كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
ISBN: 978-964-470-562-5
الصفحات: ٤١٩

وجه من وجوه المعنى ، اقتضاه تجرّده عن القيد مع تخيّل وروده في مقام بيان تمام المراد ، وبعد الاطّلاع على ما يصلح للتقييد نعلم وجوده على وجه الإجمال ، فلا إطلاق فيه حتّى يستلزم تصرّفا ، فلا يعارض ذلك بالتصرّف في المقيّد بحمل أمره على الاستحباب (١).

وأنت خبير بأنّ التقييد أيضا يكون تصرّفا في المطلق ، لما عرفت (٢) من أنّ الظفر بالمقيّد لا يكون كاشفا عن عدم ورود المطلق في مقام البيان ، بل عن عدم كون الإطلاق الّذي هو ظاهره بمعونة الحكمة (٣) بمراد جدّيّ (٤) ، غاية الأمر أنّ التصرّف فيه بذلك لا يوجب التجوّز فيه (٥).

مع أنّ حمل الأمر في المقيّد على الاستحباب لا يوجب تجوّزا فيه ، فإنّه في الحقيقة مستعمل في الإيجاب ، فإنّ المقيّد إذا كان فيه ملاك الاستحباب كان من أفضل أفراد الواجب ، لا مستحبّا فعلا ، ضرورة أنّ ملاكه لا يقتضي استحبابه إذا اجتمع مع ما يقتضي وجوبه (٦).

__________________

(١) وهذا الإيراد من الشيخ الأعظم الأنصاريّ على المحقّق القميّ. وحاصل الإيراد : أنّ الجمع المذكور أولى من الجمع بحمل الأمر في المقيّد على الاستحباب. وذلك لأنّ حمل المطلق على المقيّد ليس تصرّفا في معنى لفظ المقيّد ، لما مرّ من أنّ إرادة المقيّد إنّما هو بتعدّد الدالّ والمدلول ، لا باستعمال المطلق في المقيّد حتّى يكون مجازا ، بل إنّما يلزم منه التصرّف في وجه من وجوه المعنى ، حيث إنّ تجرّد لفظ المطلق يقتضي سعة دائرة انطباقه على الأفراد ، والتقييد تصرّف في هذا الوجه. وهذا بخلاف حمل الأمر في المقيّد على الاستحباب ، لأنّه تصرّف في نفس الأمر ـ أي الوجوب ـ ، وإذا دار الأمر بينهما يقدّم الأوّل على الثاني.

(٢) في الصفحة : ٢١٥ من هذا الجزء.

(٣) متعلّق بقوله : «ظاهره». والضمير في قوله : «ظاهره» يرجع إلى المطلق.

(٤) متعلّق بقوله : «عدم كون». ومعنى العبارة : بل يكشف عن أنّ الإطلاق الّذي هو ظاهر المطلق بمعونة مقدّمات الحكمة ليس بمراد جدّيّ.

(٥) أي : غاية الأمر أنّ التصرّف في المطلق بعدم كونه مرادا جدّيّا لا يوجب التجوّز في المطلق ، لعدم وضع المطلق للشيوع كي تكون إرادة غيره مجازا.

(٦) والحاصل : أنّه لا يلزم من حمل الأمر على الاستحباب مجاز أصلا. وذلك لأنّ ملاك ـ

٢٢١

نعم ، فيما إذا كان إحراز كون المطلق في مقام البيان بالأصل كان من التوفيق بينهما حمله على أنّه سيق في مقام الإهمال على خلاف مقتضى الأصل ، فافهم.

ولعلّ وجه التقييد كون ظهور إطلاق الصيغة في الإيجاب التعيينيّ أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق (١).

وربما يشكل (٢) بأنّه يقتضي التقييد في باب المستحبّات ، مع أنّ بناء المشهور على حمل الأمر بالمقيّد فيها على تأكّد الاستحباب (٣). اللهمّ إلّا أن يكون الغالب في هذا الباب هو تفاوت الأفراد بحسب مراتب المحبوبيّة ، فتأمّل ؛ أو أنّه كان بملاحظة التسامح في أدلّة المستحبّات ، وكان عدم رفع اليد من دليل استحباب المطلق ـ بعد مجيء دليل المقيّد ـ وحمله على تأكّد استحبابه من التسامح فيها (٤).

__________________

ـ الاستحباب إنّما يقتضي كون الفعل مستحبّا فيما إذا لم يجتمع مع ما يقتضي وجوبه ، وإلّا فمجرّد ثبوت ملاك الاستحباب في الفعل لا يقتضي كونه مستحبّا ، بل يكون الفعل ـ حينئذ ـ من أفضل أفراد الواجب. نظير استحباب الجماعة في الصلوات الواجبة ، فإنّ صلاة الجماعة واجبة ، ولا معنى لاستحبابها إلّا كونها أفضل أفراد الواجب. والمقام من هذا القبيل ، لأنّ ملاك الوجوب ثابت في المقيّد من جهة أنّه أحد أفراد المطلق ، وثبوت ملاك الوجوب فيه يمنع عن حمله على الاستحباب ، بل إنّما يحمل على أنّ المقيّد أفضل أفراد الواجب ، ولا يوجب تجوّزا.

(١) لا يخفى : أنّ ظهور الصيغة في الوجوب التعيينيّ ظهور إطلاقيّ ـ كما مرّ في الجزء الأوّل : ١٤٨ ـ. وعليه فيدور الأمر بين الإطلاقين ، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر.

(٢) أي : يشكل توجيه التقييد بأقوائيّة ظهور إطلاق الصيغة في الإيجاب التعيينيّ من ظهور المطلق في الإطلاق.

