كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
ISBN: 978-964-470-562-5
الصفحات: ٤١٩

نعم ، لو انشئ هذا الحكم ثانيا فلا بأس في أن يكون (١) بلحاظه أيضا ، حيث إنّه صار أثرا بجعل آخر ، فلا يلزم اتّحاد الحكم والموضوع. بخلاف ما إذا لم يكن هناك إلّا جعل واحد ، فتدبّر (٢).

__________________

ـ قطع النظر عن دليل الحجّيّة ـ أثر شرعيّ كي يشمله دليل حجّيّة خبر العادل.

نعم ، يترتّب على إخبار الشيخ وجوب تصديقه بلحاظ كون خبره خبرا عادلا ، إلّا أنّ هذا الأثر ليس ثابتا لخبر الشيخ قطع النظر عن دليل الحجّيّة واعتبار قوله من آية النبأ ومثلها ، بل جاء هذا الأثر من نفس الحكم ـ في مثل الآية ـ بوجوب تصديق خبر العادل ، فيلزم أن يكون الأثر الّذي أخذ موضوعا لوجوب تصديق العادل نفس وجوب التصديق ، فيكون وجوب التصديق موضوعا وحكما ، وهو لا يعقل.

ولا يخفى : أنّه قد أطال الأعلام من المحقّقين في تقريب الإشكال والجواب عنه بوجوه أخر ، تركناها خوفا من التطويل. وإن شئت فراجع فرائد الاصول ١ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦ ، فوائد الاصول ٣ : ١٧٧ ـ ١٨٤ ، نهاية الأفكار ٣ : ١٢٠ ـ ١٢٥ ، نهاية الدراية ٢ : ٢٠١ ، أنوار الهداية ١ : ٢٩٧ ـ ٣٠٥ ، مصباح الاصول ٢ : ١٧٩ ـ ١٨٣.

(١) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «فلا بأس بأن يكون».

(٢) وتوضيح كلامه : أنّه يندفع محذور وحدة الموضوع والحكم إذا أنشئ الحكم بوجوب تصديق العادل ثانيا للواسطة الأولى وثالثا للثانية ورابعا للثالثة وهكذا ، فإذا أخبر «الشيخ» عن «المفيد» عن «الصدوق» عن «الصفّار» عن الإمام العسكريّ عليه‌السلام يجب تصديق خبر كلّ واحد من الوسائط ، لوجود ملاك صحّة التعبّد بالأمارات القائمة على الموضوعات الخارجيّة ـ وهو ترتّب الآثار الشرعيّة على تلك الموضوعات ـ في كلّها ، ولا يلزم محذور اتّحاد الحكم والموضوع.

أمّا خبر الصفّار : فيجب تصديقه لكون المخبر به في خبره أثرا شرعيّا ، وهو قول المعصوم عليه‌السلام من حرمة شيء أو وجوبه ، فيشمله الحكم بوجوب تصديق خبر العادل المستفاد من مثل آية النبأ.

وأمّا خبر الصدوق : فيجب تصديقه ، لأنّ المفروض أنّ المولى أنشأ الحكم بوجوب التصديق ثانيا وقال : «صدّق العادل الّذي يحكي خبر من روى قول المعصوم عليه‌السلام» ، فيجب تصديق خبر الصدوق باعتبار هذا الحكم ، ضرورة أنّ الملاك في صحّة التعبّد بهذه الأمارة موجود ، لأنّ المخبر به في خبر الصدوق ـ وهو إخبار الصفّار ـ ذو أثر شرعيّ هو وجوب تصديقه بمقتضى الحكم الأوّلى المستفاد من مثل آية النبأ. وعليه يكون الحكم وجوب التصديق المجعول ثانيا ، والموضوع وجوب التصديق الّذي أنشئ أوّلا ، فلا يلزم اتّحاد الحكم والموضوع حقيقة. ـ

٣٢١

ويمكن الذبّ عن الإشكال (١) : بأنّه إنّما يلزم إذا لم تكن القضيّة طبيعيّة والحكم فيها بلحاظ طبيعة الأثر ، بل بلحاظ أفراده ، وإلّا فالحكم بوجوب التصديق يسري إليه سراية حكم الطبيعة إلى أفراده (٢) ، بلا محذور لزوم اتّحاد الحكم والموضوع (٣).

__________________

ـ وأمّا خبر المفيد : فيجب تصديقه ، لأنّ المفروض أنّ المولى أنشأ الحكم بوجوب تصديقه ثالثا ، فقال : «صدّق العادل الحاكي عن الحاكي عن خبر من روى قول المعصوم عليه‌السلام» ، فحينئذ يكون الحكم هو وجوب تصديق العادل المستفاد من إنشائه ثالثا ، والموضوع وجوب التصديق الّذي جعله المولى ثانيا ، فلا يلزم اتّحاد الموضوع والحكم حقيقة.

وأمّا خبر الشيخ : فيجب تصديقه أيضا ، لأنّ المولى أنشأ الحكم بوجوب تصديقه رابعا وقال : «صدّق العادل الّذي يحكي عمّن يحكي عن الحاكي عن خبر من روى قول المعصوم عليه‌السلام» ، فيكون الحكم وجوب التصديق المنشأ رابعا ، وموضوعه وجوب التصديق الذي أنشئ ثالثا ، فلا يلزم محذور اتّحاد الحكم والموضوع حقيقة.

نعم ، يلزم اتّحاد الحكم والموضوع نوعا ، وهو غير قادح.

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «ويمكن ذبّ الإشكال» أو أن يقول : «ويمكن دفع الإشكال». وذلك لأنّ «الذبّ» في اللغة هو الدفع والمنع ، والذبّ عن الشيء هو المحافظة عن الشيء دون الدفع عنه. راجع لسان العرب ١ : ٣٨٠ و ٣٨٥ ، الصحاح ١ : ١٢٦.

(٢) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «أفرادها» ، فإنّ الضمير يرجع إلى الطبيعة.

(٣) هذا هو الوجه الأوّل من وجوه الجواب عن الإشكال الثاني. وحاصله : أنّ القضيّة فيما نحن فيه قضيّة طبيعيّة ، وإنّما يلزم المحذور إذا كانت قضيّة خارجيّة.

وتوضيحه : أنّ في قضيّة «تصديق العادل واجب» المستفادة من مثل آية النبأ وجهين :

أحدهما : أن تكون قضيّة خارجيّة يترتّب الحكم فيها على خصوص أفراد الموضوع الموجودة في الخارج فعلا. وعليه يلزم محذور اتّحاد الموضوع والحكم ، إذ حينئذ يكون شخص وجوب التصديق ـ المستفاد من مثل الآية ـ فردا من أفراد وجوب التصديق ، فيكون موضوعا وأثرا لوجوب التصديق المستفاد من مثل الآية ، فيلزم اتّحاد الموضوع والحكم.

