضل الّذي يرى خطأ من يدّعي انفتاح باب العلم أو العلميّ ، فهل يكون رجوعه إليه بنظره إلّا من قبيل رجوع الفاضل إلى الجاهل؟

وأمّا المقدّمة الخامسة : فلاستقلال العقل بها ، وأنّه لا يجوز التنزّل ـ بعد عدم التمكّن من الإطاعة العلميّة أو عدم وجوبها ـ إلّا إلى الإطاعة الظنّيّة ، دون الشكّيّة أو الوهميّة ، لبداهة مرجوحيّتهما بالإضافة إليها ، وقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

لكنّك عرفت عدم وصول النوبة إلى الإطاعة الاحتماليّة مع دوران الأمر بين الظنّيّة والشكّيّة أو الوهميّة ، من جهة ما أوردنا على المقدّمة الأولى من انحلال العلم الإجماليّ بما في أخبار الكتب المعتبرة ، وقضيّته الاحتياط بالالتزام عملا بما فيها من التكاليف ، ولا بأس به ، حيث لا يلزم منه عسر فضلا عمّا يوجب اختلال النظام. وما أوردنا على المقدّمة الرابعة من جواز الرجوع إلى الاصول مطلقا ولو كانت نافية ، لوجود المقتضي وفقد المانع عنه لو كان التكليف في موارد الاصول المثبتة وما علم منه تفصيلا أو نهض عليه دليل معتبر بمقدار المعلوم بالإجمال ، وإلّا فإلى الاصول المثبتة وحدها. وحينئذ كان خصوص موارد الاصول النافية محلّا لحكومة العقل وترجيح مظنونات التكليف منها على غيرها ولو بعد استكشاف وجوب الاحتياط في الجملة شرعا بعد عدم وجوب الاحتياط التامّ شرعا أو عقلا على ما عرفت تفصيله. هذا هو التحقيق على ما يساعد عليه النظر الدقيق ، فافهم وتدبّر جيّدا.

٣٦٢

فصل

الظنّ بالطريق والظنّ بالواقع

هل قضيّة المقدّمات على تقدير سلامتها هي حجّيّة الظنّ بالواقع أو بالطريق أو بهما؟ أقوال.

[التحقيق : حجّيّة الظنّ بهما]

والتحقيق أن يقال : إنّه لا شبهة في أنّ همّ العقل في كلّ حال إنّما هو تحصيل الأمن من تبعة التكاليف المعلومة من العقوبة على مخالفتها ، كما لا شبهة في استقلاله في تعيين ما هو المؤمّن منها ؛ وفي أنّ كلّ ما كان القطع به مؤمّنا في حال الانفتاح كان الظنّ به مؤمّنا حال الانسداد جزما ؛ وأنّ المؤمّن في حال الانفتاح هو القطع بإتيان المكلّف به الواقعيّ بما هو كذلك ـ لا بما هو معلوم ومؤدّى الطريق ومتعلّق العلم وهو طريق شرعا وعقلا ـ أو بإتيانه الجعليّ ؛ وذلك لأنّ العقل قد استقلّ بأنّ الإتيان بالمكلّف به الحقيقيّ بما هو هو ـ لا بما هو مؤدّى الطريق ـ مبرئ للذمّة قطعا ، كيف؟ وقد عرفت أنّ القطع بنفسه طريق لا يكاد تناله يد الجعل إحداثا وإمضاء ، إثباتا ونفيا. ولا يخفى أنّ قضيّة ذلك هو التنزّل إلى الظنّ بكلّ واحد من الواقع والطريق.

٣٦٣

[منشأ توهّم الاختصاص بالظنّ بالواقع]

ولا منشأ لتوهّم الاختصاص بالظنّ بالواقع ، إلّا توهّم أنّه قضيّة اختصاص المقدّمات بالفروع ـ لعدم انسداد باب العلم في الاصول وعدم إلجاء في التنزّل إلى الظنّ فيها ـ والغفلة عن أنّ جريانها في الفروع موجب لكفاية الظنّ بالطريق في مقام يحصل الأمن من عقوبة التكاليف وإن كان باب العلم في غالب الاصول مفتوحا ، وذلك لعدم التفاوت في نظر العقل في ذلك بين الظنّين.