(٣) أي : يلزم من التوجيه المذكور الحكم باستحباب خصوص المقيّد دون المطلق في باب المستحبّات ، كما إذا ورد استحباب زيارة مولانا الحسين عليه‌السلام بنحو الإطلاق ، ثمّ ورد استحبابها في يوم عرفة ، فلو كان ظهور إطلاق الصيغة في التعيينيّ أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق وكان مقتضاه تقييد المطلق يلزم الحكم باستحباب زيارته عليه‌السلام في خصوص يوم عرفة ، وهو خلاف المشهور ، فإنّهم بنوا فيها على حمل المقيّد على تأكّد الاستحباب.

(٤) ولا يخفى : أنّه لو كان حمل المطلق على المقيّد جمعا عرفيّا كان قضيّته عدم الاستحباب إلّا للمقيّد ، وحينئذ إن كان بلوغ الثواب صادقا على المطلق كان استحبابه تسامحيّا ، وإلّا ـ

٢٢٢

ثمّ إنّ الظاهر أنّه لا يتفاوت فيما ذكرنا بين المثبتين والمنفيّين بعد فرض كونهما متنافيين ، كما لا يتفاوتان في استظهار التنافي بينهما من استظهار اتّحاد التكليف من وحدة السبب (١) وغيره (٢) من قرينة حال أو مقال حسبما يقتضيه النظر ، فليتدبّر.

تنبيه : [في عدم اختصاص التقييد بالحكم التكليفيّ]

لا فرق فيما ذكر من الحمل في المتنافيين بين كونهما في بيان الحكم التكليفيّ وفي بيان الحكم الوضعيّ. فإذا ورد ـ مثلا ـ أنّ البيع سبب وأنّ البيع الكذائيّ سبب ، وعلم أنّ مراده إمّا البيع على إطلاقه أو البيع الخاصّ ، فلا بدّ من التقييد لو كان ظهور دليلة في دخل القيد أقوى من ظهور دليل الإطلاق فيه ، كما هو ليس ببعيد ، ضرورة تعارف ذكر المطلق وإرادة المقيّد ، بخلاف العكس بإلغاء القيد وحمله على أنّه غالبيّ أو على وجه آخر ، فإنّه على خلاف المتعارف.

تبصرة لا تخلو من تذكرة : [اختلاف نتيجة مقدّمات الحكمة]

وهي : أنّ قضيّة مقدّمات الحكمة في المطلقات تختلف حسب اختلاف المقامات (٣) ، فإنّها تارة يكون حملها على العموم البدليّ ، واخرى على العموم الاستيعابيّ ، وثالثة على نوع خاصّ ممّا ينطبق عليه ، حسب اقتضاء خصوص

__________________

ـ فلا استحباب له أصلا ، كما لا وجه بناء على هذا الحمل وصدق البلوغ لتأكّد الاستحباب في المقيّد ، فافهم. منه [أعلى الله مقامه].

(١) كأن يقول : «إن افطرت فاعتق» و «إن افطرت فاعتق رقبة مؤمنة».

(٢) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «غيرها» ، فإنّ الضمير يرجع إلى وحدة السبب لا إلى السبب.

وحقّ العبارة أن يقول : «كما لا يتفاوتان في استظهار اتّحاد التكليف ـ الّذي يوجب التنافي بينهما ـ بين استظهاره من وحدة السبب واستظهاره من غيرها كقرينة حال أو مقال».

(٣) فلا تلازم ثبوت الاستغراق دائما.

٢٢٣

المقام واختلاف الآثار والأحكام ، كما هو الحال في سائر القرائن بلا كلام.

فالحكمة في إطلاق صيغة الأمر تقتضي أن يكون المراد خصوص الوجوب التعيينيّ العينيّ النفسيّ ، فإنّ إرادة غيره تحتاج إلى مزيد بيان ، ولا معنى لإرادة الشياع فيه ، فلا محيص عن الحمل عليه فيما إذا كان بصدد البيان (١).

كما أنّها قد تقتضي العموم الاستيعابيّ ، كما في [قوله تعالى](أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٢) ، إذ إرادة البيع مهملا أو مجملا تنافي ما هو المفروض من كونه بصدد البيان ؛ وإرادة العموم البدليّ لا تناسب المقام (٣) ؛ ولا مجال لاحتمال إرادة بيع اختاره المكلّف ، أيّ بيع كان ، مع أنّها تحتاج إلى نصب دلالة عليها لا تكاد تفهم بدونها من الإطلاق. ولا يصحّ قياسه (٤) على ما إذا اخذ في متعلّق الأمر ، فإنّ العموم الاستيعابيّ لا يكاد يمكن إرادته (٥) ؛ وإرادة غير العموم البدليّ وإن كانت ممكنة إلّا أنّها منافية للحكمة وكون المطلق بصدد البيان.

__________________

(١) هذا مثال للقسم الثالث.

(٢) البقرة / ٢٧٥. وهذا مثال للقسم الثاني.

(٣) لأنّ المقام مقام الامتنان ، وحمله على فرد واحد لا يناسب الامتنان.

(٤) أي : لا يصحّ قياس المطلق الواقع عقيب الحكم الوضعيّ بالمطلق الواقع عقيب الحكم التكليفيّ. فمتعلّقات الأوامر مثال للقسم الأوّل ، كقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) البقرة / ٤٣.

(٥) لأنّ التكليف بجميع أفراد متعلّق الأوامر تكليف بما لا يطاق ، ضرورة أنّه لا يعقل إرادة جميع أفراد الصلاة في مثل «صلّ» وإرادة تمام أفراد الرجل في مثل «جئني برجل».

٢٢٤

فصل

في المجمل والمبيّن

والظاهر أنّ المراد من المبيّن ـ في موارد إطلاقه ـ الكلام الّذي له ظاهر ، ويكون بحسب متفاهم العرف قالبا لخصوص معنى ؛ والمجمل بخلافه. فما ليس له ظهور مجمل وإن علم بقرينة خارجيّة ما اريد منه ، كما أنّ ما له الظهور مبيّن وإن علم بالقرينة الخارجيّة أنّه ما اريد (١) ظهوره وأنّه مؤوّل.

