كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
ISBN: 978-964-470-562-5
الصفحات: ٤١٩

عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمّة ـ يمكن أن يقال : إنّ حسن المؤاخذة والعقوبة إنّما يكون من تبعة بعده عن سيّده بتجرّيه عليه ، كما كان من تبعته بالعصيان في صورة المصادفة ، فكما أنّه يوجب البعد عنه ، كذلك لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة ، فإنّه وإن لم يكن باختياره (١) ، إلّا أنّه بسوء سريرته وخبث باطنه ، بحسب نقصانه واقتضاء استعداده ذاتا وإمكانه. وإذا انتهى الأمر إليه يرتفع الإشكال وينقطع السؤال ب «لم» ، فإنّ الذاتيّات ضروريّ الثبوت للذات (٢). وبذلك أيضا ينقطع السؤال عن أنّه لم اختار الكافر والعاصي الكفر والعصيان ، والمطيع والمؤمن الإطاعة والإيمان؟ فإنّه يساوق السؤال عن أنّ الحمار لم يكون ناهقا ، والإنسان لم يكون ناطقا؟

وبالجملة : تفاوت أفراد الإنسان في القرب منه «تعالى» والبعد عنه سبب لاختلافها في استحقاق الجنّة ودرجاتها ، والنار ودركاتها ، وموجب لتفاوتها في نيل الشفاعة وعدمه (٣) ، وتفاوتها في ذلك بالآخرة يكون ذاتيّا ، والذاتيّ لا يعلّل.

إن قلت : على هذا (٤) فلا فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والإنذار.

قلت : ذلك (٥) لينتفع به من حسنت سريرته وطابت طينته ، لتكمل به نفسه ، ويخلص مع ربّه انسه ، [قال الله تعالى] (٦) : (ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) (٧) ، [و] قال الله تبارك وتعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (٨) ، وليكون حجّة

__________________

(١) كيف لا؟ وكانت المعصية الموجبة لاستحقاق العقوبة غير اختياريّة ، فإنّها هي المخالفة العمديّة ، وهي لا تكون بالاختيار ، ضرورة أنّ العمد إليها ليس باختياريّ ، وإنّما تكون نفس المخالفة اختياريّة ، وهي غير موجبة للاستحقاق ، وإنّما الموجبة له هي العمديّة منها ، كما لا يخفى على اولي النهى. منه [أعلى الله مقامه].

(٢) هكذا في بعض النسخ. وفي بعضها : «ضروريّ للذات». والصحيح أن يقول : «ضروريّة الثبوت للذات».

(٣) وفي بعض النسخ : «وعدم نيلها».

(٤) أي : على تقدير كون النقصان ذاتيّا.

(٥) أي : بعث الرسل وإنزال الكتب.

(٦) ما بين المعقوفتين ليس في النسخ.

(٧) الأعراف / ٤٣.

(٨) الذاريات / ٥٥.

٢٤١

على من ساءت سريرته وخبثت طينته ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (١) ، كيلا يكون للناس على الله حجّة (٢) ، بل كان له حجّة بالغة (٣).

[الاستدلال على المختار بالنقل]

ولا يخفى : أنّ في الآيات (٤) والروايات (٥) شهادة على صحّة ما حكم به

__________________

(١) الأنفال / ٤٢.

(٢) أي : حجّة لله تعالى.

(٣) لا يخفى : أنّ مسألة اختياريّة الإرادة وعدمها من المسائل الدقّيّة العقليّة الّتي وقعت بين الأفاضل والأعلام موردا للنقض والإبرام. ولتحقيق المسألة مقام آخر ، فإنّ لها مقدّمات دقيقة عقليّة مبرهنة في المعقول ، فلا بدّ من تحقيقها في المباحث العقليّة الفلسفيّة. ولا يجوز الدخول فيها من دون ذكر مقدّماتها ، فإنّ الدخول فيها من دون ذكر المقدّمات لا ينتج إلّا الذهول عن حقيقة الأمر والخروج عن سبيل الحقّ ، كما هو المتراءى من المحقّق المصنّف رحمه‌الله في المقام ومبحث الطلب ، والإرادة.

(٤) منها : قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) البقرة / ٢٨٤.

ومنها : قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) الأسراء / ٣٦.

ومنها : قوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) البقرة / ٢٢٥.

ومنها : قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الأنفال / ٢٥.

فإنّ هذه الآيات تدلّ على المؤاخذة على الخطرات القلبيّة العمديّة ، فتدلّ على استحقاق المتجرّي للعقاب.

(٥) منها : قوله عليه‌السلام : «الراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيه. وعلى كلّ داخل في باطل إثمان : إثم العمل به ، وإثم الرضا به». الوسائل ١١ : ٤٨ ، الباب ٥ من أبواب الأمر والنهي (كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، الحديث ١٢.

ومنها : قوله عليه‌السلام : «إنّ الله يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة». الوسائل : ١ : ٣٤ ، الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٥.

ومنها : قوله عليه‌السلام : «إنّما خلّد أهل النار في النار ، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبدا ...». الوسائل ١ : ٣٦ ، الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٤.

٢٤٢

الوجدان الحاكم على الإطلاق في باب الاستحقاق للعقوبة والمثوبة.

[استدلال المحقّق السبزواريّ ، والمناقشة فيه]

ومعه (١) لا حاجة إلى ما استدلّ على استحقاق المتجرّي للعقاب بما حاصله : «أنّه لولاه (٢) مع استحقاق العاصي له (٣) يلزم إناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار ، من مصادفة قطعه الخارجة عن تحت قدرته واختياره ، مع بطلانه وفساده» (٤).

إذ للخصم أن يقول : بأنّ استحقاق العاصي دونه إنّما هو لتحقّق سبب الاستحقاق فيه (٥) ـ وهو مخالفته عن عمد واختيار ـ وعدم تحقّقه فيه (٦) ، لعدم

__________________

ـ ولا يخفى : أنّها معارضة بخلافها ، كما ورد في روايات متعدّدة : «من همّ بسيّئة لم تكتب عليه». وسائل الشيعة ١ : ٣٦ ، الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات الحديث ٦ و ٧ و ٢٠ و ٢١.

وقد يجمع بين الطائفتين بحمل الطائفة الأولى على القصد مع الاشتغال ببعض المقدّمات. والطائفة الثانية على مجرّد القصد.

وقد يجمع بينهما بحمل الطائفة الأولى على إرادة النيّة مع عدم الارتداع ، والثانية على إرادة النيّة أوّلا ثمّ الارتداع بعد ذلك.

وأورد المحقّق الخوئيّ على الاستدلال بالروايات من وجوه ثلاثة :

الأوّل : أنّها قاصرة من حيث السند أو من حيث الدلالة.

الثاني : أنّ مفادها هو المؤاخذة على نيّة المعصية الواقعيّة وقصد ارتكاب الحرام الواقعيّ ، لا ما يعتقده المكلّف حراما مع عدم كونه حراما واقعا.

الثالث : أنّ غاية ما تدلّ عليه أنّ القصد ممّا يحاسب ويعاقب عليه. وهذا التعبير لا يدلّ إلّا على ما كان العقل مستقلّا به من استحقاق المتجرّي للعقاب. مصباح الاصول ٢ : ٢٩ ـ ٣٠.

(١) أي : مع حكم الوجدان الّذي يشهد بصحّته الآيات والروايات.

(٢) أي : لو لا استحقاق المتجرّي للعقاب.

(٣) أي : للعقاب.