[منشأ توهّم الاختصاص بالظنّ بالطريق]

كما أنّ منشأ توهّم الاختصاص بالظنّ بالطريق وجهان :

أحدهما : ما أفاده بعض الفحول (١). وتبعه في الفصول ، قال فيها : «إنّا كما نقطع بأنّا مكلّفون في زماننا هذا تكليفا فعليّا بأحكام فرعيّة كثيرة ، لا سبيل لنا ـ بحكم العيان وشهادة الوجدان ـ إلى تحصيل كثير منها بالقطع ، ولا بطريق معيّن يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه ، أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذّره ، كذلك نقطع بأنّ الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طريقا مخصوصا ، وكلّفنا تكليفا فعليّا بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة ؛ وحيث إنّه لا سبيل غالبا إلى تعيينها بالقطع ولا بطريق يقطع من السمع بقيامه بالخصوص ، أو قيام طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد تعذّره ، فلا ريب أنّ الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنّما هو الرجوع في تعيين ذلك الطريق إلى الظنّ الفعليّ الّذي لا دليل على عدم حجّيّته (٢) ، لأنّه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع ممّا عداه» (٣).

__________________

(١) وهو المحقّق العلّامة الشيخ أسد الله التستريّ في كشف القناع عن وجوه حجّيّة الإجماع : ٤٦٠.

ونقله عنه المحقّق التبريزيّ في حاشية الرسائل (أوثق الوسائل) : ١٣٧.

(٢) وفي نسخ الكفاية : «على حجّيّته». وما أثبتناه موافق لما في الفصول.

(٣) انتهى كلام صاحب الفصول مع تغيير في بعض الكلمات وإسقاط بعضها الآخر. راجع الفصول الغرويّة : ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

٣٦٤

وفيه : أوّلا ـ بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصّة باقية فيما بأيدينا من الطرق غير العلميّة ، وعدم وجود المتيقّن بينها أصلا ـ أنّ قضيّة ذلك هو الاحتياط في أطراف هذه الطرق المعلومة بالإجمال ، لا تعيينها بالظنّ.

لا يقال : (١) الفرض هو عدم وجوب الاحتياط بل عدم جوازه.

لأنّ الفرض إنّما هو عدم وجوب الاحتياط التامّ في أطراف الأحكام ، ممّا يوجب العسر المخلّ بالنظام ، لا الاحتياط في خصوص ما بأيدينا من الطرق ، فإنّ قضيّة هذا الاحتياط هو جواز رفع اليد عنه في غير مواردها والرجوع إلى الأصل فيها ولو كان نافيا للتكليف.

وكذا فيما إذا نهض الكلّ على نفيه.

وكذا فيما إذا تعارض فردان من بعض الأطراف فيه نفيا وإثباتا مع ثبوت المرجّح للنافي ، بل مع عدم رجحان المثبت في خصوص الخبر منها ، ومطلقا في غيره بناء على عدم ثبوت الترجيح على تقدير الاعتبار في غير الأخبار.

وكذا لو تعارض اثنان منها في الوجوب والتحريم ، فإنّ المرجع في جميع ما ذكر من موارد التعارض هو الأصل الجاري فيها ولو كان نافيا ، لعدم نهوض طريق معتبر ، ولا ما هو من أطراف العلم به على خلافه ، فافهم.

وكذا كلّ مورد لم يجر فيه الأصل المثبت ، للعلم بانتقاض الحالة السابقة فيه إجمالا بسبب العلم به أو بقيام أمارة معتبرة عليه في بعض أطرافه بناء على عدم جريانه بذلك.

وثانيا : لو سلّم أنّ قضيّته (٢) لزوم التنزّل إلى الظنّ ، فتوهّم «أنّ الوظيفة حينئذ هو خصوص الظنّ بالطريق» فاسد قطعا. وذلك لعدم كونه أقرب إلى العلم وإصابة الواقع من الظنّ بكونه مؤدّى طريق معتبر ـ من دون الظنّ بحجّيّة طريق أصلا ـ

__________________

(١) هذا الإيراد ذكره الشيخ الأعظم الأنصاريّ من دون التعرّض لجوابه. ولكن أمر بالتأمّل فيه.

فرائد الاصول ١ : ٤٤٦.

(٢) وفي بعض النسخ : «وثانيا : قضيّته». والصحيح ما أثبتناه.

٣٦٥

ومن الظنّ بالواقع ، كما لا يخفى.

لا يقال : إنّما لا يكون أقرب من الظنّ بالواقع إذا لم يصرف التكليف الفعليّ عنه إلى مؤدّيات الطرق ولو بنحو التقييد.

فإنّ الالتزام به بعيد ، إذ الصرف لو لم يكن تصويبا محالا ، فلا أقلّ من كونه مجمعا على بطلانه ، ضرورة أنّ القطع بالواقع يجدي في الإجزاء بما هو واقع ، لا بما هو مؤدّى طريق القطع ، كما عرفت.

ومن هنا انقدح : أنّ التقييد أيضا غير سديد. مع أنّ الالتزام بذلك غير مفيد ، فإنّ الظنّ بالواقع فيما ابتلي به من التكاليف لا يكاد ينفكّ عن الظنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر. والظنّ بالطريق ما لم يظنّ بإصابته (١) الواقع غير مجد بناء على التقييد ، لعدم استلزامه الظنّ بالواقع المقيّد به بدونه.