ثانيهما : أن تكون قضيّة طبيعيّة يترتّب الحكم فيها على طبيعة الموضوع والأثر ، فيكون الملحوظ موضوعا لوجوب التصديق المستفاد من مثل الآية هو طبيعيّ وجوب تصديق العادل ، وهو متقدّم رتبة على وجوب التصديق الملحوظ حكما المدلول عليه بالآيات الشريفة ، لأنّ هذا الوجوب فرد من أفراد طبيعيّ وجوب تصديق العادل ، فلا يتّحد الموضوع والحكم. غاية الأمر أنّه إذا صار الطبيعيّ موضوعا لحكم وجوب التصديق ـ المستفاد ـ

٣٢٢

هذا مضافا إلى القطع بتحقّق ما هو المناط في سائر الآثار في هذا الأثر ، أي وجوب التصديق بعد تحقّقه بهذا الخطاب ، وإن كان لا يمكن أن يكون ملحوظا لأجل المحذور (١).

وإلى (٢) عدم القول بالفصل بينه وبين سائر الآثار في وجوب الترتيب لدى الإخبار بموضوع صار أثره الشرعيّ وجوب التصديق ، وهو خبر العدل ، ولو بنفس الحكم في الآية(٣) ، فافهم (٤).

__________________

ـ من الآية ـ يسري حكم الطبيعيّ إلى تمام أفراده الّتي منها نفس وجوب التصديق المستفاد من الآية الشريفة.

ولا يخفى : أنّه يظهر ممّا ذكرنا أنّ مراد المصنّف من قوله : «إذا لم تكن القضيّة طبيعيّة والحكم فيها بلحاظ طبيعة الأثر» ليس الطبيعيّ المعقوليّ ـ بمعنى الطبيعة بشرط لا ـ كالنوعيّة في مثل : «الإنسان نوع» كي لا يسري الحكم من الطبيعة إلى الأفراد ، بل مراده هو الطبيعيّ الاصوليّ ، بمعنى الطبيعة بشرط الوجود السعيّ ، وهي الطبيعة السارية في الوجودات الخارجيّة المتفرّدة بلا لحاظ خصوصيّات الأفراد ، فيسري حكمها إلى أفرادها.

(١) هذا هو الوجه الثاني من وجوه الجواب عن الإشكال الثاني. وهذا يستفاد من كلام الشيخ الأنصاريّ في فرائد الاصول ١ : ٢٦٩.

(٢) عطف على قوله : «إلى القطع». وهذا هو الوجه الثالث من وجوه الجواب عن الإشكال الثاني.

(٣) وفي بعض النسخ : «في الآية به». والصحيح ما أثبتناه.

(٤) ولا يخفى : أنّه قد تصدّى الأعلام الثلاثة والسيّدان العلمان ـ الإمام الخمينيّ والسيّد الخوئيّ ـ لبيان وجوه أخر في الجواب عن الإشكال المذكور.

أمّا المحقّق الاصفهانيّ : فحاصل ما أفاده : أنّ الإشكال المذكور مبنيّ على وحدة وجوب التصديق وحدة شخصيّة. وأمّا إذا قلنا بأنّه وإن كان واحدا إنشاء ودليلا إلّا أنّه متعدّد حقيقة ـ بأن نلتزم بجعل إيجابات للتصديق طولا ـ فلا يستلزم اتّحاد الحكم والموضوع ، لأنّه ـ حينئذ ـ يكون الخبر عن الإمام عليه‌السلام محكوما بوجوب التصديق ، والخبر عن الخبر المحكوم بذلك الحكم محكوما بوجوب تصديق آخر ، إلى أن ينتهي إلى الخبر بلا واسطة في مبدأ السلسلة المتّصلة بالمكلّف ، فبعدد الأخبار إيجابات تنزيليّة بجعل واحد. راجع نهاية الدراية ٢ : ٢١٣.

والفرق بين هذا الجواب وبين ما ذكره المصنّف رحمه‌الله بقوله : «نعم ، لو أنشئ هذا الحكم ثانيا ...» أنّ المفروض هناك تعدّد الإيجابات بتبع تعدّد الجعل ، والمفروض هاهنا تعدّد الإيجابات بجعل واحد. ـ

٣٢٣

[الإشكال الثالث ، والجواب عنه]

ولا يخفى : أنّه لا مجال ـ بعد اندفاع الإشكال بذلك (١) ـ للإشكال في خصوص الوسائط من الأخبار ـ كخبر الصفّار المحكيّ بخبر المفيد مثلا ـ بأنّه لا يكاد يكون خبرا تعبّدا إلّا بنفس الحكم بوجوب تصديق العادل الشامل للمفيد ؛ فكيف يكون هذا الحكم المحقّق لخبر الصفّار تعبّدا مثلا حكما له أيضا؟! (٢)

وذلك لأنّه إذا كان خبر العدل ذا أثر شرعيّ حقيقة بحكم الآية وجب ترتيب أثره عليه عند إخبار العدل به ، كسائر ذوات الآثار من الموضوعات ، لما عرفت

__________________

ـ وأمّا المحقّقان النائينيّ والعراقيّ : فأفادا بما حاصله : أنّ دليل اعتبار خبر الواحد ـ وهو آية النبأ مثلا ـ وإن كان بحسب الصورة قضيّة واحدة ، إلّا أنّها تنحلّ إلى قضايا متعدّدة حسب تعدّد السلسلة. والملاك في التعبّد بدليل اعتبار موضوع هو كون مؤدّاه أثرا شرعيّا أو ذا أثر شرعيّ. فيعمّ دليل الاعتبار خبر الصفّار الحاكي عن قول الإمام العسكريّ عليه‌السلام في مبدأ السلسلة ، لأنّ المخبر به في خبره حكم شرعيّ ، فيجب تصديقه بمقتضى أدلّة وجوب تصديق خبر العادل ؛ ويعمّ ذلك الدليل خبر الصدوق أيضا ، لكون المخبر به في خبره موضوعا ذا أثر شرعيّ ؛ وهكذا يعمّ الوسائط الأخر إلى أن ينتهي إلى قول الشيخ المحرز بالوجدان. وعليه لا يلزم محذور وحدة الحكم والموضوع ، لأنّ أثر التعبّد بكلّ خبر في المرتبة السابقة على التعبّد بالآخر. راجع فوائد الاصول ٣ : ١٨٢ ـ ١٨٣ ، نهاية الأفكار ٣ : ١٢٤ ـ ١٢٥.

وأمّا السيّد الإمام الخمينيّ : فتابع المحقّقين المذكورين. راجع أنوار الهداية ١ : ٣٠٠ ـ ٣٠١.

وأمّا السيّد المحقّق الخوئيّ : فأفاد بما لفظه ـ على ما في تقريرات درسه ـ : «يكفي في حجّيّة أخبار الرواة ترتّب الأثر الشرعيّ على مجموعها من حيث المجموع ، ولا ملزم لاعتبار أثر شرعيّ على كلّ خبر مع قطع النظر عن خبر آخر. ولا خفاء في ترتّب الأثر على أخبار مجموع الرواة الواقعة في سلسلة نقل قول المعصومعليه‌السلام». مصباح الاصول ٢ : ١٨٢.

