كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
ISBN: 978-964-470-562-5
الصفحات: ٤١٩

وعدم استحقاقها مع الموافقة (١) ولو في صورة المخالفة عن الواقع ، يكون عقلا في الشرع متّبعا ما لم ينهض دليل على المنع عن اتّباعه في الشرعيّات (٢) ، فافهم

__________________

(١) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «واستحقاق المثوبة مع الموافقة».

(٢) توضيح ما أفاد المصنّف في المتن جوابا عن الإشكال : أنّه أجاب عنه بوجوه ثلاثة :

الأوّل : ما أشار إليه بقوله : «مضافا إلى ...». وحاصله : أنّ مورد هذه الآيات هو خصوص اصول الدين ، فتدلّ على عدم كفاية الظنّ في اصول الدين ، فلا ربط لها بما نحن فيه.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «ولو سلّم ...». وحاصله : أنّه لو سلّم إطلاق النهي الوارد في الآيات والروايات وشمولها وجوب العمل بخبر الواحد فنقول : إنّ المنصرف من إطلاقها إرادة الظنّ الّذي لم يقم دليل على حجّيّته واعتباره.

الثالث : ما أشار إليه بقوله : «لا يكاد يكون الردع بها إلّا على وجه دائر». وتوضيحه : أنّ رادعيّة الآيات عن العمل بخبر الواحد دوريّة ، لأنّ كونها رادعة عن السيرة متوقّف على عدم تخصيص عمومها بالسيرة الّتي قامت على اعتبار خبر الثقة ، وإلّا فلا تشملها ، وعدم تخصيص عمومها بها متوقّف على كون الآيات رادعة عنها ، وإلّا لكانت مخصّصة ؛ فرادعيّة الآيات موقوفة على عدم كون السيرة مخصّصة لها ، وعدم كونها مخصّصة لها موقوف على كون الآيات رادعة عنها ، وهو دور واضح.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّه فلا يمكن الاستدلال بالسيرة على إثبات حجّيّة خبر الثقة ، لاستلزامه الدور ـ كما مرّ ـ. بيان ذلك : أنّه لا يثبت بها حجّيّة الخبر إلّا إذا لم تكن الآيات رادعة عنها ، وعدم كونها رادعة عنها متوقّف على كون السيرة مخصّصة للآيات كي لا يشملها عموم الآيات ، وكون السيرة مخصّصة لها متوقّف على عدم كون الآيات رادعة عنها ، وهذا دور. ولزوم الدور يمنع عن ثبوت اعتبار السيرة ، وإذا لم يثبت اعتبارها فلا يمكن الاستدلال بها على إثبات خبر الثقة.

وأجاب عنه : بأنّ كون السيرة مخصّصة للآيات الناهية غير متوقّف على ثبوت عدم الردع عنها بالآيات واقعا ، بل متوقّف على عدم ثبوت الردع. بخلاف كون الآيات رادعة عن السيرة ، فإنّه متوقّف على عدم كون السيرة مخصّصة لها واقعا ، فالموقوف عليه التخصيص ـ وهو عدم ثبوت الردع بالآيات عن السيرة ـ غير الموقوف على التخصيص ـ وهو ثبوت عدم الردع بها عن السيرة واقعا ـ ، فلا يستلزم الدور.

والحاصل : أنّ الآيات لا تصلح للردع عن السيرة العقلائيّة على العمل بخبر الواحد.

هذا غاية ما يبيّن به كلام المصنّف رحمه‌الله.

ولا يخفى : أنّه لا مجال لتحقيق الكلام في المقام بنحو يتّضح به الحال ، بل هو خارج عن ـ

٣٤١

__________________

ـ المقصود ، فإنّ غرضنا من هذه التعليقة هو إيضاح مبهمات الكتاب وذكر ما يوجب رشد أذهان الفضلاء ويؤثّر في سوقهم إلى التحقيق والتدقيق ، ليتهيّئوا بذلك للانتفاع بالدراسات العالية إن شاء الله. فنكتفي بذكر ما أفاده الأعلام الثلاثة وبعض تلامذتهم حول ما ذكره المصنّف في المقام.

أمّا المحقّقان العراقيّ والنائينيّ : فأفادا عدم رادعيّة الآيات عن السيرة بما حاصله : أنّ العمل بخبر الواحد في طريقة العقلاء يرجع إلى أنّهم يرون العمل به من أفراد العمل بالعلم ، لا من أفراد العمل بالظنّ. وأنّهم لا يعتنون باحتمال الخلاف ، لما قد جرت على إلغاء احتمال الخلاف طباعهم واستقرّت عليه عادتهم. فالعمل بخبر الواحد خارج عن موضوع الآيات الناهية ـ وهو العمل بالظنّ ـ ، فلا تصلح الآيات الناهية عن العمل بالظنّ لأن تكون رادعة عن العمل بخبر الثقة. نهاية الأفكار ٣ : ١٠٣ و ١٣٨ ، فوائد الاصول ٣ : ١٦١ ـ ١٩٥.

ثمّ إنّ ظاهر كلام المحقّق النائينيّ أنّه سلّم صحّة دعوى دوريّة رداعيّة الآيات عن السيرة لو أغمضنا النظر عن دعوى الانصراف وخروج السيرة عن الآيات. فلا بدّ من القول بأنّ السيرة حاكمة على الآيات ، والمحكوم لا يصلح للرادعيّة عن الحاكم. راجع فوائد الاصول ٣ : ١٦٢.

وأمّا المحقّق العراقيّ : فصرّح بعدم صحّة تلك الدعوى ولو أغمض النظر عن دعوى الانصراف وخروج السيرة موضوعا عن الآيات الكريمة. فقال : «حجّيّة السيرة بعد أن كانت معلّقة على عدم الردع عنها يكون عدم الردع في المرتبة السابقة عن حجّيّتها ، لأنّه بمنزلة شرطها. وحينئذ ففي المرتبة السابقة على حجّيّتها تجري أصالة العموم في الآيات الناهية ، فتوجب خروج مثلها عن الحجّيّة ، بلا محذور دور». نهاية الأفكار ٣ : ١٠٣ ـ ١٠٤.

وأمّا المحقّق الاصفهانيّ : فأطال الكلام في المقام بتقريب الدور ودفعه بوجه آخر. ثمّ أفاد تقديم السيرة على عموم الآيات ، لعدم بناء العقلاء على العمل بالعامّ في قبال الخاصّ ، وقال : «ويؤيّد تقديم السيرة على العمومات ويؤكّده أنّ لسان النهى عن اتّباع الظنّ وأنّه لا يغني من الحقّ شيئا ليس لسان التعبّد بأمر على خلاف الطريقة العقلائيّة ، بل من باب إيكال الأمر إلى عقل المكلّف من حيث أنّ الظنّ بما هو ظنّ لا مسوّغ للاعتماد عليه والركون إليه. فلا نظر إلى ما استقرّت عليه سيرة العقلاء بما هم عقلاء على اتّباعه من حيث كونه خبر الثقة. ولذا كان الرواة يسألون عن وثاقة الراوي للفراغ عن لزوم اتّباع روايته بعد فرض وثاقته». نهاية الدراية ٣ : ٣٦.

