كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
ISBN: 978-964-470-562-5
الصفحات: ٤١٩

لأحكام العناوين الثانويّة فيما شكّ من غير جهة تخصيصها إذا اخذ في موضوعاتها أحد الأحكام المتعلّقة بالأفعال بعناوينها الأوّليّة ، كما هو الحال في وجوب إطاعة الوالد والوفاء بالنذر وشبهه (١) في الامور المباحة أو الراجحة ، ضرورة أنّه ـ معه (٢) ـ لا يكاد يتوهّم عاقل إذا شكّ في رجحان شيء أو حلّيّته جواز التمسّك بعموم دليل وجوب الإطاعة أو الوفاء في رجحانه أو حلّيّته.

نعم ، لا بأس بالتمسّك به في جوازه بعد إحراز التمكّن منه والقدرة عليه فيما لم يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلا ، فإذا شكّ في جوازه صحّ التمسّك بعموم دليلها (٣) في الحكم بجوازها (٤). وإذا كانت محكومة بعناوينها الأوّليّة بغير حكمها بعناوينها الثانويّة تقع (٥) المزاحمة بين المقتضيين (٦) ، ويؤثّر الأقوى منهما لو كان في البين ، وإلّا لم يؤثّر أحدهما ، وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح ، فليحكم عليه حينئذ بحكم آخر ـ كالإباحة ـ إذا كان أحدهما مقتضيا للوجوب والآخر للحرمة مثلا.

وأمّا صحّة الصوم في السفر بنذره فيه ـ بناء على عدم صحّته فيه بدونه ـ وكذا

__________________

ـ لوجوب الوفاء بالنذر أو لا يكون راجحا كي لا يصير موضوعا له؟ فالشبهة مصداقيّة ، ولا يصحّ التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة.

وأمّا القسم الثاني : فيتمسّك فيه بعموم الدليل لإثبات حكمه مع الشكّ في فرد ، فيثب له الحكم بعنوانه الثانويّ. فإذا كان محكوما بحكم خاصّ بعنوانه الأوّليّ وتقع المزاحمة بين المقتضيين فيؤثّر الأقوى منهما لو كان ، وإلّا كان محكوما بحكم آخر ـ كالإباحة ـ فيما إذا كان أحد المقتضيين مؤثّرا في الوجوب والآخر في الحرمة.

(١) أي : شبه النذر. وهو العهد.

(٢) أي : مع أخذ أحد أحكام العناوين الأوّليّة في موضوعات أحكام العناوين الثانويّة.

(٣) أي : دليل أحكام الموضوعات بعناوينها الثانويّة.

(٤) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «بجوازه» ، فإنّ الضمير يرجع إلى «شيء».

(٥) وفي بعض النسخ : «وقع». والصحيح ما أثبتناه.

(٦) ولا يخفى : أنّ الالتزام بوقوع التزاحم بين الحكمين الأوّليّ والثانويّ ينافي ما يأتي منه في مبحث التعادل والتراجيح من تقدّم دليل الحكم الثانويّ على دليل الحكم الأوّليّ بالنظر العرفيّ.

١٦١

الإحرام قبل الميقات : فإنّما هو (١) لدليل خاصّ كاشف عن رجحانهما ذاتا في السفر وقبل الميقات ، وإنّما لم يأمر بهما استحبابا أو وجوبا لمانع يرتفع مع النذر.

وإمّا لصيرورتهما راجحين بتعلّق (٢) النذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك ، كما ربما يدلّ عليه ما في الخبر من كون الإحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت (٣).

لا يقال : لا يجدي صيرورتهما راجحين بذلك (٤) في عباديّتهما ، ضرورة كون وجوب الوفاء توصّليّا لا يعتبر في سقوطه إلّا الإتيان بالمنذور بأيّ داع كان.

فإنّه يقال : عباديّتهما إنّما تكون لأجل كشف دليل صحّتهما عن عروض (٥) عنوان راجح عليهما ملازم لتعلّق النذر بهما.