(١) أي : بعد اندفاع الإشكال الثاني بما ذكرناه من الوجوه الثلاثة المتقدّمة.

(٢) حاصل الإشكال : أنّ محذور وحدة الموضوع والحكم مختصّ بالوسائط الّتي بين المبدأ والمنتهى ، فإنّ خبر المفيد وغيره إنّما يثبت بوجوب تصديق العادل الشامل للمفيد ، فيتّحد الحكم والموضوع. وأمّا في المبدأ والمنتهى فلا يلزم وحدتهما ، لأنّ مبدأ السلسلة ـ كالشيخ الطوسيّ ـ يخبرنا عن حسّ ، ومنتهاها ـ كالصفّار ـ ذو أثر شرعيّ.

٣٢٤

من شمول مثل الآية للخبر الحاكي للخبر بنحو القضيّة الطبيعيّة (١) ، أو لشمول الحكم فيها له مناطا وإن لم يشمله لفظا ، أو لعدم القول بالفصل ، فتأمّل جيّدا.

[الدليل الثاني : آية النفر]

ومنها : آية النفر. قال الله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ...) الآية (٢).

وربما يستدلّ بها من وجوه :

أحدها : أنّ كلمة «لعلّ» (٣) وإن كانت مستعملة على التحقيق في معناها الحقيقيّ ـ وهو الترجّي الإيقاعيّ الإنشائيّ (٤) ـ ، إلّا أنّ الداعي إليه حيث يستحيل في حقّه «تعالى» أن يكون هو الترجّي الحقيقيّ كان هو محبوبيّة التحذّر عند الإنذار ، وإذا ثبت محبوبيّته ثبت وجوبه شرعا لعدم الفصل (٥) ، وعقلا لوجوبه مع وجود ما يقتضيه وعدم حسنه(٦) ـ بل عدم إمكانه ـ بدونه (٧).

ثانيها : أنّه لمّا وجب الإنذار ـ لكونه غاية للنفر الواجب ، كما هو قضيّة كلمة

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «نحو القضيّة الطبيعيّة». والأولى ما اثبتناه.

(٢) وإليك تمام الآية : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.) التوبة / ١٢٢.

(٣) الواردة في آخر الآية الكريمة : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.)

(٤) وأنكر المحقّق الاصفهانيّ كون كلمة «لعلّ» للترجّي ، وادّعى أنّها كلمة الشكّ كما في صحاح الجوهريّ ، فيكون مرادفها في الفارسيّة «شايد» ، لا «اميد». راجع نهاية الدراية ٢ : ٢١٨ ـ ٢١٩ ، والصحاح ٥ : ١٨١٥.

(٥) أى : عدم الفصل بين محبوبيّة الشيء عند الله وبين وجوبه ، فإنّ كلّ من قال بمحبوبيّته قال بوجوبه. هكذا أفاد الشيخ في فرائد الاصول ١ : ٢٧٧.

(٦) عطف على قوله : «لوجوبه».

(٧) أي : وإذا ثبتت محبوبيّة الشيء ثبت وجوبه عقلا ، لأنّه إمّا أن يكون مقتضى العقاب والحذر موجودا أو لا. فعلى الأوّل وجب الحذر. وعلى الثاني لا يحسن الحذر أصلا ، بل لا يمكن.

وهذا ما أفاده صاحب المعالم في معالم الدين : ٤٧.

٣٢٥

لو لا التحضيضيّة (١) ـ وجب التحذّر ، وإلّا لغا وجوبه (٢).

ثالثها : أنّه جعل غاية للإنذار الواجب ، وغاية الواجب واجبة (٣).

ويشكل الوجه الأوّل (٤) بأنّ التحذّر لرجاء إدراك الواقع وعدم الوقوع في محذور مخالفته من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة ، حسن (٥) ، وليس بواجب فيما لم يكن هناك حجّة على التكليف. ولم يثبت هاهنا عدم الفصل ، غايته عدم القول بالفصل (٦).

والوجه الثاني والثالث بعدم انحصار فائدة الإنذار بإيجاب التحذّر (٧) تعبّدا ، لعدم إطلاق يقتضي وجوبه على الإطلاق (٨) ، ضرورة أنّ الآية مسوقة لبيان

__________________

(١) لأنّ حروف التحضيض ـ وهي «لو لا ، لو ما ، إلّا ، ألّا ، هلّا» ـ إذا دخلت على فعل مضارع أفادت طلب الفعل والترغيب عليه ، وإذا دخلت على الفعل الماضي ـ كما في الآية الشريفة ـ أفادت الذمّ والتوبيخ على ترك الفعل. راجع شرح الرضي على الكافية ٤ : ٤٤٢ ، وشرح ابن عقيل ٢ : ٣٩٤.

(٢) أي : وجوب الإنذار.

(٣) والحاصل : أنّه جعل التحذّر غاية للإنذار ، والإنذار بمقتضى كونه غاية للنفر الواجب واجب ، فالتحذّر غاية للواجب ، وغاية الواجب واجبة ، فالتحذّر واجب.

ولا يخفى : أنّ هذه الوجوه الثلاثة ذكرها الشيخ الأنصاريّ في فرائد الاصول ١ : ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

(٤) وهو وجود الملازمة بين محبوبيّة التحذّر وبين وجوبه شرعا وعقلا.

(٥) خبر قوله : «بأنّ التحذّر».

(٦) حاصل الإشكال : أنّه لا ملازمة بين محبوبيّة الحذر وبين وجوبه عقلا ، كما لا ملازمة بينها وبين وجوبه شرعا.

أمّا الأوّل : فلأنّ التحذّر عن الشيء قد يكون لتنجّز التكليف وفعليّته ، فيكون تحذّرا عن العقاب ، ولا ريب ـ حينئذ ـ في ثبوت الملازمة بين محبوبيّة الحذر ووجوبه عقلا. وقد يكون لرجاء إدراك الواقع وخوفا من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة ، من دون أن يكون التكليف منجّزا ، فلا يكون تحذّرا من العقوبة ، ولا شكّ ـ حينئذ ـ في عدم ثبوت الملازمة بين محبوبيّة الحذر ووجوبه عقلا.

وأمّا الثاني : فلأنّ القول بعدم الفصل بينهما شرعا غير ثابت ، بل غاية ما يثبت هو عدم القول بالفصل ، وهو غير مفيد.

(٧) وفي بعض النسخ : «بالتحذّر».

(٨) أي : وجوب التحذّر مطلقا ، سواء أفاد العلم أم لا.

٣٢٦

وجوب النفر ، لا لبيان غايتيّة التحذّر. ولعلّ وجوبه كان مشروطا بما إذا أفاد العلم ولو لم نقل بكونه مشروطا به ، فإنّ النفر إنّما يكون لأجل التفقّه وتعلّم معالم الدين ومعرفة ما جاء به سيّد المرسلين كي ينذروا بها المتخلّفين أو النافرين ـ على الوجهين في تفسير الآية ـ ، لكي يحذروا إذا انذروا بها ، وقضيّته إنّما هي وجوب الحذر عند إحراز أنّ الإنذار بها. كما لا يخفى (١).