ولكلّ منهما في الآيات والروايات وإن كان أفراد كثيرة لا تكاد تخفى (٢) ، إلّا

__________________

(١) كلمة «ما» نافية.

(٢) أمّا الآيات : فمثل قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) الفتح / ٢٩ ، فإنّ هذا الوصف في الآية ظاهر في عدالة جميع من كان مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أصحابه ، ولكن ذيل الآية (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) صالح لأن يكون قرينة على أنّ المراد بقوله : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) بعضهم لا جميعهم ، فتصبح الآية مجملة من هذه الجهة.

وأمّا الروايات : فعدّ منها ما يلي :

١ ـ قوله عليه‌السلام في رواية السكونىّ : «الماء يطهّر ولا يطهّر» ، فإنّه يكون مجملا من حيث المتعلّق وكيفيّة التطهير. الوسائل ١ : ٩٩ ، الباب ١ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٦.

(٢) ـ قوله عليه‌السلام : «الكرّ من الماء الّذي لا ينجّسه شيء ألف ومائتا رطل» ، فإنّه مجمل ، حيث يطلق الرطل في زمان المعصومين عليه‌السلام على العراقيّ مرّة ، وعلى المدنيّ اخرى ، وعلى المكّيّ ثالثة. وسائل الشيعة : ١٢٣ ، الباب ١١ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١. ـ

٢٢٥

أنّ لهما أفرادا مشتبهة وقعت محلّ البحث والكلام للأعلام في أنّها من أفراد أيّهما ، كآية السرقة (١) ، ومثل [قوله تعالى] : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) (٢) و (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) (٣) ممّا اضيف التحليل إلى الأعيان ، ومثل «لا صلاة إلّا بطهور» (٤).

ولا يذهب عليك : أنّ إثبات الإجمال أو البيان لا يكاد يكون بالبرهان ، لما عرفت من أنّ ملاكهما أن يكون للكلام ظهور ويكون قالبا لمعنى ، وهو ممّا يظهر بمراجعة الوجدان ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى : أنّهما وصفان إضافيّان ربما يكون مجملا عند واحد لعدم معرفته بالوضع أو لتصادم ظهوره بما حفّ به لديه ، ومبيّنا لدى الآخر لمعرفته وعدم التصادم بنظره ، فلا يهمّنا التعرّض لموارد الخلاف والكلام والنقض والإبرام في المقام ، وعلى الله التوكّل وبه الاعتصام.

__________________

ـ ٣ ـ قوله عليه‌السلام : «يقضيه أفضل أهل بيته» ، فإنّ كلمة «أفضل» مجمل ، لم يعلم المراد منه ، فهل المراد به الأعلم أو المراد به الأقرب إلى أهل بيت الميّت. وسائل الشيعة ٧ : ٢٤٢ ، الباب ٢٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ١١.

(١) وهي قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) المائدة / ٣٨. فيقال : إنّها مجملة من جهة لفظ «القطع» ، حيث يطلق على الإبانة والجرح. أو أنّها مجملة من جهة لفظ «اليد» ، حيث يطلق على العضو المعروف كلّه وعلى الكف إلى اصول الأصابع وعلى العضو إلى الزند وعلى العضو إلى المرفق.

(٢) النساء / ٢٣. وإجمالها من جهة الفعل المتعلّق باللام ، فهل هو النظر أو اللمس أو التقبيل أو الوطء.

(٣) المائدة / ١. وإجمالها من جهة الفعل المتعلّق بالبهيمة ، فهل يراد به حلّيّة لحمها أو يراد حلّيّة سائر الانتفاعات بها.

(٤) الوسائل ١ : ٢٥٦ ، الباب ١ من أبواب الوضوء ، الحديث ١ و ٦.

وإجماله من جهة أنّ النفي في مثل هذا التركيب لا يحمل على نفي الماهيّة ، فلا بدّ أن يقدّر وصف للماهيّة كي يكون هو المنفيّ حقيقة ، نحو : الصحّة والكمال والفضيلة ونحوها. ولمّا كان المجاز مردّدا بين معان كان الكلام مجملا.

٢٢٦

المقصد السادس

في بيان الأمارات المعتبرة

شرعا أو عقلا

٢٢٧
٢٢٨

[مباحث القطع]

٢٢٩

[تمهيد]

[في أقسام حالات المكلّف]

وقبل الخوض في ذلك لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من الأحكام ـ وإن كان خارجا من مسائل الفنّ وكان أشبه بمسائل الكلام (١) ـ ، لشدّة (٢) مناسبته مع المقام (٣).

فاعلم : أنّ البالغ الّذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعليّ واقعيّ أو ظاهريّ متعلّق به أو بمقلّديه (٤) ، فإمّا أن يحصل له القطع به أو لا. وعلى الثاني لا بدّ

__________________

(١) فللمصنّف رحمه‌الله دعويان :

الأولى : خروج مباحث القطع عن مسائل علم الاصول. وذلك لعدم انطباق تعريف علم الاصول عليه ، فإنّ الضابط في كون المسألة من المسائل الاصوليّة هو أنّ تقع كبرى لقياس تكون نتيجته استنباط الحكم الشرعيّ ، والعلم بالحكم الشرعيّ من نتائج المسألة الاصوليّة ، لا أنّه نفس المسألة الاصوليّة.

الثانية : أنّ مباحث القطع أشبه بمسائل علم الكلام. وذلك لأنّه يبحث في علم الكلام عن ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وأحوال الممكنات ، فيبحث فيه عن استحقاق العقاب والثواب. ويشبه مباحث القطع بمسائله من جهة أنّه يرجع البحث عنه إلى استحقاق العقاب على مخالفته واستحقاق الثواب على موافقته.

(٢) تعليل لقوله : «لا بأس بصرف الكلام».

(٣) أي : مناسبة بعض ما للقطع من الأحكام مع ما كنّا بصدده في المقام من بيان الأمارات المعتبرة.