هذا لو لم نقل بتخصيص عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلّق النذر بهذا الدليل ، وإلّا أمكن أن يقال بكفاية الرجحان الطارئ عليهما من قبل النذر في عباديّتهما بعد تعلّق النذر بإتيانهما عباديّا ومتقرّبا بهما منه تعالى ، فإنّه وإن لم يتمكّن من إتيانهما كذلك قبله ، إلّا أنّه يتمكّن منه بعده ، ولا يعتبر في صحّة النذر إلّا التمكّن من الوفاء ولو بسببه ، فتأمّل جيّدا.

[عدم إحراز مصاديق العامّ بأصالة عدم التخصيص]

بقي شيء ، وهو : أنّه هل يجوز التمسّك بأصالة عدم التخصيص في إحراز عدم كون ما شكّ في أنّه من مصاديق العامّ ـ مع العلم بعدم كونه محكوما بحكمه ـ

__________________

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «فإنّما هي» ، فإنّ الضمير يرجع إلى صحّة الصوم.

(٢) أي : مع تعلّق النذر. فالباء بمعنى المصاحبة.

(٣) لم أعثر على رواية تدلّ على كون الإحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت.

نعم ، ورد ما يدلّ على أنّ مثل من أحرم قبل الميقات مثل من صلّى في السفر أربعا وترك الثنتين. راجع وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٤ ، الباب ١١ من أبواب المواقيت ، الحديث ٣.

(٤) أي : مع تعلّق النذر بهما. فالباء بمعنى «مع».

(٥) هكذا في النسخ. ولكن لا تساعد عليه اللغة.

١٦٢

مصداقا له (١) ، مثل ما إذا علم أنّ زيدا يحرم إكرامه ، وشكّ في أنّه عالم ، فيحكم عليه ـ بأصالة عدم تخصيص «أكرم العلماء» ـ أنّه ليس بعالم ، بحيث يحكم عليه بسائر ما لغير العالم من الأحكام؟

فيه إشكال ، لاحتمال اختصاص حجّيّتها (٢) بما إذا شكّ في كون فرد العامّ محكوما بحكمه ، كما هو قضيّة عمومه. والمثبت من الاصول اللفظيّة وإن كان حجّة ، إلّا أنّه لا بدّ من الاقتصار على ما يساعد عليه الدليل ، ولا دليل هاهنا إلّا السيرة وبناء العقلاء ، ولم يعلم استقرار بنائهم على ذلك ، فلا تغفل (٣).

__________________

(١) قوله : «مصداقا له» خبر قوله : «عدم كون».

(٢) أي : حجّيّة أصالة عدم التخصيص ، وهي أصالة العموم.

(٣) والحاصل : أنّ أصالة عدم التخصيص وإن كان حجّة ، إلّا أنّ مقدار حجّيتها تابع لما يدلّ على اعتبارها. وبما كان دليل حجّيّتها بناء العقلاء والسيرة فلا بدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن ، وهو حجّيتها في إحراز ثبوت حكم العامّ لمن علم كونه فردا للعامّ وشكّ في خروجه عن حكمه تخصيصا. وأمّا إحراز فرديّة فرد بأصالة عدم التخصيص فلم يعلم استقرار بناء العقلاء على ذلك.

١٦٣

فصل

[العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص]

هل يجوز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص؟ (١) فيه خلاف ، وربما نفي الخلاف عن عدم جوازه (٢) ، بل ادّعي الإجماع عليه (٣).

والّذي ينبغي أن يكون محلّ الكلام في المقام أنّه هل تكون أصالة العموم متّبعة مطلقا أو بعد الفحص عن المخصّص واليأس عن الظفر به؟ بعد الفراغ عن اعتبارها بالخصوص في الجملة من باب الظنّ النوعيّ للمشافه وغيره ما لم يعلم بتخصيصه تفصيلا ، ولم يكن من أطراف ما علم تخصيصه إجمالا. وعليه فلا مجال لغير واحد ممّا استدلّ به على عدم جواز العمل به قبل الفحص واليأس (٤).

__________________

(١) قال السيّد المحقّق البروجرديّ : «وأوّل من عنون المسألة أبو العبّاس بن سريج ـ المتوفّى في أوائل المائة الرابعة من الهجرة ـ وكان يقول بعدم الجواز. واستشكل عليه تلميذه أبو بكر الصيرفيّ بأنّه لو لم يجز ذلك لما جاز التمسّك بأصالة الحقيقة أيضا قبل الفحص عن قرينة المجاز». نهاية الاصول : ٣١١.