ثمّ إنّه أشكل أيضا (٢) بأنّ الآية لو سلّم دلالتها على وجوب الحذر مطلقا ، فلا دلالة لها على حجّيّة الخبر بما هو خبر ، حيث إنّه ليس شأن الراوي إلّا الإخبار بما تحمّله ، لا التخويف والإنذار ؛ وإنّما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلّد.

قلت : لا يذهب عليك أنّه ليس حال الرواة في الصدر الأوّل في نقل ما تحمّلوا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام (٣) من الأحكام إلى الأنام إلّا كحال نقلة الفتاوى إلى العوامّ ؛ ولا شبهة في أنّه يصحّ منهم التخويف في مقام الإبلاغ والإنذار والتحذير بالبلاغ ، فكذا من الرواة ، فالآية لو فرض دلالتها على حجّيّة نقل الراوي إذا كان مع

__________________

(١) والحاصل : أنّه لا تنحصر فائدة الإنذار بوجوب التحذّر تعبّدا ولو لم يحصل العلم ، بل يمكن أن تكون فائدته حصول التحذّر عند حصول العلم بالمنذر به. وذلك لعدم إطلاق يقتضي وجوب التحذّر مطلقا ، ضرورة أنّ الشارع في مقام بيان وجوب النفر ، لا في مقام بيان غايتيّة الحذر كي يكون لها إطلاق من هذه الجهة ويتمسّك بإطلاق الكلام من هذه الجهة. ومعلوم أنّ انعقاد مقدّمات الإطلاق من جهة لا ينفع في إثباته من جهة اخرى. فإذن يحتمل اشتراط وجوب العمل بقول المنذر بما إذا علم المنذر أنّ المنذر أنذر بما علمه من معالم الدين ، وأمّا مع الشكّ فيه ـ كما فيما نحن فيه ـ فلا يجب وجوب العمل به ولا يوجب التحذّر.

وهذا الإشكال ذكره الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ١ : ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

(٢) أي : أشكل الاستدلال ثالثا. وهذا إيراد على أصل الاستدلال بالآية بتقاريبه الثلاثة.

وذكر الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ١ : ٢٨٤ ، حيث قال : «الثالث لو سلّمنا دلالة الآية ...».

(٣) وفي بعض النسخ : «والإمام عليه‌السلام». والصحيح ما أثبتناه.

٣٢٧

التخويف ، كان نقله حجّة بدونه (١) أيضا ، لعدم الفصل بينهما جزما ، فافهم (٢).

__________________

(١) أي : بدون التخويف.

(٢) ولا يخفى : أنّ المحقّقين النائينيّ والأصفهانيّ تصدّيا لتقريب الاستدلال بالآية الكريمة بوجوه أخر.

أمّا المحقّق النائينيّ : فقرّب الاستدلال بها بما زعم أنّه يندفع به جميع ما اورد من الإشكالات السابقة على الاستدلال بها. ومحصّل كلامه : أنّ الاستدلال بها يتركّب من امور :

الأوّل : أنّ الحذر واجب عند الإنذار. وذلك لأنّ كلمة «لعلّ» مهما تستعمل تدلّ على أنّ ما بعدها غاية لما قبلها ، سواء كان استعمالها في مقام التكوينيّات أو التشريعيّات ، وسواء كان ما يتلوها من الأفعال الاختياريّة أو غيرها. فإذا كان ما يتلوها من الأفعال الاختياريّة الّتي يمكن تعلّق الإرادة الفاعليّة بها ـ كما إذا قيل : «بلّغ الأحكام إلى العبيد لعلّهم يعملون بها» ـ دلّ الكلام على كونه محكوما بحكم ما قبلها من الوجوب أو الاستحباب ، فإنّ جعل الفعل الاختياريّ غاية للواجب يلازم وجوب ذلك الفعل ، كما أنّ جعله غاية للمستحبّ يلازم استحبابه ، وإلّا لم يكن من العلل الغائيّة. وحيث أنّ الحذر جعل في الآية الشريفة غاية للإنذار الواجب فتدلّ الآية على كونه واجبا لا محالة.

الثاني : أنّ المراد من الجمع في أقواله تعالى : (لِيَتَفَقَّهُوا) و (لِيُنْذِرُوا) وليحذروا هو الجمع الاستغراقيّ الفرديّ ، لا المجموعيّ الارتباطيّ. وذلك لوضوح أنّ المكلّف بالتفقّه هو كلّ فرد من النافرين أو المتخلّفين ـ على التفسيرين ـ. فالمراد إنذار كلّ فرد من النافرين بعضا من قومهم ، لا إنذار مجموعهم مجموع القوم ، كي يقال : «إنّ إخبار المجموع وإنذارهم يفيد العلم بالواقع ، فلا تشمل خبر الواحد الّذي لا يفيد العلم بالواقع».

الثالث : أنّ المراد من التحذّر هو التحذّر الخارجيّ والتجنّب العمليّ ، لا مجرّد الخوف النفسانيّ. وهو يحصل بالعمل بقول المنذر وتصديق قوله والجري على ما يقتضيه من الحركة والسكون. وليس المراد أيضا الحذر عند حصول العلم من قول المنذر ، بل مقتضى الإطلاق والعموم الاستغراقيّ في قوله تعالى : (لِيُنْذِرُوا) هو وجوب الحذر مطلقا ، سواء حصل العلم من قول المنذر أو لم يحصل ، غاية الأمر أنّه يجب تقييد إطلاقه بما إذا كان المنذر عادلا.

وبعد تماميّة هذه الامور الثلاثة يظهر أنّ الآية المباركة تدلّ على وجوب التحذّر العمليّ عند الإنذار ، وهذا معنى حجّيّة الخبر. انتهى كلامه ملخّصا.

ثمّ تصدّى لبيان الإشكالات الواردة على التقريب السابق ودفعها ، وتابعة في المقام تلميذه السيّد المحقّق الخوئيّ. فراجع فوائد الاصول ٣ : ١٨٥ ـ ١٨٧ ، ومصباح الاصول ٢ : ١٨٣ ـ ١٨٤. ـ

٣٢٨

__________________

ـ ولا يخفى : أنّه يرد على الأمر الأوّل ما أفاده المحقّق الاصفهانيّ وأشار إليه المحقّق العراقيّ من أنّ موارد استعمال هذه الكلمة أوسع من مورد الغاية ، بل أنّها كلمة الشكّ وتستعمل في أمثال المقام في التحيّر وإبداء الاحتمال. راجع نهاية الدراية ٢ : ٢١٨ ـ ٢١٩ ، وهامش فوائد الاصول ٢ : ١٨٥.

وأورد المحقّق العراقيّ على الأمر الثاني بأنّ وجوب الإنذار على كلّ واحد بنحو الاستغراقيّ أيضا لا ينافي حمل الآية على صورة إفادة إنذارهم للعلم ، نظرا إلى إهمال الآية.