(٤) هذا ما تعرّض له الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ١ : ٣٨ ـ ٣٩. ولعلّه أشار به إلى ما أفاده المحقّق السبزواريّ ـ في مسألة المصلّي الجاهل بالوقت ـ ، فراجع ذخيرة المعاد : ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(٥) أي : في العاصي.

(٦) أي : عدم تحقّق سبب الاستحقاق في المتجرّي.

٢٤٣

مخالفته أصلا ـ ولو بلا اختيار ـ ، بل عدم (١) صدور فعل منه في بعض أفراده بالاختيار ، كما في التجرّي بارتكاب ما قطع أنّه من مصاديق الحرام ، كما إذا قطع ـ مثلا ـ بأنّ مائعا خمر مع أنّه لم يكن بالخمر ، فيحتاج إلى إثبات أنّ المخالفة الاعتقاديّة سبب كالواقعيّة الاختياريّة ، كما عرفت بما لا مزيد عليه.

[توهّم صاحب الفصول ، والجواب عنه]

ثمّ لا يذهب عليك : أنّه ليس في المعصية الحقيقيّة إلّا منشأ واحد لاستحقاق العقوبة ـ وهو هتك واحد ـ ، فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين ـ كما توهّم (٢) ـ. مع ضرورة أنّ المعصية الواحدة لا توجب إلّا عقوبة واحدة. كما لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما كما لا يخفى. ولا منشأ لتوهّمه إلّا بداهة أنّه ليس في معصية واحدة إلّا عقوبة واحدة ، مع الغفلة عن أنّ وحدة المسبّب تكشف ـ بنحو الإنّ ـ عن وحدة السبب.

الأمر الثالث

[أقسام القطع وأحكامها]

[القطع الطريقيّ]

إنّه قد عرفت (٣) أنّ القطع بالتكليف ـ أخطأ أو أصاب ـ يوجب عقلا استحقاق

__________________

(١) معطوف على قوله : «لعدم».

(٢) المتوهّم هو صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ٨٧.

وحاصل التوهّم : أنّ تفويت المقدّمة قبل زمان الواجب تجرّ على ترك الواجب ، فإذا لم يعثر عليها بعد الوقت يصير مصادفا للمعصية الحقيقة ويعدّان معصيتين ، فيستحقّ عقابين ، لكنّه إذا صادفها تداخلا وعدّا معصية واحدة.

وحاصل الجواب عنه : أنّ مشنأ استحقاق العقوبة في المعصية الحقيقيّة واحد ، وهو الهتك الواحد ، فلا موجب لتعدّد العقوبة كي يقال بتداخلهما. وعلى تقدير تعدّدها لا وجه للتداخل ، فإنّ وحدة المسبّب ـ وهو العقاب ـ كاشفة بنحو الإنّ عن وحدة السبب.

(٣) في الأمر الأوّل.

٢٤٤

المدح والثواب ، أو الذمّ والعقاب من دون أن يؤخذ شرعا في خطاب (١).

[القطع الموضوعيّ]

وقد يؤخذ في موضوع حكم آخر يخالف متعلّقه (٢) ، لا يماثله ولا يضادّه (٣) ـ كما إذا ورد مثلا في الخطاب : «أنّه إذا قطعت بوجوب شيء يجب عليك التصدّق بكذا» ـ تارة بنحو يكون تمام الموضوع ، بأن يكون القطع بالوجوب مطلقا ـ ولو أخطأ ـ موجبا لذلك (٤) ؛ واخرى بنحو يكون جزءه وقيده ، بأن يكون القطع به في خصوص ما أصاب موجبا له.

وفي كلّ منهما يؤخذ طورا بما هو كاشف وحاك عن متعلّقه ؛ وآخر بما هو صفة خاصّة للقاطع ، أو المقطوع به.

وذلك (٥) لأنّ القطع لمّا كان من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة (٦) ـ ولذا كان العلم نورا لنفسه ونورا لغيره ـ صحّ أن يؤخذ فيه (٧) بما هو صفة خاصّة وحالة

__________________

(١) هذا هو القطع الطريقيّ.

(٢) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «يخالف حكم متعلّقه».

والمراد أنّ القطع قد يؤخذ موضوعا لحكم يخالف مع حكم متعلّق القطع. كما إذا قال المولى : «إذا علمت بوجوب الصلاة وجب عليك التصدّق» ، فإنّ العلم بوجوب الصلاة اخذ موضوعا لحكم وجوب التصدّق الّذي كان مخالفا لحكم متعلّق القطع أي وجوب الصلاة ، ضرورة أنّ تعدّد المتعلّقين يوجب تعدّد الحكمين.

(٣) أي : إنّ الحكم الآخر لا يماثل حكم متعلّق القطع ، كالمثال المتقدّم. بخلاف ما إذا قال المولى : «إذا علمت بوجوب الصلاة وجبت عليك الصلاة» أو قال : «إذا علمت بوجوب الصلاة حرمت عليك الصلاة» ، فإنّ المثال الأوّل من اجتماع المثلين ، والثاني من اجتماع الضدّين.

(٤) أي : موجبا لذلك الحكم الآخر المخالف لحكم متعلّق القطع.

(٥) أي : الأخذ بأحد النحوين الأخيرين.

(٦) وهي الصفات الّتي اخذت الإضافة في مفهومها ، بمعنى أنّ تصوّرها متوقّفة على تصوّر الغير ، سواء كانت من الصفات الّتي لم تتوقّف في تحقّقها على الغير كالعلم ، أو كانت من الصفات الّتي تتوقّف في تحقّقها أيضا على الغير كالخلق والرزق.

(٧) أي : في موضوع حكم آخر.

٢٤٥

مخصوصة بإلغاء جهة كشفه ، أو اعتبار خصوصيّة اخرى فيه معها (١) ؛ كما صحّ أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلّقه وحاك عنه. فيكون أقسامه أربعة ، مضافة إلى ما هو طريق محض عقلا ، غير مأخوذ في الموضوع شرعا (٢).

__________________

(١) أي : اعتبار خصوصيّة اخرى ـ كاعتبار كون العلم ناشئا من سبب خاصّ ـ في موضوع القطع مع صفتيّته.

(٢) والحاصل : أنّ للقطع أقسام خمسة. وذلك لأن القطع ينقسم ـ انقساما أوّليّا ـ إلى قسمين : القطع الطريقيّ ، والقطع الموضوعيّ.

أمّا القطع الطريقيّ : فهو ما يكون طريقا وكاشفا عن الواقع من دون أن يؤخذ في موضوع الحكم. كعلمنا بوجوب الصلاة وسائر الواجبات.

وأمّا القطع الموضوعيّ : فهو ما يؤخذ في موضوع الحكم الشرعيّ الّذي يكون مخالفا لحكم متعلّق القطع بحيث يترتّب الحكم على وجوده ويكون دخيلا في الحكم ، أو يؤخذ بنفسه موضوعا للحكم الشرعيّ.

والقطع الموضوعيّ ينقسم إلى قسمين :

الأوّل : أن يكون القطع تمام الموضوع للحكم ، أي يكون الحكم دائرا مدار القطع مطلقا ، سواء كان مطابقا للواقع أو مخالفا له.

الثاني : أن يكون القطع جزءا للموضوع وكان الجزء الآخر نفس الواقع المقطوع به ، فيكون الحكم دائرا مدار خصوص القطع المطابق للواقع.

وينقسم كلّ منهما إلى قسمين :

أحدهما : أنّ يؤخذ موضوعا بنحو الكشف والطريقيّة ، بأن يكون حاكيا وكاشفا عن متعلّقه ومرآتا له ، فيكون القطع حينئذ طريقا إلى إحراز متعلّقه.

