كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
ISBN: 978-964-470-562-5
الصفحات: ٤١٩

إلّا أن يقال باعتبار أصالة الحقيقة تعبّدا حتّى فيما إذا احتفّ بالكلام ما لا يكون ظاهرا معه في معناه الحقيقيّ ، كما عن بعض الفحول (١).

__________________

ـ للقرينيّة عرفا» أنّ الكلام المشتمل على الضمير غير صالح للقرينيّة على عدم إرادة العموم. وحينئذ يحمل كلامه على أنّه إذا دار الأمر بين أصالة العموم وأصالة عدم الاستخدام يقدّم أصالة العموم ويبقى العامّ على دلالته على العموم. وهذا ما فهمه المحقّق العراقيّ على ما في نهاية الأفكار ٢ : ٥٤٥.

الثاني : أن يكون مراده أنّ الكلام المشتمل على الضمير الراجع إلى بعض أفراد العامّ صالح للقرينيّة على عدم إرادة العموم من العامّ. وحينئذ يحمل كلامه على أنّه إذا دار الأمر بين أصالة العموم وأصالة عدم الاستخدام لا يجري كلا الأصلين.

أمّا أصالة العموم : فلأنّ العامّ يكتنف بكلام يشتمل على ضمير يرجع إلى بعض أفراده ، وهو يصلح للقرينيّة على إرادة عدم العموم عرفا ، ومعه لا ظهور له حتّى يتمسّك به ، إلّا على القول باعتبار أصالة الحقيقة تعبّدا ، وهو كما ترى.

وأمّا أصالة عدم الاستخدام : فلأنّ الأصل اللفظيّ إنّما يكون متّبعا ببناء العقلاء فيما إذا شكّ في مراد المتكلّم من اللفظ ، لا فيما إذا شكّ في كيفيّة إرادته وأنّها على نحو الحقيقة أو المجاز.

وعليه فمختار المصنّف رحمه‌الله هو التوقّف في المقام والرجوع إلى ما تقتضيه الاصول العمليّة. وهذا ما فهمه السيّد المحقّق الخوئيّ على ما في المحاضرات ٥ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(١) لم أعثر على من صرّح بذلك.

١٨١

فصل

[التخصيص بالمفهوم المخالف]

قد اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف ـ مع الاتّفاق على الجواز بالمفهوم الموافق ـ على قولين. وقد استدلّ لكلّ منهما بما لا يخلو عن قصور (١).

__________________

(١) توضيح محلّ النزاع : أنّه يقع البحث في أنّ العامّ هل يخصّص بالمفهوم أم لا؟

وبما أنّ المفهوم ينقسم إلى الموافق والمخالف يقع البحث في مقامين :

الأوّل : في المفهوم الموافق : فإذا ورد عامّ ومفهوم موافق أخصّ منه تارة تكون النسبة بينهما عموما من وجه ، نحو قوله : «لا تكرم الصرفيّين» وقوله : «أكرم جهّال خدّام النحويّين» ، فإنّ الأوّل عامّ يشمل كلّ واحد من الصرفيّين ، سواء كان نحويّا أيضا أو لا ، والمفهوم من الثاني بالأولويّة وجوب إكرام النحويّين ، وهو أخصّ من قوله السابق ، كأنّه قال : «لا تكرم الصرفيّين إلّا النحويّين منهم». وأخرى تكون النسبة بينهما عموما مطلقا ، كأن يستفاد من الأدلّة «جواز ضرب الأقارب» وورد قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) الأسراء / ٢٣ ، وهو دالّ بالأولويّة على عدم جواز ضربهما. فقد اشتهر وادّعي الاتّفاق على تقديم المفهوم الموافق على العامّ مطلقا. راجع الفصول الغرويّة : ٢١٢ ، مطارح الأنظار : ٢٠٩ ، فوائد الاصول ٢ : ٥٥٦٧.

وقد تعرّض السيّد الإمام الخمينيّ للاحتمالات في تفسير المفهوم الموافق ، ثمّ أفاد : أنّه لا يبعد أن يكون محطّ كلام القدماء ومورد اتّفاقهم على جواز تخصيص العموم بالمفهوم الموافق ما إذا كان المفهوم أخصّ مطلقا ، فإنّ حال هذا المفهوم حال اللفظ الملقى إلى المتكلّم ، فيخصّص به العامّ بلا ريب. وأمّا إذا كان بينهما العموم من وجه فيعامل معهما معاملة المنطوقين. مناهج الوصول ٢ : ٢٩٩.

الثاني : المفهوم المخالف : كما إذا ورد عامّ كقوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِ

١٨٢

وتحقيق المقام : أنّه إذا ورد العامّ وما له المفهوم في كلام أو كلامين ـ ولكن على نحو يصلح أن يكون (١) كلّ منهما قرينة متّصلة للتصرّف في الآخر ـ ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم (٢) ، فالدلالة على كلّ منهما إن كانت بالإطلاق بمعونة مقدّمات الحكمة أو بالوضع ، فلا يكون هناك عموم ولا مفهوم ، لعدم تماميّة مقدّمات الحكمة في واحد منهما ، لأجل المزاحمة ، كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعا لظهور الآخر كذلك ؛ فلا بدّ من العمل بالاصول العمليّة فيما

__________________

ـ شَيْئاً) النجم / ٢٨ ، فإنّه دالّ بعمومه على عدم اعتبار كلّ ظنّ ، حتّى الظنّ الحاصل من خبر العادل. ووردت آية اخرى هي : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الحجرات / ٦ ، وهي تدلّ بمفهوم الشرط على اعتبار الظنّ الحاصل من خبر غير الفاسق. فهل يجوز تخصيص ذلك العامّ بهذا المفهوم أو لا؟

فيه أقوال :

الأوّل : أنّه لا يجوز. وهذا منسوب إلى أبي العبّاس بن سريج. راجع إرشاد الفحول : ١٦٠ ، واللمع : ٣٤.