هذا ، مع عدم مساعدة نصب الطريق على الصرف ولا على التقييد ، غايته أنّ العلم الإجماليّ بنصب طرق وافية يوجب انحلال العلم بالتكاليف الواقعيّة إلى العلم بما هو مضامين الطرق المنصوبة من التكاليف الفعليّة. والانحلال وإن كان يوجب عدم تنجّز ما لم يؤدّ إليه الطريق من التكاليف الواقعيّة ، إلّا أنّه إذا كان رعاية العلم بالنصب لازما ، والفرض عدم اللزوم بل عدم الجواز. وعليه تكون التكاليف الواقعية كما إذا لم يكن هناك علم بالنصب في كفاية الظنّ بها حال انسداد باب العلم ، كما لا يخفى.

ولا بدّ حينئذ من عناية اخرى (٢) في لزوم رعاية الواقعيّات بنحو من الإطاعة

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «بإصابة».

(٢) وهي إيجاب الاحتياط في الجملة المستكشف بنحو اللمّ من عدم الإهمال في حال الانسداد قطعا إجماعا ، بل ضرورة. وهو يقتضي التنزّل إلى الظنّ بالواقع حقيقة أو تعبّدا إذا كان استكشافه في التكاليف المعلومة إجمالا ، لما عرفت من وجوب التنزّل عن القطع بكلّ ما يجب تحصيل القطع به في حال الانفتاح إلى الظنّ به في هذا الحال وإلى الظنّ بخصوص الواقعيّات الّتي تكون مؤدّيات الطرق المعتبرة أو بمطلق المؤدّيات لو كان استكشافه في ـ

٣٦٦

وعدم إهمالها رأسا ، كما أشرنا إليها (١). ولا شبهة في أنّ الظنّ بالواقع لو لم يكن أولى حينئذ ـ لكونه أقرب في التوسّل به إلى ما به الاهتمام من فعل الواجب وترك الحرام ـ من الظنّ بالطريق ، فلا أقلّ من كونه مساويا فيما يهمّ العقل من تحصيل الأمن من العقوبة في كلّ حال. هذا ، مع ما عرفت (٢) من أنّه عادة يلازم الظنّ بأنّه مؤدّى طريق ، وهو بلا شبهة يكفي ولو لم يكن هناك ظنّ بالطريق ، فافهم فإنّه دقيق.

ثانيهما : ما اختصّ به بعض المحقّقين (٣). قال : «لا ريب في كوننا مكلّفين بالأحكام الشرعيّة ، ولم يسقط عنّا التكليف بالأحكام الشرعيّة ، وأنّ الواجب علينا أوّلا هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف ، بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به وسقوط تكليفنا عنّا ، سواء حصل العلم معه بأداء الواقع أولا ، حسبما مرّ تفصيل القول فيه. فحينئذ نقول : إن صحّ لنا تحصيل العلم بتفريغ ذمّتنا في حكم الشارع فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به ، وإن انسدّ علينا سبيل العلم كان الواجب علينا تحصيل الظنّ بالبراءة في حكمه ، إذ هو الأقرب إلى العلم به ، فيتعيّن الأخذ به عند التنزّل من العلم في حكم العقل ـ بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف ـ دون ما يحصل معه الظنّ بأداء الواقع كما يدّعيه القائل بأصالة حجّيّة الظنّ» انتهى موضع الحاجة من كلامه ـ زيد في علوّ مقامه ـ (٤).

__________________

ـ خصوصها أو في مطلقها ، فلا يكاد أن تصل النوبة إلى الظنّ بالطريق بما هو كذلك ، وإن كان يكفي لكونه مستلزما للظنّ بكون مؤدّاه مؤدّى طريق معتبر ، كما يكفي الظنّ بكونه كذلك ولو لم يكن ظنّ باعتبار طريق أصلا ، كما لا يخفى. وأنت خبير بأنّه لا وجه لاحتمال ذلك ، وإنّما المتيقّن هو لزوم رعاية الواقعيّات في كلّ حال بعد عدم لزوم رعاية الطرق المعلومة بالإجمال بين أطراف كثيرة ، فافهم. منه [أعلى الله مقامه].

(١) راجع الصفحة : ٣٥٩ من هذا الجزء ، حيث قال : «وذلك لأنّ إهمال معظم الأحكام ...».

(٢) قبل أسطر.

(٣) وهو المحقّق الشيخ محمّد تقيّ الاصفهانيّ صاحب الحاشية على المعالم ، وهو من تلامذة الشيخ العلّامة أسد الله التستريّ.

وهذا الوجه هو أوّل الوجوه الثمانية الّتي أقامها على حجّيّة الظنون الخاصّة.