وإن شئت الاطّلاع على تفصيل ما أفاده فراجع نهاية الدراية ٢ : ٢٣٢ ـ ٢٣٧ و ٣ : ٢٩ ـ ٣٦.

وأمّا السيّد المحقّق الخوئيّ : فدفع توهّم كون الآيات رادعة عن السيرة بوجوه :

الأوّل : أنّ عمل الصحابة والتابعين بخبر الثقة غير قابل للإنكار ، كما أنّ استمراره بين المتشرّعة وأصحاب الأئمّة عليهم‌السلام بعد نزول الآيات مقطوع به. فلو كانت الآيات رادعة عن ـ

٣٤٢

وتأمّل (١).

__________________

ـ السيرة المستقرّة على العمل بخبر الثقة لانقطعت السيرة في زمان الأئمّة عليهم‌السلام لا محالة.

الثاني : مع الغضّ عن ذلك ، إنّ الظاهر من لسان الآيات كونها إرشادا إلى ما يحكم به العقل من تحصيل المؤمّن من العقاب المحتمل والانتهاء إلى ما يعلم به الأمن. فلا يكون مفادها حكما مولويّا لتكون رادعة عن السيرة.

الثالث : لو أغمضنا عن ذلك ، إنّ السيرة حاكمة على الآيات الناهية ، فيكون حال خبر الثقة حال الظواهر من حيث قيام السيرة على العمل به ، فكما أنّ السيرة حاكمة على الآيات بالنسبة إلى الظواهر كذلك حاكمة عليها بالنسبة إلى خبر الثقة. مصباح الاصول ٢ : ١٩٩ ـ ٢٠٠.

وأمّا السيّد الإمام الخمينيّ : فهو ـ بعد ما ناقش في ما أفاده المصنّف رحمه‌الله في نفي الرادعيّة من لزوم الدور ، وناقش فيما أفاده المحقّق النائينيّ من حديث حكومة السيرة على الآيات الناهية ـ دفع صلاحيّة الآيات للرادعيّة عن السيرة بأنّ الآيات لمّا كانت من قبيل القضايا الحقيقيّة تشمل كلّ ما وجد في الخارج ويكون مصداقا لغير العلم. وبما أنّ دلالتها غير علميّة ، بل ظنيّة ، فتشمل نفسها ، فيجب عدم جواز اتّباعها بحكم نفسها ، ويلزم من التمسّك بها عدم جواز التمسّك بها ، وهو باطل بالضرورة. أنوار الهداية ١ : ٢٧٥.

والحاصل : أنّهم أطبقوا على عدم صلاحيّة الآيات للرادعيّة عن السيرة ، وإن اختلفوا في تقريره. ولا يخلو بعض ما أفادوه من المناقشة ، يطول شرحها ولا يهمّ التعرّض لها الآن ، وفيما ذكرناه الكفاية.

(١) قولنا : «فافهم وتأمّل» إشارة إلى كون خبر الثقة متّبعا ولو قيل بسقوط كلّ من السيرة والإطلاق عن الاعتبار بسبب دوران الأمر بين ردعها به وتقييده بها ، وذلك لأجل استصحاب حجّيّته الثابتة قبل نزول الآيتين.

فإن قلت : لا مجال لاحتمال التقييد بها ، فإنّ دليل اعتبارها مغيّا بعدم الردع به عنها ومعه لا تكون صالحة لتقييد الإطلاق مع صلاحيّته للردع عنها ، كما لا يخفى.

قلت : الدليل ليس إلّا إمضاء الشارع لها ورضاه بها المستكشف بعدم الردع عنها في زمان مع إمكانه وهو غير مغيّا. نعم ، يمكن أن يكون له واقعا وفي علمه تعالى أمد خاصّ ، كحكمه الابتدائيّ ، حيث إنّه ربما يكون له أمد فينسخ ، فالردع في الحكم الإمضائيّ ليس إلّا كالنسخ في الابتدائيّ ، وذلك غير كونه بحسب الدليل مغيّا ، كما لا يخفى.

وبالجملة : ليس حال السيرة مع الآيات الناهية إلّا كحال الخاصّ المقدّم والعامّ المؤخّر في دوران الأمر بين التخصيص بالخاصّ أو النسخ بالعامّ ، ففيهما يدور الأمر أيضا بين التخصيص بالسيرة أو الردع بالآيات ، فافهم. منه [أعلى الله مقامه].

٣٤٣

فصل

في الوجوه العقليّة الّتي اقيمت على حجّيّة خبر الواحد

[الوجه الأوّل : دليل الانسداد الصغير (١)]

__________________

(١) قال المحقّق العراقيّ في هامش فوائد الاصول ٢ : ١٠٢ : «ميزان الكبر والصغر في باب الانسداد كبر دائرة العلم الإجماليّ وصغرها». وتوضيحه : أنّ العلم الإجماليّ على قسمين :

أحدهما : العلم الإجماليّ الكبير. وهو العلم الإجماليّ الذي كانت دائرة أطرافه وسيعة ، بحيث يشمل جميع المشتبهات من الأخبار والأمارات الظنّية المعتبرة وغير المعتبرة ـ من الشهرات والإجماعات والأولويات ـ. فإذا انتهت المقدّمات المرتّبة في الانسداد إلى حجّيّة مطلق الظنّ ـ من أيّ طريق كان ـ فهو دليل الانسداد الكبير.

ثانيهما : العلم الإجماليّ الصغير. وهو العلم الإجماليّ الذي كانت دائرة أطرافه ضيقة ، بأن تكون أطرافه خصوص الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة. وإذا انتهت المقدّمات المرتّبة في الانسداد إلى حجّيّة الظنّ الحاصل من طريق خصوص الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة فهو دليل الانسداد الصغير.

وفرّق المحقّق النائينيّ بين الانسدادين بأنّ الفرق بينهما أنّ مقدّمات الانسداد الكبير إنّما تجري في نفس الأحكام ، ليستنتج منها حجّيّة مطلق الظنّ فيها ؛ وأمّا مقدّمات الانسداد الصغير فإنّما تجري في بعض ما يتوقّف عليه استنباط الحكم من الرواية ـ من العلم بصدور الخبر ، والعلم بجهة صدوره ، وكون الخبر ظاهرا في المعنى المنطبق عليه ، وحجّيّة الظهور ـ ليستنتج منها حجّيّة مطلق الظنّ في خصوص الجهة التي انسدّ باب العلم فيها. فوائد الاصول ٣ : ١٩٦ ـ ١٩٧.

والسيّد الإمام الخميني ـ بعد ما فرّق بينهما بما أفاد المحقّق العراقيّ ـ تعرّض لما ذكره المحقّق النائيني وأطال الكلام في المناقشة فيه ، فراجع أنوار الهداية ١ : ٣١٨ ـ ٣١٩.

٣٤٤

أحدها (١) : أنّه يعلم إجمالا بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار من الأئمّة

__________________

(١) وهذا الوجه قرّبه الشيخ الأعظم الأنصاريّ بنحو يرد عليه إيرادات أربعة. وقرّبه المصنّف رحمه‌الله في المقام بنحو لا يرد عليه إلّا الإيراد الرابع منها.

