كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
ISBN: 978-964-470-562-5
الصفحات: ٤١٩

فصل

[تعريف المطلق وبيان ما يطلق عليه]

[تعريف المطلق]

عرّف المطلق بأنّه ما دلّ على شائع في جنسه (١).

وقد أشكل عليه بعض الأعلام (٢) بعدم الاطّراد أو الانعكاس (٣) ، وأطال

__________________

(١) هذا التعريف نسبه المحقّق القميّ إلى أكثر الاصوليّين ، وقال في تفسيره : «أي : على حصّة مهملة محتملة الصدق على حصص كثيرة مندرجة تحت جنس تلك الحصّة ، وهو المفهوم الكلّي الّذي يصدق على هذه الحصّة وعلى غيرها من الحصص». قوانين الاصول ١ : ٣٢١.

(٢) وهو صاحب الفصول ، راجع الفصول الغرويّة : ٢١٨.

(٣) أمّا عدم الإطراد : فلشموله لألفاظ العموم البدليّ ، كمن وما وأيّ الاستفهاميّة ، فإنّها تدلّ على معنى شائع في أفراد جنسها مع أنّها ليست من مصاديق المطلق.

وأمّا عدم الانعكاس : فلعدم شموله للألفاظ الدالّة على نفس الماهيّة ، كأسماء الأجناس ، مع أنّهم عدّوها من المطلق.

ثمّ إنّ صاحب الفصول ذكر للمطلق تعريفا آخر ، وهو قوله : «المطلق ما دلّ على معنى شائع في جنسه شيوعا حكميّا». وقال في توضيحه : «المراد بالموصولة اللفظ الموضوع ، فخرجت المهملات. والمراد بالمعنى كلّ ما صحّ أن يقصد باللفظ ، فدخل المعنى الحقيقيّ والمجازيّ حتّى المقيّد الّذي استعمل فيه لفظ المطلق من حيث الخصوصيّة إذا اعتبر من حيث شيوعه. والمراد بقولنا : (شايع في جنسه) أن يكون المعنى حصّة مهملة محتملة لحصص الجنس ـ أي فردا منتشرا بين أفراد الجنس ـ ، فخرج العلم الشخصيّ وألفاظ العموم الشموليّ والمعرّف بلام العهد الخارجيّ والنكرة المستعملة في حصّة معيّنة والمطلق المقيّد وما دلّ ـ

٢٠١

الكلام في النقض والإبرام. وقد نبّهنا في غير مقام على أنّ مثله شرح الاسم ، وهو ممّا يجوز أن لا يكون بمطّرد ولا بمنعكس. فالأولى الإعراض عن ذلك ببيان ما وضع له بعض الألفاظ الّتي يطلق عليها المطلق أو من غيرها ممّا يناسب المقام (١).

[ما يطلق عليه المطلق]

فمنها : اسم الجنس ، كإنسان ورجل وفرس وحيوان وسواد وبياض ... إلى غير ذلك من أسماء الكلّيّات من الجواهر والأعراض بل العرضيّات (٢).

__________________

ـ على الماهيّة من حيث هي. ويخرج بقولنا : (شيوعا حكميّا) ألفاظ العموم البدليّ ، لأنّ دلالتها على معنى شائع وضعيّ لا حكميّ». انتهى كلامه ملخّصا. الفصول الغرويّة : ٢١٧ ـ ٢١٨.

ولكن ناقش السيّد الإمام الخمينيّ في كلا التعريفين بوجوه :

الأوّل : أنّ ظاهرهما أنّ الإطلاق والتقييد من صفات اللفظ ، مع أنّ الظاهر أنّهما من صفات المعنى ، ضرورة أنّ نفس الطبيعة الّتي جعلت موضوع الحكم قد تكون مطلقة وقد تكون مقيّدة.

الثاني : أنّ الشيوع في جنسه ـ الّذي جعل صفة المعنى ـ إن كان المراد منه أنّه جزء مدلول اللفظ بحيث يكون الإطلاق دالّا على الشيوع ، فهو فاسد ، لأنّ المطلق هو ما لا قيد فيه بالإضافة إلى كلّ قيد لوحظ فيه من غير دلالة على الخصوصيّات الفرديّة أو الحالات الشخصيّة. وإن كان المراد أنّه صفة المعنى وأنّ اللفظ لا يدلّ إلّا على المعنى ، وهو شائع في جنسه ، فيكون الشيوع في الجنس سريان المعنى في أفراده الذاتيّة ، فحينئذ يخرج من التعريفين إطلاق أفراد العموم ، مثل قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) المائدة / ١ ، وكذا إطلاق الأعلام الشخصيّة ، مثل قوله تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) الحجّ / ٢٩ ، وكذا إطلاق المعاني الحرفيّة.

الثالث : أنّ التعريف المذكور ـ بكلا التعبيرين ـ غير منعكس ، لدخول بعض المقيّدات فيه ، كالرقبة المؤمنة ، فإنّه شائع في جنسه. راجع مناهج الوصول ٢ : ٣١٣ ـ ٣١٤.

(١) كعلم الجنس والمعرّف باللام ، فإنّ المطلق لا يصدق عليهما ، ولكنّهما يناسبانه.

(٢) والفرق بين العرض والعرضيّ في اصطلاح المصنّف رحمه‌الله أنّ العرض يطلق على الأعراض المتأصّلة الّتي كان بحذائها شيء في الخارج ، كالسواد والبياض. والعرضيّ يطلق على الامور الانتزاعيّة الّتي لا موطن لها إلّا وعاء الاعتبار ، كالزوجيّة والملكيّة والحرّيّة وغيرها.

وأنت خبير بأنّ هذا الاصطلاح خلاف اصطلاح أهل المعقول ، فإنّهم يصطلحون بالعرضيّ ـ

٢٠٢

ولا ريب أنّها موضوعة لمفاهيمها بما هي هي مبهمة مهملة (١) ، بلا شرط أصلا ملحوظ معها (٢). حتّى لحاظ أنّها كذلك (٣).

وبالجملة : الموضوع له اسم الجنس هو نفس المعنى وصرف المفهوم غير الملحوظ معه شيء أصلا ـ الّذي هو المعنى بشرط شيء ـ ، ولو كان ذاك الشيء هو الإرسال والعموم البدليّ ، ولا الملحوظ معه عدم لحاظ شيء معه ـ الّذي هو الماهيّة اللابشرط القسميّ ـ (٤). وذلك لوضوح صدقها ـ بما لها من المعنى ـ (٥) بلا عناية التجريد عما هو قضيّة الاشتراط والتقييد فيها ، كما لا يخفى ، مع بداهة عدم صدق المفهوم بشرط العموم على فرد من الأفراد وإن كان يعمّ كلّ واحد منها بدلا أو استيعابا. وكذا المفهوم اللابشرط القسميّ (٦) ، فإنّه كلّيّ عقليّ لا موطن له إلّا الذهن ،

__________________

ـ على المشتقّ وبالعرض على مبدئه الأعمّ من كونه انتزاعيّا أو غيره. كما قال الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة (قسم المنطق) : ٢٩ ـ ٣٠ :

وعرضي الشيء غير العرض

ذا كالبياض وذاك مثل الأبيض

(١) لا يخفى : أنّ في قوله : «مبهمة مهملة» وجوه :

١ ـ أن يقرأ بالنصب ، فيكون حالا عن قوله : «لمفاهيمها» أي : حال كون المفاهيم مبهمة مهملة.