(٤) انتهى كلامه مع اختلاف يسير في الألفاظ. راجع هداية المسترشدين : ٣٩١.

٣٦٧

وفيه : أوّلا : أنّ الحاكم على الاستقلال في باب تفريغ الذمّة بالإطاعة والامتثال إنّما هو العقل ، وليس للشارع في هذا الباب حكم مولويّ يتبعه حكم العقل ، ولو حكم في هذا الباب كان بتبع حكمه إرشادا إليه ، وقد عرفت استقلاله بكون الواقع بما هو هو مفرّغا (١) ، وأنّ القطع به حقيقة أو تعبّدا مؤمّن جزما ، وأنّ المؤمّن في حال الانسداد هو الظنّ بما كان القطع به مؤمّنا حال الانفتاح ، فيكون الظنّ بالواقع أيضا مؤمّنا حال الانسداد.

وثانيا : سلّمنا ذلك ، لكن حكمه بتفريغ الذمّة ـ فيما إذا أتى المكلّف بمؤدّى الطريق المنصوب ـ ليس إلّا بدعوى أنّ النصب يستلزمه ، مع أنّ دعوى «أنّ التكليف بالواقع يستلزم حكمه بالتفريغ فيما إذا أتى به» أولى ، كما لا يخفى ، فيكون الظنّ به ظنّا بالحكم بالتفريغ أيضا.

إن قلت : كيف يستلزمه الظنّ بالواقع ، مع أنّه ربما يقطع بعدم حكمه به معه ، كما إذا كان من القياس؟ وهذا بخلاف الظنّ بالطريق ، فإنّه يستلزمه ولو كان من القياس.

قلت : الظنّ بالواقع أيضا يستلزم الظنّ بحكمه بالتفريغ (٢) ، ولا ينافي القطع بعدم حجّيّته لدى الشارع وعدم كون المكلّف معذورا ـ إذا عمل به فيهما ـ فيما أخطأ ، بل كان مستحقّا للعقاب ـ ولو فيما أصاب ـ لو بني على حجّيّته والاقتصار عليه لتجرّيه ، فافهم.

وثالثا : سلّمنا أنّ الظنّ بالواقع لا يستلزم الظنّ به ، لكن قضيّته ليست إلّا التنزّل إلى الظنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر ، لا خصوص الظنّ بالطريق ، وقد عرفت أنّ الظنّ بالواقع لا يكاد ينفكّ عن الظنّ بأنّه مؤدّى الطريق غالبا.

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «مفرّغ» بالرفع. والصواب ما أثبتناه ، لأنّه خبر لقوله : «بكون الواقع».

(٢) وذلك لضرورة الملازمة بين الإتيان بما كلّف به واقعا وحكمه بالفراغ. ويشهد به عدم جواز الحكم بعدمه لو سئل عن أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه هل هو مفرّغ؟ ولزوم حكمه بأنّه مفرّغ ، وإلّا لزوم عدم إجزاء الأمر الواقعيّ ، وهو واضح البطلان. منه [أعلى الله مقامه].

وفي بعض النسخ : «الظنّ بهما على الأقوى يستلزم الحكم بالتفريغ».

٣٦٨

فصل

[الكشف والحكومة]

لا يخفى عدم مساعدة مقدّمات الانسداد على الدلالة على كون الظنّ طريقا منصوبا شرعا ، ضرورة أنّه معها لا يجب عقلا على الشارع أن ينصب طريقا ، لجواز اجتزائه بما استقلّ به العقل في هذا الحال.

ولا مجال لاستكشاف نصب الشارع من حكم العقل لقاعدة الملازمة ، ضرورة أنّها إنّما تكون في مورد قابل للحكم الشرعيّ ، والمورد هاهنا غير قابل له ، فإنّ الإطاعة الظنّيّة الّتي يستقلّ العقل بكفايتها في حال الانسداد إنّما هي بمعنى عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزيد منها ، وعدم جواز اقتصار المكلّف بدونها. ومؤاخذة الشارع غير قابلة لحكمه ، وهو واضح.

واقتصار المكلّف بما دونها لمّا كان بنفسه موجبا للعقاب مطلقا ، أو فيما أصاب الظنّ ـ كما أنّها بنفسها موجبة للثواب ، أخطأ أو أصاب ، من دون حاجة إلى أمر بها أو نهي عن مخالفتها ـ كان حكم الشارع فيه مولويّا بلا ملاك يوجبه ، كما لا يخفى ، ولا بأس به إرشاديّا ، كما هو شأنه في حكمه بوجوب الإطاعة وحرمة المعصية.