ثمّ إنّ السيّد الإمام الخمينيّ أيضا ذهب إلى منع جميع الامور الثلاثة :

أمّا الأمر الأوّل : فلأنّ الظاهر من موارد استعمالات كلمة «لعلّ» أنّ دعوى دلالتها مهما تستعمل على أنّ ما بعدها علّة غائيّة لما قبلها ممنوعة.

وأمّا الأمر الثاني : فلأنّ ظاهر الآية الشريفة أنّ المقصود حصول التحذّر القلبيّ حتّى يقوموا بوظائفهم ، فليست الآية في مقام بيان وجوب التحذّر.

وأمّا الأمر الثالث : فلأنّ الآية الشريفة مهملة من هذه الجهة ، فإنّها ليست في مقام بيان وجوب التحذّر. ومجرّد كون الجمع في أقواله تعالى استغراقيّا لا يوجب رفع هذا الإهمال.

أنوار الهداية : ١ : ٣٠٧ ـ ٣٠٩.

وأمّا المحقّق الأصفهانيّ : فقرّب الاستدلال بالآية الشريفة بوجهين :

الأوّل : أنّ كلمة «لعلّ» كلمة الشكّ ، فتفيد أنّ مدخولها واقع موقع الاحتمال ، فتدلّ الآية على احتمال تحقّق التحذّر عن العقوبة عند الإنذار خوفا من ترتّب العقوبة ؛ وهذا يكشف عن حجّيّة الإنذار ، إذ لو لم يكن الإنذار حجّة كان العقاب مقطوع العدم ، لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلا معنى لاحتمال تحقّق التحذّر عن العقوبة خوفا من العقاب ، حيث لا خوف من العقاب فيما إذا لم يكن الإنذار حجّة.

الثاني : أنّ الإنذار إنّما يتحقّق فيما إذا حدث الخوف من العقاب بالإخبار ، فلا يصدق الإنذار على الإخبار إلّا إذا تحقّق به التخويف. ومعلوم أنّ إخبار المنذرين مجرّدا عن الحجّيّة لا يوجب التخويف ، فلا يصدق عليه الإنذار. فإذن نفس وجوب الإنذار في الآية كاشف عن حجّيّة إبلاغهم ، وإلّا لم يصدق عليه الإنذار كي يجب شرعا. راجع نهاية الدراية ٢ : ٢١٩ ـ ٢٢١.

ولا يخفى : ما في الوجه الأوّل من الضعف وما للوجه الثاني من القوّة.

أمّا الوجه الأوّل : فلأنّه كما يمتنع الترجّي من الله سبحانه كذلك يمتنع منه إظهار الاحتمال ، لاستلزامهما الجهل والعجز ، تعالى الله عنهما. فلا بدّ من حمل قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) على إرادة بيان المحبوبيّة وتقريب الاستدلال على وجه ذكره المصنّف رحمه‌الله. ـ

٣٢٩

[الدليل الثالث : آية الكتمان]

ومنها : آية الكتمان : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا ...) الآية (١).

وتقريب الاستدلال بها أنّ حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عقلا (٢) ، للزوم لغويّته (٣) بدونه (٤).

ولا يخفى : أنّه لو سلّم هذه الملازمة لا مجال للإيراد على هذه الآية بما اورد على آية النفر من دعوى الإهمال أو استظهار الاختصاص بما إذا أفاد العلم ، فإنّها تنافيهما ، كما لا يخفى (٥). لكنّها ممنوعة ، فإنّ اللغويّة غير لازمة ، لعدم انحصار الفائدة

__________________

ـ وأمّا الثاني : فلأنّه يؤيّد بما في كتب اللغة. فقال الجوهريّ في الصحاح ٢ : ٨٢٥ : «الإنذار : الإبلاغ ، ولا يكون إلّا مع التخويف». وقال ابن الأثير في النهاية ٥ : ٣٩ : «فأنا منذر ونذير : أي معلم ومخوّف ومحذّر». وقال أبو الهلال العسكريّ في الفروق اللغويّة : ٧٨ : «الإنذار : الإعلام مع التخويف».

(١) وإليك تمام الآية الشريفة : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) البقرة / ١٥٩.

(٢) وفي بعض النسخ : «تستلزم القبول عقلا». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) والأولى أن يقول : «لغويّتها» ، فإنّ الضمير يرجع إلى الحرمة.

(٤) أي : بدون وجوب القبول.

(٥) تعريض بالشيخ الأعظم الأنصاريّ. وتوضيحه : أنّ الشيخ أورد على الاستدلال بها بالوجهين الأوّلين اللذين أوردهما على الاستدلال بآية النفر.

أوّلهما : دعوى إهمال الآية وسكوتها عن وجوب القبول مطلقا ولو لم يحصل العلم.

فيحتمل أن يكون مراده لزوم القبول عند حصول العلم.

وثانيهما : دعوى اختصاص وجوب القبول المستفاد منها بالأمر الّذي يجب إظهاره ويحرم كتمانه ، فإنّ ظاهر الأمر هاهنا كون المقصود فيه عمل الناس بالحقّ ، لا تأسيس حجّيّة قول المظهر تعبّدا. فإذا لم يحرز الواقع لا يحرز موضوع وجوب العمل ، فلا يثبت وجوب القبول. فرائد الاصول ١ : ٢٨٧.

وقد استشكل فيه المصنّف رحمه‌الله : بأنّ الملازمة ممنوعة ، لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبّدا. وأمّا لو سلّم هذه الملازمة فلا مجال للإيراد عليه بالإيرادين ، إذا الملازمة تنافي دعوى الإجمال أو الاختصاص.

٣٣٠

بالقبول تعبّدا ، وإمكان أن تكون حرمة الكتمان لأجل وضوح الحقّ بسبب كثرة من أفشاه وبيّنه ، لئلّا يكون للناس على الله حجّة ، بل كان له عليهم الحجّة البالغة.

[الدليل الرابع : آية السؤال]

ومنها : آية السؤال عن أهل الذكر ، (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١).

وتقريب الاستدلال بها ما في آية الكتمان (٢).

وفيه : أنّ الظاهر منها إيجاب السؤال لتحصيل العلم ، لا للتعبّد بالجواب.

وقد اورد عليها : بأنّه لو سلّم دلالتها على التعبّد بما أجاب أهل الذكر ، فلا دلالة لها على التعبّد بما يروي الراوي ، فإنّه بما هو راو لا يكون من أهل الذكر والعلم ، فالمناسب إنّما هو الاستدلال بها على حجّيّة الفتوى لا الرواية (٣).