(٢) وهو المنقول عن الغزاليّ والآمديّ. راجع مطارح الأنظار : ١٩٧.

(٣) وهو المنقول عن النهاية. راجع مطارح الأنظار : ١٩٧.

(٤) غرض المصنّف رحمه‌الله التعريض ببعض من استدلّ على عدم الجواز بوجوه لا مجال للاستدلال بها. وهي ثلاثة :

الأوّل : ما تعرّض له الفاضل التونيّ في الوافية : ١٢٩ ، واستدلّ به المحقّق القميّ في ـ

١٦٤

فالتحقيق عدم جواز التمسّك به قبل الفحص فيما إذا كان في معرض التخصيص ، كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنّة ، وذلك لأجل أنّه لو لا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به قبله فلا أقلّ من الشكّ ، كيف! وقد ادّعي الإجماع على عدم جوازه فضلا عن نفي الخلاف عنه ، وهو كاف في عدم الجواز ، كما لا يخفى. وأمّا إذا لم يكن العامّ كذلك ـ كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورات ـ فلا شبهة في أنّ السيرة على العمل به بلا فحص عن مخصّص (١).

وقد ظهر لك بذلك أنّ مقدار الفحص اللازم ما به يخرج عن المعرضيّة له. كما

__________________

ـ القوانين ١ : ٢٧٦. وحاصله : أنّ المقصود من العمل بالأحكام هو تحقّق إطاعة الموالى ، ولا تتحقّق إطاعتهم إلّا بالعمل بمرادهم ، فلا بدّ من العلم أو الظنّ بمرادهم. ولا يحصل الظنّ بمرادهم من العموم قبل الفحص ، فيجب الفحص حتّى يحصل الظنّ به.

الثاني : ما نسب في مطارح الأنظار : ٢٠١ إلى المحقّق القميّ. وحاصله : أنّ خطابات الكتاب والسنّة خاصّة للمشافهين ، فلا تعمّ غيرهم من الغائبين والمعدومين. وعليه فلا يمكن لهم أن يتمسّكوا بعموم تلك الخطابات ، بل لا بدّ في إثبات توجّهها إليهم من التمسّك بقاعدة الاشتراك في التكليف ، والتمسّك بها متوقّف على تعيين أنّ الحكم عامّ أو خاصّ ، وهو متوقّف على الفحص ، فإذن يجب على غير المشافهين الفحص عن المخصّص.

الثالث : ما ذكره الشيخ الأنصاريّ واعتمد عليه على ما في مطارح الأنظار : ٢٠٢. وحاصله : أنّا نعلم إجمالا بورود مخصّصات كثيرة للعمومات الواردة في الشريعة. وقضيّة هذا العلم الإجماليّ عدم جواز العمل بالعمومات قبل الفحص عن المخصّص ، فإذن يجب الفحص عن المخصّص.

والمصنّف رحمه‌الله حدّد محلّ البحث ، فذكر أنّ البحث في جواز العمل بالعامّ قبل الفحص وعدم جوازه إنّما هو بعد الفراغ عن اعتبار أصالة العموم من باب الظنّ النوعيّ لا الشخصيّ ، فلا مجال للاستدلال بالدليل الأوّل ؛ وبعد الفراغ عن حجّيّتها بالنسبة إلى المشافهين وغيرهم ، فلا مجال للاستدلال بالدليل الثاني ؛ وبعد الفراغ عن عدم كون العامّ من أطراف العلم الإجماليّ بالتخصيص ، فلا مجال للاستدلال بالدليل الثالث.

(١) ووافقه المحقّق الاصفهانيّ والسيّد الإمام الخمينيّ. وظاهر كلام المحقّق النائينيّ هو عدم جواز العمل بالعامّ قبل الفحص مطلقا. راجع نهاية الدراية ١ : ٦٤٦ ، ومناهج الوصول ٢ : ٢٧٥ ، فوائد الاصول ٢ : ٥٣٩.