الثاني : أنّه لا بدّ من تخصيصه بهذا المفهوم. وهذا ما ذهب إليه كثير من العامّة ، بل ادّعى الآمديّ عدم الخلاف فيه. وذهب إليه أيضا كثير من الإماميّة كصاحبي المعالم والفصول. راجع الإحكام ٢ : ٣٢٨ ، المعالم : ١٤٠ ، الفصول الغرويّة : ٢١٢.

الثالث : التفصيل بين ما إذا كان العموم آبيا عن التخصيص فلا يخصّصه المفهوم ، وما إذا كان غير آب عنه فيخصّصه. وهذا ما يستفاد من ظاهر كلام الشيخ الأنصاريّ على ما في مطارح الأنظار : ٢٠٩ ـ ٢١٠.

الرابع : أنّه لا يقدّم أحدهما على الآخر ويبقى الكلام مجملا لو لم يكن في البين أظهر. وهذا ما ذهب إليه المصنّف رحمه‌الله في المقام.

الخامس : إذا كان المفهوم أخصّ مطلقا من العامّ فيقدّم عليه ، وإذا كان بينهما العموم من وجه فيعامل معهما معاملة العموم من وجه ، فربّما يقدّم العامّ وربّما يقدّم المفهوم. وهذا ما أفاده المحقّق النائينيّ في فوائد الاصول ٢ : ٥٥٩ ـ ٥٦٠.

السادس : إن كانت دلالة المفهوم بالوضع يقع التعارض بينهما ، وإلّا فيقدّم العامّ إن كان في كلام واحد ، وإلّا يقع التعارض بينهما. وهذا ما اختاره السيّد الإمام الخمينيّ في مناهج الوصول ٢ : ٣٠٢ ـ ٣٠٣.

(١) وفي بعض النسخ : «على نحو يكون».

(٢) والأولى أن يقول : «وإلغاء المفهوم».

١٨٣

دار فيه (١) بين العموم والمفهوم إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر ، وإلّا كان مانعا عن انعقاد الظهور أو استقراره في الآخر.

ومنه قد انقدح الحال فيما إذا لم يكن بين ما دلّ على العموم وما له المفهوم ذاك الارتباط والاتّصال ، وأنّه لا بدّ أن يعامل مع كلّ منهما معاملة المجمل لو لم يكن في البين أظهر ، وإلّا فهو المعوّل والقرينة (٢) على التصرّف في الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل.

__________________

(١) أي : فيما إذا ورد العامّ وما له المفهوم في كلام أو كلامين.

(٢) معطوف على قوله : «المعوّل» ، أي : وهو القرينة ...

١٨٤

فصل

[الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة]

الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة (١) هل الظاهر هو رجوعه إلى الكلّ أو خصوص الأخيرة أو لا ظهور له في واحد منهما ، بل لا بدّ في التعيين من قرينة؟ (٢) أقوال (٣).

__________________

(١) لا يخفى : أنّ البحث لا يختصّ بالاستثناء ، بل يعمّ كلّ مخصّص متّصل كالنعت والحال وغيرهما. كما أنّ البحث لا يعمّ كلّ جمل متعدّدة ، بل يختصّ بالجمل المتعاطفة.

وعليه ، فكان الأولى أن يقول : «المخصّص المتعقّب للجمل المتعاطفة» ، فإنّ قولنا : «المخصّص» يشمل النعت والحال وغيرهما. وقولنا : «المتعقّب» يدلّ على خروج المخصّص غير المتعقّب ، وهو المخصّص المنفصل الّذي يسقط الجميع عن الحجّيّة من جهة العلم الإجماليّ. وقولنا : «للجمل المتعاطفة» يدلّ على خروج الجمل المستقلّة.

(٢) مثاله قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ...) النور / ٥ و ٦.

وقوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) النساء / ٩٢.

(٣) القول الأوّل : ظهور الكلام في رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة. وهذا منسوب إلى أبي حنيفة كما في الإحكام (للآمديّ) ٢ : ٣٠٠. واختاره العلّامة في مبادئ الوصول : ١٣٦ ، وصاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ٢٠٤. ـ

١٨٥

والظاهر أنّه لا خلاف ولا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على أيّ حال ، ضرورة أنّ رجوعه إلى غيرها بلا قرينة خارج عن طريقة أهل المحاورة. وكذا في صحّة رجوعه إلى الكلّ ـ وإن كان المتراءى من كلام صاحب المعالم رحمه‌الله (١) حيث مهّد مقدّمة لصحّة رجوعه إليه (٢) ـ أنّه (٣) محلّ الإشكال والتأمّل. وذلك ضرورة أنّ تعدّد المستثنى منه كتعدّد المستثنى لا يوجب تفاوتا أصلا في ناحية الأداة بحسب المعنى ـ كان الموضوع له في الحروف عامّا أو خاصّا ـ ، وكان المستعمل فيه الأداة

__________________

ـ القول الثاني : أنّ الاستثناء يرجع إلى جميع الجمل ، وتخصيصه بالأخيرة يحتاج إلى الدليل. وهذا مذهب الشافعيّة من العامّة والشيخ الطوسيّ من الإماميّة. راجع الإحكام (للآمدي) ٢ : ٣٠٠ ، والعدّة ١ : ٣٢١.