وفيه : أنّ كثيرا من الرواة يصدق عليهم أنّهم أهل الذكر والاطّلاع على رأي الإمام ، كزرارة ومحمّد بن مسلم ومثلهما ، ويصدق على السؤال عنهم أنّه السؤال عن أهل الذكر والعلم ولو كان السائل من أضرابهم (٤) ؛ فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب ـ بمقتضى هذه الآية ـ وجب قبول روايتهم ورواية غيرهم من العدول مطلقا ، لعدم الفصل جزما في وجوب القبول بين المبتدأ والمسبوق بالسؤال ، ولا بين أضراب زرارة وغيرهم ممّن لا يكون من أهل الذكر ، وإنّما يروي ما سمعه أو رآه ، فافهم.

[الدليل الخامس : آية الاذن]

ومنها : آية الاذن ، (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ

__________________

(١) النحل / : ٤٣ ، الأنبياء / ٧.

(٢) وهو دعوى الملازمة بين وجوب السؤال ووجوب القبول ، وإلّا يلزم لغويّة وجوب السؤال ، فالآية تدلّ على وجوب القبول.

(٣) هذا الإيراد ذكره الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ١ : ٢٨٧.

(٤) كهشام بن الحكم وأبان بن تغلب.

٣٣١

لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) (١). فإنّه تبارك وتعالى مدح نبيّه بأنّه يصدّق المؤمنين وقرنه بتصديقه تعالى.

وفيه : أوّلا : أنّه إنّما مدحه بأنّه اذن ، وهو (٢) سريع القطع ، لا الآخذ بقول الغير تعبّدا.

وثانيا : أنّه إنّما المراد بتصديقه للمؤمنين هو ترتيب خصوص الآثار الّتي تنفعهم ولا تضرّ غيرهم ، لا للتصديق بترتيب جميع الآثار ، كما هو المطلوب في باب حجّيّة الخبر. ويظهر ذلك من تصديقه للنمّام بأنّه ما نمّه وتصديقه لله تعالى (٣) بأنّه نمّه (٤). كما هو المراد من التصديق في قوله عليه‌السلام : «فصدّقه وكذّبهم» حيث قال ـ على ما في الخبر ـ : «يا أبا محمّد! كذّب سمعك وبصرك عن أخيك ، فإن شهد عندك خمسون قسامة أنّه قال قولا وقال : لم أقله ، فصدّقه وكذّبهم» (٥) ، فيكون مراده تصديقه بما ينفعه ولا يضرّهم ، وتكذيبهم فيما يضرّه ولا ينفعهم ، وإلّا فكيف يحكم بتصديق الواحد وتكذيب خمسين! وهكذا المراد بتصديق المؤمنين في قصّة إسماعيل (٦) ، فتأمّل جيّدا.

__________________

(١) التوبة / ٦١.

(٢) أي : الاذن.

(٣) وفي بعض النسخ : «وله تعالى».

(٤) أي : ويظهر ذلك من أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صدّق النمّام بأنّه لم ينم عليه ، وأخبره الله تعالى بأنّه نمّ عليه.

وهذا إشارة إلى ما أورده القميّ في تفسيره على سبب نزول الآية. راجع تفسير القميّ ١ : ٣٠٠.

(٥) هذا مفاد الرواية. وراجع نصّ الرواية في الكافي ٨ : ١٤٧.

(٦) عن ابن أبي عمير ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حريز ، قال : كانت لإسماعيل بن أبي عبد الله عليه‌السلام دنانير ، وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن ، فقال إسماعيل : يا أبت! إنّ فلانا يريد الخروج إلى اليمن وعندي كذا وكذا دينار ، أفترى أن أدفعها إليه يبتاع لي بها بضاعة من اليمن؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا بنيّ! أما بلغك أنّه يشرب الخمر؟» فقال إسماعيل : هكذا يقول الناس. فقال عليه‌السلام : «يا بنيّ! لا تفعل». فعصى إسماعيل أباه ودفع إليه دنانيره فاستهلكها ولم يأته بشيء منها ، فخرج إسماعيل وقضى أنّ أبا عبد الله عليه‌السلام حجّ ، وحجّ إسماعيل تلك السنة ، فجعل يطوف بالبيت ويقول : «اللهم أجرني واخلف عليّ» ، فلحقه أبو عبد الله عليه‌السلام فهمزه بيده من خلفه وقال له : «مه ، يا بني ، فلا والله مالك على الله هذا ، ولا لك أن يأجرك ولا يخلف

٣٣٢

__________________

ـ عليك ، وقد بلغك أنّه يشرب الخمر فائتمنته». فقال إسماعيل : يا أبت! أنّي لم أره يشرب الخمر ، إنّما سمعت الناس يقولون. قال عليه‌السلام : «يا بنيّ! إنّ الله عزوجل يقول في كتابه : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) [التوبة / ٦١] يقول : يصدق لله ويصدق للمؤمنين ، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم ، ولا تأتمن شارب الخمر ، إنّ الله عزوجل يقول في كتابه : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) [النساء / ٥] ، فأيّ سفيه أسفه من شارب الخمر؟ إنّ شارب الخمر لا يزوّج إذا خطب ، ولا يشفّع إذا شفع ، ولا يؤتمن على أمانة ، فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها لم يكن للّذي ائتمنه على الله أن يأجره ولا يخلف عليه». الكافي ٥ : ٢٩٩ ، الحديث ١ ؛ وسائل الشيعة ١٣ : ٢٣ ، الباب ٦ من أبواب أحكام الوديعة ، الحديث ١.

٣٣٣

فصل

في الأخبار الّتي دلّت على اعتبار أخبار الآحاد

وهي وإن كانت طوائف كثيرة (١) ـ كما يظهر من مراجعة الوسائل

__________________

(١) الطائفة الأولى : الأخبار العلاجيّة المتكفّلة لبيان حكم الروايات المتعارضة من الأخذ بالأعدل والأصدق والمشهور والتخيير عند التساوي ، فإنّها دليل على أنّ حجّيّة خبر الواحد عند عدم ابتلائه بالمعارض مفروغ عنها ، وأنّه يجب الأخذ بأحد الخبرين المتعارضين بمجرّد كونه صادرا من الأعدل أو الأوثق أو كونه مشهورا ، أو الأخذ بأحدهما عند التساوي ، ولو لم يعلم بصدوره.

منها : رواية عمر بن حنظلة. قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا ، بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما ... فإن كان كلّ واحد اختار رجلا من أصحابنا ، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ، واختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ فقال عليه‌السلام : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر». فقلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا ، لا يفضل واحد منهما على صاحبه. فقال عليه‌السلام : «ينظر إلى ما كان من رواياتهما عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» ... [قلت] : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال عليه‌السلام : «ينظر ، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة». قلت : جعلت فداك ، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ، ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة ، والآخر مخالفا لهم ، بأيّ الخبرين يؤخذ؟ فقال عليه‌السلام : «ما خالف العامّة ففيه الرشاد». فقلت : جعلت ـ

٣٣٤

وغيرها (١) ـ إلّا أنّه يشكل الاستدلال بها على حجّيّة أخبار الآحاد بأنّها أخبار

__________________

ـ فداك ، فإن وافقهما الخبران جميعا؟ قال عليه‌السلام : «ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ، ويؤخذ بالآخر». قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟ قال عليه‌السلام : «إذا كان ذلك فارجئه حتّى تلقي إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات». وسائل الشيعة ١٨ : ٧٥ ـ ٧٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

وورد بهذا المضمون روايات كثيرة. فراجع وسائل الشيعة ١٨ : ٧٦ ـ ٨٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، وجامع أحاديث الشيعة ١ : ٢٥٤ ـ ٢٦٠.