٢ ـ أن يقرأ بالجرّ ، فيكون صفة لقوله : «لمفاهيمها» أي : أنّها موضوعة لمفاهيمها المبهمة المهملة.

٣ ـ أن يقرأ بالرفع على ما في بعض النسخ : «بما هي مبهمة مهملة».

(٢) وفي بعض النسخ : «ملحوظا معها». فعلى ما أثبتناه يكون قوله : «ملحوظ» نعتا لقوله : «شرط» أي : بلا شرط ملحوظ مع المفاهيم.

وعلى ما في بعض النسخ يكون حالا عن «شرط» أي : حال كون الشرط ملحوظا مع المفاهيم.

(٣) أي : حتّى لحاظ أنّها مبهمة مهملة. فالموضوع له اسم الجنس عند المصنّف رحمه‌الله هو الماهيّة المطلقة الجامعة بين الماهيّة السارية والماهيّة البدليّة وبين صرف الوجود. ويعبّر عنها ب «الماهيّة اللابشرط المقسميّ».

(٤) فالفرق بين اللابشرط المقسميّ ـ الّذي ذهب المصنّف رحمه‌الله إلى أنّه الموضوع له اسم الجنس ـ واللابشرط القسميّ أنّ الأوّل ماهيّة مبهمة لم يلحظ فيها إلّا نفسها ، فلم يلحظ معها شيء حتّى عدم لحاظ شيء معها. بخلاف الثانيّ ، فإنّه ماهيّة يلحظ معها عدم لحاظ شيء معها.

(٥) أي : صدق أسماء الكلّيات ـ بمالها من المعنى ـ على أفرادها.

(٦) أي : ولا يصدق المفهوم اللابشرط القسميّ على فرد من الأفراد.

٢٠٣

لا يكاد يمكن صدقه وانطباقه عليها (١) ، بداهة أنّ مناطه (٢) الاتّحاد بحسب الوجود خارجا ، فكيف يمكن أن يتّحد معها ما لا وجود له إلّا ذهنا (٣).

__________________

(١) أي : على الأفراد.

(٢) أي : مناط الصدق.

(٣) لا يخفى : أنّ الأعلام قد أطنبوا الكلام في المقام وتعرّضوا إلى تقسيمات الماهيّة بحسب اعتباراتها ، وتحقيق الماهيّة اللابشرط وأقسامها ، والفرق بين المقسميّ والقسميّ ، وأنّ الماهيّة المهملة هل هي نفس اللابشرط المقسميّ أولا؟

ولكن التحقيق أنّنا لا نحتاج في المقام إلى التعرّض لها. بل المهمّ أن نبحث في المقام عن الموضوع له اسم الجنس وأنّه هل هو الطبيعة المهملة أو أنّه الطبيعة المرسلة بنحو بشرط شيء أو اللابشرط القسميّ؟

ذهب المصنّف رحمه‌الله إلى أنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة المهملة ، وهي ذات المعنى وصرف المفهوم من دون لحاظ شيء معه حتّى لحاظ عدم لحاظ شيء معه.

والظاهر من كلامه أنّ الماهيّة المهملة نفس الماهيّة لا بشرط المقسمي. وذهب إليه المحقّق النائينيّ أيضا في فوائد الاصول ٢ : ٥٧٢.

واستدلّ المصنّف رحمه‌الله على عدم وضع أسماء الأجناس للماهيّة المرسلة ، لا بنحو بشرط شيء ولا بنحو اللابشرط القسميّ :

أمّا بنحو بشرط شيء : فاستدلّ عليه بقوله : «وذلك لوضوح صدقها ...». وحاصله : أنّه لو كانت أسماء الأجناس موضوعة للمفاهيم المشروطة بالإرسال والشياع لا تصدق على أفرادها إلّا بعد تجريدها عن قيد الإرسال والشياع ، بداهة أنّه لا يصدق الرجل الشائع على فرد من أفراده ، لعدم كون كلّ فرد شائعا ، بل يصدق على الرجل فقط. مع أنّ صدقها على أفرادها من دون عناية التجريد معلوم ، فصدق هذه المفاهيم على أفرادها من دون التصرّف فيها بالتجريد كاشف عن وضعها للمفاهيم المبهمة بما هي هي.

وأمّا بنحو اللابشرط القسميّ : فاستدلّ عليه بقوله : «وكذا المفهوم اللابشرط القسميّ». وحاصله : أنّ المفهوم مقيّدا بقيد عدم لحاظ شيء معه غير قابل للصدق على أفراده ، لأنّ القيد المذكور لا يطرأ الشيء إلّا في الذهن ، كالكلّيّة الّتي لا تعرض الإنسان إلّا في الذهن ، فالمفهوم اللابشرط القسميّ لا موطن له إلّا الذهن ، فلا يكاد يصدق على الأفراد في الخارج. وهذا كاشف عن عدم وضعها للماهيّة المرسلة بنحو اللابشرط القسميّ.

والنتيجة : أنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهيّة المهملة ، لا الماهيّة المرسلة.

ثمرة البحث :

وأمّا ثمرة البحث تظهر في موردين : ـ

٢٠٤

ومنها : علم الجنس ، ك «اسامة» (١). والمشهور بين أهل العربيّة (٢) : أنّه موضوع للطبيعة لا بما هي هي ، بل بما هي متعيّنة بالتعيّن (٣) الذهنيّ ، ولذا يعامل معه معاملة المعرفة بدون أداة التعريف.

لكنّ التحقيق : أنّه موضوع لصرف المعنى بلا لحاظ شيء معه أصلا ـ كاسم الجنس ـ. والتعريف فيه لفظيّ ـ كما هو الحال في التأنيث اللفظيّ ـ ، وإلّا لما صحّ حمله على الأفراد بلا تصرّف وتأويل ، لأنّه على المشهور كلّيّ عقليّ (٤) ، وقد عرفت (٥) أنّه لا يكاد صدقه عليها ، مع صحّة حمله عليها بدون ذلك كما لا يخفى ، ضرورة أنّ التصرّف في المحمول بإرادة نفس المعنى بدون قيده تعسّف لا يكاد يكون بناء القضايا المتعارفة عليه. مع أنّ وضعه لخصوص معنى (٦) يحتاج إلى تجريده عن خصوصيّته عند الاستعمال لا يكاد (٧) يصدر عن جاهل ، فضلا عن الواضع الحكيم.

__________________

ـ الأوّل : أنّه بناء على وضعها للماهيّة المهملة لا يكون التقييد مستلزما للتجوّز ، لأنّ اسم الجنس ـ حينئذ ـ استعمل في معناه الموضوع له ، والخصوصيّة استفيدت من القيد بنحو تعدّد الدالّ والمدلول. وأمّا بناء على وضعها للماهيّة المرسلة يكون التقييد مستلزما للتجوّز ، لأنّ القيد ينافي الإرسال ، ويلزم استعمال اسم الجنس في غير ما وضع له.

الثاني : أنّه إذا ورد اسم جنس في الكلام وشكّ في إرادة الشياع والإرسال منه فبناء على وضعها للطبيعة المرسلة يرجع الشكّ إلى أنّه هل استعمل في معناه الموضوع له أو لم يستعمل فيه؟ وحينئذ كان المحكّم أصالة الحقيقة ، فيستفاد العموم من نفس اللفظ. وأمّا بناء على وضعها للطبيعة المهملة فلا مجال لأصالة الحقيقة ، بل لا بدّ في استفادة العموم من القرينة الخارجيّة كمقدّمات الحكمة.