القول الثالث : عدم ظهور الكلام في واحد منهما ، وإن كان رجوعه إلى الأخيرة متعيّنا. فيبقى ما عدا الأخيرة مجملا. وهذا ما يتراءى من كلام السيّد المرتضى في الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ٢٤٩. واختاره المصنّفرحمه‌الله في المقام.

القول الرابع : التفصيل بين ما إذا كرّر الحكم دون الموضوع ، كقولنا «أكرم العلماء واحسنهم واطعمهم واقض حوائجهم إلّا الفاسقين» ، وبين ما إذا كرّر الموضوع أيضا كالآية الشريفة. فعلى الأوّل يرجع الاستثناء إلى الجميع ، وعلى الثاني يرجع إلى خصوص الأخيرة. وهذا ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ في فوائد الاصول ٢ : ٥٥٥.

القول الخامس : التفصيل بين ما إذا لم يتكرّر الموضوع وما إذا كرّر. فعلى الأوّل يرجع الضمير إلى المذكور في الجملة الأولى ، فيوجب تخصيصه بالإضافة إلى جميع الأحكام الثابتة له. وعلى الثاني يرجع إلى ما اعيد فيه الموضوع وما بعده. وهذا ما أفاده السيّد المحقّق الخوئيّ في المحاضرات ٥ : ٣٠٨ ـ ٣٠٩.

القول السادس : أنّه إذا لم يتكرّر الموضوع يرجع الاستثناء إلى الجميع ، وإذا تكرّر ـ سواء تكرّر في الجمل كلّها أو في بعض الجمل ـ فرجوعه إلى الجميع وإلى الأخيرة محتمل ، ولا يكون ظاهرا في واحد منهما. وهذا مختار السيّد الإمام الخمينيّ في مناهج الوصول ٢ : ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(١) معالم الدين : ١٢٤.

(٢) لا يخفى : أنّ الظاهر من كلام صاحب المعالم أنّه مهّد المقدّمة لإثبات أنّ رجوع الاستثناء إلى الكلّ على نحو الاشتراك المعنويّ ، لا الاشتراك اللفظيّ. فغرضه من تمهيد المقدّمة بيان كيفيّة رجوعه إلى الكلّ ، لا بيان أصل صحّة رجوعه إليه.

(٣) أي : رجوعه إلى الكلّ.

١٨٦

فيما كان المستثنى منه متعدّدا هو المستعمل فيه فيما كان واحدا ، كما هو الحال في المستثنى بلا ريب ولا إشكال. وتعدّد المخرج أو المخرج عنه خارجا لا يوجب تعدّد ما استعمل فيه أداة الإخراج مفهوما.

وبذلك يظهر : أنّه لا ظهور لها في الرجوع إلى الجميع أو خصوص الأخيرة ، وإن كان الرجوع إليها متيقّنا على كلّ تقدير.

نعم ، غير الأخيرة أيضا من الجمل لا يكون ظاهرا في العموم ، لاكتنافه بما لا يكون معه ظاهرا فيه ، فلا بدّ في مورد الاستثناء فيه من الرجوع إلى الاصول.

اللهمّ إلّا أن يقال بحجّيّة أصالة الحقيقة تعبّدا ، لا من باب الظهور ، فيكون المرجع عليه (١) أصالة العموم إذا كان وضعيّا ، لا ما إذا كان بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ، فإنّه لا يكاد تتمّ تلك المقدّمات مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع ، فتأمّل (٢).

__________________

(١) أي : على القول بحجّيّة أصالة الحقيقة تعبّدا.

(٢) إشارة إلى أنّه يكفي في منع جريان المقدّمات صلوح الاستثناء لذلك ، لاحتمال اعتماد المطلق حينئذ في التقييد عليه ، لاعتقاد أنّه كاف فيه.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ مجرّد صلوحه لذلك بدون قرينة عليه غير صالح للاعتماد ما لم يكن بحسب متفاهم العرف ظاهرا في الرجوع إلى الجميع. فأصالة الإطلاق مع عدم القرينة محكّمة ، لتماميّة مقدّمات الحكمة ، فافهم. منه [أعلى الله مقامه].

١٨٧

فصل

[تخصيص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد]

[الدليل على التخصيص]

الحقّ جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر بالخصوص (١) ، كما جاز بالكتاب أو بالخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة القطعيّة من خبر الواحد بلا ارتياب (٢) ، لما هو الواضح من سيرة الأصحاب على العمل بأخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الأئمّة عليهم‌السلام (٣).

واحتمال أن يكون ذلك (٤) بواسطة القرينة واضح البطلان (٥).

__________________

(١) أي : بالدليل الخاصّ ، كآية النبأ ، لا بدليل الانسداد.

(٢) خلافا للشيخ الطوسيّ ، فإنّه ذهب إلى عدم جواز تخصيص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد.

راجع العدّة ١ : ٣٤٤.