١٦٥

أنّ مقداره اللازم منه (١) بحسب سائر الوجوه الّتي استدلّ بها ـ من العلم الإجماليّ به أو حصول الظنّ بما هو التكليف أو غير ذلك ـ رعايتها ، فيختلف مقداره بحسبها ، كما لا يخفى (٢).

ثمّ إنّ الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصّص المتّصل باحتمال أنّه كان ولم يصل ، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز ، وقد اتّفقت كلماتهم (٣) على عدم الاعتناء به مطلقا ولو قبل الفحص عنها ، كما لا يخفى.

إيقاظ : [الفرق بين الفحص هاهنا والفحص في الاصول العمليّة]

لا يذهب عليك الفرق بين الفحص هاهنا وبينه في الاصول العمليّة ، حيث إنّه هاهنا عمّا يزاحم الحجيّة ، بخلافه هناك (٤) ، فإنّه بدونه لا حجّة ، ضرورة أنّ العقل بدونه يستقلّ باستحقاق المؤاخذة على المخالفة ، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان والمؤاخذة عليها من غير برهان (٥).

__________________

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يحذف قوله : «منه» ، ضرورة أنّه لا معنى لقولنا : «مقدار الفحص اللازم من الفحص». ويصحّ أيضا أن يقول : «كما أنّ المقدار اللازم منه ...».

(٢) ذهب ابن الحاجب إلى أن مقدار الفحص اللازم ما به يظنّ بعدم المخصّص. ونسب إلى القاضي الباقلانيّ أنّ المقدار اللازم ما به يقطع بعدم المخصّص. راجع منتهى الوصول والأمل : ١٤٤.

وذهب المحقّق النائينيّ إلى أنّ المقدار اللازم ما به يحصل الاطمئنان وسكون النفس بعدم وجود المخصّص. وتبعه السيّد المحقّق الخوئيّ. راجع فوائد الاصول ٢ : ٥٤٧ ـ ٥٤٨ ، والمحاضرات ٥ : ٢٧٢.

(٣) وفي بعض النسخ : «كلمتهم». والأولى ما أثبتناه.

(٤) وفي بعض النسخ : «بخلاف هناك». والصحيح ما أثبتناه.

(٥) وتوضيح ما أفاده : أنّ الفحص في المقام إنّما هو عن وجود المانع والمزاحم لحجّيّة الدليل العامّ مع ثبوت المقتضي لها قطعا ـ وهو ظهوره في العموم ـ ، لعدم وجود قرينة متّصلة تمنع عن انعقاد ظهوره في العموم ، فالمقتضي للحجّيّة ـ وهو ظهوره في العموم ـ موجود ، والفحص إنّما هو عن وجود مخصّص منفصل ، وهو إنّما تزاحم حجّيّة العامّ. بخلاف الفحص في ـ

١٦٦

والنقل وإن دلّ على البراءة أو الاستصحاب في موردهما مطلقا (١) ، إلّا أنّ الإجماع بقسميه على تقييده به (٢) ، فافهم.

__________________

ـ الاصول العمليّة ، فإنّه فحص عن أصل الحجّة ، حيث أنّ موضوع الاصول العمليّة عدم البيان على الحكم الشرعيّ ، ولا يحرز عدم البيان إلّا بعد الفحص ، فالفحص محقّق لموضوعها ومتمّم للمقتضي لها ، وبدونه لا حجّة أصلا.

وخالفه المحقّق الاصفهانيّ والسيّدان العلمان : الإمام الخمينيّ والسيّد الخوئيّ ، فذهبوا إلى أنّ الفحص عن المخصّص في العمومات الّتي تكون في معرض التخصيص فحص عن متمّم الحجّة ومحقّق الموضوع. فراجع نهاية الدراية ١ : ٦٤٩ ، مناهج الوصول ٣ : ٢٧٦ ، المحاضرات ٥ : ٢٧٢.

(١) أي : من غير تقييد بالفحص.

(٢) أي : على تقييد النقل بالفحص.

١٦٧

فصل

[الخطابات الشفاهيّة]

هل الخطابات الشفاهيّة مثل «يا أيّها المؤمنون» يختصّ بالحاضر مجلس التخاطب أو يعمّ غيره من الغائبين بل المعدومين؟ فيه خلاف.