(١) فإنّها علم لجنس الأسد. وك «ثعالة» ، فإنّها علم للثعلب.

(٢) راجع شرح الكافية ١ : ٤٩٧ و ٣ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

(٣) وفي بعض النسخ : «بالتعيين».

(٤) أي : أنّه على ما هو المنسوب إلى المشهور ـ من أنّ علم الجنس موضوع للطبيعة بما هي متعيّنة بالتعيّن الذهنيّ ـ كلّيّ عقليّ ، لأنّ الطبيعة مقيّدة بالتعيّن الذهنيّ لا موطن لها إلّا الذهن.

(٥) قبل أسطر.

(٦) أي : وضع علم الجنس لمعنى مع خصوصيّة.

(٧) خبر «أنّ».

٢٠٥

ومنها : المفرد المعرّف باللام. والمشهور أنّه على أقسام : المعرّف بلام الجنس (١) ، أو الاستغراق (٢) ، أو العهد بأقسامه (٣) على نحو الاشتراك بينها لفظا أو معنى (٤).

والظاهر أنّ الخصوصيّة في كلّ واحد من الأقسام من قبل خصوص «اللام» أو من قبل قرائن المقام من باب تعدّد الدالّ والمدلول ، لا باستعمال المدخول ، ليلزم فيه المجاز أو الاشتراك ، فكان المدخول على كلّ حال مستعملا فيما يستعمل فيه غير المدخول.

والمعروف أنّ «اللام» تكون موضوعة للتعريف ومفيدة للتعيين في غير العهد الذهنيّ.

وأنت خبير بأنّه لا تعيّن في تعريف الجنس إلّا الإشارة إلى المعنى المتميّز بنفسه من بين المعاني ذهنا. ولازمه أن لا يصحّ حمل المعرّف باللام بما هو معرّف على الأفراد ، لما عرفت من امتناع الاتّحاد مع ما لا موطن له إلّا الذهن ، إلّا

__________________

(١) نحو كلمة «الرجل» في قولنا : «الرجل خير من المرأة».

(٢) نحو كلمة «الإنسان» في قوله تعالى : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) العصر / ١ و ٢ ، فإنّه بمنزلة أن يقول : «كلّ إنسان لفي خسر».

(٣) وهي أربعة :

أحدها : العهد الذهنيّ : وهو ما يشاربه إلى فرد يحضر في ذهن المتكلّم ، كأن يقول : «ادخل السوق».

ثانيها : العهد الذكريّ. وهو ما يشار به إلى فرد مذكور سابقا ، كقوله تعالى : (أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) المزّمّل / ١٥ و ١٦.

ثالثها : العهد الحضوريّ. وهو ما يشار به إلى فرد حاضر عند المخاطب خارجا ، كأن يقول : «لا تشم الرجل» لمن شتم رجلا عنده.

رابعها : العهد الخارجيّ ، نحو : «ادخل الدار» حيث كان عهد في الخارج.

(٤) أمّا الاشتراك اللفظيّ فبأن يقال : إنّ لفظ «أل» وضع تارة لتعريف الجنس ، وأخرى للاستغراق ، وثالثة للعهد الذهنيّ ، ورابعة للعهد الخارجيّ ، وهكذا.

وأمّا الاشتراك المعنويّ فبأن يقال : إنّ لفظ «أل» وضع للعهد الحاصل من أحد الأسباب المذكورة ، والخصوصيّات تفهم من القرائن الخارجيّة.

٢٠٦

بالتجريد. ومعه لا فائدة في التقييد ، مع أنّ التأويل والتصرّف في القضايا المتداولة في العرف غير خال عن التعسّف. هذا مضافا إلى أنّ الوضع لما لا حاجة إليه ـ بل لا بدّ من التجريد عنه وإلغائه في الاستعمالات المتعارفة المشتملة على حمل المعرّف باللام أو الحمل عليه ـ كان لغوا كما أشرنا إليه (١).

فالظاهر أنّ «اللام» مطلقا تكون للتزيين ، كما في الحسن والحسين. واستفادة

__________________

(١) قبل أسطر ، حيث قال : «مع أنّ وضعه لخصوص معنى». وحاصل ما أفاده المصنّف رحمه‌الله في ردّ ما هو المعروف ـ من وضع اللام للتعريف والتعيين في غير العهد الذهنيّ ـ : أنّه لو كانت اللام دالّة على التعيين يلزم أحيانا إمّا المخالفة مع ما هو المتداول في العرف في باب الاستعمالات ، وإمّا المخالفة مع حكمة الوضع. وتوضيحه : أنّه لا معنى لتعيّن الجنس المعرّف إلّا الإشارة إلى المعنى المتميّز ـ بماله من الحدود المميّزة له ـ عن المعاني المتصوّرة في الذهن ، فلو دلّت كلمة «أل» على تعيين مدخوله دلّت في الجنس المعرّف على المعنى المتميّز في الذهن ، فيكون التعيّن الذهنيّ مأخوذا في مدلوله. ولازمه أن لا يصدق الجنس المعرّف باللام بما هو معرّف على أفراده في الخارج إلّا بتجريده عن التعيّن الذهنيّ ، فكان اللازم على المتكلّم أن يتصرّف في مدلول الجنس المعرّف بالتجريد قبل الاستعمال ، وهذا ممنوع من جهات :

الأولى : «ومعه لا فائدة في التقييد» أي : إذا كان اللازم في مقام الاستعمال تجريد مدلول الجنس المعرّف عن التعيّن الذهنيّ فلا فائدة في تقييد مدلوله بالتعيّن الذهنيّ والقول بأنّ اللام تفيد التعيّن.

الثانية : «مع أنّ التأويل والتصرّف ...» أي : أنّ التصرّف في مدلول الجنس المعرّف بإلغاء قيد التعيّن الذهنيّ في مقام الانطباق على الأفراد غير خال عن التعسّف ، لأنّه خلاف ما هو الملموس عند العرف في باب الاستعمالات ، فإنّهم يحملون المعرّف بلام الجنس على أفراده من دون التصرّف.

الثالثة : «مضافا إلى أنّ الوضع ...» أي : قد عرفت أنّ المعنى المتميّز في الذهن من المعاني الّتي لا حاجة إلى تفهيمها ، بل لا بدّ في مقام الاستعمال من تجريده عن قيد التعيّن الذهنيّ. وعليه فوضع لفظ ـ كالجنس المعرّف باللام ـ لمعنى لا حاجة إلى تفهيمه خلاف حكمة الوضع.

ولا يخفى : أنّه كان الأولى أن يقول ـ مكان قوله : «ومعه لا فائدة ... كان لغوا» ـ : «وهو خلاف الحكمة والمتعارف في باب الاستعمالات. أمّا أنّه خلاف الحكمة : فلعدم الفائدة في التقييد حينئذ ، مضافا إلى أنّ الوضع لما لا حاجة إليه لغو. وأمّا أنّه خلاف المتعارف : فلأنّ التأويل والتصرّف في القضايا المتداولة في العرف غير ملموس».