ثانيهما : أن يؤخذ القطع موضوعا بنحو الصفتيّة ، بأن يكون صفة حقيقيّة قائمة بالنفس ، فيكون القطع حينئذ كسائر الصفات النفسانيّة.

فيكون الأقسام خمسة.

وتبعه على ذلك المحقّق العراقيّ على ما في نهاية الأفكار ٣ : ١٤.

ولكن المحقّق النائينيّ أنكر أخذ القطع تمام الموضوع بنحو الكشف والطريقيّة. وذهب إلى تثليث أقسام القطع الموضوعيّ. وحاصل ما أفاده : أنّ القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقيّة لا يعقل إلّا إذا كان القطع جزء الموضوع ؛ وأمّا إذا اخذ تمام الموضوع فلا يعقل ، لأنّ النظر الاستقلاليّ في القطع الطريقيّ يتعلّق بالواقع المنكشف به ، ومعنى كونه تمام الموضوع أنّه لا دخل للواقع في الحكم أصلا ، بل الحكم يترتّب على نفس القطع ولو كان مخالفا للواقع ، ـ

٢٤٦

[قيام الأمارات مقام القطع الطريقيّ]

ثمّ لا ريب في قيام الطرق والأمارات المعتبرة ـ بدليل حجيّتها واعتبارها ـ مقام هذا القسم (١). كما لا ريب في عدم قيامها بمجرّد ذلك الدليل مقام ما اخذ في الموضوع على نحو الصفتيّة من تلك الأقسام ، بل لا بدّ من دليل آخر على التنزيل ، فإنّ قضيّة الحجّيّة والاعتبار ترتيب ما للقطع بما هو حجّة من الآثار ، لا له (٢) بما هو صفة وموضوع ، ضرورة أنّه كذلك يكون كسائر الموضوعات والصفات (٣).

__________________

ـ وهذا خلف. أجود التقريرات ٢ : ٥.

وأنكر المحقّق الأصفهانيّ أخذ القطع موضوعا بنحو الصفتيّة مطلقا. وذلك لأنّ قوام القطع بكاشفيّته التامّة ، فأخذه في الموضوع مع إلغاء جهة كشفه غير معقول ، فإنّ حفظ الشيء مع الغاء ما به هو هو محال ، نظير حفظ الإنسان بما هو إنسان مع قطع النظر عن الإنسانيّة. نهاية الدراية ٢ : ٥٧.

وذهب السيّد الإمام الخمينيّ إلى أن القطع الموضوعيّ ينقسم إلى ستّة أقسام. وذلك لأنّ القطع إذا أخذ بنحو الموضوعيّ الطريقيّ لا يخلو : إمّا أن يؤخذ تمام الموضوع ، وإمّا أن يؤخذ بعض الموضوع. وعلى كلا التقديرين إمّا أن يؤخذ بنحو الصفتيّة ، وإمّا أن يؤخذ بنحو الطريقيّة التامّة والكشف الكامل ، وإمّا أن يؤخذ بنحو الطريقيّة المشتركة بينه وبين سائر الأمارات. أنوار الهداية ١ : ٩٣ ـ ٩٤.

فمحصّل الكلام : أنّ أقسام القطع لدى المصنّف رحمه‌الله والمحقّق العراقيّ خمسة ، وعند المحقّق النائينيّ أربعة ، وعند المحقّق الأصفهانيّ ثلاثة ، ولدى الإمام الخمينيّ ستّة.

(١) أي القسم الأوّل ، وهو القطع الطريقيّ. والوجه في ذلك : أنّ مقتضى اعتبار الأمارات أنّها طرق لإحراز الواقع ، فيؤثّر في التنجيز في صورة الإصابة والتعذير عند الخطاء ، وهذا هو معنى حجّيّة الأمارات. ولا شكّ أنّ القطع أيضا حجّة بمعنى أنّه منجّز في صورة الإصابة ومعذّر عند الخطأ. فيترتّب أثر القطع على الأمارات. وما معنى لقيامها مقام القطع إلّا ترتيب أثره عليها.

(٢) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «لا ما له ...».

(٣) وتوضيح ما أفاده : أنّ المراد من قيام الأمارات مقام القطع هو ترتيب آثار القطع على الأمارة. ومعلوم أنّ الآثار ـ كالمنجّزيّة والمعذّريّة ـ إنّما تترتّب على القطع بما أنّه كاشف عن الواقع ، ولا تترتّب عليه بلحاظ كونه صفة من الصفات النفسانيّة. فإنّه بهذا اللحاظ كسائر الصفات النفسانيّة أجنبيّ عنها. فقيام الأمارات مقام القطع الموضوعيّ المأخوذ بنحو الوصفيّة يحتاج إلى دليل آخر.

٢٤٧

[عدم قيام الأمارات مقام القطع الموضوعيّ]

ومنه قد انقدح عدم قيامها بذاك الدليل مقام ما اخذ في الموضوع على نحو الكشف ، فإنّ القطع المأخوذ بهذا النحو في الموضوع شرعا ، كسائر ما لها (١) دخل في الموضوعات أيضا ، فلا يقوم مقامه شيء بمجرّد حجّيّته وقيام (٢) دليل على اعتباره ، ما لم يقم دليل على تنزيله ودخله في الموضوع كدخله (٣).

وتوهّم (٤) كفاية دليل الاعتبار الدالّ على إلغاء احتمال خلافه ، وجعله بمنزلة القطع من جهة كونه موضوعا ، ومن جهة كونه طريقا ، فيقوم مقامه طريقا كان أو موضوعا ، فاسد جدّا ، فإنّ الدليل الدالّ على إلغاء الاحتمال ، لا يكاد يكفي إلّا بأحد التنزيلين (٥) ، حيث لا بدّ في كلّ تنزيل منهما (٦) من لحاظ المنزّل (٧) والمنزّل عليه (٨) ، ولحاظهما في أحدهما (٩) آليّ ، وفي الآخر (١٠) استقلاليّ ، بداهة أنّ النظر في حجّيّته وتنزيله منزلة القطع في طريقيّته في الحقيقة إلى الواقع ومؤدّى الطريق ؛ وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع إلى أنفسهما ، ولا يكاد يمكن الجمع بينهما (١١).

__________________

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «كسائر ما له ...» ، كما في حقائق الاصول ٢ : ٢٤.

(٢) وفي بعض النسخ : «أو قيام». وعليه يكون قوله : «بمجرّد حجّيّته» إشارة إلى الظنّ المطلق على الحكومة ، وقوله : «أو قيام دليل على اعتباره» إشارة إلى الظنّ الخاصّ. وأمّا بناء على ما أثبتناه في المتن فيكون قوله : «وقيام ...» عطف تفسير للحجّيّة.

(٣) أي : كدخل سائر ما له دخل في الموضوعات.

(٤) تعريض بما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاريّ في بيان قيام الأمارات والاصول مقام القطع الموضوعيّ الطريقيّ ، دون الصفتيّ. وتبعه على ذلك المحقّق النائينيّ. راجع فرائد الاصول ١ : ٣٣ ـ ٣٤ ، فوائد الاصول ٣ : ٢١.

(٥) أي : تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقيّ وتنزيلها منزلة القطع الموضوعيّ.

(٦) أي : من التنزيلين.

(٧) وهو الأمارة.

(٨) وهو القطع.

(٩) وهو تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقيّ.

(١٠) وهو تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعيّ.