ووجه المناسبة : أنّ القطع طريق إلى إحراز التكليف كما أنّ الأمارات أيضا طريق إليه.

(٤) الأولى أن يقول : «متعلّق به ومقلّديه أو بخصوص مقلّديه». الأوّل كأكثر الأحكام المشتركة ـ

٢٣٠

من انتهائه إلى ما استقلّ به العقل من اتّباع الظنّ لو حصل له وقد تمّت مقدّمات الانسداد على تقدير الحكومة (١) ، وإلّا فالرجوع إلى الاصول العقليّة من البراءة والاشتغال والتخيير ، على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى.

وإنّما عمّمنا متعلّق القطع (٢) ، لعدم اختصاص أحكامه بما إذا كان متعلّقا بالأحكام الواقعيّة ؛ وخصّصنا بالفعليّ (٣) ، لاختصاصها بما إذا كان متعلّقا به على ما ستطّلع عليه. ولذلك عدلنا عمّا في رسالة شيخنا العلّامة ـ أعلى الله مقامه ـ من تثليث الأقسام (٤).

وإن أبيت إلّا عن ذلك ، فالأولى أن يقال : «إنّ المكلّف إمّا أن يحصل له القطع أولا. وعلى الثاني إمّا أن يقوم عنده طريق معتبر أولا» ، لئلّا يتداخل الأقسام فيما يذكر لها من الأحكام (٥). ومرجعه على

__________________

ـ بينه وبين مقلّديه. والثاني كأحكام الدماء الثلاثة.

(١) وفي بعض النسخ : «على تقرير الحكومة». والأولى ما أثبتناه.

والحاصل : أنّ البالغ لا ينتهي إلى ما استقلّ به العقل من اتّباع الظنّ إلّا بعد تحقّق ثلاثة امور :

الأوّل : حصول الظنّ بالحكم.

الثاني : تماميّة مقدّمات انسداد باب العلم.

الثالث : كون تماميّتها على نحو الحكومة ـ أي على نحو يحكم العقل باعتبار الظنّ ـ ، لا على نحو الكشف بأن يكشف عن حكم الشارع باعتباره ، فإنّ على الكشف يحصل القطع بالحكم الظاهريّ.

(٢) أي : عمّمناه للحكم الظاهريّ.

(٣) أي : خصّصنا الحكم بالفعليّ.

(٤) فرائد الاصول ١ : ٢٥.

(٥) والحاصل : أنّ الشيخ الأنصاريّ قسّم حالات المكلّف الملتفت إلى الحكم الشرعيّ إلى ثلاثة أقسام : إمّا أن يحصل له القطع بالحكم ، أو يحصل له الظنّ ، أو يحصل له الشكّ.

وعدل المصنّف رحمه‌الله عن هذا التقسيم إلى أحد التقسيمين التاليين :

الأوّل : التقسيم الثنائيّ ، بأن يقال : إنّ البالغ الملتفت إلى الحكم الشرعيّ إمّا أن يحصل له القطع بالحكم أو لا يحصل.

والوجه في العدول إليه أنّ أحكام القطع لا تختصّ بما إذا كان متعلّقا بالحكم الواقعيّ ، بل يشمل ما إذا كان متعلّقا بالحكم الظاهريّ أيضا. وعليه يكون الحكم الظاهريّ الثابت ـ

٢٣١

الأخير (١) إلى القواعد المقرّرة عقلا أو نقلا لغير القاطع ومن يقوم عنده الطريق (٢) ، على تفصيل يأتي في محلّه ـ إن شاء الله تعالى ـ حسبما يقتضي دليلها.

__________________

ـ بالأمارات والاصول الشرعيّة مندرجا في الحكم المقطوع به ، فتدخل مسائل الظنّ والشكّ ـ إلّا الاصول الثلاثة العقليّة ـ في مسائل القطع.

الثاني : التقسيم الثلاثيّ ، بأن يقال : إنّ المكلّف إمّا أن يحصل له القطع ، أو لا يحصل له القطع ولكن يقوم عنده طريق معتبر ، أو لا يحصل له القطع ولا يقوم عنده طريق معتبر. فلا بدّ من تبديل الظنّ ب «الطريق المعتبر» والشكّ ب «عدم الطريق المعتبر».

والوجه في العدول إليه أن لا تتداخل الأقسام فيما يذكر لها من الأحكام ، فإنّ الظنّ غير المعتبر ـ كالظنّ الحاصل من الشهرة الفتوائيّة ـ محكوم بحكم الشكّ ، وقد جعل في تقسيم الشيخ قسيما له. والأمارة المعتبرة ـ بما تفيد الظنّ النوعيّ الّذي يجتمع احيانا مع الشكّ ولا يعتبر في حجّيّتها الظنّ الشخصيّ ، كأمارة اليد على الملكيّة ـ تكون قسيم الشكّ ، وقد جعلت في تقسيم الشيخ داخلة في الشكّ.

ثمّ إنّ أكثر المتأخّرين خالفوه في المقام. فحاول بعضهم تصحيح ما أفاده الشيخ من تثليث الأقسام ، منهم : المحقّق النائينيّ والمحقّق العراقيّ والسيّد الخوئيّ. راجع فوائد الاصول ٣ : ٤ ، نهاية الأفكار ٣ : ٤ ـ ٥ ، مصباح الاصول ٢ : ١١.

وذهب بعض آخر إلى تثليث الأقسام بوجه آخر ، منهم : المحقّقان الأصفهانيّ والحائريّ ، والسيّد الإمام الخمينيّ. راجع نهاية الدراية ٢ : ٣٠ ، درر الفوائد ٢ : ٢ ، أنوار الهداية ١ : ٣٤ ـ ٣٥.

ولا يخفى : أنّه لا يترتّب على كيفيّة التقسيم أيّ أثر عمليّ في مقام الاستنباط ، فلا نطيل المقام بذكر ما أفاده الأعلام من النقض والإبرام في المقام ، فإنّه تطويل بلا طائل.