٢٠٧

الخصوصيّات (١) إنّما تكون بالقرائن الّتي لا بدّ منها لتعيينها على كلّ حال ، ولو قيل بإفادة اللام للإشارة إلى المعنى (٢). ومع الدلالة عليه بتلك الخصوصيّات لا حاجة إلى تلك الإشارة لو لم تكن مخلّة ، وقد عرفت إخلالها (٣) ، فتأمّل جيّدا (٤).

وأمّا دلالة الجمع المعرّف باللام على العموم ـ مع عدم دلالة المدخول عليه ـ : فلا دلالة فيها على أنّها تكون لأجل دلالة اللام على التعيّن ، حيث لا تعيّن إلّا للمرتبة المستغرقة لجميع الأفراد (٥). وذلك (٦) لتعيّن المرتبة الاخرى ، وهي أقلّ

__________________

(١) أي : العهد بأقسامه ، والاستغراق ، وتعريف الجنس.

(٢) أي : المعنى المعيّن.

(٣) أي : ومع دلالة القرائن على المعنى مقرونا بتلك الخصوصيّات لا حاجة إلى الإشارة إلى المعنى المعيّن باللام لو لم تكن مخلّة ، وقد عرفت إخلالها.

) لا يخفى : أنّ العبارة غير خالية عن التشويش. وذلك لأنّ مدّعى الخصم أنّ الخصوصيّة والتعيّن في كلّ واحد من الأقسام من قبل خصوص اللام ، كما أنّ المعنى في كلّ واحد منها من قبل مدخولها ، من باب تعدّد الدالّ والمدلول. فمدّعاهم أنّ اللام مفيدة للخصوصيّة والتعيّن ، لا أنّها تفيد المعنى ، ولا أنّها تفيد المعنى المتعيّن. فلا معنى لقول المصنّف رحمه‌الله : «ولو قيل بإفادة اللام للإشارة إلى المعنى».

مضافا إلى أنّ مدّعى المصنّف رحمه‌الله في المقام أنّ الخصوصيّة والتعيّن في كلّ واحد من الأقسام من قبل القرائن الخارجيّة ، كما أنّ المعنى في كلّ واحد منها من قبل مدخولها ، فالقرائن إنّما تدلّ على الخصوصيّات فحسب ، لا على المعنى مقرونا بالخصوصيّات. وعليه لا معنى لقوله : «ومع الدلالة عليه بتلك الخصوصيّات» أي : ومع دلالة القرائن على المعنى مقرونا بتلك الخصوصيّات.

وحقّ العبارة أن لم يجعل كلمة «أو» وصليّة ، ويقال : «ولو قيل بإفادة اللام للإشارة إلى الخصوصيّة فمع الدلالة بها ـ أي بتلك القرائن ـ على تلك الخصوصيّات لا حاجة إلى تلك الإشارة ...».

(٥) إشارة إلى ما يمكن أن يتوهّم في المقام. وهو : أنّ الجمع المعرّف باللام يدلّ على العموم قطعا. وبما أنّ نفس المدخول لا يدلّ على العموم فلا بدّ أن تستند هذه الدلالة إلى اللام ، لأنّ اللام تدلّ على التعيّن ، ولا تعيّن لمراتب الجمع إلّا المرتبة الأخيرة ـ أي المرتبة المستغرقة لجميع الأفراد ـ ، فدلالة الجمع المعرّف باللام على العموم تكشف عن دلالة اللام على التعيّن. وهذا ينافي ما ادّعيتم من أنّ اللام مطلقا تكون للتزيين.

(٦) أي : عدم كاشفيّة دلالة الجمع المعرّف باللام على العموم عن دلالتها على التعيّن.

٢٠٨

مراتب الجمع ، كما لا يخفى. فلا بدّ أن تكون دلالته عليه مستندة إلى وضعه كذلك لذلك ، لا إلى دلالة اللام على الإشارة إلى المعيّن ليكون به التعريف.

وإن أبيت إلّا عن استناد الدلالة عليه إليه فلا محيص عن دلالته على الاستغراق بلا توسيط الدلالة على التعيين ، فلا يكون بسببه تعريف إلّا لفظا ، فتأمّل جيّدا.

ومنها : النكرة ، مثل «رجل» في (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) (١) ، أو في «جئني برجل» (٢).

ولا إشكال أنّ المفهوم منها في الأوّل (٣) ـ ولو بنحو تعدّد الدالّ والمدلول ـ هو الفرد المعيّن في الواقع ، المجهول عند المخاطب ، المحتمل الانطباق على غير واحد من أفراد الرجل. كما أنّه في الثاني (٤) هي الطبيعة المأخوذة مع قيد الوحدة ،

__________________

ـ والحاصل : أنّ المصنّف رحمه‌الله أجاب عن التوهّم المذكور بوجهين :

الأوّل : أن لا تعيّن للمرتبة الأخيرة ، بل أقلّ المراتب أيضا متعيّنة.

الثاني : أنّه ـ لو فرض استناد العموم إلى اللام ـ لا تلازم بين دلالته على العموم ودلالته على التعيّن ، بل يمكن أن يستند العموم إلى نفس اللام من دون توسيط دلالتها على التعيّن.

ولكن السيّد المحقّق الخوئيّ أورد على كلا الوجهين :

أمّا الأوّل : فأورد عليه بأنّ أقلّ مراتب الجمع ـ وهي الثلاثة ـ لا تعيّن لها في الخارج ، لأنّ كلّ مرتبة من مراتب الأعداد ـ كالثلاثة والأربعة والخمسة وغيرها ـ كان قابلا للانطباق على الأفراد الكثيرة في الخارج ، فلا تعيّن لها فيه ، حيث أنّا لا نعلم أنّ المراد منه هذه الثلاثة أو تلك وهكذا. نعم ، لها تعيّن في افق النفس.

مضافا إلى أنّ كلمة «اللام» تدلّ على التعيّن الخارجيّ. والتعيّن الخارجيّ منحصر في المرتبة الأخيرة من الجمع. فإذن يتعيّن إرادة المرتبة الأخيرة.

وأمّا الثاني : فأورد عليه بأنّ كلمة «اللام» لم توضع إلّا للدلالة على التعريف والتعيّن. المحاضرات ٥ : ٣٦٠ ـ ٣٦١.

(١) القصص / ٢٠. وهذا مثال لما إذا وقعت النكرة في الجملة الخبريّة.

(٢) وهذا مثال لما إذا وقعت النكرة في الجملة الإنشائيّة.

(٣) أي : في مورد الخبر.

(٤) أي : في مورد الإنشاء.

٢٠٩

فيكون حصّة من الرجل ، ويكون كلّيّا ينطبق على كثيرين ، لا فردا مردّدا بين الأفراد.

وبالجملة : النكرة ـ أي ما بالحمل الشائع يكون نكرة عندهم ـ إمّا هو فرد معيّن في الواقع غير معيّن للمخاطب ، أو حصّة كلّيّة ، لا الفرد المردّد بين الأفراد ؛ وذلك لبداهة كون لفظ «رجل» في «جئني برجل» نكرة ، مع أنّه يصدق على كلّ من جيء به من الأفراد ، ولا يكاد يكون واحد منها هذا أو غيره ، كما هو قضيّة الفرد المردّد لو كان هو المراد منها ، ضرورة أنّ كلّ واحد هو هو ، لا هو أو غيره (١). فلا بدّ أن تكون النكرة الواقعة في متعلّق الأمر هو الطبيعيّ المقيّد بمثل مفهوم الوحدة ، فيكون كلّيّا قابلا للانطباق ، فتأمّل جيّدا.