[بيان محلّ النزاع]

ولا بدّ قبل الخوض في تحقيق المقام من بيان ما يمكن أن يكون محلّا للنقض والإبرام بين الأعلام.

فاعلم أنّه يمكن أن يكون النزاع في أنّ التكليف المتكفّل له الخطاب هل يصحّ تعلّقه بالمعدومين كما صحّ تعلّقه بالموجودين أم لا؟ أو في صحّة المخاطبة معهم بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالألفاظ الموضوعة للخطاب أو بنفس توجيه الكلام إليهم وعدم صحّتها (١) ، أو في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أدوات الخطاب للغائبين بل المعدومين وعدم عمومها لهما بقرينة تلك الأدوات.

ولا يخفى : أنّ النزاع على الوجهين الأوّلين يكون عقليّا (٢) ، وعلى الوجه

__________________

(١) المراد من الصحّة وعدمها في كلا الوجهين من النزاع هو الإمكان وعدمه.

(٢) لأنّ الحاكم بإمكان تعلّق الخطاب بالمعدومين وامتناعه وإمكان مخاطبة المعدومين وعدمه هو العقل.

١٦٨

الأخير لغويّا.

إذا عرفت هذا ، فلا ريب في عدم صحّة تكليف المعدوم عقلا ، بمعنى بعثه أو زجره فعلا ، ضرورة أنّه بهذا المعنى يستلزم الطلب منه حقيقة ، ولا يكاد يكون الطلب كذلك إلّا من الموجود ضرورة.

نعم ، هو (١) بمعنى مجرّد إنشاء الطلب بلا بعث ولا زجر لا استحالة فيه أصلا ، فإنّ الإنشاء خفيف المئونة ، فالحكيم ـ تبارك وتعالى ـ ينشئ على وفق الحكمة والمصلحة طلب شيء قانونا من الموجود والمعدوم حين الخطاب ، ليصير فعليّا بعد ما وجد الشرائط وفقد الموانع (٢) بلا حاجة إلى إنشاء آخر ، فتدبّر.

ونظيره من غير الطلب إنشاء التمليك في الوقف على البطون ، فإنّ المعدوم منهم يصير مالكا للعين الموقوفة بعد وجوده بإنشائه ، ويتلقّى لها من الواقف بعقده ، فيؤثّر في حقّ الموجود منهم الملكيّة الفعليّة ، ولا يؤثّر في حقّ المعدوم فعلا إلّا استعدادها لأن تصير ملكا له بعد وجوده.

هذا إذا أنشئ الطلب مطلقا. وأمّا إذا أنشئ مقيّدا بوجود المكلّف ووجدانه الشرائط فإمكانه بمكان من الإمكان (٣).

وكذلك لا ريب في عدم صحّة خطاب المعدوم بل الغائب حقيقة وعدم إمكانه ، ضرورة عدم تحقّق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة إلّا إذا كان موجودا وكان بحيث يتوجّه إلى الكلام ويلتفت إليه.

ومنه قد انقدح : أنّ ما وضع للخطاب ـ مثل أدوات النداء ـ لو كان موضوعا للخطاب الحقيقيّ لأوجب استعماله فيه (٤) تخصيص ما يقع في تلوه بالحاضرين ،

__________________

(١) أي : التكليف.

(٢) والأولى أن يقول : «بعد ما وجدت الشرائط وفقدت الموانع».

(٣) لا يخفى : أنّ في العبارة مسامحة ظاهرة ، ضرورة أنّ الإمكان لا يتّصف بالإمكان ، والصحيح أن يقول : «فشموله لغير الحاضرين بمكان من الإمكان».

(٤) أي : في الخطاب الحقيقيّ.

١٦٩

كما أنّ قضيّة إرادة العموم منه لغيرهم استعماله في غيره (١).

لكنّ الظاهر أنّ مثل أدوات النداء لم يكن موضوعا لذلك (٢) ، بل للخطاب الإيقاعيّ الإنشائيّ. فالمتكلّم ربما يوقع الخطاب بها تحسّرا وتأسّفا وحزنا ، مثل «يا كوكبا ما كان أقصر عمره» (٣) ، أو شوقا (٤) ونحو ذلك ، كما يوقعه مخاطبا لمن يناديه حقيقة. فلا يوجب استعماله في معناه الحقيقيّ حينئذ التخصيص بمن يصحّ مخاطبته (٥).