(١) أي : مرجع المكلّف عند عدم القطع وعدم قيام طريق معتبر.

(٢) وهو الظانّ.

٢٣٢

[أحكام القطع وأقسامه]

وكيف كان فبيان أحكام القطع وأقسامه يستدعي رسم امور :

الأمر الأوّل

[لزوم العمل بالقطع عقلا]

لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلا ولزوم الحركة على طبقه جزما ، وكونه موجبا لتنجّز التكليف الفعليّ (١) فيما أصاب باستحقاق الذمّ والعقاب على مخالفته ، وعذرا فيما أخطأ قصورا. وتأثيره في ذلك (٢) لازم ، وصريح الوجدان به شاهد وحاكم ؛ فلا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان.

ولا يخفى : أنّ ذلك لا يكون بجعل جاعل ، لعدم جعل تأليفيّ حقيقة بين الشيء ولوازمه ، بل عرضا بتبع جعله بسيطا.

__________________

(١) لا يخفى : أنّ في قوله : «وكونه موجبا لتنجّز التكليف الفعليّ» وجهين :

الأوّل : أن يكون معطوفا على قوله : «لا شبهة في وجوب العمل». ويكون المراد أنّ للقطع أثرين : (أحدهما) وجوب متابعته. (ثانيهما) منجّزيّته ـ بمعنى استحقاق العقاب على مخالفته ـ ومعذّريّته فيما أخطأ.

الثاني : أن يكون تعبيرا آخر عن قوله : «وجوب العمل» على نحو العطف التفسيريّ ، فيكون المراد من المنجّزيّة نفس وجوب متابعته. وهذا ما يظهر من كلام المحقّق الاصفهانيّ في نهاية الدراية ٢ : ٣١ ، وكلام المحقّق الخوئيّ في مصباح الاصول ٢ : ١٥.

(٢) أي : في وجوب متابعة القطع وتنجّز التكليف واستحقاق العقوبة على مخالفته.

٢٣٣

وبذلك (١) انقدح امتناع المنع عن تأثيره أيضا ؛ مع أنّه يلزم منه اجتماع الضدّين اعتقادا مطلقا ، وحقيقة في صورة الإصابة ، كما لا يخفى (٢).

__________________

(١) أي : بما ذكرنا من أنّ وجوب متابعة القطع ومنجّزيّته من اللوازم العقليّة.

(٢) لا يخفى عليك : أنّ البحث في المقام يقع في جهات ثلاث :

الأولى : في أنّ طريقيّة القطع للكشف عن المقطوع به ذاتيّة أو جعليّة؟

الثانية : في أنّ وجوب متابعته ـ بمعنى استحقاق العقاب على مخالفته ـ هل هو ثابت شرعا أو ثابت ببناء العقلاء ويكون أمرا جعليّا عقلائيّا أو هو من اللوازم العقليّة للقطع؟

الثالثة : في أنّه هل يمكن للشارع المنع عن العمل به أو لا؟

أمّا الجهة الأولى : فلا شكّ في أنّ طريقيّة القطع ذاتيّة ، لا تنالها يد الجعل ، ضرورة أنّ حقيقة القطع هي نفس الانكشاف ، فلا يعقل الجعل فيه بجميع أنحائه ، فإنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروريّ.

وأمّا الجهة الثانية : فاستظهر السيّد البروجرديّ من كلام الشيخ الأنصاريّ أنّ وجوب متابعة القطع وجوب شرعيّ. فرائد الاصول ٢ : ٣٠ ، لمحات في الاصول : ٤٢٢.

وذهب المصنّف رحمه‌الله إلى أنّ وجوب متابعته من لوازمه العقليّة ، حيث قال : «وتأثيره في ذلك لازم ، والوجدان به شاهد وحاكم».

وذهب المحقّق الاصفهانيّ إلى أنّ وجوب متابعته ـ بمعنى إذعان العقل باستحقاق العقاب على مخالفة ما تعلّق به القطع ـ ثابت ببناء العقلاء حفظا للنظام وإبقاء للنوع من باب أنّ مخالفة الأمر خروج عن زيّ الرقّيّة والعبوديّة وتكون هتكا للمولى وظلما به. فيكون وجوب متابعة القطع ـ بمعنى تنجّز التكليف واستحقاق العقاب ـ من القضايا المشهورة الّتي تطابقت عليها آراء العقلاء ، فيكون أمرا جعليّا عقلائيّا. نهاية الدراية ٢ : ٣١ و ٣٤ ـ ٣٥ و ٤١ ـ ٤٢.

وأمّا الجهة الثالثة : فذهب المصنّف رحمه‌الله إلى أنّه يمتنع المنع عن تأثيره ، وذلك لوجهين :

الأوّل : أنّه إذا فرض أنّ وجوب متابعة القطع من لوازمه العقليّة ، فيمتنع رفعه ، لامتناع التفكيك بين الشيء ولوازمه.

الثاني : أنّه لا معنى للمنع عن تأثير القطع إلّا نفي وجوب متابعته ، وهو مساوق للجواز. فإذا تعلّق قطع القاطع بحرمة شيء ـ مثلا ـ وردع الشارع عن تأثير قطعه كان مقتضى ردعه جواز ذلك الشيء. ومعلوم أنّ الحرمة والجواز متضادّان. وحينئذ لا يخلو : إمّا أن يكون قطعه مطابقا للواقع فيلزم اجتماع الضدّين باعتقاد القاطع وحقيقة. وإمّا أن لا يكون قطعه مطابقا للواقع فيلزم اجتماع الضدّين باعتقاد القاطع.

ومن هنا يظهر : أنّ مراد المصنّف رحمه‌الله من قوله : «اعتقادا مطلقا» أنّه يلزم منه اجتماع الضدّين ، سواء كان قطعه مطابقا للواقع أو لم يكن مطابقا له.