والعجب من المحقّق السيّد الخوئيّ حيث ادّعى عدم الخلاف بين الطائفة في جواز تخصيصه بخبر الواحد. المحاضرات ٥ : ٣٠٩.

(٣) كما ورد في قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) النساء / ١١.

وخصّصوه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ميراث للقاتل». الوسائل ١٧ : ٣٨٨ ، الباب ٧ من أبواب موانع الإرث ، الحديث ١. وخصّصوه أيضا بما ورد في أنّ الكافر لا يرث المسلم ، راجع الباب ١ من أبواب موانع الإرث من الوسائل ١٧ : ٣٧٤.

(٤) أي : عمل الأصحاب.

(٥) لأنّه لو كان عملهم بأخبار الآحاد بواسطة القرينة لبان ذلك.

١٨٨

مع أنّه (١) لولاه (٢) لزم إلغاء الخبر بالمرّة أو ما بحكمه (٣) ، ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب لو سلّم وجود ما لم يكن كذلك.

[أدلّة المخالفين والجواب عنها]

وكون العامّ الكتابيّ قطعيّا صدورا وخبر الواحد ظنّيّا سندا (٤) لا يمنع عن التصرّف في دلالته غير القطعيّة قطعا ، وإلّا لما جاز تخصيص المتواتر به أيضا ، مع أنّه جائز جزما.

والسرّ (٥) : أنّ الدوران في الحقيقة بين أصالة العموم ودليل سند الخبر ، مع أنّ الخبر بدلالته وسنده صالح للقرينيّة على التصرّف فيه. بخلافها ، فإنّها غير صالحة لرفع اليد عن دليل اعتباره (٦).

ولا ينحصر الدليل على الخبر بالإجماع (٧) ، كي يقال ب «أنّه فيما لا يوجد على خلافه دلالة ، ومع وجود الدلالة القرآنيّة يسقط وجوب العمل به». كيف! وقد

__________________

(١) هذا هو الوجه الثاني من الوجهين اللّذين ذكرهما المصنّف رحمه‌الله في المقام لإثبات جواز تخصيص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد.

(٢) أي : لو لا عملهم بخبر الواحد في قبال عمومات الكتاب.

(٣) أي : ما بحكم إلغائه.

(٤) هذا أوّل الوجوه الأربعة الّتي استدلّ بها المخالفون وتعرّض لها المصنّف رحمه‌الله في المقام.

(٥) أي : والسرّ في تخصيص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد.

(٦) والحاصل : أنّ المعارضة تقع في الواقع بين أصالة العموم ودليل حجّيّة الخبر. والخبر يرفع موضوع أصالة العموم ، لأنّ جريانها منوط بعدم الدليل على خلافها ، ضرورة احتمال عدم إرادة العموم ، وأدلّة حجّيّة خبر الواحد دليل على خلافها ، فيكون الخبر حاكما عليها ومقدّما على العموم.

(٧) إشارة إلى الوجه الثاني من الوجوه الّتي استدلّ بها القائلون بعدم جواز تخصيص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد. وحاصله : أنّ دليل حجّيّة خبر الواحد هو الإجماع ، وهو دليل لبّيّ ، فيكتفى في مدلوله بالقدر المتيقّن ، وهو ما لا يوجد على خلاف الخبر دلالة ، فلا يشمل الخبر الّذي يخالفه العامّ الكتابيّ.

١٨٩

عرفت أنّ سيرتهم مستمرّة على العمل به في قبال العمومات الكتابيّة.

والأخبار الدالة على أنّ الأخبار المخالفة للقرآن يجب طرحها (١) ، أو ضربها على الجدار (٢) ، أو أنّها زخرف (٣) ، أو أنّها ممّا لم يقل بها الإمام عليه‌السلام (٤) وإن كانت كثيرة جدّا وصريحة الدلالة على طرح المخالف (٥) ، إلّا أنّه لا محيص عن أن يكون المراد من المخالفة في هذه الأخبار غير مخالفة العموم ، إن لم نقل بأنّها ليست من المخالفة عرفا ، كيف! وصدور الأخبار المخالفة للكتاب بهذه المخالفة منهم عليه‌السلام كثيرة جدّا.

مع قوّة احتمال أن يكون المراد أنّهم لا يقولون بغير ما هو قول الله تبارك وتعالى واقعا ، وإن كان هو على خلافه ظاهرا ، شرحا لمرامه تعالى ، وبيانا لمراده من كلامه ، فافهم.

والملازمة بين جواز التخصيص وجواز النسخ به (٦) ممنوعة ، وإن كان مقتضى القاعدة جوازهما ، لاختصاص النسخ بالإجماع على المنع ، مع وضوح الفرق بتوافر الدواعي إلى ضبطه ، ولذا قلّ الخلاف في تعيين موارده ، بخلاف التخصيص.

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة ١٨ : ٧٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١ و ١٠ و ١٩.

(٢) لم أعثر على رواية تدلّ على ضربها على الجدار.

(٣) راجع وسائل الشيعة ١٨ : ٧٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٤.

(٤) راجع المصدر السابق ، الحديث ١٥.

(٥) وهذا هو الوجه الثالث من الوجوه الأربعة.

(٦) وهذا هو الوجه الرابع. وحاصله : أنّ جواز تخصيص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد مستلزم لجواز النسخ به ، لأنّهما من واد واحد ، إذا النسخ هو التخصيص بحسب الأزمان. وقد قام الإجماع على عدم جواز النسخ به ، وهذا يدلّ على عدم جواز التخصيص به.