وتوضيح الفرق بين التقريبين يتوقّف على ذكر ما أفاده الشيخ الأعظم أوّلا ، وبيان ما أفاده المصنّف رحمه‌الله في المقام ثانيا.

أمّا الشيخ الأعظم : فأفاد في تقرير الوجه : أنّا نعلم إجمالا بصدور جملة من الأخبار الّتي بأيدينا عن المعصوم عليه‌السلام ، ولا سيّما بعد ملاحظة اهتمام الرواة في رواية الأحاديث وضبطها وتدوينها وجهد العلماء في المحافظة عليها وإسقاط الضعاف منها. ومقتضى هذا العلم الإجماليّ لزوم الاحتياط والأخذ بجميع الأخبار الموجودة في الكتب ، وهو غير ممكن ، فلا بدّ من العمل بكلّ خبر مظنون الصدور ، لأنّه أقرب إلى الواقع من غيره.

ثمّ أورد على هذا الوجه بإيرادات أربعة :

الأوّل : أنّ هذا الدليل لا يفيد حجّيّة خصوص الخبر ، بل يفيد حجّيّة كلّ ما ظنّ منه بصدور الحكم عن الحجّة وإن لم يكن خبرا. وذلك لأنّ وجوب العمل بالأخبار الصادرة إنّما هو لأجل اشتمالها على الأحكام الواقعيّة الّتي يجب امتثالها ، فالعمل بالخبر الصادر من جهة كشفه عن حكم الله تعالى ، لا بما أنّه خبر. وعليه فالعلم الإجماليّ بصدور كثير من الأخبار يرجع إلى العلم الإجماليّ بوجود تكاليف واقعيّة في ضمن هذه الأخبار ، والعلم الإجماليّ بوجود التكاليف الواقعيّة لا يختصّ بالأخبار ، بل نعلم إجمالا بوجودها في ضمن غيرها من الأمارات الظنّيّة أيضا ، فنعلم بوجودها في ضمن الشهرات والإجماعات المنقولة. ومقتضى هذا العلم الإجماليّ هو العمل بكلّ ما يفيد الظنّ بالحكم الشرعيّ بعد تعذّر الاحتياط. وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

ثمّ نفى دعوى انحلال العلم الإجماليّ الكبير ـ وهو ما كانت أطرافه الأمارات الظنّيّة ـ بالعلم الإجماليّ الصغير ـ وهو ما كانت أطرافه خصوص الأخبار ـ. وحاصل ما أفاده : أنّ العلم الإجماليّ الكبير لا ينحلّ بالصغير إلّا إذا فرض عدم بقاء الكبير لو عزلنا من أطراف الصغير بمقدار المعلوم بالإجمال. وأمّا إذا فرض بقاء العلم الإجماليّ الكبير بين الباقي من أطراف الصغير وسائر أطراف الكبير لم ينحلّ الكبير بالصغير. وما نحن فيه من هذا القبيل ، ضرورة أنّه لو عزلنا من الأخبار طائفة بمقدار المعلوم صدوره من الأخبار يبقى العلم الإجماليّ بوجود أحكام واقعيّة بين باقي الأخبار وسائر الأمارات الظنّيّة ، فلا ينحلّ العلم الإجماليّ الكبير ، بالعلم الإجماليّ الصغير.

الثاني : أنّ اللازم من الوجه المذكور هو لزوم العمل بكلّ خبر يحصل الظنّ بكون ـ

٣٤٥

__________________

ـ مضمونه حكم الله ـ ولو من الشهرة ـ ، سواء كان مظنون الصدور أو لا ، إذ عرفت أنّ العمل بالخبر الصادر إنّما هو باعتبار كون مضمونه حكم الله الّذي يجب العمل به.

الثالث : أنّ مقتضى هذا الدليل لزوم العمل بالخبر المثبت للتكليف ، لأنّا مكلّفون بامتثال الأحكام المعلومة إجمالا. وأمّا الأخبار النافية للتكليف فلا يجب العمل بها. فهذا الدليل أخصّ من المدّعى ، إذ المقصود من حجّيّة الخبر هو إثبات كونه دليلا متّبعا في قبال الاصول اللفظيّة والعمليّة ، سواء كان مثبتا للتكليف أو نافيا له.

الرابع : ما أفاده بقوله : «وكذلك لا يثبت به حجّيّة الأخبار على وجه ينهض لصرف ظواهر الكتاب والسنّة القطعيّة ...». وحاصله : أنّ مقتضى هذا الوجه هو وجوب العمل بالأخبار احتياطا ، لا حجّة ، لأنّه مقتضى العلم الإجماليّ ، فلا ينهض لإثبات الحجّيّة للأخبار بنحو تصلح الأخبار لتخصيص ظواهر الكتاب أو السنّة القطعيّة أو تقييدها. والمقصود من حجّيّة الخبر كونه دليلا مستقلّا متّبعا في قبال الاصول اللفظيّة والعمليّة.

هذا ملخّص ما أفاده الشيخ في تقريب هذا الوجه والإيراد عليه. فراجع فرائد الاصول ١ : ٣٥١ ـ ٣٦٠.

وأمّا المصنّف رحمه‌الله : فقرّبه بنحو لا يرد عليه إلّا الإيراد الأخير. وتوضيح ما أفاده : أنّ لنا علمين إجماليّين:

الأوّل : العلم الإجماليّ الكبير ، وأطرافه جميع المشتبهات وموارد الأخبار والأمارات المعتبرة وغير المعتبرة. فنعلم إجمالا بوجود تكاليف شرعيّة فيها ، إذ لا معنى للشرع الخالي عن التكليف ، ولا نحتمل مخالفة جميع الأمارات للواقع.

الثاني : العلم الإجماليّ الصغير. وأطرافه خصوص موارد الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة ، فإنّا نعلم إجمالا بصدور جملة من هذه الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام بمقدار واف بمعظم الفقه ، بحيث لو علم تفصيلا ذاك المقدار يستكشف أنّ المعلوم بالإجمال في العلم الإجماليّ الكبير لا يزيد عددا على المعلوم بالإجمال في العلم الإجماليّ الصغير ، فينحلّ العلم الإجماليّ بثبوت التكاليف في موارد قيام الأمارات ـ وهو الكبير ـ بالعلم الإجماليّ بثبوتها في مضامين الأخبار الّتي علمنا إجمالا بصدور كثير منها ـ وهو الصغير ـ. وحينئذ نعلم تفصيلا بثبوت التكاليف في ما بأيدينا من الأخبار الصادرة الّتي علمنا إجمالا بصدور كثير منها ، ونشكّ في ثبوتها في غير الأخبار ، فلا يجب الاحتياط إلّا في أطراف العلم الإجماليّ الصغير. فيجب العمل على طبق الأخبار المثبتة للتكاليف الموجودة في الكتب المعتبرة ، ويجوز العمل على طبق النافية فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت للتكليف ، ـ

٣٤٦

الأطهار عليهم‌السلام بمقدار واف بمعظم الفقه ، بحيث لو علم تفصيلا ذاك المقدار (١) لانحلّ

__________________

ـ ولا يجب الاحتياط في أطراف العلم الإجماليّ الكبير من جميع المشتبهات وموارد الأمارات المعتبرة وغير المعتبرة.