وصحّة نصبه الطريق وجعله في كلّ حال بملاك يوجب نصبه ، وحكمة داعية إليه ، لا تنافي استقلال العقل بلزوم الإطاعة بنحو حال الانسداد ، كما يحكم بلزومها بنحو آخر حال الانفتاح ، من دون استكشاف حكم الشارع بلزومها مولويّا ، لما عرفت.

٣٦٩

[صحّة تقرير مقدّمات الانسداد على نحو الحكومة]

فانقدح بذلك عدم صحّة تقرير المقدّمات إلّا على نحو الحكومة ، دون الكشف ؛ وعليها فلا إهمال في النتيجة أصلا ، سببا وموردا ومرتبة ، لعدم تطرّق الإهمال والإجمال في حكم العقل ، كما لا يخفى.

أمّا بحسب الأسباب : فلا تفاوت بنظره فيها.

وأمّا بحسب الموارد : فيمكن أن يقال بعدم استقلاله بكفاية الإطاعة الظنّيّة إلّا فيما ليس للشارع مزيد اهتمام فيه بفعل الواجب وترك الحرام ، واستقلاله بوجوب الاحتياط فيما فيه مزيد الاهتمام ، كما في الفروج والدماء ، بل وسائر حقوق الناس ممّا لا يلزم من الاحتياط فيها العسر.

وأمّا بحسب المرتبة : فكذلك لا يستقلّ إلّا بلزوم التنزّل إلى مرتبة الاطمئنان من الظنّ بعدم التكليف إلّا (١) على تقدير عدم كفايتها في دفع محذور العسر.

[عدم صحّة تقرير المقدّمات على نحو الكشف]

وأمّا على تقرير الكشف : فلو قيل بكون النتيجة هو نصب الطريق الواصل بنفسه ، فلا إهمال فيها أيضا بحسب الأسباب ، بل يستكشف حينئذ أنّ الكلّ حجّة لو لم يكن بينها ما هو المتيقّن ، وإلّا فلا مجال لاستكشاف حجّيّة غيره (٢) : ولا بحسب الموارد ، بل يحكم بحجّيّته في جميعها ، وإلّا لزم عدم وصول الحجّة ، ولو لأجل التردّد في مواردها ، كما لا يخفى.

ودعوى الإجماع (٣) على التعميم بحسبها في مثل هذه المسألة المستحدثة ، مجازفة جدّا.

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «فكذلك لا يستقلّ إلّا بكفاية مرتبة الاطمئنان من الظنّ إلّا ...».

(٢) وفي بعض النسخ : «حجّة غيره». والصواب ما أثبتناه.

(٣) كما ادّعاه الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ١ : ٤٦٩.

٣٧٠

وأمّا بحسب المرتبة : ففيها إهمال ، لأجل احتمال حجّيّة خصوص الاطمئنانيّ منه إذا كان وافيا ، فلا بدّ من الاقتصار عليه.

ولو قيل ب : «أنّ النتيجة هو نصب الطريق الواصل ولو بطريقه» ، فلا إهمال فيها بحسب الأسباب لو لم يكن بينها (١) تفاوت أصلا ، أو لم يكن بينها إلّا واحد ، وإلّا فلا بدّ من الاقتصار على متيقّن الاعتبار منها أو مظنونه ، بإجراء مقدّمات دليل الانسداد حينئذ مرّة أو مرّات في تعيين الطريق المنصوب حتّى ينتهي إلى ظنّ واحد ، أو إلى ظنون متعدّدة لا تفاوت بينها فيحكم بحجّيّة كلّها ، أو متفاوتة يكون بعضها الوافي متيقّن الاعتبار فيقتصر عليه. وأمّا بحسب الموارد والمرتبة ، فكما إذا كانت النتيجة هي الطريق الواصل بنفسه ، فتدبّر جيّدا.

ولو قيل ب : «أنّ النتيجة هو الطريق ولو لم يصل أصلا» ، فالإهمال فيها يكون من الجهات. ولا محيص حينئذ إلّا من الاحتياط في الطريق بمراعاة أطراف الاحتمال لو لم يكن بينها متيقّن الاعتبار ، أو لم يلزم منه محذور ، وإلّا لزم التنزّل إلى حكومة العقل بالاستقلال ، فتأمّل ، فإنّ المقام من مزالّ الأقدام.

وهم ودفع :

لعلّك تقول : إنّ القدر المتيقّن الوافي لو كان في البين لما كان مجال لدليل الانسداد ، ضرورة أنّه من مقدّماته انسداد باب العلميّ أيضا.

لكنّك غفلت عن أنّ المراد ما إذا كان اليقين بالاعتبار من قبله ، لأجل اليقين بأنّه لو كان شيء حجّة شرعا كان هذا الشيء حجّة قطعا ، بداهة أنّ الدليل على أحد المتلازمين إنّما هو الدليل على الآخرة ، لا الدليل على الملازمة.