٢٣٤

ثمّ لا يذهب عليك : أنّ التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصر فعليّا ، وما لم يصر فعليّا لم يكد يبلغ مرتبة التنجّز واستحقاق العقوبة على المخالفة ، وإن كان ربما توجب موافقته استحقاق المثوبة. وذلك لأنّ الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي ، ولا مخالفته عن عمد بعصيان ، بل كان ممّا سكت الله عنه ، كما في الخبر (١) ، فلاحظ وتدبّر.

نعم ، في كونه بهذه المرتبة (٢) موردا للوظائف المقرّرة شرعا للجاهل إشكال لزوم اجتماع الضدّين أو المثلين ، على ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى مع ما هو التحقيق في دفعه ، في التوفيق بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ (٣) ، فانتظر.

الأمر الثاني

[التجرّي والانقياد] (٤)

قد عرفت أنّه لا شبهة في أنّ القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة والمثوبة على الموافقة في صورة الإصابة. فهل يوجب استحقاقها (٥) في صورة

__________________

(١) روي عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّ الله حدّ حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تنقصوها ، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تكلّفوها ، رحمة من الله لكم فاقبلوها». الوسائل ١٨ : ١٢٩ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦١.

(٢) أي : في كون الحكم بالمرتبة الفعليّة ...

(٣) يأتي في الصفحة : ٢٨٥ ـ ٢٨٧ من هذا الجزء.

(٤) التجرّي من الجرأة بمعنى الإقدام على الشيء ، أو من الجري بمعنى القصد إلى الشيء.

والانقياد مطاوع قاد ، ومعناه : الخضوع. لسان العرب ١ : ٤٤ و ٢ : ٢٣٨.

والمراد من التجرّي في المقام هو المخالفة الاعتقاديّة ، كما أنّ المراد من الانقياد هو الموافقة الاعتقاديّة. وبتعبير أوضح : أنّ المراد من التجرّي في المقام هو مخالفة المكلّف لما اعتقد به من الحكم الإلزاميّ ولم يكن مصادفا للواقع ، كما إذا شرب المائع الّذي قطع بخمريّته فخالف أمر مولاه ثمّ تبيّن أنّ ذلك المائع ماء. والمراد من الانقياد هو موافقته لما اعتقد به من الحكم ولم يكن مصادفا للواقع.

(٥) أي : استحقاق العقوبة.

٢٣٥

عدم الإصابة على التجرّي بمخالفته ، واستحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته ، أو لا يوجب شيئا؟ (١)

[المختار من حكم التجرّي]

الحقّ أنّه يوجبه (٢) ، لشهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته وذمّه على تجرّيه وهتك

__________________

(١) لا يخفى : أنّه لا بدّ في تحرير محلّ النزاع من بيان امور :

الأمر الأوّل : أنّ موضوع البحث لا يختصّ بصورة القطع ، بل يعمّ جميع الأمارات المعتبرة والاصول العمليّة ، بل بعض صور احتمال التكليف كما في مورد العلم الإجماليّ بالتكليف والشبهة البدويّة قبل الفحص. والجامع بين الجميع هو مخالفة ما يمكن للمولى أن يحتجّ به على عبده.

فذكر القطع ليس لاختصاص البحث به ، بل إنّما هو لكونه أظهر ما يحتجّ به المولى على عبده.

الأمر الثاني : أنّه ليس محلّ الكلام ما إذا كان موضوع الحكم نفس القطع أو الظنّ أو الاحتمال ، ضرورة أنّه إذا أخذ القطع أو الظنّ أو الاحتمال في موضوع الحكم يكون الحكم ثابتا واقعا ، ولا مجال للتجرّي هنا. فيختصّ البحث بالقطع الطريقيّ والظنّ والاحتمال غير المأخوذين في موضوع الحكم.

الأمر الثالث : أنّ مسألة التجرّي هل هي من المسائل الاصوليّة أو من المسائل الفقهيّة أو من المسائل الكلاميّة؟

والتحقيق : أنّ مسألة التجرّي والانقياد ذو جهات متعدّدة. فتارة يبحث عن حرمة الفعل المتجرّى به وعدمها ، وعليه تكون من المسائل الفقهيّة ؛ واخرى يبحث عن أنّه هل يكون مقتضى الإطلاقات المتكفّلة لثبوت الأحكام للعناوين الواقعيّة شمول الحكم لمقطوع العنوان ولو لم يكن مصادفا للواقع أو لا يكون مقتضاها ذلك؟ وعليه تكون من المسائل الاصوليّة ، فإنّها تكون نظير البحث عن أنّ مقتضى إطلاق الجملة الشرطيّة ثبوت المفهوم أو عدمه ؛ وثالثة يبحث عن استحقاق المتجرّي للعقاب والمنقد للثواب ، وعليه تكون من المسائل الكلاميّة.

وظاهر كلام المصنّف رحمه‌الله في المقام هو الأخير.

والحاصل : أنّ المبحوث عنه في المقام أنّ فعل الشيء ـ معتقدا بأنّه حرام ـ وتركه ـ معتقدا بأنّه واجب ـ هل يوجب استحقاق العقوبة ولو تبيّن عدم حرمة ما اعتقد بحرمته وعدم وجوب ما اعتقد بوجوبه ، أو لا يوجب ذلك؟ وكذا فعل الشيء ـ معتقدا بأنّه مطلوب المولى ـ وتركه ـ معتقدا بأنّه مبغوضه ـ هل يوجب استحقاق المثوبة ولو كشف عدم مطلوبيّته أو عدم مبغوضيّته ، أو لا يوجب؟

(٢) لا يخفى : أنّ الأقوال في مسألة التجرّي كثيرة ، ولا بأس بالإشارة إلى بعضها : ـ

٢٣٦

حرمته لمولاه (١) ، وخروجه عن رسوم عبوديّته ، وكونه بصدد الطغيان ، وعزمه على العصيان ، وصحّة مثوبته ومدحه على إقامته بما هو (٢) قضيّة عبوديّته من العزم على موافقته ، والبناء على إطاعته ، وإن

__________________

ـ الأوّل : أنّ التجرّي لا يقتضي سوى الكشف عن سوء سريرة الفاعل وخبث باطنه الّذي لا يترتّب عليه إلّا الذمّ كما في سائر الصفات المذمومة. وأمّا العمل المتجرّى به فيبقي على ما هو عليه من الحكم أو الصفة قبل تعلّق القطع به. وهذا ما ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاريّ في فرائد الاصول ١ : ٣٩ ـ ٤٠.