وأمّا الفرق بين التقريبين : أنّ الشيخ قرّب الاستدلال بنحو ينتج لزوم العمل بكلّ خبر مظنون الصدور بلحاظ تطبيق مقدّمات الانسداد على الأخبار ؛ وأمّا المصنّف رحمه‌الله فقرّبه بنحو ينتج لزوم العمل بالأخبار المثبتة للتكليف. وأنّ الشيخ ذهب إلى عدم الانحلال في المقام ، والمصنّف رحمه‌الله ذهب إلى انحلال العلم الإجماليّ الكبير بالعلم الإجماليّ الصغير.

ومن هنا يظهر : أنّه لا يرد على هذا الاستدلال بالتقريب الّذي ذكره المصنّف رحمه‌الله إلّا الإيراد الرابع. وأمّا الثلاثة الأول فلا يرد عليه.

أمّا الإيراد الأوّل : فأجاب عنه بأنّ العلم الإجماليّ الكبير ـ وهو العلم بثبوت التكاليف في ضمن الأمارات الظنّيّة ـ قد انحلّ بالعلم الإجماليّ الصغير ـ وهو العلم بصدور جملة من الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة عن المعصوم عليه‌السلام ـ. ونتيجة ذلك وجوب العمل على طبق الأخبار المثبتة للتكليف الموجودة في الكتب المعتبرة ، لا العمل على طبق كلّ ما يفيد الظنّ بالحكم الشرعيّ كي يقال : «إنّ هذا الدليل لا يفيد حجّيّة خصوص الخبر».

وأمّا الإيراد الثاني : فيجاب عنه بما يجاب عن سابقه.

وأمّا الإيراد الثالث : فأجاب عنه المصنّف رحمه‌الله بأنّ الغرض وجوب العمل على وفق الأخبار المثبتة وجواز العلم على طبق الروايات النافية فيما إذا لم يكن في موردها أصل مثبت للتكليف ، لا وجوب العمل بالأخبار المثبتة فقط كي يقال : «أنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى».

وأمّا الإيراد الرابع : فهو مشترك الورود على كلا التقريبين ، فإنّ الدليل ـ بكلا التقريبين ـ إنّما يثبت وجوب العمل بالأخبار احتياطا ، لأنّه مقتضى العلم الإجماليّ. فلا ينهض على إثبات لزوم العمل بها من جهة إثبات حجّيّتها كي تصلح هذه الأخبار لتقييد المطلقات وتخصيص العمومات وغير ذلك.

هذا توضيح ما أفاده المصنّف رحمه‌الله في الوجه الأوّل.

وقد أطال الأعلام الثلاثة والعلمان السيّدان الكلام حول هذا الوجه بما لا يهمّ التعرّض إليه. وعلى الطالب المحقّق أن يرجع فرائد الاصول ٣ : ١٩٦ ـ ٢١١ ، نهاية الأفكار ٣ : ١٣٢ ـ ١٤٣ ، نهاية الدراية ٢ : ٢٣٨ ـ ٢٤٤ ، أنوار الهداية ١ : ٣١٧ ـ ٣٢٤ ، مصباح الاصول ٢ : ٢٠٣ ـ ٢١٣.

(١) كأن يعلم إجمالا بثبوت مائة حكم إلزاميّ في الروايات وسائر الأمارات ، ويعلم إجمالا بثبوت تلك المائة في الروايات.

فالمراد من قوله : «لو علم تفصيلا» أنّه لو علم تفصيل مقدار الأحكام الثابتة إجمالا ـ

٣٤٧

علمنا الإجماليّ بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الأمارات إلى العلم التفصيليّ بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعلومة تفصيلا (١) ، والشكّ البدويّ في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات الغير المعتبرة.

ولازم ذلك (٢) لزوم العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة ، وجواز العمل (٣) على طبق النافي منها فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت له (٤) من قاعدة الاشتغال (٥) أو الاستصحاب (٦) بناء على جريانه في أطراف ما علم إجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعضها ، أو قيام أمارة معتبرة (٧) على انتقاضها فيه ، وإلّا (٨) لاختصّ عدم جواز العمل على وفق النافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال.

__________________

ـ بين الروايات. فالأولى سوق العبارة هكذا : «لو علم عدد الأحكام الثابتة الّتي علمنا بثبوتها في الروايات».

(١) لا يخفى : أنّ قوله : «المعلومة تفصيلا» وصف لقوله : «بالتكاليف». ومعنى العبارة : «إلى العلم التفصيليّ بثبوت التكاليف الّتي علمنا عددها تفصيلا في مضامين الأخبار».

ولا يخفى أيضا : أنّ المراد من «العلم التفصيليّ» هنا ليس العلم التفصيليّ المصطلح ، كيف؟ ومع العلم التفصيليّ بالتكاليف يجب العمل بها ، ولا مجال للاحتياط ولزوم العمل بجميع الأخبار ، بل المراد منه العلم الإجماليّ الّذي كانت أطرافه أقلّ من العلم الإجماليّ الآخر ، وهو العلم الإجماليّ الصغير ، فإنّه بالقياس إلى العلم الإجماليّ الكبير علم تفصيليّ.

(٢) أي : لازم العلم التفصيليّ (العلم الإجماليّ الصغير) بالتكاليف الثابتة في مضامين الأخبار الصادرة.

(٣) عطف على قوله : «لزوم العمل».

(٤) أي : للتكليف.

(٥) فلا يجوز العمل بهذا الخبر النافي للتكليف إذا دلّت قاعدة الاشتغال على ثبوت التكليف ، كما إذا قام خبر على عدم وجوب صلاة الجمعة فيما إذا علمنا بوجوبها أو وجوب صلاة الظهر ، لكن مقتضى قاعدة الاشتغال هو وجوب الجمعة.

(٦) فلا يجوز العمل بهذا الخبر النافي للحكم إذا كان مقتضى الاستصحاب ثبوت التكليف ، كما إذا قام خبر على نفي وجوب الاجتناب عن الماء القليل المتنجّس المتمّم كرّا بطاهر ، ولكن استصحاب نجاسته يقتضى ثبوت نجاسته ووجوب الاجتناب عنه.

(٧) عطف على قوله : «بانتقاص».

(٨) أي : وإن لم يجر الاستصحاب في أطراف العلم الإجماليّ.

٣٤٨

وفيه : أنّه لا يكاد ينهض على حجّيّة الخبر بحيث يقدّم تخصيصا أو تقييدا أو ترجيحا على غيره من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم ، وإن كان يسلم عمّا اورد عليه (١) من أنّ لازمه الاحتياط في سائر الأمارات لا في خصوص الروايات ، لما عرفت من انحلال العلم الإجماليّ بينهما (٢) بما علم بين الأخبار بالخصوص ولو بالإجمال ، فتأمّل جيّدا.

[الوجه الثاني : ما ذكره صاحب الوافية]

ثانيها : ما ذكره في الوافية (٣) مستدلّا على حجّيّة الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة ـ كالكتب الأربعة ـ مع عمل جمع به من غير ردّ ظاهر.