(١١) أي : بين التنزيلين ، لأنّه مستلزم للجمع بين اللحاظ الآليّ والاستقلاليّ ، وهو محال.

٢٤٨

نعم ، لو كان في البين ما بمفهومه جامع بينهما ، يمكن أن يكون دليلا على التنزيلين ، والمفروض أنّه ليس. فلا يكون دليلا على التنزيل (١) إلّا بذاك اللحاظ الآليّ (٢) ، فيكون (٣) حجّة موجبة لتنجّز متعلّقه وصحّة العقوبة على مخالفته في صورتي إصابته وخطئه ، بناء على استحقاق المتجرّي ؛ أو بذاك اللحاظ الآخر الاستقلاليّ ، فيكون مثله في دخله في الموضوع ، وترتيب ما له عليه من الحكم الشرعيّ.

لا يقال : على هذا لا يكون دليلا على أحد التنزيلين ما لم يكن هناك قرينة في البين.

فإنّه يقال : لا إشكال في كونه دليلا على حجّيّته ، فإنّ ظهوره في أنّه بحسب اللحاظ الآليّ ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه ، وإنّما يحتاج تنزيله بحسب اللحاظ الآخر الاستقلاليّ من نصب (٤) دلالة عليه. فتأمّل في المقام ، فإنّه دقيق ، ومزالّ الأقدام للأعلام.

ولا يخفى : أنّه لو لا ذلك لأمكن أن يقوم الطريق بدليل واحد دالّ على إلغاء احتمال خلافه مقام القطع بتمام أقسامه ، ولو فيما اخذ في الموضوع على نحو الصفتيّة ، كان تمامه ، أو قيده وبه قوامه.

فتلخّص بما ذكرنا : أنّ الأمارة لا تقوم بدليل اعتبارها ، إلّا مقام ما ليس بمأخوذ في الموضوع أصلا (٥).

__________________

(١) أي : فلا يكون دليل اعتبار الأمارة دليلا على تنزيلها منزلة القطع.

(٢) وذلك لأنّ أدلّة اعتبار الأمارات ـ كخبر العادل ـ ظاهرة بحسب متفاهم العرف في التنزيل من حيث الطريقيّة والكاشفيّة.

(٣) أي : فيكون الشيء ـ وهو الأمارة ـ ...

(٤) هكذا في النسخ. والصواب أن يقول : «إلى نصب ...».

(٥) وخالفه المحقّق النائينيّ ، فذهب ـ تبعا للشيخ الأعظم الأنصاريّ ـ إلى قيام الأمارة بدليل اعتبارها مقام القطع الموضوعيّ الطريقيّ دون الصفتيّ. راجع فوائد الاصول ٣ : ٢١.

وخالفه أيضا السيّد الإمام الخمينيّ ، فذهب ـ بعد ما أجاب عن لزوم الجمع بين اللحاظين ـ إلى عدم قيام الأمارات مقام القطع بأقسامه. أنوار الهداية ١ : ١٠٦ ـ ١٠٧. ـ

٢٤٩

[عدم قيام غير الاستصحاب من الاصول مقام القطع الطريقيّ]

وأمّا الاصول : فلا معنى لقيامها مقامه بأدلّتها أيضا ، غير الاستصحاب ، لوضوح أنّ المراد من قيام المقام (١) ترتيب ما له (٢) من الآثار والأحكام من تنجّز التكليف وغيره ـ كما مرّت إليه الإشارة ـ ، وهي (٣) ليست إلّا وظائف مقرّرة للجاهل في مقام العمل ، شرعا أو عقلا (٤).

لا يقال : إنّ الاحتياط لا بأس بالقول بقيامه مقامه في تنجّز التكليف ـ لو كان ـ.

فإنّه يقال : أمّا الاحتياط العقليّ : فليس إلّا نفس (٥) حكم العقل بتنجّز التكليف وصحّة العقوبة على مخالفته ، لا شيء يقوم مقامه في هذا الحكم (٦).

وأمّا النقليّ : فإلزام الشارع به وإن كان ممّا يوجب التنجّز وصحّة العقوبة على المخالفة كالقطع ، إلّا أنّه لا نقول به (٧) في الشبهة البدويّة ، ولا يكون بنقليّ في المقرونة بالعلم الإجماليّ ، فافهم.

[عدم قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعيّ]

ثمّ لا يخفى : أنّ دليل الاستصحاب أيضا لا يفي بقيامه مقام القطع المأخوذ في

__________________

ـ والمحقّق الأصفهانيّ وافق المصنّف رحمه‌الله في النتيجة وخالفه في طريق الوصول إليها. فراجع نهاية الدراية ٢ : ٦٠ ـ ٦٣.

(١) أي : قيام الاصول مقام القطع. فاللام في قوله : «المقام» للعهد الذكريّ.

(٢) أي : ما للقطع.

(٣) أي : الاصول.

(٤) وبتعبير أوضح : أنّ المراد من قيام الاصول مقام القطع ترتيب آثاره وأحكامه ـ من تنجّز التكليف وغيره ـ في موارد جريانها. ولا تجري الاصول العمليّة إلّا بعد فقد المنجّز والحجّة على الواقع ، لأنّها عبارة عن وظائف عمليّة مقرّرة للجاهل في مقام العمل شرعا أو عقلا ، فهي في طول القطع. فلا يتصوّر قيامها مقامه.

(٥) وفي بعض النسخ : «إلّا لأجل حكم ...». والأولى ما أثبتناه.

(٦) والأولى أن يقول : «لا شيئا يترتّب عليه التنجّز كي يقوم مقام القطع».

(٧) أي : بإلزام الشارع به.

٢٥٠

الموضوع مطلقا ، وأنّ مثل «لا تنقض اليقين» (١) لا بدّ من أن يكون مسوقا إمّا بلحاظ المتيقّن ، أو بلحاظ نفس اليقين.

[العدول عمّا في درر الفوائد]

وما ذكرنا في الحاشية (٢) ـ في وجه تصحيح لحاظ واحد في التنزيل منزلة

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ١٧٤ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١ ، و ١ : ١٨٤ ، الباب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث ١٣.

(٢) درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٢٩ ـ ٣١.

وحاصل ما أفاده : أنّه يمكن تصحيح قيام الأمارة أو الاستصحاب مقام القطع الموضوعيّ إذا كان جزء الموضوع من دون لزوم اجتماع اللحاظين. وذلك بأن يقال : إنّ أدلّة اعتبار الأمارة والاستصحاب تدلّ بالمطابقة على تنزيل مؤدّاها منزلة الواقع فقط ، فلا يكون هناك إلّا لحاظ آليّ ؛ وتدلّ بالالتزام على تنزيل العلم بالمؤدّى منزلة القطع بالواقع. فيثبت أحد جزئي الموضوع بنفس دليل الاعتبار والجزء الآخر بالملازمة. ولا يلزم منه الجمع بين اللحاظ الآليّ والاستقلاليّ.

وبعبارة أوضح : أنّ الموضوع في قيام الأمارة والاستصحاب مقام القطع مركّب من أمرين :

أحدهما : تنزيل مؤدّاهما منزلة الواقع.

ثانيهما : تنزيل الأمارة والاستصحاب منزلة القطع بالواقع.

أمّا الأوّل : فتدلّ عليه أدلّة الأمارات والاستصحاب بالدلالة المطابقيّة ، فإنّ الكشف والطريقيّة من أظهر آثار القطع ، وهذا يوجب ظهور دليل التنزيل في التنزيل بحسب الكشف والطريقيّة.