إذا عرفت ذلك ، فالظاهر صحّة إطلاق المطلق عندهم حقيقة على اسم الجنس والنكرة بالمعنى الثاني (٢) ، كما يصحّ لغة (٣). وغير بعيد أن يكون جريهم في هذا الإطلاق على وفق اللغة من دون أن يكون لهم فيه اصطلاح على خلافها ، كما لا يخفى.

نعم ، لو صحّ ما نسب إلى المشهور (٤) من كون المطلق عندهم موضوعا لما قيّد بالإرسال والشمول البدليّ لما كان ما اريد منه الجنس أو الحصّة عندهم بمطلق ، إلّا أنّ الكلام في صدق النسبة.

ولا يخفى : أنّ المطلق بهذا المعنى (٥) لطرو القيد غير قابل ، فإنّ ما له من

__________________

(١) أي : لو كان المراد من النكرة هو الفرد المردّد لزم أن يصدق على كلّ فرد أنّه نفسه ، لا أنّه نفسه أو غيره.

(٢) وهو الطبيعة الكلّيّة مقيّدة بقيد الوحدة القابلة للانطباق على كثيرين.

(٣) فإنّ المطلق مأخوذ من «الإطلاق» ، وهو في اللغة الإرسال. لسان العرب ١٠ : ٢٢٧.

(٤) راجع قوانين الاصول ١ : ٣٢١.

(٥) أي : المعنى المنسوب إلى المشهور.

٢١٠

الخصوصيّة ينافيه ويعانده (١). وهذا بخلافه بالمعنيين (٢) ، فإنّ كلّا منهما له قابل ، لعدم انثلامهما بسببه أصلا ، كما لا يخفى.

وعليه لا يستلزم التقييد تجوّزا في المطلق ، لإمكان إرادة معناه من لفظه (٣) وإرادة قيده من قرينة حال أو مقال ، وإنّما استلزمه لو كان بذاك المعنى.

نعم ، لو اريد من لفظه المعنى المقيّد كان مجازا مطلقا ، كان التقييد بمتّصل أو منفصل.

__________________

(١) وفي العبارة وجهان :

الأوّل : أن يرجع الضمير في قوله : «له» إلى القيد ، وفي قوله : «ينافيه ويعانده» إلى المطلق.

وعليه يكون المعنى : فإنّ ما للقيد من الخصوصيّة ينافي المطلق بمعنى الشيوع ، ولا يكون أحد المتقابلين قابلا للآخر.

الثاني : أن يرجع الضمير في قوله : «له» إلى المطلق بهذا المعنى ، وفي قوله : «ينافيه ويعانده» إلى القيد. وعليه يكون المعنى : فإنّ ما للمطلق من الخصوصيّة ـ وهي خصوصيّة الإرسال والشيوع ـ ينافي القيد الموجب للضيق ، ولا يكون أحد المتقابلين قابلا للآخر.

(٢) أي : بخلاف المطلق بمعنى الطبيعة المهملة في اسم الجنس ، وبمعنى الطبيعة المقيّدة بقيد الوحدة في النكرة.

(٣) وفي بعض النسخ : «لإمكان إرادة معنى لفظه منه» ، ويكون المعنى : لإمكان إرادة معنى لفظ المطلق من لفظ المطلق.

٢١١

فصل

[مقدّمات الحكمة؟]

قد ظهر لك : أنّه لا دلالة لمثل «رجل» إلّا على الماهيّة المبهمة وضعا ، وأنّ الشياع والسريان كسائر الطوارئ يكون خارجا عمّا وضع له ، فلا بدّ في الدلالة عليه من قرينة حال ، أو مقال ، أو حكمة.

[ما هو مقدّمات الحكمة؟]

وهي (١) تتوقّف على مقدّمات (٢) :

__________________

(١) أي : قرينة الحكمة.

(٢) وتسمّى : «مقدّمات الحكمة».

وقد اختلفوا في عددها على أقوال :

الأوّل : أنّها اثنتان : ١ ـ انتفاء ما يوجب التقييد. ٢ ـ كونه واردا في مقام بيان تمام المراد.

وهذا مذهب الشيخ الأنصاريّ ـ على ما في تقريرات درسه «مطارح الأنظار» : ٢١٨. وتبعه المحقّق النائينيّ على ما في فوائد الاصول ٢ : ٥٧٣ ـ ٥٧٦.

الثاني : أنّها ثلاث : ١ ـ كون المتكلّم في مقام البيان. ٢ ـ انتفاء ما يوجب تعيين مراده.

٣ ـ انتفاء القدر المتيقّن في مقام التخاطب ولو كان المتيقّن ثابتا بملاحظة الخارج عن مقام التخاطب. وهذا ما ذهب إليه المصنّف رحمه‌الله في المقام ، وسيأتي توضيحه.

الثالث : أنّها ثلاث : ١ ـ أن يكون متعلّق الحكم أو موضوعه قابلا للانقسام ، وإلّا فلا يتمكّن المتكلّم من تقييده بإتيان القيد. ٢ ـ أن يكون المتكلّم في مقام البيان. ٣ ـ أن لا يأتي المتكلّم ـ

٢١٢

إحداها : كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد (١) ، لا الإهمال أو الإجمال (٢).

ثانيتها : انتفاء ما يوجب التعيين (٣).

ثالثتها : انتفاء القدر المتيقّن في مقام التخاطب ؛ ولو كان المتيقّن بملاحظة

__________________

ـ في كلامه قرينة على التقييد. وهذا ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ على ما في أجود التقريرات ١ : ٥٢٨ ـ ٥٢٩.

وهو الظاهر من كلام السيّد المحقّق الخوئيّ في المحاضرات ٥ : ٣٦٤ ـ ٣٧٠.

الرابع : أنّها ثلاث : وهي ما ذكر في المتن من دون تقييد الثالثة بمقام التخاطب ، أي عدم وجود القدر المتيقّن مطلقا ولو في الخارج. وهذا ما أفاده المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ٢ : ٥٦٧.

الخامس : أنّها واحدة. وهي إحراز كون المتكلّم في مقام البيان. وهذا مختار السيّد البروجرديّ ، وتبعه تلميذه السيّد الإمام الخمينيّ. راجع نهاية الاصول : ٣٤٢ ـ ٣٤٣ ، مناهج الوصول ٢ : ٣٢٥ ـ ٣٢٧.

(١) والأولى أن يقول : «إحداها : إحراز كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد من الجهة الّتي يكون بصدد البيان من تلك الجهة».

أمّا لزوم تبديل قوله : «كون المتكلّم ...» ب «إحراز كون المتكلّم» : فلما يأتي منه ذيل قوله : «بقي شيء».

وأمّا لزوم تتميمه ب «من الجهة الّتي يكون بصدد البيان ...» : فلما يأتي منه ذيل قوله : «تتمّة».

(٢) بيان ذلك : أنّه قد لا يكون المتكلّم في مقام بيان تمام مراده ، بل يكون في مقام أصل تشريع الحكم فقط مع أنّ الحكم في الواقع مقيّد بقيد لم يذكره لعدم مجيء وقت العمل به ، كما في قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) البقرة / ٤٣ ؛ أو يكون في مقام إرشاد السامع إلى منفعة فعل ، كقول الطبيب للمريض : «اشرب الدواء» ؛ أو يكون في مقام بيان حكم آخر ، كقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ...) المائدة / ٤ ، فإنّه ورد في مقام بيان حلّيّة ما اصطاده الكلب المعلّم من جهة كونه ميتة ، لا في مقام البيان من جهة طهارة محلّ الإمساك وعدمها. فإنّ في كلّ هذه الموارد لم ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق.