وهو : «أنّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة ، سيّما بالاصول الضروريّة ، كالصلاة والزكاة والصوم والحجّ والمتاجر والأنكحة ونحوها ، مع أنّ جلّ أجزائها وشرائطها وموانعها إنّما يثبت بالخبر غير القطعيّ ، بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الامور عن كونها هذه الامور عند ترك العمل بخبر الواحد. ومن أنكر ذلك فإنّما ينكره باللسان وقلبه مطمئنّ بالإيمان» (٤) ، انتهى.

واورد عليه (٥):

أوّلا : بأنّ العلم الإجماليّ حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بين جميع الأخبار ، لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره (٦) ، فاللازم حينئذ إمّا

__________________

(١) إشارة إلى الإيراد الثاني من الإيرادات الأربعة الّتي أوردها الشيخ الأنصاريّ على هذا الوجه. راجع فرائد الاصول ١ : ٣٥٩.

(٢) أي : بين الروايات وسائر الأمارات.

(٣) وهو للفاضل التونيّ.

(٤) الوافية في اصول الفقه (للفاضل التونيّ) : ١٥٩.

(٥) والمورد هو الشيخ الأنصاريّ في فرائد الاصول ١ : ٣٦١ ـ ٣٦٢.

(٦) وهو كونها موجودة في الكتب المعتمد عليها عند الشيعة وكونها معمولا عندهم.

٣٤٩

الاحتياط (١) أو العمل بكلّ ما ظنّ صدوره (٢) ممّا دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته (٣).

قلت : يمكن أن يقال : إنّ العلم الإجماليّ وإن كان حاصلا بين جميع الأخبار ، إلّا أنّ العلم بوجود الأخبار الصادرة عنهم عليهم‌السلام بقدر الكفاية بين تلك الطائفة ، أو العلم باعتبار طائفة كذلك (٤) بينها يوجب انحلال ذاك العلم الإجماليّ وصيرورة غيرها (٥) خارجة (٦) عن طرف العلم ـ كما مرّت إليه الإشارة في تقريب الوجه الأوّل ـ. اللهمّ إلّا أن يمنع عن ذلك (٧) وادّعي عدم الكفاية فيما علم بصدوره أو اعتباره ، أو ادّعي العلم بصدور أخبار أخر بين غيرها ، فتأمّل.

وثانيا : بأنّ قضيّته إنّما هو العمل بالأخبار المثبتة للجزئيّة أو الشرطيّة دون الأخبار النافية لهما.

والأولى أن يورد عليه : بأنّ قضيّته إنّما هو الاحتياط بالأخبار المثبتة (٨) [للجزئيّة أو الشرطيّة] (٩) فيما لم تقم حجّة معتبرة على نفيهما من عموم دليل أو إطلاقه ، لا الحجّيّة بحيث يخصّص أو يقيّد بالمثبت منها ، أو يعمل بالنافي في قبال

__________________

(١) بأن يعمل بكلّ خبر دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته.

(٢) أي : أو العمل بكلّ خبر ظنّ صدوره.

(٣) وفي بعض النسخ : «إمّا الاحتياط أو العمل بكلّ ما دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته». وفي فرائد الاصول هكذا : «إمّا الاحتياط والعمل بكلّ خبر دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته ، وإمّا العمل بكلّ خبر ظنّ صدوره ممّا دلّ على الجزئيّة أو الشرطيّة».

(٤) أي : بقدر الكفاية.

(٥) أي : غير تلك الطائفة الّتي يعلم باعتبارها.

(٦) وفي بعض النسخ : «غيره خارجا» ، وفي بعض آخر : «غير خارجة». والصحيح ما أثبتناه.

(٧) أي : من انحلال العلم الإجماليّ.

(٨) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «إنّما هو الاحتياط بالعمل بالأخبار المثبتة» ، أو يقول : «إنّما هو العمل بالأخبار المثبتة».

(٩) ما بين المعقوفتين ليس في النسخ. وإنّما زدناه بلحاظ قوله : «نفيهما» ، فإنّ ضميره قطع النظر عمّا زدناه بين المعقوفتين ضمير بلا مرجع.

٣٥٠

حجّة على الثبوت ولو كان أصلا ، كما لا يخفى (١).

[الوجه الثالث : ما أفاده صاحب هداية المسترشدين]

ثالثها : ما أفاده بعض المحقّقين (٢) بما ملخّصه : «أنّا نعلم بكوننا مكلّفين بالرجوع إلى الكتاب والسنّة إلى يوم القيامة ، فإن تمكّنّا من الرجوع إليهما على نحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه ، فلا بدّ من الرجوع إليهما كذلك ، وإلّا فلا محيص عن الرجوع على نحو يحصل الظنّ به في الخروج عن عهدة هذا التكليف ، فلو لم يتمكّن من القطع بالصدور أو الاعتبار فلا بدّ من التنزّل إلى الظنّ بأحدهما» (٣).

وفيه : أنّ قضيّة بقاء التكليف فعلا بالرجوع إلى الأخبار الحاكية للسنّة ـ كما صرّح بأنّها المراد منها في ذيل كلامه «زيد في علوّ مقامه» ـ إنّما هي الاقتصار (٤)

__________________

(١) توضيح ما أفاده : أنّ الأولى في الإيراد على هذا الوجه أن نقول : إنّ مقتضى هذا الوجه هو وجوب العمل بكلّ خبر دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته من باب الاحتياط إذا لم يقم على نفي جزئيّة ذلك الشيء أو نفي شرطيّته دليل معتبر من عموم أو إطلاق. فإذا دلّ عموم دليل أو إطلاقه على نفيهما لا يجب العمل بتلك الأخبار المثبتة لجزئيّته أو شرطيّته ، كما لا يجوز العمل بالخبر النافي لهما إذا كان في قباله دليل على الجزئيّة أو الشرطيّة ، ولو كان ذلك الدليل أصلا عمليّا.

نعم ، لو كان مقتضى هذا الوجه حجّيّة الأخبار المثبتة للجزئيّة أو الشرطيّة وجب العمل بها ولو دلّ عموم دليل أو إطلاقه على نفيهما ، بل يخصّص العموم أو يقيّد الإطلاق النافي بالأخبار المثبتة. كما يعمل ـ حينئذ ـ بالأخبار النافية لهما في قبال ما دلّ على ثبوتهما لو كان ذاك الدليل أصلا عمليّا.

والحاصل : أنّ ما يدلّ عليه هذا الدليل ـ وهو لزوم العمل بالأخبار المثبتة من باب الاحتياط ـ غير ما هو المدّعى في المقام ـ من حجّيّة الأخبار الواجدة للشرطين المذكورين ـ.

(٢) وهو المحقّق الشيخ محمّد تقيّ الاصفهانيّ صاحب الحاشية على المعالم (هداية المسترشدين).

(٣) راجع هداية المسترشدين : ٣٩٧.

(٤) وفي بعض النسخ : «إنّما هو الاقتصار ...». والصحيح ما أثبتناه.

٣٥١

في الرجوع إلى الأخبار المتيقّن الاعتبار ، فإن وفى (١) ، وإلّا أضيف إليه الرجوع إلى ما هو المتيقّن اعتباره بالإضافة لو كان ، وإلّا فالاحتياط بنحو عرفت ، لا الرجوع إلى ما ظنّ اعتباره ؛ وذلك للتمكّن من الرجوع علما تفصيلا (٢) أو إجمالا (٣) ، فلا وجه معه من الاكتفاء بالرجوع إلى ما ظنّ اعتباره. هذا.