الطائفة الثانية : ما دلّ على إرجاع آحاد الرواة إلى آحاد أصحاب الأئمّة عليه‌السلام ، كإرجاع أبي الحسنعليه‌السلام إلى العمري وابنه بقوله : «العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان» ، وإرجاع الإمام الصادق عليه‌السلام إلى زرارة بقوله ـ مشيرا إليه ـ : «إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس» ، وارجاع الإمام الرضاعليه‌السلام إلى زكريّا بن آدم بقوله : «عليك بزكريّا بن آدم القميّ المأمون على الدين والدنيا» ، وإرجاعه إلى يونس بن عبد الرحمن بقوله : «نعم» بعد قول الراوي : أفيونس بن عبد الرحمن ثقة نأخذ معالم ديننا عنه؟. راجع وسائل الشيعة ١٨ : ٩٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الأحاديث ٤ و ١٩ و ٢٧ و ٣٣.

الطائفة الثالثة : ما دلّ على وجوب الرجوع إلى الروايات والثقات والعلماء.

منها : ما رواه أحمد بن إبراهيم المراغي ، قال : ورد على القاسم بن العلاء ، وذكر توقيعا شريفا يقول فيه: «فإنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عن ثقاتنا ...». وسائل الشيعة ١٨ : ١٠٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

ومنها : ما ورد في التوقيع الشريف بخطّ مولانا صاحب الزمان ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا إلى رواة أحاديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله». المصدر السابق : ١٠١ ، الحديث ٩.

الطائفة الرابعة : ما ورد في الأمر بحفظ الروايات واستماعها وضبطها وإبلاغها.

منها : ما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان مضمونه : «من حفظ على امّتي أربعين حديثا بعثه الله فقيها عالما يوم القيامة». وسائل الشيعة ١٨ : ٦٥ ـ ٧٠ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الأحاديث ٤٨ و ٥٤ و ٥٨ ـ ٦٢ و ٦٤.

ومنها : ما عن المفضّل بن عمر ، قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : «اكتب وبثّ علمك في بني عمّك ، فإنّه يأتي زمان هرج لا يأنسون إلّا بكتبهم». وسائل الشيعة ١٨ : ٥٦ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي الحديث ١٨.

(١) راجع وسائل الشيعة ١٨ : الباب ٨ و ٩ و ١١ من أبواب صفات القاضي ، وجامع أحاديث ـ

٣٣٥

آحاد ، فإنّها غير متّفقة على لفظ ولا على معنى فتكون متواترة لفظا أو معنى (١).

ولكنّه مندفع : بأنّها وإن كانت كذلك ، إلّا أنّها متواترة إجمالا (٢) ، ضرورة أنّه يعلم إجمالا بصدور بعضها منهم عليهم‌السلام ، وقضيّته (٣) وإن كان حجّيّة خبر دلّ على حجّيّته أخصّها مضمونا (٤) ، إلّا أنّه يتعدّى عنه (٥) فيما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصيّة وقد دلّ على حجّيّة ما كان أعمّ (٦) ،

__________________

ـ الشيعة ١ : ٢٢٣ ـ ٢٢٤ و ١ : ٢٥٤ ـ ٢٦٠ ، وبحار الأنوار ٢ : ٢٤٦ و ٢٥١.

(١) وحاصل الإشكال : أنّ هذه الأخبار في أنفسها أخبار آحاد ، وليست متواترة لفظا ولا معنى ، فلا اعتبار لها إلّا إذا ثبتت حجّيّة أخبار الآحاد. وحينئذ لا يمكن الاستدلال بها على حجّيّة أخبار الآحاد ، وإلّا لزم الدور.

(٢) وتابعة في ذلك المحقّقان الحائريّ والخوئيّ. وأنكر المحقّق النائيني التواتر الإجماليّ ، بل حصر التواتر في التواتر اللفظيّ والتواتر المعنويّ. راجع درر الفوائد ٢ : ٤٧ ، مصباح الاصول ٢ : ١٩٣ ، فوائد الاصول ٣ : ١٩١.

(٣) أي : قضيّة العلم الإجماليّ بصدور بعض هذه الأخبار.

(٤) وهو الخبر الصحيح الّذي كان المخبر به ثقة عدلا.

(٥) أي : عن ذلك الخبر الصحيح.

(٦) والحاصل : أنّ المتيقّن من هذه الأخبار هو خصوص الخبر الصحيح الّذي كان المخبر به ثقة عدلا ، إلّا أنّه يوجد فيها خبر عادل على حجّيّة خبر الثقة ، فيثبت به حجّيّة خبر الثقة وإن لم يكن عادلا.

وقد أنكر السيّد الإمام الخمينيّ وجود ما يدلّ على حجّيّة مطلق خبر الثقة في الأخبار المذكورة. ثمّ أفاد وجها آخر لإثبات حجّيّة مطلق خبر الثقة. وحاصله : أنّه لا إشكال في بناء العقلاء على حجّيّة خبر الثقة. فإن ثبت بناؤهم على العمل بمطلق خبر الثقة ـ كما هو الظاهر ـ فهو ، وإلّا فالقدر المتيقّن من بنائهم هو العمل على الخبر العالي السند إذا كان جميع رواته مزكّى بتزكية جمع من العدول ؛ وفي الروايات المذكورة ما يكون بهذا الوصف مع دلالته على حجّيّة مطلق خبر الثقة ، كصحيحة أحمد بن إسحاق ، حيث روى محمّد بن يعقوب عن محمّد بن عبد الله الحميريّ ومحمّد بن يحيى جميعا عن عبد الله بن جعفر الحميريّ عن أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : سألته وقلت : من اعامل وعمن آخذ وقول من أقبل؟ فقال عليه‌السلام : «العمري ثقتي ، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع ، فإنّه الثقة المأمون» ، فلا إشكال في بناء العقلاء على العمل بمثلها ، وبمقتضى ـ

٣٣٦

فافهم (١).

__________________

ـ تعليلها نتعدّى إلى كلّ خبر ثقة مأمون. فهذه الروايات وإن لم تدلّ على جعل الحجّيّة أو تتميم الكشف ، لكن تدلّ على كون العمل بقول مطلق الثقة المأمون كان معروفا في تلك الأزمنة وجائزا من قبل الشرع. أنوار الهداية ١ : ٣١٢.

(١) لعلّه إشارة إلى أنّه يمكن دعوى تواتر المعنويّ في الأخبار المذكورة الدالّة على حجّيّة خبر الثقة ـ كما ادّعاه العلمان المحقّقان النائينيّ والعراقيّ على ما في أجود التقريرات ٢ : ١١٤ ، نهاية الأفكار ٣ : ١٣٤ ـ ، فلا يحتاج في الاستدلال بها إلى إثبات التواتر الإجماليّ وارتكاب التكلّف المذكور.