وأمّا الثاني : فتدلّ عليه أدلّتها بالدلالة الالتزاميّة ، فإنّ تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ملازم لتنزيل الأمارة والشكّ منزلة القطع بالواقع عرفا.

وبالجملة : يكون الموضوع ذا جزءين. ويدلّ دليل اعتبار الأمارة والاستصحاب على أحدهما بالمطابقة وعلى الآخر بالالتزام ، وإذا تعدّدت الدلالة يتعدّد الدالّ ويرفع محذور اجتماع اللحاظين.

وتوضيح المطلب في قالب المثال : أنّه إذا قال المولى : «إذا علمت بكون مائع خمرا يجب عليك التصدّق» ، فإذا قطعنا بخمريّة مائع يترتّب عليه أثران شرعيّان :

الأوّل : أثر المقطوع به ، وهو وجوب الاجتناب عن ذلك المائع. ويكون القطع بالنسبة إليه طريقيّا. ـ

٢٥١

الواقع والقطع (١) وأنّ دليل الاعتبار إنّما يوجب تنزيل المستصحب والمؤدّى منزلة الواقع. وإنّما كان تنزيل القطع فيما له دخل في الموضوع بالملازمة بين تنزيلهما وتنزيل القطع بالواقع تنزيلا وتعبّدا منزلة القطع بالواقع حقيقة (٢) ـ لا يخلو من

__________________

ـ الثاني : حكم القطع الّذي اخذ جزء الموضوع ، وهو وجوب التصدّق.

فلو قامت بيّنة على خمريّة مائع كان مقتضى دليل اعتبار البيّنة بالمطابقة تنزيل مؤدّاها منزلة الواقع ، فيترتّب عليه حكم الواقع ـ أي وجوب الاجتناب عنه ـ ، كما كان مقتضاه بالالتزام تنزيل البيّنة على الواقع منزلة العلم بالواقع ، فيجب التصدّق.

(١) هكذا في جميع النسخ. والصحيح أن يقول : «وما ذكرناه في الحاشية في تصحيح التنزيلين : تنزيل الأمارة والأصل منزلة القطع وتنزيل مؤدّاهما منزلة الواقع ...». وذلك لبداهة أنّه لا يمكن تصحيح لحاظ واحد في التنزيلين ، فإنّه من اجتماع المتضادّين.

(٢) والعبارة لا تخلو من الغموض. والمراد منها ـ كما عرفت ـ : أنّ دليل اعتبار الأمارة أو الاستصحاب لا يدلّ بالمطابقة إلّا على تنزيل المؤدّى والمستصحب منزلة الواقع. وأمّا تنزيل القطع بالواقع تعبّدا ـ وهو الأمارة والاستصحاب ـ منزلة القطع بالواقع حقيقة ـ وهو القطع الوجدانيّ ـ فلا يدلّ عليه دليل اعتبارهما بالمطابقة ، بل يدلّ عليه التزاما ، وذلك لوجود الملازمة بين تنزيل المؤدّى والمستصحب منزلة الواقع وبين تنزيل القطع بالواقع تعبّدا منزلة القطع به حقيقة.

واختلفت كلماتهم في بيان المراد من الملازمة في كلام المصنّف رحمه‌الله :

فذهب المحقّق الرشتيّ (الشيخ عبد الحسين) ـ في حواشيه على الكفاية المطبوعة بالطبع الحجريّ ٢ : ٢٠ ـ إلى أنّ المراد بها الملازمة العقليّة ، بمعنى أنّ التعبّد بأحد الجزءين من الموضوع لا يمكن بدون التعبّد بالآخر ، فما يدلّ على التعبّد بأحدهما بالمطابقة يدلّ على التعبّد بالآخر بالالتزام.

وفسّرها المحقّق الخوئيّ ـ تبعا لاستاذه المحقّق النائينيّ ـ بالملازمة العرفيّة ، بمعنى أنّ دليل الاعتبار يدلّ بالمطابقة على التعبّد بالواقع وتنزيل المؤدّى أو المستصحب منزلة الواقع. ويحكم العرف بالملازمة بين التنزيل المذكور وتنزيل العلم بالواقع التعبّدي منزلة القطع بالواقع حقيقة. فيدلّ دليل الاعتبار على التنزيل الثاني بالالتزام. فوائد الاصول ٣ : ٢٨. مصباح الاصول ٢ : ٤١.

وذهب المحقّق الأصفهانيّ إلى أن المراد بها مجموعهما ، أي أنّ الدليل الدالّ على تنزيل المؤدّى والمستصحب منزلة الواقع ، وإن كان يقتضي عقلا تنزيلا آخر ، لكنّه لا يقتضي عقلا أنّ أيّ شيء نزّل منزلة الجزء الآخر ، وحينئذ لا يبعد القول بأنّ العرف يحكم بأنّه القطع التعبّدي بالواقع. نهاية الدراية ٢ : ٧٢.

٢٥٢

تكلّف ، بل تعسّف ، فإنّه لا يكاد يصحّ تنزيل جزء الموضوع أو قيده بما هو كذلك ، بلحاظ أثره ، إلّا فيما كان جزؤه الآخر أو ذاته محرزا بالوجدان ، أو تنزيله في عرضه. فلا يكاد يكون دليل الأمارة أو الاستصحاب دليلا على تنزيل جزء الموضوع ما لم يكن هناك دليل على تنزيل جزئه الآخر فيما لم يكن محرزا حقيقة ؛ وفيما لم يكن دليل على تنزيلهما بالمطابقة كما في ما نحن فيه ـ على ما عرفت (١) ـ لم يكن دليل الأمارة دليلا عليه أصلا ، فإنّ دلالته على تنزيل المؤدّى تتوقّف على دلالته على تنزيل القطع بالملازمة ، ولا دلالة له كذلك ، إلّا بعد دلالته على تنزيل المؤدّى. فإنّ الملازمة إنّما تكون بين تنزيل القطع به (٢) منزلة القطع بالموضوع الحقيقيّ وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع (٣) ، كما لا يخفى ، فتأمّل جيّدا ، فإنّه لا يخلو عن دقّة (٤).

__________________

(١) من لزوم اجتماع اللحاظين.

(٢) أي : القطع بالمؤدّى أو المستصحب.

(٣) وفي بعض النسخ بعد قوله : «إلّا بعد دلالته على تنزيل المؤدّى» هكذا : «فإنّ الملازمة إنّما يدّعى بين القطع بالموضوع التنزيليّ والقطع بالموضوع الحقيقيّ ، وبدون تحقّق الموضوع التنزيليّ التعبّدي أوّلا بدليل الأمارة لا قطع بالموضوع التنزيليّ كي يدّعى الملازمة بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقيّ وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع». وفي بعض النسخ ضرب عليه خطّ المحو وصحّح بما في المتن. والمعنى واحد.

(٤) حاصل ما أفاده ـ في الردّ على التوجيه الّذي ذكره في الحاشية ـ : أنّه مستلزم للدور.

وتوضيحه : أنّ الموضوع إذا كان مركّبا من جزءين أو أجزاء لا يترتّب الحكم عليه إلّا بعد إحراز كلا الجزءين بالوجدان أو التعبّد. فلو دلّ دليل على ثبوت أحدهما دون الآخر لا يترتّب الحكم عليه. فإذا قامت بيّنة على وجوب التصدّق فيما إذا علم وجوب الصلاة يكون الموضوع ذا جزءين : (أحدهما) وجوب الصلاة. (ثانيهما) العلم به. فلا يترتّب الحكم بوجوب التصدّق إلّا إذ احرز الجزءان وجدانا أو تعبّدا. والمفروض أنّه لم يحرز الموضوع في المقام بالوجدان ، فلا بدّ من إحرازهما تعبّدا ، بأن يدلّ دليل على تنزيلهما منزلة ما يحرز بالوجدان.