مع أنّ مجال المنع عن ثبوت التكليف بالرجوع إلى السنّة بذاك المعنى فيما لم يعلم بالصدور ولا بالاعتبار بالخصوص واسع.

وأمّا الإيراد عليه (٤) : برجوعه ، إمّا إلى دليل الانسداد لو كان ملاكه دعوى العلم الإجماليّ بتكاليف واقعيّة ، وإمّا إلى الدليل الأوّل لو كان ملاكه دعوى العلم بصدور أخبار كثيرة بين ما بأيدينا من الأخبار.

ففيه : أنّ ملاكه إنّما هو دعوى العلم بالتكليف بالرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة. فراجع تمام كلامه (٥) تعرف حقيقة مرامه.

__________________

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «فإنّ وفت». والمراد أنّه إن وفت الأخبار المتيقّن الاعتبار بمعظم الفقه فهو المطلوب.

(٢) بالرجوع إلى ما هو متيقّن الاعتبار إن كان وافيا.

(٣) فيما إذا اخذ بالأخبار احتياطا.

(٤) كما أورد عليه الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ١ : ٣٦٣ ـ ٣٦٤.

(٥) أي : كلام المورد ، وهو الشيخ الأعظم الأنصاريّ.

٣٥٢

فصل

في الوجوه الّتي أقاموا (١) على حجّيّة الظنّ (٢)

وهي أربعة :

[الوجه الأوّل : قاعدة رفع الضرر المظنون]

الأوّل : أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبيّ أو التحريميّ مظنّة ، ودفع الضرر المظنون لازم (٣).

أمّا الصغرى : فلأنّ الظنّ بوجوب شيء أو حرمته يلازم الظنّ بالعقوبة على مخالفته ، أو الظنّ بالمفسدة فيها ، بناء على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد.

وأمّا الكبرى : فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون ، ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح (٤) ، لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه بهما ، بل يكون التزامه بدفع الضرر

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «اقيمت أو أقاموها».

(٢) أي : مطلق الظنّ.

(٣) هذا الدليل استدلّ به العلّامة في نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٩٧. وهذا أوّل الوجوه الأربعة الّتي ذكرها الشيخ الأعظم في فرائد الاصول ١ : ٣٦٧.

(٤) تعريض لما أفاده الحاجبيّ جوابا عن هذا الوجه من منع الكبرى. فإنّه قال ـ على ما حكاه الشيخ الأنصاريّ ـ : «إنّ دفع الضرر إذا قلنا بالتحسين والتقبيح العقليّين احتياط مستحبّ ، لا واجب». راجع شرح العضديّ على مختصر الاصول ١ : ١٦٣ ، وفرائد الاصول ١ : ٣٦٨.

وأورد عليه المصنّف رحمه‌الله بأنّ وجوب دفع الضرر المظنون من الامور الفطريّة التي يحكم به العاقل بما هو عاقل ، ولذا لا ينكر الأشعريّ ـ المنكر للحسن والقبح ـ أنّه لا يصدر من العاقل ـ

٣٥٣

المظنون ، بل المحتمل بما هو كذلك ، ولو لم يستقلّ بالتحسين والتقبيح ، مثل الالتزام بفعل ما استقلّ بحسنه إذا قيل باستقلاله ، ولذا أطبق العقلاء عليه مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح (١) ، فتدبّر جيّدا.

والصواب في الجواب هو منع الصغرى (٢):

أمّا العقوبة : فلضرورة عدم الملازمة بين الظنّ بالتكليف والظنّ بالعقوبة على مخالفته ، لعدم الملازمة بينه والعقوبة على مخالفته ؛ وإنّما الملازمة بين خصوص معصيته واستحقاق العقوبة عليها ، لا بين مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها. ومجرّد الظنّ به (٣) بدون دليل على اعتباره لا يتنجّز به ، كي يكون مخالفته عصيانه.

إلّا أن يقال : إنّ العقل وإن لم يستقلّ بتنجّزه بمجرّده (٤) بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته ، إلّا أنّه لا يستقلّ أيضا بعدم استحقاقها معه (٥) ، فيحتمل العقوبة حينئذ على المخالفة. ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة جدّا ، لا سيّما إذا كان هو العقوبة الاخرويّة ، كما لا يخفى.

وأمّا المفسدة : فلأنّها وإن كان الظنّ بالتكليف يوجب الظنّ بالوقوع فيها لو خالفه ، إلّا أنّها ليست بضرر على كلّ حال ، ضرورة أنّ كلّ ما يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم أن يكون من الضرر على فاعله ، بل ربما يوجب حزازة ومنقصة في الفعل بحيث يذمّ عليه فاعله بلا ضرر عليه أصلا ، كما لا يخفى.

وأمّا تفويت المصلحة : فلا شبهة في أنّه ليس فيه مضرّة ، بل ربما يكون في استيفائها المضرّة ، كما في الإحسان بالمال ، هذا. مع منع كون الأحكام تابعة

__________________

ـ ما يكون محتمل الضرر فضلا عن عمل يكون مظنّة للضرر.

(١) فالعدليّة ذهبوا إلى استقلال العقل في الحسن والقبح ، والأشاعرة ذهبوا إلى عدم استقلاله.

(٢) كما منعه استاذه المحقّق الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ١ : ٣٧٣.

(٣) أي : بالتكليف.

(٤) أي : بتنجّز التكليف بمجرّد الظنّ به.

(٥) أي : مع الظنّ بالتكليف.

٣٥٤

للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهيّ عنها ، بل إنّما هي تابعة لمصالح فيها (١) ، كما حقّقناه في بعض فوائدنا (٢).

وبالجملة : ليست المفسدة ولا المنفعة الفائتة ـ اللّتان في الأفعال وانيط بهما الأحكام ـ بمضرّة. وليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة أو حسن ما فيه المصلحة من الأفعال ـ على القول باستقلاله بذلك (٣) ـ هو كونه (٤) ذا ضرر وارد على فاعله ، أو نفع عائد إليه.

ولعمري هذا أوضح من أن يخفى. فلا مجال لقاعدة دفع الضرر المظنون هاهنا أصلا ؛ ولا استقلال للعقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة ، أو ترك ما فيه احتمال المصلحة ، فافهم (٥).

[الوجه الثاني : قاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح]

الثاني : أنّه لو لم يؤخذ بالظنّ لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح (٦).

__________________

(١) أي : في نفس الأحكام.

(٢) راجع فوائد الاصول (للمصنّف) : (فائدة في اقتضاء الأفعال للمدح والذمّ) ، وحاشية على الرسائل : ٧٦ ، حيث قال : «مع احتمال عدم كون الأحكام تابعة لهما ، بل تابعة لما في أنفسهما من المصلحة».

(٣) أي : بقبح ما فيه المفسدة أو حسن ما فيه المصلحة.

(٤) أي : كون ما فيه المصلحة أو كون ما فيه المفسدة.