٣٣٧

فصل

في الإجماع على حجّيّة الخبر

وتقريره من وجوه :

[الوجه الأوّل : الإجماع القوليّ]

أحدها : دعوى الإجماع من تتبّع فتاوى الأصحاب على الحجّيّة من زماننا إلى زمان الشيخ (١) ، فيكشف رضاه عليه‌السلام بذلك ويقطع به ، أو من تتبّع الإجماعات المنقولة على الحجّيّة (٢).

ولا يخفى : مجازفة هذه الدعوى ، لاختلاف الفتاوى فيما اخذ في اعتباره من الخصوصيّات (٣) ، ومعه لا مجال لتحصيل القطع برضاه عليه‌السلام من تتبّعها ؛ وهكذا حال تتبّع الإجماعات المنقولة (٤) ؛ اللهمّ إلّا أن يدّعى تواطؤها على الحجّيّة في الجملة ،

__________________

(١) أي : شيخ الطائفة الشيخ الطوسيّ.

(٢) وهذا الوجه هو ما يدّعيه الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ١ : ٣١١ ـ ٣٤١.

(٣) ففي بعض الفتاوى : أنّ المجمع عليه خبر الثقة. وفي بعض آخر : أنّه خبر العدل الإماميّ.

وفي بعض آخر : أنّه خبر الثقة الذي يكون مقبولا عند الأصحاب.

(٤) وعلى رأس الناقلين للإجماع شيخ الطائفة الطوسيّ في كتاب عدّة الاصول ١ : ١٢٦ ، حيث قال : «والّذي يدلّ على ذلك إجماع الفرقة المحقّة ، فإنّي وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودوّنوها في اصولهم ، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه ، حتّى أنّ واحدا منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب ـ

٣٣٨

وإنّما الاختلاف في الخصوصيّات المعتبرة فيها ، ولكن دون إثباته خرط القتاد.

[الوجه الثاني : الإجماع العمليّ]

ثانيها : دعوى اتّفاق العلماء عملا ـ بل كافّة المسلمين ـ على العمل بخبر الواحد في امورهم الشرعيّة ، كما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من الناقلين لها.

وفيه : ـ مضافا إلى ما عرفت ممّا يرد على الوجه الأوّل (١) ـ أنّه لو سلّم اتّفاقهم على ذلك ، لم يحرز أنّهم اتّفقوا بما هم مسلمون ومتديّنون بهذا الدين أو بما هم عقلاء ولو لم يلتزموا بدين ، كما هم لا يزالون يعملون بها في غير الامور الدينيّة من الامور العاديّة.

فيرجع إلى ثالث الوجوه.

[الوجه الثالث : سيرة العقلاء]

وهو دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم على العمل بخبر الثقة ، واستمرّت إلى زماننا ، ولم يردع عنه نبيّ ولا وصيّ نبيّ ، ضرورة أنّه لو كان لاشتهر وبان ، ومن الواضح أنّه يكشف عن رضاء الشارع به (٢) في الشرعيّات أيضا (٣).

__________________

ـ معروف أو أصل مشهور وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه ، سكتوا وسلّموا الأمر في ذلك وقبلوا قوله ، وهذه عادتهم وسجيّتهم من عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده من الأئمّة عليهم‌السلام ، ومن زمن الصادق جعفر بن محمّد عليه‌السلام الّذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته. فلو لا أنّ العمل بهذه الأخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك ، ولأنكروه ، لأنّ إجماعهم فيه معصوم لا يجوز فيه الغلط والسهو».

وتبعه على ذلك السيّد رضي الدين بن طاوس ـ على ما في فرائد الاصول ١ : ٢٣٢ ، والعلّامة في نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٩٦ ، والمحدّث المجلسيّ في بحار الأنوار ٢ : ٢٤٥.

(١) من أنّ المتشرّعة اختلفوا فيما هو مناط اعتبار خبر الواحد والعمل به.

(٢) أي : بالعمل بخبر الثقة.

(٣) وهذا رابع الوجوه الّتي ذكرها الشيخ الأعظم الأنصاريّ في تقريب الإجماع. راجع فرائد الاصول ١ : ٣٤٥.

٣٣٩

إن قلت (١) : يكفي في الردع الآيات الناهية والروايات المانعة عن اتّباع غير العلم (٢). وناهيك قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (٣) ، وقوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٤).

قلت : لا يكاد يكفي تلك الآيات في ذلك ، فإنّه ـ مضافا إلى أنّها إنّما وردت إرشادا إلى عدم كفاية الظنّ في اصول الدين ، ولو سلّم (٥) فإنّما المتيقّن ، لو لا أنّه المنصرف إليه إطلاقها ـ هو خصوص الظنّ الّذي لم يقم على اعتباره حجّة ـ لا يكاد يكون الردع بها إلّا على وجه دائر ، وذلك لأنّ الردع بها يتوقّف على عدم تخصيص عمومها أو تقييد إطلاقها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة ، وهو (٦) يتوقّف على الردع عنها بها (٧) ، وإلّا لكانت مخصّصة أو مقيّدة لها ، كما لا يخفى.

لا يقال : على هذا لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضا إلّا على وجه دائر ، فإنّ اعتباره بها (٨) فعلا يتوقّف على عدم الردع بها عنها (٩) ، وهو يتوقّف على تخصيصها بها (١٠) ، وهو يتوقّف على عدم الردع بها عنها (١١).

فإنّه يقال : إنّما يكفي في حجّيّته بها عدم ثبوت الردع عنها لعدم نهوض ما يصلح لردعها ، كما يكفي في تخصيصها لها ذلك كما لا يخفى ؛ ضرورة أنّ ما جرت عليه السيرة المستمرّة في مقام الإطاعة والمعصية ، وفي استحقاق العقوبة بالمخالفة ،

__________________

(١) وهذا الإشكال تعرّض له الشيخ الأعظم ، ثمّ أجاب عنه. فرائد الاصول ١ : ٣٤٦.

(٢) تقدّم بعضها في الصحفة : ٣١٢ من هذا الجزء.

(٣) الاسراء / ٣٦.

(٤) يونس / ٣٦.

(٥) أي : لو سلّم أنّ الآيات الناهية والروايات المانعة عن اتّباع غير العلم ليست مختصّة باصول الدين ، بل تشمل ما نحن فيه ...

(٦) أي : عدم تخصيص الآيات بالسيرة.

(٧) أي : عن السيرة بالآيات.

(٨) أي : اعتبار خبر الثقة بالسيرة.

(٩) أي : بالآيات عن السيرة.

(١٠) أي : عدم الردع يتوقّف على تخصيص الآيات بالسيرة.

(١١) أي : تخصيص الآيات بالسيرة يتوقّف على عدم الردع بالآيات عن السيرة.

٣٤٠