نعم ، لا يبعد دعوى الظهور انصرافا في الخطاب الحقيقيّ ، كما هو الحال في حروف الاستفهام والترجّي والتمنّي وغيرها على ما حقّقنا في بعض المباحث السابقة (٦) من كونها موضوعة للإيقاعيّ منها بدواع مختلفة مع ظهورها في الواقعيّ

__________________

(١) أي : كما أنّ إرادة الشمول لغير المشافهين ممّا يقع في تلو الأداة ـ كالناس في «يا أيّها الناس» ـ تقتضي استعمال ما وضع للخطاب في غير الخطاب الحقيقيّ.

(٢) أي : للخطاب الحقيقيّ.

(٣) البيت من قصيدة أبي الحسن التهاميّ في رثاء ولده الّذي مات صغيرا. وتمام البيت هكذا : «وكذاك عمر كواكب الأسحار». راجع شهداء الفضيلة : ٢٤.

(٤) كقول الشافعيّ :

يا آل بيت رسول الله حبّكم

فرض من الله في القرآن أنزله

الصواعق المحرقة : ٨٨

(٥) وهو الحاضرين.

وذهب المحقّق النائينيّ إلى التفصيل بين القضايا الخارجيّة فتختصّ بالمشافهين ، لأنّ عموم الخطاب فيها للغائبين ـ فضلا عن المعدومين ـ يحتاج إلى عناية زائدة ، وبين القضايا الحقيقيّة فتعمّ المعدومين فضلا عن الغائبين ، لأنّ توجيه الخطاب إليهم لا يحتاج إلى أزيد من تنزيلهم منزلة الموجودين الّذي هو المقوّم لكون القضيّة حقيقيّة. فوائد الاصول ٢ : ٥٥٠.

وأورد عليه السيّد المحقّق الخوئيّ ـ تبعا للمحقّق الاصفهانيّ ـ بأنّه لا يكفي في شمول الخطاب للمعدوم والغائب تنزيلهم منزلة الموجود ، بل لا بدّ من تنزيلهم منزلة الحاضر في مجلس التخاطب ، وهو أمر زائد على مقتضى القضيّة الحقيقيّة ، فينفيه الأصل مع عدم الدليل عليه. راجع نهاية الدراية ١ : ٦٥٢ ـ ٦٥٣ ، والمحاضرات ٥ : ٢٧٧.

(٦) راجع الجزء الأوّل : ١٢٨.

١٧٠

منها انصرافا إذا لم يكن هناك ما يمنع عنه. كما يمكن دعوى وجوده (١) غالبا في كلام الشارع ، ضرورة وضوح عدم اختصاص الحكم في مثل : «يا أيّها الناس اتّقوا» و «يا أيّها المؤمنون» بمن حضر مجلس الخطاب بلا شبهة ولا ارتياب.

ويشهد لما ذكرنا (٢) صحّة النداء بالأدوات مع إرادة العموم من العامّ الواقع تلوها بلا عناية ولا للتنزيل والعلاقة رعاية (٣).

وتوهّم كونه ارتكازيّا (٤) ، يدفعه عدم العلم به مع الالتفات إليه والتفتيش عن حاله ، مع حصوله بذلك لو كان مرتكزا (٥) ، وإلّا فمن أين يعلم بثبوته كذلك ؛ كما هو واضح(٦).

وإن أبيت إلّا عن وضع الأدوات للخطاب الحقيقيّ فلا مناص عن التزام اختصاص الخطابات الإلهيّة بأدوات الخطاب أو بنفس توجيه الكلام بدون

__________________

(١) أي : وجود ما يمنع عن انصرافها إلى المعاني الحقيقيّة.

(٢) من أنّ أدوات النداء موضوعة للخطاب الإيقاعيّ الإنشائيّ ، لا الحقيقيّ.

(٣) أي : ولا رعاية للتنزيل والعلاقة.