(٥) ثمّ إنّ المحقّق النائينيّ قد أطال الكلام حول هذه الوجه والجواب عنه. وتعرّض له السيّد الإمام الخمينيّ وناقش فيما أفاده. تركنا ما أفاداه خوفا من التطويل. وإن شئت فراجع فوائد الاصول ٣ : ٢١٤ ـ ٢٣٤ ، أنوار الهداية ١ : ٣٣٤ ـ ٣٤٤.

(٦) هذا الاستدلال ذكره العلّامة في نهاية الوصول (مخطوط) : ٣٩٧. وذكره أيضا المحقّق القميّ في قوانين الاصول ١ : ٢٤٣ ، وصاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ٢٨٦ ، والشيخ الأنصاريّ في فرائد الاصول ١ : ٣٨٠. ـ

٣٥٥

وفيه (١) : أنّه لا يكاد يلزم منه ذلك (٢) إلّا فيما إذا كان الأخذ بالظنّ أو بطرفه (٣) لازما ، مع عدم إمكان الجمع بينهما عقلا ، أو عدم وجوبه شرعا ، ليدور الأمر بين ترجيحه وترجيح طرفه. ولا يكاد يدور الأمر بينهما إلّا بمقدّمات دليل الانسداد ، وإلّا كان اللازم هو الرجوع إلى العلم أو العلميّ أو الاحتياط أو البراءة أو غيرهما على حسب اختلاف الأشخاص أو الأحوال في اختلال المقدّمات على ما ستطّلع على حقيقة الحال (٤).

[الوجه الثالث : الجمع بين قاعدتي الاحتياط ونفي الحرج]

الثالث : ما عن السيّد الطباطبائيّ قدس‌سره (٥) من أنّه لا ريب في وجود واجبات

__________________

ـ وحاصل الدليل : أنّه يدور الأمر بين العمل بالظنّ وبين العمل بالشكّ والوهم. ولو لم يؤخذ بالظنّ لزم ترجيح المرجوح ـ وهو الشكّ والوهم ـ على الراجح ـ وهو الظنّ ـ ، وهو قبيح.

(١) هذا هو الجواب الحلّيّ الذي ذكره الشيخ الأعظم ـ في فرائد الاصول : ٣٨١ ـ بعد الجواب عنه بالنقض بكثير من الظنون المحرّمة العمل بالإجماع أو بالضرورة.

(٢) أي : ترجيح المرجوح على الراجح.

(٣) أي : بطرف الظنّ ، وهو الوهم.

(٤) والحاصل : أنّ تماميّة هذا الوجه تتوقّف على أمرين :

أحدهما : تنجّز التكليف ولزوم الأخذ بالمظنون وأخويه ، كي لا يجوز ترك العمل بإجراء البراءة.

ثانيهما : عدم إمكان الجمع بين المظنون وطرفه ـ لاختلال النظام ـ أو عدم وجوب الجمع شرعا ـ للعسر والحرج ـ ، فلا يتمكّن المكلّف من الاحتياط ، ويدور الأمر بين ترجيح الظنّ أو ترجيح طرفه.

فإذا لم يتنجّز التكليف لا يثبت التكليف ويجوز ترك العمل بالرجوع إلى البراءة ، وليس ترجيح المرجوح على الراجح. كما إذا تنجّز التكليف وتمكّن المكلّف من الجمع بينهما فعليه بالاحتياط التامّ ، وليس فيه أيضا ترجيح المرجوح على الراجح.

ومعلوم أنّه لم يتنجّز التكليف ولا يجب العمل بالمظنون وأخويه إلّا بعد تماميّة مقدّمات دليل الانسداد ـ كما سيأتي ـ ، فهذا الوجه يرجع إلى دليل الانسداد.

(٥) حكاه الشيخ الأنصاريّ في فرائد الاصول ١ : ٣٨٢ عن استاذ استاذه ، وهو السيّد الأجلّ الطباطبائيّ صاحب رياض المسائل.

ونقل المحقّق الآشتيانيّ أيضا ـ في بحر الفوائد ١ : ١٨٩ ـ : أنّ شريف العلماء حكاه عن استاذه صاحب الرياض.

٣٥٦

ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات. ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالإتيان بكلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوما ، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك ؛ ولكن مقتضى قاعدة نفي الخرج عدم وجوب ذلك كلّه ، لأنّه عسر أكيد وحرج شديد ؛ فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج ، العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات ، لأنّ الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطل إجماعا.

ولا يخفى ما فيه من القدح والفساد ، فإنّه بعض مقدّمات دليل الانسداد (١) ، ولا يكاد ينتج بدون سائر مقدّماته ، ومعه لا يكون دليلا آخر (٢) بل ذاك الدليل.

[الوجه] الرابع : دليل الانسداد (٣)

وهو مؤلّف من مقدّمات يستقلّ العقل مع تحقّقها بكفاية الإطاعة الظنيّة

__________________

(١) لأنّ هذا الوجه مؤلّف من مقدّمات ثلاث :

إحداها : العلم الإجماليّ بوجود تكاليف فعليّة في الشريعة.

ثانيتها : عدم وجوب الاحتياط التامّ ، لأنّه مستلزم للعسر والحرج.

ثالثتها : العمل بالمظنونات ورفع العسر بطرح المشكوكات والموهومات.

وهي بعض مقدّمات دليل الانسداد. فالاولى هي الأولى منها ، والثانية هي بعض الرابعة منها ، والثالثة هي الخامسة منها.

فتماميّة هذا الوجه تبتني على ضمّ المقدّمة الثانية ـ وهي انسداد باب العلم والعلميّ ـ والثالثة ـ وهي عدم جواز إهمالها ـ وبعض آخر من الرابعة ـ وهو عدم جواز الرجوع إلى الاصول العمليّة أو التقليد ـ. ومع ضميمة هذه المقدّمات يرجع هذا الوجه إلى دليل الانسداد الآتي.

وهذا الجواب ذكره الشيخ الأعظم في فرائد الاصول ١ : ٣٨٢.

(٢) وفي بعض النسخ : «دليل آخر». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) لا يخفى : أنّه لا ثمرة عمليّة ـ بل علميّة ـ للبحث عن هذا الدليل. ولا ينبغي التعرّض له وإطالة الكلام فيه ، لأنّ هذا الدليل ـ بعد ما ثبتت حجّيّة خبر الواحد ـ فاسد من أساسه ، فالتعرّض لها ممّا لا طائل تحته.

فلا وجه للإسهاب في تحقيق تنبيهات دليل الانسداد والتعرّض للمباحث الّتي تعرّضوا لها في المقام ، كالبحث عن عدد مقدّمات دليل الانسداد ، والبحث عن نتيجة هذا الدليل ، والبحث ـ

٣٥٧

حكومة أو كشفا ـ على ما تعرف ـ ، ولا يكاد يستقلّ بها بدونها. وهي خمس :

اوليها : أنّه يعلم إجمالا بثبوت تكاليف كثيرة فعليّة في الشريعة.

ثانيتها : أنّه قد انسدّ علينا باب العلم والعلميّ إلى كثير منها.

ثالثها : أنّه لا يجوز لنا إهمالها وعدم التعرّض لامتثالها أصلا.

رابعتها : أنّه لا يجب علينا الاحتياط في أطراف علمنا ، بل لا يجوز في الجملة ، كما لا يجوز الرجوع إلى الأصل في المسألة من استصحاب وتخيير وبراءة واحتياط ، ولا إلى فتوى العالم بحكمها.