[التفصيل بين محتملات الكشف]

ثمّ لا يخفى : أنّ الظنّ باعتبار ظنّ بالخصوص ، يوجب اليقين باعتباره من باب

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «فيها».

٣٧١

دليل الانسداد على تقرير الكشف ، بناء على كون النتيجة هو الطريق الواصل بنفسه ، فإنّه حينئذ يقطع بكونه حجّة ، كان غيره حجّة أولا.

واحتمال عدم حجّيّته بخصوصه (١) لا ينافي القطع بحجّيّته بملاحظة الانسداد ، ضرورة أنّه على الفرض لا يحتمل أن يكون غيره حجّة بلا نصب قرينة ؛ ولكنّه من المحتمل أن يكون هو الحجّة دون غيره ، لما فيه من خصوصيّة الظنّ بالاعتبار.

وبالجملة : الأمر يدور بين حجّيّة الكلّ وحجّيّته ، فيكون مقطوع الاعتبار.

ومن هنا ظهر حال القوّة.

ولعلّ نظر من رجّح بهما (٢) إلى هذا الفرض (٣) ، وكان منع شيخنا العلّامة «أعلى الله مقامه» عن الترجيح بهما (٤) بناء على كون النتيجة هو الطريق الواصل ولو بطريقه أو الطريق ولو لم يصل أصلا (٥). وبذلك ربما يوفّق بين كلمات الأعلام في المقام ، وعليك بالتأمّل التامّ.

ثمّ لا يذهب عليك : أنّ الترجيح بهما (٦) إنّما هو على تقدير كفاية الراجح ، وإلّا فلا بدّ من التعدّي إلى غيره بمقدار الكفاية ، فيختلف الحال باختلاف الأنظار ، بل الأحوال.

[تعميم النتيجة على الكشف ، والجواب عنه]

وأمّا تعميم النتيجة ـ بأنّ قضيّة العلم الإجماليّ بالطريق هو الاحتياط في أطرافه ـ : فهو لا يكاد يتمّ إلّا على تقدير كون النتيجة هو نصب الطريق ولو لم يصل

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «بالخصوص».

(٢) وفي بعض النسخ : «بها». فبناء على تأنيث الضمير ـ كما في بعض النسخ ـ يرجع الضمير إلى «القوّة». وبناء على تثنيته يرجع الضمير إلى «القوّة والظنّ بالاعتبار».

(٣) كالمحقّق النراقيّ في عوائد الأيّام : ٣٩٧ ـ ٣٩٨ ، والشيخ محمّد تقي الاصفهانيّ في هداية المسترشدين : ٣٩٤ ـ ٣٩٥.

(٤) وفي بعض النسخ : «بها».

(٥) راجع فرائد الاصول ١ : ٤٧٩ ـ ٤٨٦.

(٦) وفي بعض النسخ : «بها».

٣٧٢

أصلا ؛ مع أنّ التعميم بذلك لا يوجب العمل إلّا على وفق المثبتات من الأطراف ، دون النافيات ، إلّا فيما إذا كان هناك ناف من جميع الأصناف ، ضرورة أنّ الاحتياط فيها لا يقتضي رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعيّة إذا لزم ، حيث لا ينافيه ؛ كيف؟ ويجوز الاحتياط فيها مع قيام الحجّة النافية كما لا يخفى ، فما ظنّك بما لا يجب الأخذ بموجبه إلّا من باب الاحتياط ، فافهم.

٣٧٣

فصل

[الإشكال في خروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد]

قد اشتهر الإشكال بالقطع (١) بخروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة.

[تقرير الإشكال]

وتقريرة ـ على ما في الرسائل ـ : «أنّه كيف يجامع حكم العقل بكون الظنّ كالعلم مناطا للإطاعة والمعصية ، ويقبح على الآمر والمأمور التعدّي عنه ، ومع ذلك يحصل الظنّ أو خصوص الاطمئنان من القياس ولا يجوّز الشارع العمل به؟ فإنّ المنع عن العمل بما يقتضيه العقل من الظنّ أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممكنا جرى في غير القياس ، فلا يكون العقل مستقلّا ، إذ لعلّه نهى عن أمارة ، مثل ما نهى عن القياس ، واختفى علينا. ولا دافع لهذا الاحتمال إلّا قبح ذلك على الشارع ، إذ احتمال صدور الممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلّا بقبحه ؛ وهذا من أفراد ما اشتهر من أنّ الدليل العقليّ لا يقبل التخصيص» (٢) انتهى موضع الحاجة من كلامه ـ زيد في علوّ مقامه ـ.

__________________

(١) وفي بعض النسخ حذف قوله : «بالقطع».

(٢) انتهى كلامه مع تغيير في الكلمات. فرائد الاصول ١ : ٥١٦ ـ ٥١٧.