١٩٠

فصل

[دوران الأمر بين النسخ والتخصيص]

[حالات الخاصّ والعامّ ، وأحكامها]

لا يخفى : أنّ الخاصّ والعامّ المتخالفين (١) يختلف حالهما ناسخا ومخصّصا ومنسوخا ، فيكون الخاصّ مخصّصا تارة ، وناسخا مرّة ، ومنسوخا اخرى. وذلك لأنّ الخاصّ إن كان مقارنا مع العامّ (٢) أو واردا بعده قبل حضور وقت العمل به فلا محيص عن كونه مخصّصا وبيانا له.

وإن كان بعد حضوره ، كان ناسخا لا مخصّصا ، لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة (٣) فيما إذا كان العامّ واردا لبيان الحكم الواقعيّ ، وإلّا لكان الخاصّ أيضا مخصّصا له(٤) ، كما هو الحال في غالب العمومات والخصوصات في الآيات

__________________

(١) نحو : «أكرم العلماء» و «لا تكرم فسّاقهم».

(٢) بأن يكون صادرين من معصومين في آن واحد ، أو يكونا صادرين من معصوم واحد في مجلس واحد متّصلا بالعامّ أو منفصلا.

(٣) لا يخفى : أنّ في مراده من وقت الحاجة وجهين :

الأوّل : أن يكون المراد به وقت العمل والامتثال.

الثاني : أن يكون المراد به وقت البيان ، أي الوقت الّذي يكون المتكلّم في مقام بيان مراده.

(٤) أي : وإن لم يكن العامّ واردا لبيان الحكم الواقعيّ ، بل كان واردا لبيان الحكم الظاهريّ لكان الخاصّ مخصّصا من دون أن يلزم من تأخّره عن وقت العمل بالعامّ تأخير البيان عن وقت ـ

١٩١

والروايات.

وإن كان العامّ واردا بعد حضور وقت العمل بالخاصّ فكما يحتمل أن يكون الخاصّ مخصّصا للعامّ يحتمل أن يكون العامّ ناسخا له ، وإن كان الأظهر أن يكون الخاصّ مخصّصا ، لكثرة التخصيص حتّى اشتهر : «ما من عامّ إلّا وقد خصّ» ، مع قلّة النسخ في الأحكام جدّا. وبذلك (١) يصير ظهور الخاصّ في الدوام ـ ولو كان بالإطلاق ـ أقوى من ظهور العامّ ـ ولو كان بالوضع ـ ، كما لا يخفى. هذا فيما علم تأريخهما.

وأمّا لو جهل وتردّد بين أن يكون الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ وقبل حضوره فالوجه هو الرجوع إلى الاصول العمليّة. وكثرة التخصيص وندرة النسخ هاهنا وإن كانا يوجبان الظنّ بالتخصيص أيضا ، وأنّه واجد لشرطه ، إلحاقا له بالغالب ، إلّا أنّه لا دليل على اعتباره ، وإنّما يوجبان الحمل عليه فيما إذا ورد العامّ بعد حضور وقت العمل بالخاصّ ، لصيرورة الخاصّ بذلك في الدوام أظهر من العامّ ، كما اشير إليه (٢) ، فتدبّر جيّدا.

ثمّ إنّ تعيّن الخاصّ للتخصيص إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعامّ أو ورد العامّ قبل حضور وقت العمل به إنّما يكون مبنيّا على عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، وإلّا فلا يتعيّن له ، بل يدور بين كونه مخصّصا وناسخا (٣)

__________________

ـ الحاجة ، لأنّ المفروض أنّ المولى لم يكن في مقام بيان الحكم الواقعيّ حين جعله الحكم على نحو العموم ، وإنّما كان في مقام بيان الحكم الظاهريّ ، وهو لم يتأخّر بيانه عن وقت الحاجة.

(١) أي : بكثرة التخصيص وقلّة النسخ مع ورود العامّ بعد حضور وقت العمل بالخاصّ.

(٢) اشير إليه قبل أسطر.

(٣) لا يخفى : أنّ كونه مخصّصا بمعنى كونه مبيّنا بمقدار المرام عن العامّ ، وناسخا بمعنى كون حكم العامّ غير ثابت في نفس الأمر في مورد الخاصّ مع كونه مرادا ومقصودا بالإفهام في مورده بالعامّ كسائر الأفراد ، وإلّا فلا تفاوت بينهما عملا أصلا ، كما هو واضح لا يكاد يخفى. منه [أعلى الله مقامه].

١٩٢

في الأوّل (١) ، ومخصّصا ومنسوخا في الثاني (٢) ، إلّا أنّ الأظهر كونه مخصّصا (٣) ، ولو فيما كان ظهور العامّ في عموم الأفراد أقوى من ظهور الخاصّ في الخصوص (٤) ، لما اشير إليه (٥) من تعارف التخصيص وشيوعه وندرة النسخ جدّا في الأحكام (٦).

__________________

(١) أي : فيما إذا ورد الخاصّ قبل وقت العمل بالعامّ.

(٢) أي : فيما إذا ورد العامّ قبل حضور وقت العمل بالخاصّ.

(٣) أي : كون الخاصّ مخصّصا ، وبتبعه يكون الأظهر كون العامّ مخصّصا.