خامستها : أنّه كان ترجيح المرجوح على الراجح قبيحا.

فيستقلّ العقل حينئذ بلزوم الإطاعة الظنّيّة لتلك التكاليف المعلومة ، وإلّا لزم بعد انسداد باب العلم والعلميّ بها إمّا إهمالها ، وإمّا لزوم الاحتياط في أطرافها ، وإمّا الرجوع إلى الأصل الجاري في كلّ مسألة مع قطع النظر عن العلم بها ، أو التقليد فيها ، أو الاكتفاء بالإطاعة الشكّيّة أو الوهميّة مع التمكّن من الظنّيّة ، والفرض بطلان كلّ واحد منها.

أمّا المقدّمة الأولى : فهي وإن كانت بديهيّة ، إلّا أنّه قد عرفت انحلال العلم الإجماليّ بما في الأخبار الصادرة عن الأئمّة الطاهرة عليهم‌السلام الّتي تكون فيما بأيدينا من الروايات في الكتب المعتبرة ، ومعه لا موجب للاحتياط إلّا في خصوص ما في الروايات ، وهو غير مستلزم للعسر فضلا عمّا يوجب الاختلال ، ولا إجماع على

__________________

ـ عن كيفيّة خروج الظنّ القياسيّ ، والبحث عن تقدّم الظنّ المانع أو الممنوع ، وسائر المباحث.

ولذا ترى ـ في هذه الآونة ـ أنّ المدرّسين يهملون تدريس الكتاب من هنا إلى أوّل المقصد السابع.

ولأجل هذا تركنا التعليق على هذه المباحث ، واكتفينا بتصحيحها واستخراج منابعها.

ونحيل الطلّاب للبحث عنها بأوسع ممّا في الكتاب إلى المطوّلات ، كفرائد الاصول ١ : ٣٨٤ ـ ٥٩٩ ، وفوائد الاصول ٣ : ٢٥٥ ـ ٣٢٤ ، ونهاية الأفكار ٢ : ١٤٥ ـ ١٨٤ ، ونهاية الدراية ٢ : ٢٥٤ ـ ٤٢٠ ، وأنوار الهداية ١ : ٣٤٥ ـ ٣٨٥ ، ومصباح الاصول ٢ : ٢١٩ ـ ٢٤٤.

٣٥٨

عدم وجوبه ولو سلّم الإجماع على عدم وجوبه لو لم يكن هناك انحلال.

وأمّا المقدّمة الثانية : فأمّا بالنسبة إلى العلم (١) : فهي بالنسبة إلى أمثال زماننا بيّنة وجدانيّة ، يعرف الانسداد كلّ من تعرّض للاستنباط والاجتهاد. وأمّا بالنسبة إلى العلميّ : فالظاهر أنّها غير ثابتة ، لما عرفت من نهوض الأدلّة على حجّيّة خبر يوثق بصدقه ، وهو ـ بحمد الله ـ واف بمعظم الفقه ، لا سيّما بضميمة ما علم تفصيلا منها ، كما لا يخفى.

وأمّا [المقدّمة] الثالثة : فهي قطعيّة ، ولو لم نقل بكون العلم الإجماليّ منجّزا مطلقا ، أو فيما جاز أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه كما في المقام حسب ما يأتي ؛ وذلك لأنّ إهمال معظم الأحكام وعدم الاجتناب كثيرا عن الحرام ممّا يقطع بأنّه مرغوب عنه شرعا ، وممّا يلزم تركه إجماعا.

إن قلت : إذا لم يكن العلم بها منجّزا لها للزوم الاقتحام في بعض الأطراف ـ كما أشير إليه (٢) ـ فهل كان العقاب على المخالفة في سائر الأطراف ـ حينئذ ـ على تقدير المصادفة إلّا عقابا بلا بيان؟ والمؤاخذة عليها إلّا مؤاخذة بلا برهان؟!

قلت : هذا إنّما يلزم لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط ، وقد علم به بنحو اللمّ ، حيث علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه ، بحيث ينافيه عدم إيجابه الاحتياط الموجب للزوم المراعاة ، ولو كان بالالتزام ببعض المحتملات. مع صحّة دعوى الإجماع على عدم جواز الإهمال في هذا الحال وأنّه مرغوب عنه شرعا قطعا ، [وأمّا مع استكشافه] (٣) فلا تكون المؤاخذة والعقاب حينئذ بلا بيان وبلا برهان كما حقّقناه في البحث وغيره.

__________________

(١) وفي بعض النسخ سقط قوله : «فأمّا بالنسبة إلى العلم». وفي بعض آخر : «أمّا بالنسبة».

والصحيح ما أثبتناه.

(٢) قبل أسطر.

(٣) وفي بعض النسخ حذف ما بين المعقوفتين. وهو الصحيح ، للاستغناء عنه بقوله : «وقد علم به بنحو اللمّ».

٣٥٩

وأمّا المقدّمة الرابعة : فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التامّ بلا كلام ، فيما يوجب عسره اختلال النظام. وأمّا فيما لا يوجب فمحلّ نظر بل منع ، لعدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط ؛ وذلك لما حقّقناه (١) في معنى ما دلّ على نفي الضرر والعسر ، من أنّ التوفيق بين دليلهما ودليل التكليف أو الوضع المتعلّقين بما يعمّهما ، هو نفيهما عنهما بلسان نفيهما ، فلا يكون له حكومة على الاحتياط العسر إذا كان بحكم العقل ، لعدم العسر في متعلّق التكليف ، وإنّما هو في الجمع بين محتملاته احتياطا.

نعم ، لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر ـ كما قيل (٢) ـ لكانت قاعدة نفيه محكّمة على قاعدة الاحتياط ، لأنّ العسر حينئذ يكون من قبل التكاليف المجهولة ، فتكون منفيّة بنفيه.

ولا يخفى : أنّه على هذا لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الأطراف بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمامها ، بل لا بدّ من دعوى وجوبه شرعا ، كما أشرنا إليه في بيان المقدّمة الثالثة (٣) ، فافهم وتأمّل جيّدا.

وأمّا الرجوع إلى الاصول : فبالنسبة إلى الاصول المثبتة ـ من احتياط أو استصحاب مثبت للتكليف ـ فلا مانع عن إجرائها عقلا مع حكم العقل وعموم النقل. هذا ، ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجماليّ ، لاستلزام شمول دليله لها التناقض في مدلوله ، بداهة تناقض حرمة النقض في كلّ منها ـ بمقتضى «لا ينقض» ـ لوجوبه في البعض ، كما هو قضيّة «ولكن ينقضه بيقين آخر» (٤).

__________________

(١) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «لما يأتي من التحقيق». وذلك لأنّه لم يحقّقه في السابق ، بل تعرّض لهذا المطلب ذيل البحث عن قاعدة لا ضرر في الجزء الثالث.

(٢) والقائل الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ٢ : ٤٦ ـ ٤٦٢.

(٣) راجع الصحفة المتقدّمة ، حيث قال : «قلت : هذا إنّما يلزم لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط ...».

(٤) وسائل الشيعة ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١.

٣٦٠