٣٧٤

[الجواب عن الإشكال]

وأنت خبير بأنّه لا وقع لهذا الإشكال بعد وضوح كون حكم العقل بذلك معلّقا على عدم نصب الشارع طريقا وأصلا ، وعدم حكمه به فيما كان هناك منصوب ولو كان أصلا ، بداهة أنّ من مقدّمات حكمه عدم وجود علم ولا علميّ ، فلا موضوع لحكمه مع أحدهما ؛ والنهي عن ظنّ حاصل من سبب ، ليس إلّا كنصب شيء ، بل هو يستلزمه فيما كان في مورده أصل شرعيّ. فلا يكون نهيه عنه رفعا لحكمه عن موضوعه ، بل به يرتفع موضوعه ، وليس حال النهي عن سبب مفيد للظنّ إلّا كالأمر بما لا يفيده. وكما لا حكومة معه للعقل لا حكومة له معه ، وكما لا يصحّ بلحاظ حكمه الإشكال فيه لا يصحّ الإشكال فيه بلحاظه.

نعم ، لا بأس بالإشكال فيه في نفسه ، كما اشكل فيه برأسه بملاحظة توهّم استلزام النصب لمحاذير تقدّم الكلام في تقريرها وما هو التحقيق في جوابها في جعل الطرق (١). غاية الأمر تلك المحاذير ـ الّتي تكون فيما إذا أخطأ الطريق المنصوب ـ كانت في الطريق المنهيّ عنه في مورد الإصابة. ولكن من الواضح أنّه لا دخل لذلك في الإشكال على دليل الانسداد بخروج القياس ، ضرورة أنّه بعد الفراغ عن صحّة النهي عنه في الجملة ، قد اشكل في عموم النهي لحال الانسداد بملاحظة حكم العقل. وقد عرفت أنّه بمكان من الفساد.

واستلزام إمكان المنع عنه ـ لاحتمال المنع عن أمارة اخرى وقد اختفى علينا ـ وإن كان موجبا لعدم استقلال العقل ، إلّا أنّه إنّما يكون بالإضافة إلى تلك الأمارة لو كان غيرهما ممّا لا يحتمل فيه المنع بمقدار الكفاية ، وإلّا فلا مجال لاحتمال المنع فيها مع فرض استقلال العقل ، ضرورة عدم استقلاله بحكم مع احتمال وجود مانعة على ما يأتي تحقيقه في الظنّ المانع والممنوع (٢).

__________________

(١) راجع الصفحة : ٢٨٠ ـ ٢٨٧ من هذا الجزء.

(٢) سيأتي في الفصل الآتي.

٣٧٥

وقياس حكم العقل بكون الظنّ مناطا للإطاعة في هذا الحال على حكمه بكون العلم مناطا لها في حال الانفتاح (١) لا يكاد يخفى على أحد فساده ، لوضوح أنّه مع الفارق ، ضرورة أنّ حكمه في العلم على نحو التنجّز ، وفيه على نحو التعليق.

ثمّ لا يكاد ينقضي تعجّبي لم خصّصوا الإشكال بالنهي عن القياس ، مع جريانه في الأمر بطريق غير مفيد للظنّ ، بداهة انتفاء حكمه في مورد الطريق قطعا ، مع أنّه لا يظنّ بأحد أن يستشكل بذلك. وليس إلّا لأجل أنّ حكمه به معلّق على عدم النصب ، ومعه لا حكم له ، كما هو كذلك مع النهي عن بعض أفراد الظنّ ، فتدبّر جيّدا.

[فساد ما ذكره بعض المحقّقين في الجواب عن الإشكال]

وقد انقدح بذلك : أنّه لا وقع للجواب عن الإشكال تارة بأنّ المنع عن القياس لأجل كونه غالب المخالفة (٢) ، وأخرى بأنّ العمل به يكون ذا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الثابتة عند الإصابة (٣). وذلك لبداهة أنّه إنّما يشكل بخروجه ـ بعد الفراغ عن صحّة المنع عنه في نفسه ـ بملاحظة حكم العقل بحجّيّة الظنّ ؛ ولا يكاد يجدي صحّته كذلك في ذبّ الإشكال (٤) في صحّته بهذا اللحاظ ، فافهم ، فإنّه لا يخلو عن دقّة.

وأمّا ما قيل في جوابه ـ من منع عموم المنع عنه بحال الانسداد (٥) ، أو منع

__________________

(١) هذا ما ذكره الشيخ في فرائد الاصول ١ : ٥٢٧.

(٢) وهذا سابع الوجوه الّتي تعرّض لها الشيخ في الجواب عن الإشكال. راجع فرائد الاصول ١ : ٥٢٩ ـ ٥٣١.