الثانى : أنّ التجرّي يقتضي القبح الفاعليّ ـ أي يقتضي كون الفعل من حيث صدوره من هذا الفاعل قبيحا ـ دون الفعليّ ، بل الفعل يبقى من حيث ذاته على ما هو عليه من المحبوبيّة أو المبغوضيّة. وهذا ما اختاره المصنّف رحمه‌الله في المقام.

الثالث : أنّ التجرّي يوجب كون الفعل المتجرّي به قبيحا ومعاقبا عليه من جهة انطباق عنوان الطغيان عليه ، مع بقاء ذات العمل على ما هو عليه في الواقع. فيقتضي التجرّي قبح الفعل فعلا. وهذا ما ارتضاه المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ٣ : ٣٠.

وفي المقام أقوال أخر لا يهمّ التعرّض لها.

ثمرة النزاع :

وتظهر الثمرة فيما لو قامت أمارة معتبرة على حرمة شيء ـ كما لو قامت الأمارة على حرمة صوم في يوم كذا ـ وأراد المتجرّي الإتيان بهذا العمل برجاء مطلوبيّته واقعا.

فبناء على ما ذهب إليه الشيخ الأنصاريّ لا قبح في العمل المتجرّى به ، وإنّما الذمّ على الصفة الكامنة في النفس ، فلا مانع من الإتيان بهذا العمل برجاء مطلوبيّته ، لأنّه صالح للمقرّبيّة في نفسه ، وخبث السريرة لا ينافي التقرّب به ، فيصحّ العمل.

وأمّا بناء على ما ذهب إليه المصنّف رحمه‌الله فنفس الفعل وإن كان صالحا للمقرّبيّة في نفسه ، لعدم كونه قبيحا ، إلّا أنّه يعتبر في المقرّبيّة ـ مضافا إلى صلاحيّة الفعل للمقرّبيّة في نفسه ـ عدم اشتمال الفعل على القبح الفاعليّ. وعليه لا يصلح هذا الفعل للمقرّبيّة ، لقبح جهة صدوره ، فلا يصحّ هذا الفعل.

وأمّا بناء على ما ذهب إليه المحقّق العراقيّ فلا يمكن الإتيان بهذا العمل برجاء مطلوبيّته في الواقع ، لأنّه قبيح فعلا ، فلا يصلح للمقرّبيّة.

(١) هكذا في بعض النسخ. وفي بعض آخر هكذا : «وهتك حرمته». والصحيح أن يقول : «وهتكه لحرمة مولاه».

(٢) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «على قيامه بما هو ...».

٢٣٧

قلنا (١) بأنّه لا يستحقّ مؤاخذة أو مثوبة ـ ما لم يعزم على المخالفة أو الموافقة ـ بمجرّد سوء سريرته أو حسنها وإن كان مستحقّا للذمّ (٢) أو المدح بما يستتبعانه ، كسائر الصفات والأخلاق الذميمة أو الحسنة.

وبالجملة : ما دامت فيه صفة كامنة لا يستحقّ بها إلّا مدحا أو لوما ، وإنّما يستحقّ الجزاء بالمثوبة أو العقوبة ـ مضافا إلى أحدهما (٣) ـ إذا صار بصدد الجري على طبقها ، والعمل على وفقها ، وجزم وعزم. وذلك لعدم صحّة مؤاخذته بمجرّد سوء سريرته من دون ذلك (٤) وحسنها معه (٥) ، كما يشهد به مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال في مثل باب الإطاعة والعصيان ، وما يستتبعان من استحقاق النيران أو الجنان.

[عدم تغيّر الواقع في القطع بخلافه]

ولكن ذلك (٦) مع بقاء الفعل المتجرّى به أو المنقاد به (٧) على ما هو عليه من الحسن أو القبح ، والوجوب أو الحرمة واقعا ، بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلّق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصفة ، ولا تغيّر جهة حسنه أو قبحه بجهته أصلا (٨) ، ضرورة أنّ القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات الّتي

__________________

(١) تعريض بالشيخ الأنصاريّ رحمه‌الله.

(٢) وفي بعض النسخ : «للّوم». وما أثبتناه موافق لبعض آخر منها.

(٣) أي : الذمّ والمدح.

(٤) أي : من دون العزم.

(٥) أي : وحسن مؤاخذته مع العزم.

(٦) أي : صحّة المؤاخذة واستحقاق العقاب مع العزم.

(٧) وفي بعض النسخ : «المتجرّى أو المنقاد به».

(٨) أي : وبلا تغيّر جهة حسن الفعل المتجرّى به أو قبحه بجهة تعلّق القطع بغير ما عليه الفعل المتجرّى به من الحكم والصفة.

والأولى : أن يقول : «ولا تغيّر في حسنه أو قبحه بجهته أصلا». أي : وبلا حدوث تغيّر في حسنه أو قبحه بسبب تعلّق القطع بغير ما عليه الفعل.

والحاصل : أنّ القطع لا يكون مغيّرا لحسن الفعل أو قبحه ولا لوجوبه أو حرمته.

٢٣٨

بها يكون الحسن والقبح عقلا ، ولا ملاكا للمحبوبيّة والمبغوضيّة شرعا (١) ، ضرورة عدم تغيّر الفعل عمّا هو عليه من المبغوضيّة والمحبوبيّة للمولى بسبب قطع العبد بكونه محبوبا أو مبغوضا له. فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضا له ولو اعتقد العبد بأنّه عدوّه ، وكذا قتل عدوّه مع القطع بأنّه ابنه لا يخرج عن كونه محبوبا أبدا. هذا.