فترتّب الحكم الشرعيّ ـ وهو وجوب التعبّدي ـ على الموضوع ـ وهو العلم بوجوب الصلاة ـ متوقّف على دلالة دليل على أنّ وجوب الصلاة ـ وهو مؤدّى الأمارة ـ منزّل منزلة الواقع وأنّ العلم به والأمارة عليه منزّل منزلة العلم بالواقع الحقيقيّ.

ولا دليل على التنزيلين كي يترتّب الحكم الشرعيّ على الموضوع المركّب ، حيث لا دليل في المقام إلّا دليل اعتبار الأمارة ، وقد ثبت أنّه لا يدلّ على التنزيلين ، للزوم اجتماع اللحاظين. ـ

٢٥٣

ثمّ لا يذهب عليك : أنّ هذا (١) لو تمّ لعمّ ؛ ولا اختصاص له بما إذا كان القطع مأخوذا على نحو الكشف.

الأمر الرابع

[امتناع أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضدّه]

لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم (٢) ، للزوم الدور(٣)؛

__________________

ـ نعم ، إنّما يدلّ دليل اعتبار الأمارة على التنزيل الأوّل ـ أي تنزيل مؤدّاها منزلة الواقع ـ ، فلا يدلّ إلّا على وجوب الصلاة وأنّه بمنزلة الواقع. وأمّا التنزيل الثاني فلا يدلّ عليه دليل اعتبار الأمارة إلّا إذا كان العلم بوجوب الصلاة في عرض وجوب الصلاة ، ولكنّه ليس في عرضه ، بل يكون في طوله ومن لوازمه المترتّبة عليه. فإذا اريد إثبات التنزيل الثاني بنفس الدليل الدالّ على التنزيل الأوّل ـ وهو دليل اعتبار الأمارة ـ كي يترتّب الأثر الشرعيّ ـ وهو وجوب التصدّق ـ لزم الدور ، لأنّ تنزيل الأمارة منزلة القطع موقوف على ترتّب الأثر الشرعيّ عليه ، وإلّا كان التنزيل لغوا ، وترتّب هذا الأثر الشرعيّ موقوف على إحراز موضوعه الّذي يكون القطع بوجوب الصلاة أحد جزئيه ، وإحراز هذا القطع موقوف على كون الأمارة منزّلة منزلة القطع بالواقع الحقيقيّ ، فيكون تنزيل الأمارة منزلة القطع الحقيقيّ موقوفا على نفسه ، وهذا دور.

(١) وفي النسخ المخطوطة : «أنّه هذا». والصحيح ما أثبتناه ، وهو الموافق لما في النسخة المطبوعة الّتي عليها حواشي العلّامة المشكينيّ.

(٢) كما إذا قال المولى : «إذا علمت بوجوب الصلاة تجب عليك الصلاة» أو «إذا علمت بحرمة الخمر يحرم عليك الخمر».

(٣) ويمكن تقريب الدور بوجهين :

الأوّل : أنّ القطع بوجوب الصلاة ـ في المثال السابق ـ موقوف على ثبوت وجوب الصلاة قبل تعلّق العلم به ، لأنّ العارض متوقّف على معروضه ، ووجوب الصلاة أيضا موقوف على العلم بوجوبها ، لأنّ العلم به جزء الموضوع ويتوقّف الحكم على حصول موضوعه ، فيكون العلم بوجوبها موقوف على وجوبها ، ووجوبها موقوف على العلم بوجوبها ، وهذا دور.

ودفعه المحقّق الأصفهانيّ بما حاصله : أنّ الموقوف عليه غير الموقوف عليه ، فإنّ ما يتوقّف عليه القطع هو الصورة الذهنيّة للحكم ، لأنّ القطع من الامور النفسيّة الذهنيّة ولا يتعلّق بالموجودات الخارجيّة ، وما يتوقّف على القطع هو الوجود الخارجيّ للحكم ، فلا دور. نهاية الدراية ٢ : ٧٥ ـ ٧٦. ـ

٢٥٤

ولا مثله ، للزوم اجتماع المثلين (١) ؛

__________________

ـ الثاني : ما ذكره المحقّق النائينيّ في مبحث أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر. وحاصله : أنّ موضوع الحكم يؤخذ بنحو فرض الوجود ، فيثبت الحكم عند فرض وجود الموضوع ، سواء كان الموضوع بسيطا أو مركّبا. فإذا فرض كون الموضوع مركّبا من القطع والحكم يؤخذ القطع بنحو فرض الوجود كما يؤخذ الحكم كذلك ، فيلزم فرض ثبوت الحكم عند فرض وجود الحكم ، وهذا مستلزم لفرض ثبوت الحكم قبل ثبوته ، وهو ملاك الدور المحال. فوائد الاصول ١ : ١٤٨ ـ ١٤٩.

ودفعه المحقّق الأصفهانيّ بوجهين :

أحدهما : أنّ ما تعلّق به العلم هو الوجود الذهنيّ للحكم ، فيكون مفروض الوجود هو الحكم الموجود بالوجود الذهنيّ ، وأمّا الحكم الّذي يكون معلّقا على العلم بالحكم الموجود ذهنا فهو الوجود الخارجيّ للحكم ، فلا يلزم فرض ثبوت الشيء قبل ثبوته.

وثانيهما : أنّ فرض ثبوت الشيء بالوجود الفرضيّ غير ثبوته بالوجود التحقيقيّ ، فلا مانع من توقّف ثبوته التحقيقيّ على ثبوته الفرضيّ. نهاية الدراية ٢ : ٧٦.

ولا يخفى : أنّ توقّف الفرد العالي من الوجود ـ وهو الوجود الخارجيّ ـ على الفرد الداني منه ـ وهو الوجود الذهنيّ ـ غير معقول ، بل صدور هذا الكلام من المحقّق الحكيم الأصفهانيّ عجيب.

وهذا المحقّق ـ بعد ما دفع الدور بكلا التقريبين ـ استدلّ على امتناع أخذ العلم في موضوع الحكم نفسه بوجه آخر. وملخّصه : أنّ الحكم قد يعلّق على القطع بذلك الحكم بنحو القضيّة الخارجيّة ، وقد يعلّق عليه بنحو القضيّة الحقيقيّة. فعلى الأوّل لا خلف ، ولكن يلزم اللغو ، لأنّ الحكم إنّما يجعل لأجل جعل الداعي والمحرّك ، فلو فرض علم المكلّف بالحكم لا يكون جعل الحكم داعيا ولا محرّكا ، بل يكون جعله لغوا. وعلى الثاني يلزم الخلف ، إذ يستحيل تحقّق العلم بالحكم ـ مثلا العلم بوجوب الصلاة ـ بوصول قوله : «إذا علمت بوجوب الصلاة يجب عليك الصلاة» ، لأنّ المفروض أنّ وجوبها متوقّف على العلم بوجوبها ، وهو متوقّف على وجوبها ، وهو دور ، وما يبتني على أمر محال محال. نهاية الدراية ٢ : ٧٧.

وذهب السيّد الإمام الخمينيّ إلى امتناع أخذ القطع بالحكم في موضوع نفس الحكم إذا كان القطع بعض الموضوع ، وإلى جوازه إذا كان تمام الموضوع. راجع هامش أنوار الهداية ١ : ١٣١.