(٣) أي : لم يأت المتكلّم في كلامه قرينة على تعيين مراده.

وأفاد السيّد الإمام الخمينيّ ـ تبعا للسيّد المحقّق البروجرديّ ـ : أنّ انتفاء ما يوجب التعيين ليس من مقدّمات الحكمة ، بل هو محقّق محلّ البحث ، لأنّ محطّ البحث ـ في التمسّك بالإطلاق ـ ما إذا جعل شيء موضوعا لحكم وشكّ في دخالة شيء آخر فيه ، فيرفع بالإطلاق. وأمّا مع وجود ما يوجب التعيين فلا يبقى شكّ حتّى يتمسّك في إثبات عدم دخالته بالإطلاق. راجع نهاية الاصول : ٣٤٢ ـ ٣٤٣ ، مناهج الوصول ٢ : ٣٢٦ ـ ٣٢٧.

٢١٣

الخارج عن ذاك المقام في البين ، فإنّه غير مؤثّر في رفع الإخلال بالغرض لو كان بصدد البيان ، كما هو الفرض (١).

فإنّه فيما تحقّقت لو لم يرد الشياع لأخلّ بغرضه (٢) ، حيث إنّه لم يبيّنه (٣) مع أنّه بصدده. وبدونها لا يكاد يكون هناك إخلال به ، حيث لم يكن مع انتفاء الأولى إلّا في مقام الإهمال أو الإجمال ، ومع انتفاء الثانية كان البيان بالقرينة ، ومع انتفاء الثالثة لا إخلال بالغرض لو كان المتيقّن تمام مراده ، فإنّ الفرض أنّه بصدد بيان

__________________

(١) والحاصل : أنّ المصنّف رحمه‌الله فصّل بين القدر المتيقّن بحسب مقام التخاطب وبين القدر المتيقّن بحسب الخارج ، فالأوّل يمنع عن التمسّك بالإطلاق ، والثاني لا يمنع عنه.

والسرّ في ذلك : أنّ القدر المتيقّن بحسب مقام التخاطب هو أن يفهم السامع من اللفظ الصادر من المتكلّم أنّ بعض أفراد الموضوع متيقّن الإرادة بالنسبة إلى سائر أفراده ، كأن يقع ذلك البعض مورد السؤال. ومعلوم أنّ هذا التيقّن يمنع عن إحراز إرادة الإطلاق من المطلق ، لأنّ التيقّن صالح لأن يكون بيانا لإرادة ذلك المتيقّن دون غيره ، بل لو أراد المتكلّم غير المتيقّن ولم ينصب قرينة كان ذلك مخلّا بغرضه. بخلاف القدر المتيقّن الخارجيّ ، وهو ما يفهم السامع من القرائن الخارجيّة غير المستندة إلى اللفظ أنّ بعض أفراد الموضوع متيقّن الإرادة بالنسبة إلى سائر أفراده ، كأن يفهم من مناسبة الحكم والموضوع. ومن الواضح أنّ مثل هذا المتيقّن لا يمنع عن التمسّك بالإطلاق ، ضرورة أنّه لا يخلو مطلق في الخارج عن ذلك إلّا نادرا.

وخالفه المحقّق النائينيّ ، فأنكر كونه من مقدّمات الحكمة بدعوى أنّ حال القدر المتيقّن في مقام التخاطب حال القدر المتيقّن الخارجيّ ، فإنّ من أوضح مصاديق القدر المتيقّن في مقام التخاطب هو ورود المطلق في مورد السؤال ، حيث يكون المورد هو المتيقّن المراد من اللفظ المطلق ، مع أنّ المصنّف رحمه‌الله لا يلتزم باختصاص المطلق بالمورد ، بل ذهب ـ تبعا لغيره ـ إلى أنّه يصحّ التمسّك بإطلاقه. فوائد الاصول ٢ : ٥٧٥ ـ ٥٧٨.

وخالفه أيضا السيّد الإمام الخمينيّ بدعوى أنّ القدر المتيقّن إنّما يكون في مورد يتردّد الأمر بين الأقلّ والأكثر ، مع أنّ الأمر في باب الإطلاق دائر بين أن تكون الطبيعة تمام الموضوع أو المقيّد تمامه. مناهج الوصول ٢ : ٣٢٧.

(٢) أي : فإنّ المتكلّم لو لم يرد الشياع مع تحقّق مقدّمات الحكمة لأخلّ بغرضه.

(٣) ظاهر النسخ : «لم ينبّه». والصحيح إمّا ما أثبتناه ـ كما هو المتراءى من بعض النسخ ـ ، وإمّا أن يقول : «لم ينبّه عليه».

٢١٤

تمامه وقد بيّنه ، لا بصدد بيان أنّه تمامه كي أخلّ ببيانه (١) ، فافهم (٢).

[المراد من كون المتكلّم]

ثمّ لا يخفى عليك : أنّ المراد بكونه في مقام بيان تمام مراده مجرّد بيان ذلك وإظهاره وإفهامه ، ولو لم يكن عن جدّ ، بل قاعدة وقانونا ، ليكون حجّة فيما لم تقم (٣) حجّة أقوى على خلافه ، لا البيان في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ؛ فلا يكون الظفر بالمقيّد ـ ولو كان مخالفا ـ كاشفا عن عدم كون المتكلّم

__________________

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «كي يخلّ ببيانه».

وتوضيحه : أنّ المتكلّم تارة يكون في مقام بيان تمام مراده من المطلق ، واخرى يكون في مقام بيان وصف التماميّة للمتيقّن وأنّه تمام مراده بحيث لا يكون شيء وراء المتيقّن مرادا له.

فعلى الأوّل : لا يكون وجود القدر المتيقّن وكونه تمام مراد المتكلّم مخلّا بالإطلاق ، لأنّه بيّن تمام مراده ـ وهو القدر المتيقّن ـ بالتيقّن التخاطبيّ ، فلا يلزم منه الإخلال بالغرض ، فإنّ غرضه بيان تمام مراده والمفروض أنّه بيّنه بالتيقّن الخطابيّ.

وعلى الثاني : يكون وجود القدر المتيقّن وكونه تمام مراد المتكلّم مخلّا بالإطلاق ، لأنّه حينئذ يكون في مقام بيان أنّ تمام مراده هو القدر المتيقّن لا غيره ، فلو أطلق الكلام ولم ينصب قرينة على أنّ تمام مراده منحصر بالقدر المتيقّن لزم الإخلال بالغرض ، فإنّ المفروض أنّ غرضه من ذكر المطلق ليس إلّا المتيقّن فقط. والمطلق وإن دلّ بمقتضى التيقّن الخطابيّ أنّ المتيقّن مراد ، إلّا أنّه لا يدلّ على حصر المراد فيه ، بل يمكن أن يكون المتيقّن مرادا في ضمن سائر الأفراد. فلا يثبت بذكر المطلق وصف التماميّة للقدر المتيقّن.

ومن هنا يظهر أنّ قوله : «إنّه بصدد بيان تمامه وقد بيّنه» إشارة إلى الفرض الأوّل. وقوله : «لا بصدد بيان أنّه تمامه كي يخلّ ببيانه» إشارة إلى الفرض الثاني.