مع أنّ الفعل المتجرّى به أو المنقاد به ـ بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب ـ لا يكون اختياريّا ، فإنّ القاطع لا يقصده إلّا بما قطع أنّه عليه من عنوانه الواقعيّ الاستقلاليّ ، لا بعنوانه الطارئ الآليّ ، بل لا يكون غالبا بهذا العنوان ممّا يلتفت إليه ، فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلا ، ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعا؟ ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلّا إذا كانت اختياريّة (٢).

__________________

(١) أي : ولا يكون القطع بهما ملاكا للمحبوبيّة أو المبغوضيّة شرعا.

(٢) وحاصل ما أفاده : أنّ للمصنّف رحمه‌الله دعويان :

الأولى : أنّ التجرّي يوجب استحقاق المتجرّي للعقاب ، والانقياد يوجب استحقاقه للثواب. وذلك لأنّ العزم على ما يراه المكلّف مخالفة للمولى جرأة على المولى وهتك لحرمته ، فهو يكشف عن خبث الفاعل ، فيتّصف المتجرّي بالقبح الفاعليّ.

الثاني : أنّ الفعل المتجرّى به باق على ما هو عليه من الحسن أو القبح ، والمبغوضيّة أو المحبوبيّة ، والوجوب أو الحرمة واقعا ، ولا يتغيّر الواقع عمّا هو عليه بسبب تعلّق القطع به ، بل يبقى على ما هو عليه ـ من الوصف أو الحكم ـ لو لا القطع.

أمّا الدعوى الأولى : فالشاهد عليه هو الوجدان.

وأمّا الدعوى الثانية : فيدلّ عليه وجهان :

الأوّل : أنّ القطع ليس من العناوين الموجبة للحسن والقبح عقلا ، ولا ملاكا للمحبوبيّة والمبغوضيّة شرعا ، ضرورة أنّه لا يتغيّر شرب الماء عما هو عليه من الإباحة بواسطة القطع ، كما لا يتغيّر شرب الخمر عما هو عليه من الحرمة بواسطة القطع بكونه ماء ؛ ولا يتغيّر أيضا قتل ابن المولى عما هو عليه من المبغوضيّة بسبب قطع العبد بكونه عدوّه ، كما لا يتغيّر قتل عدوّه عما هو عليه من المحبوبيّة بسبب القطع بأنّه ابنه. فالوجدان حاكم ببقاء الفعل المتجرّى به على ما هو عليه لو لا القطع.

الثاني : أنّ العناوين المحسّنة أو المقبّحة لا بدّ من أن تكون اختياريّة ، وعنوان القطع ـ

٢٣٩

إن قلت : إذا لم يكن الفعل كذلك (١) فلا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة القطع ، وهل كان العقاب عليها إلّا عقابا على ما ليس بالاختيار؟!

قلت : العقاب إنّما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان ، لا على الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختيار.

إن قلت : إنّ القصد والعزم إنّما يكون من مبادئ الاختيار ، وهي ليست باختياريّة ، وإلّا لتسلسل.

قلت : ـ مضافا إلى أنّ الاختيار وإن لم يكن بالاختيار ، إلّا أنّ بعض مباديه غالبا يكون وجوده بالاختيار ، للتمكّن من عدمه بالتأمّل فيما يترتّب على ما عزم

__________________

ـ لا يكون كذلك ، لأنّ القاطع إنّما يقصد الفعل بعنوانه الواقعيّ ، لا بعنوان كونه مقطوعا به ، فإذا قطع بخمريّة مائع وشربه فقد قصد شرب الخمر ولم يقصد شرب مقطوع الخمريّة أو مقطوع الحرمة ، فإنّ الفعل بهذا العنوان لا يكون ملتفتا إليه ، ومع عدم الالتفات إليه يستحيل القصد إليه ، ومع امتناع القصد لا يتّصف هذا العنوان بالقبح مثلا.

وأورد المحقّق النائينيّ على الوجه الثاني بما حاصله : أنّ المراد بالالتفات هو حضور الشيء في النفس ، وحضور الشيء في النفس إنّما هو بالقطع الّذي صفة حاضرة بنفسها في النفس ، فلا يعقل أن يكون الإنسان عالما بشيء مع كونه غير ملتفت إلى علمه. ولا ريب أنّ صدور الفعل بهذا العنوان اختياريّ وملتفت إليه ولو بالالتفات الإجماليّ الارتكازيّ. أجود التقريرات ٢ : ٢٧.

وأورد عليه السيّد الإمام الخمينيّ أيضا ـ بعد ما عدّ إيراد المحقّق النائينيّ كلاما خطابيّا لا ينبغي أن يصغى إليه ـ ما حاصله : أنّ العناوين المغفول عنها على قسمين :

أحدهما : ما لا يمكن الالتفات إليه ولو بالنظرة الثانية ، كعنوان النسيان والتجرّي. فحينئذ لا يمكن اختصاص الخطاب به بأن يقال : «أيّها الناسي لكذا افعل كذا» أو «أيّها المتجرّي في كذا افعل كذا» ، فإنّه بنفس هذا الخطاب يخرج عن العنوان.

ثانيهما : ما يمكن الالتفات إليه كذلك ، كعنوان القصد والعلم. وحينئذ يمكن اختصاص الخطاب به ، فإنّ العالم بالخمر بعد ما التفت إلى أنّ معلومه بما أنّه معلوم حكمه يتوجّه بالنظرة الثانية إلى علمه توجّها استقلاليّا. وأدلّ دليل على ذلك وقوع العلم والقصد في الشرعيّات متعلّقا للأحكام ، مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر». أنوار الهداية ١ : ٤٩.

(١) أي : إذا لم يكن الفعل بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب اختياريّا.

٢٤٠