(١) أي : ولا يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع مثل هذا الحكم ، كما إذا قال المولى : «إذا علمت بوجوب الصلاة تجب عليك الصلاة بوجوب آخر».

وخالفه السيّدان العلمان : الخمينيّ والخوئيّ. ـ

٢٥٥

ولا ضدّه (١) ، للزوم اجتماع الضدّين (٢).

نعم ، يصحّ أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة اخرى منه (٣) ، أو من مثله (٤) ، أو ضدّه (٥).

وأمّا الظنّ بالحكم : فهو وإن كان كالقطع في عدم جواز أخذه في موضوع نفس ذاك الحكم المظنون ، إلّا أنّه لمّا كان معه مرتبة الحكم الظاهريّ محفوظة ، كان جعل حكم آخر في مورده ـ مثل الحكم المظنون أو ضدّه ـ بمكان من الإمكان.

إن قلت : إن كان الحكم المتعلّق به الظنّ فعليّا أيضا بأن يكون الظنّ متعلّقا بالحكم الفعليّ ، لا يمكن أخذه في موضوع حكم فعليّ آخر مثله أو ضدّه ، لاستلزامه الظنّ باجتماع الضدّين أو المثلين ، وإنّما يصحّ أخذه في موضوع حكم آخر ، كما في القطع طابق النعل بالنعل.

قلت : يمكن أن يكون الحكم فعليّا ، بمعنى أنّه لو تعلّق به القطع ـ على ما هو عليه من الحال ـ لتنجّز ، واستحقّ على مخالفته العقوبة. ومع ذلك (٦) لا يجب على الحاكم رفع عذر المكلّف برفع جهله لو أمكن ، أو بجعل لزوم الاحتياط عليه فيما أمكن ، بل يجوز جعل أصل أو أمارة مؤدّية إليه تارة ، وإلى ضدّه اخرى ، ولا يكاد يمكن مع القطع به جعل حكم آخر مثله أو ضدّه ، كما لا يخفى (٧).

__________________

ـ أمّا الأوّل : فذهب إلى التفصيل بين المأخوذ تمام الموضوع فيجوز ، وبين المأخوذ بعض الموضوع فلا يجوز. راجع هامش أنوار الهداية ١ : ١٣١.

وأمّا الثاني : فذهب إلى إمكانه مطلقا. مصباح الاصول ٢ : ٤٥.

(١) كما إذا قال المولى : «إذا علمت بوجوب الصلاة تحرم عليك الصلاة».

(٢) وخالفه السيّد الإمام الخمينيّ ، فذهب إلى التفصيل المتقدّم.

(٣) كما إذا قال المولى : «إذا علمت بإنشاء الحرمة لشرب التتن فهو حرام لك فعلا».

(٤) كما إذا قال المولى : «إذا علمت بإنشاء وجوب الصلاة يجب عليك فعلا وجوبا مماثلا».

(٥) كأن يقال : «إذا علمت بإنشاء الحرمة للخمر فهو حلال لك فعلا».

وفي بعض النسخ : «أو من مثله أو من ضدّه».

(٦) أي : مع كون الحكم المظنون فعليّا.

(٧) وفي بعض النسخ : «كما لا يخفى ، فافهم».

٢٥٦

إن قلت : كيف يمكن ذلك؟ وهل هو إلّا أنّه يكون مستلزما لاجتماع المثلين أو الضدّين؟

قلت : لا بأس باجتماع الحكم الواقعيّ الفعليّ بذاك المعنى ـ أي لو قطع به من باب الاتّفاق لتنجّز ـ مع حكم آخر فعليّ في مورده ، بمقتضى الأصل أو الأمارة ، أو دليل أخذ في موضوعه الظنّ بالحكم بالخصوص ، على ما سيأتي من التحقيق في التوفيق بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ (١).

الأمر الخامس

[الموافقة الالتزاميّة]

هل تنجّز التكليف بالقطع كما يقتضي موافقته عملا ، يقتضي موافقته التزاما ، والتسليم له اعتقادا وانقيادا ، كما هو اللازم في الاصول الدينيّة والامور الاعتقاديّة ، بحيث كان له امتثالان وطاعتان : (إحداهما) بحسب القلب والجنان ، (والأخرى) بحسب العمل بالأركان ، فيستحقّ العقوبة على عدم الموافقة التزاما ولو مع الموافقة عملا ، أو لا يقتضي ، فلا يستحقّ العقوبة عليه ، بل إنّما يستحقّها على المخالفة العمليّة؟

الحقّ هو الثاني ، لشهادة الوجدان الحاكم في باب الإطاعة والعصيان بذلك (٢) ، واستقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمر سيّده إلّا المثوبة دون العقوبة ، ولو لم يكن متسلّما وملتزما به ومعتقدا ومنقادا له ، وإن كان ذلك يوجب تنقيصه وانحطاط درجته لدى سيّده ، لعدم اتّصافه بما يليق أن يتّصف العبد به من الاعتقاد بأحكام مولاه والانقياد لها ؛ وهذا غير استحقاق العقوبة على مخالفته لأمره أو نهيه التزاما مع موافقته عملا ، كما لا يخفى.

__________________

(١) يأتي في مبحث حجّيّة الأمارات : ٢٨٥ ـ ٢٨٧ من هذا الجزء.

(٢) أي : بعدم الاقتضاء.

٢٥٧

ثمّ لا يذهب عليك : أنّه على تقدير لزوم الموافقة الالتزاميّة وكان المكلّف متمكّنا منها تجب (١) ـ ولو فيما لا تجب عليه الموافقة القطعيّة عملا ، ولا تحرم المخالفة القطعيّة عليه كذلك أيضا ، لامتناعهما (٢) ، كما إذا علم إجمالا بوجوب شيء أو حرمته ـ ، للتمكّن (٣) من الالتزام بما هو الثابت واقعا والانقياد له والاعتقاد به بما هو الواقع والثابت وإن لم يعلم أنّه الوجوب أو الحرمة.

وإن أبيت إلّا عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه (٤) لما كانت موافقته القطعيّة الالتزاميّة حينئذ ممكنة ، ولما وجب عليه الالتزام بواحد قطعا (٥) ، فإنّ محذور الالتزام بضدّ التكليف عقلا ليس بأقلّ من محذور عدم الالتزام به بداهة ، مع ضرورة أنّ التكليف ـ لو قيل باقتضائه للالتزام ـ لم يكد يقتضي إلّا الالتزام بنفسه عينا ، لا الالتزام به أو بضدّه تخييرا(٦).

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «لو كان المكلّف متمكّنا منها لوجب ...». والصحيح ما أثبتناه. والضمير المستتر في قوله : «تجب» يرجع إلى الموافقة الالتزاميّة.

(٢) تعليل لعدم وجوب الموافقة القطعيّة عملا وعدم حرمة المخالفة كذلك.

(٣) تعليل لقوله : «تجب». أي : تجب الموافقة الالتزاميّة ، لتمكّنه منها ، بأن يلتزم بما هو الثابت واقعا ، وإن لم يعلم أنّه الوجوب أو الحرمة.

(٤) أي : بعنوان أنّه واجب ، أو بعنوان أنّه حرام.

(٥) لا خصوص الوجوب ولا خصوص الحرمة. وذلك لإمكان أن يكون الحكم الملتزم به ضدّ الحكم الواقعيّ.