(٢) إشارة إلى أنّه لو كان بصدد بيان أنّه تمامه ما أخلّ ببيانه بعد عدم نصب قرينة على إرادة تمام الأفراد ، فإنّه بملاحظته يفهم أنّ المتيقّن تمام المراد ، وإلّا كان عليه نصب القرينة على إرادة تمامها ، وإلّا قد أخلّ بغرضه. نعم ، لا يفهم ذلك إذا لم يكن إلّا بصدد بيان أنّ المتيقّن مراد ، لا بصدد بيان أنّ غيره مراد أو ليس بمراد قبالا للإجمال والإهمال المطلقين ، فافهم ، فإنّه لا يخلو عن دقّة. منه [أعلى الله مقامه].

(٣) وفي بعض النسخ : «لم تكن».

٢١٥

في مقام البيان (١). ولذا لا ينثلم به إطلاقه وصحّة التمسّك به أصلا (٢) ، فتأمّل

__________________

(١) وتوضيح ما أفاده يتوقّف على تقديم مقدّمة :

وهي : أنّ في كون المتكلّم في مقام البيان وجهين :

الأوّل : أن يكون في مقام بيان المراد الجدّيّ ، بمعنى أنّه قصد إفهام مراده من نفس اللفظ. كما هو المقصود في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة.

الثاني : أن يكون في مقام بيان المراد الاستعماليّ ، بمعنى أنّه قصد إفهام معنى اللفظ للمخاطب وإحضاره في ذهن السامع بصورة القانون والقاعدة ، ليكون حجّة ومرجعا عند الشكّ في التقييد ما لم تقم حجّة أقوى على خلافه.

فالمطلق قد يظهر ويراد إفهام معناه واقعا ، وقد يظهر ويراد إفهام معناه قاعدة وقانونا.

إذا عرفت هذه المقدّمة ، فاعلم أنّه وقع النزاع في أنّه ما المراد من كون المتكلّم في مقام البيان؟ فهل هو كونه في مقام بيان المراد الجدّيّ وتجري مقدّمات الحكمة في تنقيحه فيثبت به أنّ المطلق مراد جدّا أو كونه في مقام بيان المراد الاستعماليّ وتجري مقدّمات الحكمة في تنقيحه؟

ذهب الشيخ الأعظم الأنصاريّ إلى الأوّل ، وتبعه المحقّق النائينيّ. مطارح الأنظار : ٢١٨ ، أجود التقريرات ١ : ٥٣٠.

وذهب المصنّف رحمه‌الله إلى الثاني.

وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا ورد المقيّد منفصلا ، فإنّه على رأي الشيخ الأعظم والمحقّق النائينيّ يكشف عن عدم كون المتكلّم في مقام بيان كلامه ، ويكشف أيضا عن تقيّد المراد الجدّي وعدم إطلاقه من أوّل الأمر ، فالمقيّد المنفصل يخلّ بظهور المطلق في الإطلاق. بخلافه على رأي المصنّف رحمه‌الله ، فإنّ المقيّد المنفصل ـ حينئذ ـ لا يكشف عن عدم كون المتكلّم في مقام البيان ولا يخلّ بظهور المطلق في الإطلاق ، بل إنّما يزاحمه في مقام الحجّيّة.

ومن هنا يظهر أنّ في قوله : «ولو كان مخالفا» وجوه :

الأوّل : أن يكون معناه : «ولو كان المقيّد مخالفا للمطلق في مقام الحجّيّة».

الثاني : أن يكون معناه : «ولو كان مخالفا له في النفي أو الإثبات».

الثالث : أن يكون مستدركا. ويؤيّده ما يأتي منه بعد أسطر ، حيث قال : «إنّ الظفر بالمقيّد لا يكون كاشفا».

(٢) هذا استشهاد من المصنّف رحمه‌الله على مدّعاه. وحاصله : أنّ ما ذهب إليه الشيخ الأعظم يلازم عدم إمكان التمسّك بالمطلقات إذا قيّدت بقيد منفصل ، وهذا اللازم باطل ، إذ لم يلتزم به أحد. فهذا يكشف عن بطلان رأي الشيخ في المقام.

٢١٦

جيّدا (١).

وقد انقدح بما ذكرنا أنّ النكرة في دلالتها على الشياع والسريان أيضا تحتاج ـ فيما لا يكون هناك دلالة حال أو مقال ـ إلى مقدّمات الحكمة (٢) ، فلا تغفل.

بقي شيء : [الأصل عند الشكّ في كون المتكلّم في مقام البيان]

وهو أنّه لا يبعد أن يكون الأصل فيما إذا شكّ في كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد هو كونه بصدد بيانه. وذلك لما جرت عليه سيرة أهل المحاورات من التمسّك بالإطلاقات فيما إذا لم يكن هناك ما يوجب صرف وجهها إلى جهة خاصّة (٣).

__________________

(١) وأورد المحقّق الأصفهانيّ على ما استشهد به المصنّف رحمه‌الله بأنّ المقيّد المنفصل إنّما يكشف عن عدم كون المتكلّم في مقام البيان من جهة القيد ، لا من سائر الجهات. وانكشاف عدم كونه في مقام البيان من جهة لا يلازم انكشاف عدم كونه في مقام البيان من سائر الجهات ، ولذا يمكن التمسّك بالإطلاق في سائر الجهات. نهاية الدراية ١ : ٦٧١.

(٢) وفي النسخ المخطوطة : «من مقدّمات الحكمة». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) لا يخفى : أنّ للشكّ في كونه في مقام البيان صورتين :

الأولى : أن لا يحرز أنّه في مقام البيان من أيّ جهة من الجهات ، بل دار الأمر بين أن يكون في مقام البيان وأن يكون في مقام الإهمال من جميع الجهات ، كما إذا شكّ في قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) البقرة / ٢٧٥ ، هل يكون في مقام بيان أصل التشريع أو في مقام بيان تمام المراد؟

الثانية : أن يحرز أنّه في مقام البيان من جهة خاصّة ويشكّ في كونه في مقام البيان من جهة اخرى ، كما قال الله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ) المائدة / ٤ ، ونعلم بإطلاقه من جهة أنّ حلّيّة أكله لا تحتاج إلى الذبح ، سواء كان إمساكه من الحلقوم أو من موضع آخر ، كان إلى القبلة أو إلى غيرها ؛ ولا نعلم أنّه في مقام البيان من جهة طهارة محلّ الإمساك أو نجاسته.

ظاهر كلام المصنّف رحمه‌الله ثبوت بناء العقلاء على حمل كلام المتكلّم على كونه في مقام البيان في كلتا الصورتين. وتبعه المحقّق العراقيّ على ما في نهاية الأفكار ٢ : ٥٧٧.

وخالفه السيّدان العلمان : الإمام الخمينيّ والمحقّق الخوئيّ ـ تبعا للمحقّق النائينيّ ـ ، بدعوى عدم قيام بناء العقلاء على حمل كلام المتكلّم على كونه في مقام البيان في الصورة الثانية. مناهج الوصول ٢ : ٣٢٨ ـ ٣٢٩ ، المحاضرات ٥ : ٣٦٨ ـ ٣٦٩ ، أجود التقريرات ١ : ٥٣١.