(٤) وفي بعض النسخ : «أقوى من ظهوره وظهور الخاصّ في الدوام». وما أثبتناه موافق لما في النسخة الاخرى المخطوطة وبعض النسخ المطبوعة ، وهو الصحيح.

(٥) قبل أسطر.

(٦) لا يخفى : أنّ الأعلام الثلاثة وإن وافقوا المصنّف رحمه‌الله في تعيّن الخاصّ للتخصيص عند دوران الأمر بين كونه مخصّصا أو ناسخا ، إلّا أنّهم خالفوه فيما أفاده في وجه تعيّن حمل الخاصّ على كونه مخصّصا.

أمّا ما أفاده المصنّف رحمه‌الله ، فحاصله : أنّ شهرة التخصيص وندرة النسخ توجبان أقوائيّة ظهور الخاصّ في الخصوص ـ ولو كان بالإطلاق ـ من ظهور العامّ في العموم ـ ولو كان بالوضع ـ.

وأمّا المحقّق النائينيّ : فقدّم مقدّمات ثلاث :

الأولى : ما يرتبط بكلام المصنّف رحمه‌الله : «وإلّا كان الخاصّ أيضا مخصّصا له» ، فأفاد أنّه يستحيل ورود العامّ لبيان الحكم الظاهريّ.

الثانية : ما يتعلّق بقول المصنّف رحمه‌الله : «إنّما يكون مبنيّا على عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل» ، فأفاد أنّ النسخ قبل وقت حضور العمل معقول في بعض صور جعل الأحكام ، كما إذا كان الحكم المجعول من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الحقيقيّة.

الثالثة : ما يرتبط بقوله : «لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة» ، فأفاد أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة ليس بقبيح إذا كان من عادة المتكلّم لمصلحة هناك.

وبعد ذلك ذكر وجه تعيّن حمل الخاصّ على كونه مخصّصا مطلقا ، سواء تقدّم الخاصّ على العامّ أو تأخّر عنه. وحاصله : أنّ الحكم بشمول العامّ لجميع أفراده يتوقّف على جريان مقدّمات الحكمة في متعلّق العموم. ومن الواضح أنّ الخاصّ المتقدّم يصلح لأن يكون بيانا لتقييد متعلّق العموم المتأخّر ، لعدم محذور في تقديم البيان ، كما مرّ. وكذا الخاصّ المتأخّر يصلح لأن يكون بيانا لتقييد متعلّق العموم المتقدّم ، لما عرفت من صحّة تأخير البيان عن وقت الحاجة فيما إذا كانت هناك مصلحة تقتضيه ، ومع وجود ما يصلح للتخصيص والتقييد لا تتمّ مقدّمات الحكمة ، فأصالة العموم لا تكون جارية في نفسها عند ورود المخصّص ، لعدم ـ

١٩٣

[حقيقة النسخ]

ولا بأس بصرف الكلام إلى ما هو نخبة القول في النسخ.

فاعلم : أنّ النسخ وإن كان رفع الحكم الثابت إثباتا ، إلّا أنّه في الحقيقة دفع الحكم ثبوتا ، وإنّما اقتضت الحكمة إظهار دوام الحكم واستمراره أو أصل إنشائه وإقراره ، مع أنّه بحسب الواقع ليس له قرار أو ليس له دوام واستمرار ؛ وذلك لأنّ النبيّ الصادع للشرع (١) ربما يلهم أو يوحى إليه أن يظهر الحكم أو استمراره مع

__________________

ـ المقتضي ـ وهو مقدّمات الحكمة ـ ، لا لوجود المانع. أجود التقريرات ١ : ٥٠٦ ـ ٥١٢.

وأمّا المحقّق العراقىّ : فهو ـ بعد ما أورد على المصنّف رحمه‌الله بأنّ كثرة التخصيص وندرة النسخ متأخّرتان عن زمان ورود الخاصّ ، لأنّهما ناشئان عن الالتزام بالتخصيص دون النسخ في الخصوصات ، فلو التزمنا بالنسخ كان الأمر بالعكس ـ قرّب وجه تقديم التخصيص على النسخ بما قرّب به وجه تقديم أصالة السند والجهة على أصالة الظهور والدلالة. بيان ذلك : أنّه إذا دار الأمر بين التصرّف الدلاليّ والتصرّف الجهتيّ يقدّم الأصل الجهتيّ على الأصل الدلاليّ من جهة أنّه لو لا إحراز أصل صدور الكلام عن المعصوم عليه‌السلام لا تنتهي النوبة إلى مقام التعبّد بظهوره ودلالته. وبما أنّ باب النسخ كان من باب التورية والتقيّة في كونه من قبيل التصرّف في الجهة لا من قبيل التصرّف في الدلالة ، وكان الخاصّ من قبيل التصرّف في الدلالة ، فمع الدوران في العامّ بين كونه منسوخا بالخاصّ وكونه مخصّصا به يقدّم الأصل الجاري في جهته ـ وهو أصالة عدم النسخ ـ على الأصل الجاري في ظهوره ودلالته ـ وهو أصالة العموم ـ ، فيقدّم التخصيص على النسخ. مقالات الاصول ١ : ٤٨٦.