(٦) والحاصل : أنّ في لزوم الالتزام بما هو الثابت بعنوانه الخاصّ ـ من الوجوب أو الحرمة ـ محذورين :

الأوّل : أنّه يحتمل أن يكون الحكم الملتزم به ضدّ الحكم الواقعيّ. فلو التزم به بعنوان أنّه واجب وكان الثابت واقعا حراما التزم بما هو ضدّ الحكم الواقعي ، وكذا لو التزم به بعنوان أنّه حرام. وحينئذ لا يمكن الموافقة القطعيّة ، لعدم معرفة المكلّف به كي يلتزم به. فلا يجب الالتزام بواحد معيّن. وعليه فمحذور الالتزام بضدّ التكليف ليس بأقلّ من محذور عدم الالتزام به.

الثاني : أنّ التكليف إذا اقتضى وجوب الالتزام لا يقتضي إلّا الالتزام بنفسه عينا ، لا الالتزام به أو بضدّه تخييرا.

٢٥٨

ومن هنا قد انقدح : أنّه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الاصول الحكميّة أو الموضوعيّة في أطراف العلم لو كانت جارية مع قطع النظر عنه (١).

كما لا يدفع بها (٢) محذور عدم الالتزام به (٣) ، بل الالتزام بخلافه (٤) لو قيل بالمحذور فيه (٥) حينئذ أيضا ، إلّا على وجه دائر ، لأنّ جريانها موقوف على عدم محذور في عدم الالتزام اللازم من جريانها ، وهو موقوف على جريانها بحسب الفرض (٦).

__________________

(١) والحاصل : أنّه على تقدير لزوم الموافقة الالتزاميّة يجب الالتزام بما هو الثابت عند الله واقعا والاعتقاد بحكم الله الواقعيّ على واقعه ، ولو لم يعلم مصداق ما هو الثابت عنده تعالى مفصّلا. وهذا الالتزام ممكن أيضا فيما إذا دار الأمر بين المحذورين ، كما إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة ، إذ يمكن الالتزام بما هو الثابت عند الله واقعا. والالتزام به كذلك لا ينافي جريان الاصول الحكميّة ـ كأصالة الإباحة فيما دار أمره بين الوجوب أو الحرمة ـ أو الموضوعيّة ـ كاستصحاب عدم تعلّق الحلف بوطء المرأة فيما إذا تردّدت بين من وجب وطئها وبين من وجب ترك وطئها ـ ، ضرورة أنّ الملتزم به هو الحكم الثابت عند الله واقعا ، وما يثبت بالاصول هو الحكم الظاهريّ ، ولا تنافي بينهما.

(٢) أي : بالاصول الحكميّة أو الموضوعيّة. وفي بعض النسخ : «ولا يدفع هنا».

(٣ ـ ٤) الضمير يرجع إلى التكليف.

(٥) أي : في عدم الالتزام.

(٦) لا يخفى : أنّ في النسخة الأصليّة ضرب قلم المحو على قوله : «بل الالتزام بخلافه ... بحسب الفرض». وأمّا في غيرها من النسخ المخطوطة بل في النسخ المطبوعة ـ عدا ما في حقائق الاصول ـ فالزيادة موجودة.

ولا يخفى أيضا : أنّ كلامه هذا تعريض بما أفاده الشيخ الأنصاريّ ـ في فرائد الاصول ١ : ٨٤ ـ من دفع محذور عدم الالتزام بالتكليف بإجراء الاصول الموضوعيّة أو الحكميّة.

وتوضيحه يتوقّف على بيان امور :

الأوّل : أنّه إذا كان المكلّف متمكّنا من الموافقة الالتزاميّة تجب عليه الموافقة والالتزام عقلا على تقدير لزوم الموافقة الالتزاميّة ، وإلّا لزم لغويّة لزوم الموافقة الالتزاميّة. فلزوم الموافقة علّة لوجوبها عقلا ، ولا مانع من تأثيره فيها إلّا عدم التمكّن من الموافقة ، والمفروض أنّه متمكّن من الموافقة ، بأن يلتزم بما هو الثابت واقعا ولو إجمالا ، فلا مانع من تأثيره. وإذن يكون القول بعدم وجوب الموافقة على تقدير لزوم الموافقة قولا بجواز تخلّف العلّة عن معلولها ، وبطلانه واضح.

ومن هنا يظهر امور : ـ

٢٥٩

اللهمّ إلّا أن يقال (١) : إنّ استقلال العقل بالمحذور فيه إنّما يكون فيما إذا لم يكن هناك ترخيص في الإقدام والاقتحام في الأطراف ، ومعه لا محذور فيه ، بل ولا في الالتزام بحكم آخر. إلّا أنّ الشأن حينئذ في جواز جريان الاصول في أطراف العلم الإجماليّ مع عدم ترتّب أثر عمليّ عليها ، مع أنّها أحكام عمليّة كسائر الأحكام الفرعيّة ؛ مضافا إلى عدم شمول أدلّتها لأطرافه ، للزوم التناقض في مدلولها على تقدير شمولها ، كما ادّعاه (٢) شيخنا العلّامة ـ أعلى الله مقامه (٣) ـ ، وإن كان محلّ تأمّل ونظر ، فتدبّر جيّدا.

__________________

ـ ١ ـ أنّ المراد من محذور عدم الالتزام بالتكليف هو تخلّف العلّة عن المعلول.

٢ ـ أنّ المحذور ثابت في الالتزام بخلاف التكليف أيضا ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «بل الالتزام بخلافه ...».

٣ ـ أنّ المراد من قوله : «حينئذ» هو حين العلم الإجماليّ بوجوب الشيء أو حرمته.

٤ ـ أنّ قوله : «أيضا» إشارة إلى ثبوت المحذور فيما إذا علم بالحكم تفصيلا.

الثاني : أنّه يستفاد من كلام الشيخ الأنصاريّ ـ في فرائد الاصول ١ : ٨٤ ـ أنّه يدفع محذور عدم الالتزام بالتكليف بسبب إجراء الاصول الحكميّة أو الموضوعيّة. وذلك لأنّ إجراء الأصل في الشبهة الموضوعيّة يرفع موضوع وجوب الالتزام ، فإنّ أصالة عدم الحلف على ترك وطء هذه المرأة أو عدم الحلف على وطئها ـ في مورد دوران الأمر بينهما ـ تخرج المرأة عن موضوع وجوب الالتزام ـ وهو وجوب الوطء أو حرمته ـ ، فلا يجب الالتزام بهما ، لعدم ثبوتهما.

الثالث : أنّه ذهب المصنّف رحمه‌الله إلى بطلان ما ذكره الشيخ في دفع محذور عدم الالتزام بالتكليف بإجراء الاصول ، لأنّه مستلزم للدور. وذلك لأنّ جريان الأصل في كلّ من الطرفين موقوف على عدم محذور في عدم الالتزام بالحكم الواقعيّ بسبب جريانها ، وإلّا لم تجر الأصول ، وعدم المحذور موقوف أيضا على جريانهما ، وهذا دور.

وبتعبير آخر : جريان الأصل موقوف على عدم ثبوت وجوب الالتزام ، فإنّ ثبوت وجوبه مناف لجريان الأصل ، وعدم ثبوت وجوبه موقوف على جريان الأصل ، وهذا دور.

(١) هذا استدراك على قوله : «كما لا يدفع بها ...» ودفع للدور وتصحيح لكلام الشيخ.

(٢) أي : ادّعى الشيخ عدم شمول أدلّة الاصول لأطراف العلم الإجماليّ.

(٣) راجع فرائد الاصول ٣ : ٤١٠.

٢٦٠