(٣) وهذا سادس الوجوه الّتي تعرّض لها الشيخ في الجواب عن الإشكال واختاره سابقا. ثمّ استشكل فيه هنا. راجع فرائد الاصول ١ : ٥٢٨.

(٤) وفي النسخ : «الذبّ عن الإشكال». والصحيح ما أثبتناه.

(٥) وهذا أوّل الوجوه السبعة المذكورة في فرائد الاصول ١ : ٥١٧. وذكره أيضا المحقّق القميّ في قوانين الاصول ١ : ٤٤٩ و ٢ : ١١٣.

٣٧٦

حصول الظنّ منه بعد انكشاف حاله (١) ، وأنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه (٢) ـ ففي غاية الفساد ، فإنّه ـ مضافا إلى كون كلّ واحد من المنعين غير سديد ؛ لدعوى الإجماع على عموم المنع ، مع إطلاق أدلّته وعموم علّته ، وشهادة الوجدان بحصول الظنّ منه في بعض الأحيان ـ لا يكاد يكون في دفع الإشكال بالقطع بخروج الظنّ الناشئ عنه بمفيد ، غاية الأمر أنّه لا إشكال مع فرض أحد المنعين ، لكنّه غير فرض الإشكال ، فتدبّر جيّدا.

__________________

(١) وهذا ثاني الوجوه السبعة المذكورة في فرائد الاصول ١ : ٥٢١. وذكره المحقّق القميّ في القوانين ١ : ٤٤٨ و ٢ : ١١٣.

(٢) هذا نفس الوجه السادس الذي ذكره الشيخ الأنصاريّ وأشار إليه المصنّف رحمه‌الله قبل أسطر ، حيث قال : «بأنّ العمل به يكون ذا مفسدة ...». فالأولى أن يحذف ، فإنّه مستدرك.

٣٧٧

فصل

[الظنّ المانع والممنوع]

إذا قام ظنّ على عدم حجّيّة ظنّ بالخصوص ، فالتحقيق أن يقال ـ بعد تصوّر المنع عن بعض الظنون في حال الانسداد ـ : إنّه لا استقلال للعقل بحجّيّة ظنّ احتمل المنع عنه ، فضلا عمّا إذا ظنّ ـ كما أشرنا إليه في الفصل السابق ـ ؛ فلا بدّ من الاقتصار على ظنّ قطع بعدم المنع عنه بالخصوص ، فإن كفى ، وإلّا فبضميمة ما لم يظنّ المنع عنه وإن احتمل ، مع قطع النظر عن مقدّمات الانسداد ، وإن انسدّ باب هذا الاحتمال معها ، كما لا يخفى ، وذلك ضرورة أنّه لا احتمال مع الاستقلال حسب الفرض.

ومنه انقدح : أنّه لا تتفاوت الحال لو قيل بكون النتيجة هي حجّيّة الظنّ في الاصول أو في الفروع أو فيهما ، فافهم.

٣٧٨

فصل

[عدم الفرق بين أقسام الظنّ بالحكم]

لا فرق في نتيجة دليل الانسداد بين الظنّ بالحكم من أمارة عليه ، وبين الظنّ به من أمارة متعلّقة بألفاظ الآية أو الرواية ، كقول اللغويّ فيما يورث الظنّ بمراد الشارع من لفظه ، وهو واضح.

ولا يخفى : أنّ اعتبار ما يورثه لا محيص عنه فيما إذا كان ممّا ينسدّ فيه باب العلم. فقول أهل اللغة حجّة فيما يورث الظنّ بالحكم مع الانسداد ولو انفتح باب العلم باللغة في غير المورد.

نعم ، لا يكاد يترتّب عليه أثر آخر من تعيين المراد في وصيّة أو إقرار أو غيرهما من الموضوعات الخارجيّة ، إلّا فيما يثبت فيه حجّيّة مطلق الظنّ بالخصوص أو ذاك المخصوص.

ومثله الظنّ الحاصل بحكم شرعيّ كلّي من الظنّ بموضوع خارجيّ ، كالظنّ بأنّ راوي الخبر هو زرارة بن أعين ـ مثلا ـ لا آخر.

فانقدح : أنّ الظنون الرجاليّة مجدية في حال الانسداد ولو لم يقم دليل على اعتبار قول الرجاليّ ، لا من باب الشهادة ولا من باب الرواية.

تنبيه :

لا يبعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات المتطرّقة إلى مثل السند أو

٣٧٩

الدلالة أو جهة الصدور مهما أمكن في الرواية وعدم الاقتصار بالظنّ الحاصل منها بلا سدّ بابه فيه بالحجّة من علم أو علميّ. وذلك لعدم جواز التنزّل في صورة الانسداد إلى الضعيف مع التمكّن من القويّ أو ما بحكمه عقلا ، فتأمّل جيّدا.

٣٨٠