وأمّا المحقّق الأصفهانيّ : فذهب إلى تعيّن التخصيص بوجه آخر. وتوضيحه : أنّ كلام الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام كلّه بمنزلة كلام واحد ، لأنّ الأحكام الشرعيّة بأجمعها ثابتة في الشريعة الإسلاميّة من أوّل الأمر ، وكلام الأئمّة عليهم‌السلام بيان لهذه الأحكام الشرعيّة الثابتة من أوّل الأمر ، لا من حين صدورها. وعليه ، فلا تأخّر ولا تقدّم بين هذه الأحكام في ظرف ثبوتها ، وإنّما التأخّر والتقدّم في ظرف بيانها. فإذا العامّ المتأخّر زمانا مقارن للخاصّ في ظرف الثبوت ، وإن كان متأخّرا عنه بيانا. ومن هنا يكون دليل المخصّص كاشفا عن تخصيص الحكم العامّ من الأوّل ، سواء كان العامّ متأخّرا زمانا أو متقدّما كذلك. فلا موجب لتوهّم كونه ناسخا للخاصّ ، بل لا مناص من جعل الخاصّ مخصّصا له. راجع هامش نهاية الدراية ١ : ٦٦٠.

(١) أي : النبيّ المظهر والمبيّن للشرع.

١٩٤

اطّلاعه على حقيقة الحال وأنّه ينسخ في الاستقبال ، أو مع عدم اطّلاعه على ذلك ، لعدم إحاطته بتمام ما جرى في علمه تبارك وتعالى (١). ومن هذا القبيل لعلّه يكون أمر إبراهيم عليه‌السلام بذبح إسماعيل عليه‌السلام.

وحيث عرفت : أنّ النسخ بحسب الحقيقة يكون دفعا وإن كان بحسب الظاهر رفعا ، فلا بأس به مطلقا ، ولو كان قبل حضور وقت العمل ، لعدم لزوم البداء المحال في حقّه تبارك وتعالى بالمعنى المستلزم لتغيّر إرادته تعالى مع اتّحاد الفعل ذاتا وجهة (٢) ، ولا لزوم (٣) امتناع النسخ أو الحكم المنسوخ ، فإنّ

__________________

(١) كما في القرآن الكريم : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) الأعراف / ١٨٨.

(٢) إشارة إلى أحد الوجوه الّتي استدلّ بها على امتناع النسخ. وحاصله : أنّ النسخ يستلزم البداء الباطل المستحيل في حقّه تعالى ، لأنّ إثبات حكم في زمان ورفعه في زمان آخر يستلزم تعلّق إرادة الواجب تعالى بفعل في زمان وتعلّق إرادته تعالى بتركه في زمان آخر من دون أيّ تغيّر في الفعل ، لا في أجزائه ولا أركانه ولا الجهة الّتي لها دخل في المصلحة الداعية للأمر به ، وهذا هو البداء الباطل والمحال في حقّه تعالى ، لأنّه مستلزم لجهله.

ثمّ أجاب المصنّف رحمه‌الله عنه بقوله : «وذلك لأنّ الفعل ...» وحاصله : أنّ الاستدلال بما ذكر إنّما يتمّ على القول بأنّ النسخ رفع الحكم. وأمّا بناء على القول بأنّه دفع الحكم فلا يتمّ ، لعدم لزوم البداء المحال في حقّه تعالى ، ضرورة أنّه حينئذ تعلّقت إرادته الجدّيّة من أوّل الأمر بتركه بعد مدّة ، فلم تتغيّر إرادته.

(٣) هكذا في النسخ المخطوطة الّتي بأيدينا. وفي بعض النسخ المطبوعة : «وإلّا لزم». وما في المتن أنسب للمقام. وعليه يكون قوله : «ولزوم» معطوفا على قوله : «لعدم لزوم البداء الحال» وإشارة إلى الوجه الثاني من الوجوه الّتي استدلّ بها على استحالة النسخ بعد ما أشار إلى الوجه الأوّل منها بقوله : «لعدم لزوم البداء المحال». وحاصله : أنّ ما أثبته الله تعالى من الأحكام تابعة للمصالح أو المفاسد الّتي في متعلّقها. وما له مصلحة في ذاته لا ينقلب عمّا هو عليه فيكون ذا مفسدة ، وكذلك العكس ، وإلّا لزم انقلاب الحسن قبيحا وانقلاب القبيح حسنا ، وهو محال. ومن هنا يظهر استحالة النسخ ، لأنّ الفعل إن كان ذا مصلحة موجبة للأمر به امتنع النهي عنه إلّا إذا صار ذا مفسدة ، وما له مصلحة في ذاته لا يصير ذا مفسدة ، للزوم انقلاب الحسن قبيحا ؛ كما أنّ الفعل إذا كان ذا مفسدة موجبة للنهى عنه امتنع الأمر به إلّا ـ

١٩٥

الفعل (١) إن كان مشتملا على مصلحة موجبة للأمر به امتنع النهي عنه ، وإلّا امتنع الأمر به. وذلك (٢) لأنّ الفعل أو دوامه لم يكن متعلّقا لإرادته ، فلا يستلزم نسخ أمره بالنهي تغيير إرادته ؛ ولم يكن الأمر بالفعل (٣) من جهة كونه مشتملا على مصلحة ، وإنّما كان إنشاء الأمر به أو إظهار دوامه عن حكمة ومصلحة.