٢١٧

ولذا ترى أنّ المشهور لا يزالون يتمسّكون بها مع عدم إحراز كون مطلقها بصدد البيان ، وبعد (١) كونه (٢) لأجل ذهابهم إلى أنّها موضوعة للشياع والسريان ، وإن كان ربما نسب ذلك إليهم (٣). ولعلّ وجه النسبة ملاحظة أنّه لا وجه للتمسّك بها بدون الإحراز ، والغفلة عن وجهه ، فتأمّل جيّدا.

[الانصراف وأنواعه]

ثمّ إنّه قد انقدح بما عرفت ـ من توقّف حمل المطلق على الإطلاق فيما لم يكن هناك قرينة حاليّة أو مقاليّة على قرينة الحكمة المتوقّفة على المقدّمات المذكورة ـ أنّه لا إطلاق له فيما كان له الانصراف إلى خصوص بعض الأفراد أو الأصناف ، لظهوره فيه ، أو كونه (٤) متيقّنا منه ولو لم يكن ظاهرا فيه بخصوصه حسب اختلاف مراتب الانصراف ؛ كما أنّه منها(٥) ما لا يوجب ذا ولا ذاك ، بل يكون بدويّا زائلا بالتأمّل ؛ كما أنّه منها ما يوجب الاشتراك ، أو النقل (٦).

__________________

(١) أي : ومع بعد ...

(٢) أي : كون تمسّكهم بها.

(٣) راجع القوانين ١ : ٣٢١.

(٤) أي : كون بعض الأفراد أو الأوصاف.

(٥) أي : من مراتب الانصراف.

(٦) حاصل ما أفاده : أنّ للانصراف مراتب متفاوتة ـ شدّة وضعفا ـ :

الأولى : ما يوجب ظهور اللفظ في المنصرف إليه ، كانصراف لفظ «ما لا يؤكل لحمه» إلى غير الإنسان ، بحيث يوجب صيرورة لفظ «ما لا يؤكل لحمه» ظاهرا في غير الإنسان.

الثانية : ما يوجب تيقّن المنصرف إليه مع عدم كونه ظاهرا فيه بخصوصه ، كانصراف لفظ «الماء» إلى غير ماء الذاج والنفط.

الثالثة : ما لا يوجب الظهور ولا التيقّن ، بل يكون انصرافا بدويّا زائلا بالتأمّل ، كانصراف لفظ «الماء» إلى ماء الفرات إذا استعمل في الموضع القريب منه.

الرابعة : ما يوجب اشتراك اللفظ بين المعنى الحقيقيّ الإطلاقيّ وبين المعنى المنصرف إليه. وهذا الانصراف ناشئ عن غلبة استعمال المطلق في المنصرف إليه.

الخامسة : ما يوجب نقل اللفظ المطلق إلى المنصرف إليه. وهذا ناشئ عن مهجوريّة المعنى المطلق وغلبة استعمال اللفظ المطلق في المنصرف إليه.

ظاهر كلام المصنّف رحمه‌الله أنّ الانصراف يمنع عن التمسّك بالإطلاق بجميع مراتبه إلّا المرتبة الثالثة.

٢١٨

لا يقال : كيف يكون ذلك؟ وقد تقدّم أنّ التقييد لا يوجب التجوّز في المطلق أصلا(١).

فإنّه يقال : (٢) ـ مضافا إلى أنّه إنّما قيل لعدم استلزامه له ، لا عدم إمكانه ، فإنّ استعمال المطلق في المقيّد بمكان من الإمكان ـ إنّ كثرة إرادة المقيّد لدى إطلاق المطلق ولو بدالّ آخر ربما تبلغ بمثابة توجب له مزيّة انس ـ كما في المجاز المشهور ـ أو تعيّنا واختصاصا به ـ كما في المنقول بالغلبة ـ ، فافهم.

تنبيه : [فيما إذا كان للمطلق جهات عديدة]

وهو أنّه يمكن أن يكون للمطلق جهات عديدة ، كان واردا في مقام البيان من جهة منها وفي مقام الإهمال أو الإجمال من اخرى ، فلا بدّ في حمله على الإطلاق بالنسبة إلى جهة من كونه بصدد البيان من تلك الجهة ، ولا يكفي كونه بصدده من جهة اخرى ، إلّا إذا كان بينهما ملازمة عقلا أو شرعا أو عادة ، كما لا يخفى (٣).

__________________

(١) هذا إشكال على الانصراف الموجب للاشتراك والنقل. وحاصله : أنّ الاشتراك أو النقل موقوف على كثرة الاستعمال وغلبته ، فالاستعمال في المنصرف إليه قبل تحقّق الغلبة استعمال مجازيّ. وهذا ينافي ما تقدّم من عدم كون استعمال المطلق في المقيّد مجازا.

(٢) هذا الجواب ذكره الشيخ الأعظم على ما في مطارح الأنظار : ٢١٨.

(٣) لا يخفى : أنّا تارة نشكّ في أنّ المتكلّم هل يكون في مقام البيان من جميع الجهات أو يكون في مقام الإهمال كذلك. واخرى نعلم أنّه في مقام البيان من جهة خاصّة ونشكّ في أنّه هل يكون في مقام البيان من جهات أخر أو يكون في مقام الإهمال من تلك الجهات. وثالثة نعلم بأنّه في مقام البيان من جهة خاصّة ونعلم أيضا أنّه في مقام الإهمال من جهات أخر.

والظاهر أنّ المصنّف رحمه‌الله أراد أن يذكر حكم الصورة الثالثة في المقام. فأفاد أنّه يصحّ التمسّك بالإطلاق من الجهة الّتي يكون المتكلّم بصدد البيان من تلك الجهة ، ولا يصحّ التمسّك به من الجهة الّتي يكون في مقام الإهمال من تلك الجهة.

٢١٩

فصل

[المطلق والمقيّد المتنافيان وكيفيّة الجمع بينهما]

إذا ورد مطلق ومقيّد متنافيان (١) ، فإمّا يكونان مختلفين في الإثبات والنفي ، وإمّا يكونان متوافقين.

فإن كانا مختلفين ، مثل : «أعتق رقبة» و «لا تعتق رقبة كافرة» ، فلا إشكال في التقييد.

وإن كانا متوافقين (٢) ، فالمشهور فيهما الحمل والتقييد.

وقد استدلّ بأنّه جمع بين الدليلين ، وهو أولى (٣).

وقد اورد عليه : بإمكان الجمع على وجه آخر ، مثل حمل الأمر في المقيّد على الاستحباب (٤).

واورد عليه (٥) : بأنّ التقييد ليس تصرّفا في معنى اللفظ ، وإنّما هو تصرّف في

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «متنافيين» ، والصحيح ما أثبتناه.

(٢) مثل : «اعتق رقبة» و «اعتق رقبة مؤمنة».

(٣) وهذا الاستدلال نسبه المحقّق القميّ إلى الأكثر. قوانين الاصول ١ : ٣٢٥.

(٤) هذا ما أورد المحقّق القميّ على الاستدلال المنسوب إلى الأكثر. وحاصله : أنّه كما يمكن الجمع بينهما بالتقييد يمكن الجمع بينهما بحمل الأمر في المقيّد على الاستحباب ، فلا مزيّة في الجمع المذكور. قوانين الاصول ١ : ٣٢٥.

(٥) أي : على الإيراد الّذي أورده المحقّق القميّ على الاستدلال المذكور.

٢٢٠