وأمّا البداء في التكوينيّات بغير ذاك المعنى : فهو ممّا دلّ عليه الروايات المتواترات (٤) ، كما لا يخفى. ومجمله : أنّ الله تبارك وتعالى إذا تعلّقت مشيئته تعالى بإظهار ثبوت ما يمحوه ، لحكمة داعية إلى إظهاره ، ألهم أو أوحى إلى نبيّه أو وليّه أن يخبر به مع علمه (٥) بأنّه يمحوه ، أو مع عدم علمه (٦) به ، لما اشير إليه من عدم الإحاطة بتمام ما جرى في علمه ، وإنّما يخبر به لأنّه حال الوحي أو الإلهام ـ لارتقاء نفسه الزكيّة واتّصاله بعالم لوح المحو والإثبات ـ اطّلع على ثبوته

__________________

ـ إذا صار ذا مصلحة ، وصيرورته كذلك محال ، للزوم انقلاب القبيح حسنا.

وأجاب عنه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «ولم يكن الأمر بالفعل ...». وتوضيحه : أنّ هذا الاستدلال أيضا إنّما يتمّ على القول بأنّ النسخ رفع الحكم. وأمّا بناء على أنّه دفع الحكم فلا يتمّ ، لأنّ الأمر بالفعل لم يكن من جهة كونه مشتملا على مصلحة كي يمتنع دفعه ، بل إنّما كان الأمر به أو إظهار دوامه عن حكمة ومصلحة إلهيّة غير المصلحة الّتي يكون الأمر بالشيء تابعا لها ، كمصلحة امتحان العبيد.

هذا كلّه على ما أثبتناه في المتن.

وأمّا على ما في بعض النسخ المطبوعة فيكون معنا قوله : «وإلّا لزم ...» : وإن كان النسخ قبل حضور وقت العمل مستحيلا لاستلزامه البداء المحال لزم امتناع النسخ والحكم المنسوخ مطلقا ، قبل حضور وقت العمل وبعده.

(١) تعليل للزوم امتناع النسخ أو امتناع الحكم المنسوخ.

(٢) أي : عدم لزوم البداء المحال في حقّه.

(٣) بيان لعدم لزوم امتناع النسخ أو امتناع الحكم المنسوخ.

(٤) راجع الكافي ١ : ١٤٦ ـ ١٤٩.

(٥ ـ ٦) الضميران يرجعان إلى النبيّ أو الوليّ.

١٩٦

ولم يطّلع على كونه معلّقا على أمر غير واقع أو عدم الموانع ؛ قال الله تبارك وتعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) الآية (١).

نعم ، من شملته العناية الإلهيّة واتّصلت نفسه الزكيّة بعالم اللوح المحفوظ ـ الّذي هو من أعظم العوالم الربوبيّة ، وهو أمّ الكتاب ـ يكشف (٢) عنده الواقعيّات على ما هي عليها ، كما ربما يتّفق لخاتم الأنبياء ولبعض الأوصياء ، وكان عارفا بالكائنات كما كانت وتكون. نعم ، مع ذلك ربما يوحى إليه حكم من الأحكام تارة بما يكون ظاهرا في الاستمرار والدوام مع أنّه في الواقع له غاية وأمد يعيّنها بخطاب آخر ، واخرى بما يكون ظاهرا في الجدّ مع أنّه لا يكون واقعا بجدّ ، بل لمجرّد الابتلاء والاختبار ، كما أنّه يؤمر وحيا أو إلهاما بالإخبار بوقوع عذاب أو غيره ممّا لا يقع لأجل حكمة في هذا الإخبار أو ذاك الإظهار. فبدا له تعالى ، بمعنى : أنّه يظهر ما أمر نبيّه أو وليّه بعدم إظهاره أوّلا ، ويبدي ما خفي ثانيا. وإنّما نسب إليه تعالى البداء مع أنّه في الحقيقة الإبداء ، لكمال شباهة إبدائه تعالى كذلك بالبداء في غيره.

وفيما ذكرنا كفاية فيما هو المهمّ في باب النسخ ، ولا داعي بذكر تمام ما ذكروه في ذاك الباب ، كما لا يخفى على اولي الألباب.

[الثمرة بين التخصيص والنسخ]

ثمّ لا يخفى ثبوت الثمرة بين التخصيص والنسخ ، ضرورة أنّه على التخصيص يبنى على خروج الخاصّ عن حكم العامّ رأسا ، وعلى النسخ على ارتفاع حكمه

__________________

(١) الرعد / ٣٩.

(٢) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «ينكشف». والأولى منه سوق العبارة هكذا : «ويكشف عنده الواقعيّات على ما هي عليه ـ كما ربما يتّفق لخاتم الأنبياء ولبعض الأوصياء ـ ، وكان عارفا بالكائنات كما كانت وتكون».

١٩٧

عنه من حينه فيما دار الأمر بينهما في المخصّص. وأمّا إذا دار بينهما في الخاصّ والعامّ ، فالخاصّ على التخصيص غير محكوم بحكم العامّ أصلا ، وعلى النسخ كان محكوما به من حين صدور دليله ، كما لا يخفى (١).

__________________

(١) وقد يذكر للبحث ثمرات أخر :

منها : أنّه إذا ورد خاصّ يشمل أكثر أفراد العامّ ، فبناء على تعيّن التخصيص يلزم منه التخصيص الأكثر وهو مستهجن. بخلاف النسخ.

ومنها : أنّه إذا ورد مخصّصان مستوعبان للعامّ ، فبناء على التخصيص يقع التعارض بين المخصّصين والعامّ. بخلاف النسخ.

١٩٨

المقصد الخامس

في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن

[وفيه فصول :]

١٩٩
٢٠٠