ومقصوده : أنّ صحّة النداء بالأدوات مع إرادة العموم من تاليها لغير المشافهين ـ من دون رعاية قرينة مجاز وتنزيل الغائب منزلة الحاضر ـ أقوى شاهد على أنّها موضوعة للخطاب الإنشائيّ الإيقاعيّ ، وإلّا لما صحّ إرادة العموم إلّا بالتنزيل أو العناية ورعاية قرينة المجاز.

(٤) حاصل التوهّم : أنّ صحّة إرادة العموم من العامّ الواقع تلو الأدوات ليس لأجل وضعها للخطاب الإيقاعيّ ، بل لأجل كون تنزيل الغائب والمعدوم منزلة الحاضر والموجود أمرا ارتكازيّا يصحّح إرادة العموم من تلوها مع وضع الأدوات للخطاب الحقيقيّ.

(٥) وفي بعض النسخ المطبوعة : «مع حصول العلم به بذلك لو كان ارتكازيّا».

(٦) حاصل الدفع : أنّ الغفلة عن الامور الارتكازيّة وإن كانت ممكنة ، إلّا أنّ التفتيش عنها والتوجّه إليها يوجب العلم بها. وفي مثل «يا أيّها الناس» لا نلتفت إلى التنزيل بعد التوجّه إليه والتفتيش عنه. وعدم العلم بالتنزيل بعد التفتيش يكشف عن عدم كونه ارتكازيّا. فيكون معنى العبارة : «يدفع التوهّم عدم العلم بالتنزيل بعد التوجّه إليه والتفتيش عن حاله ، مع حصول العلم بالتنزيل بالتفتيش والتوجّه إليه لو كان مرتكزا ، وإلّا فمن أين يعلم بثبوت التنزيل ارتكازا».

١٧١

الأداة (١) كغيرها (٢) بالمشافهين (٣) فيما لم يكن هناك قرينة على التعميم.

وتوهّم صحّة التزام التعميم في خطاباته تعالى لغير الموجودين ـ فضلا عن الغائبين ـ لإحاطته بالموجود في الحال والموجود في الاستقبال (٤) ، فاسد (٥) ، ضرورة أنّ إحاطته تعالى لا توجب صلاحيّة المعدوم بل الغائب للخطاب. وعدم صحّة المخاطبة معهما لقصورهما لا يوجب نقصا في ناحيته تعالى ، كما لا يخفى. كما أنّ خطابه اللفظيّ لكونه تدريجيّا ومتصرّم الوجود كان قاصرا عن أن يكون موجّها نحو غير من كان بمسمع منه ضرورة.

هذا لو قلنا بأن الخطاب بمثل (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا) في الكتاب (٦) حقيقة إلى غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلسانه (٧).

وأمّا إذا قيل بأنّه المخاطب والموجّه إليه الكلام حقيقة ، وحيا أو إلهاما ، فلا محيص إلّا عن كون الأداة (٨) في مثله للخطاب الإيقاعيّ ولو مجازا. وعليه لا مجال لتوهّم اختصاص الحكم المتكفّل له الخطاب بالحاضرين ، بل يعمّ المعدومين فضلا عن الغائبين.

__________________

(١) قوله : «بأدوات الخطاب أو بنفس توجيه الكلام بدون الأداة» متعلّق بقوله : «الخطابات الإلهيّة».

(٢) أي : كغير الخطابات الإلهيّة ، وهو الخطابات العرفيّة.

(٣) متعلّق بقوله : «اختصاص».

(٤) هذا التوهّم تعرّض له صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ١٨٣.

(٥) خبر قوله : «توهّم».

(٦) النساء / ١.

(٧) هكذا في النسخ. والأولى إمّا أن يقول : «في الكتاب موجّه حقيقة إلى ...» أو يقول : «بأنّ المخاطب بمثل (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا) في الكتاب حقيقة هو غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله».

(٨) هكذا في النسخ : والصحيح أن يقول : «فلا محيص عن كون الأداة ...» ، لأنّ المقصود من العبارة : أنّ في هذا الفرض لا بدّ لنا من الالتزام بالخطاب الإيقاعيّ. وما في النسخ لا يفهم المقصود بل يفهم عكسه ، لأنّ الاستثناء من النفي إثبات ، فيكون معنى قوله : «فلا محيص إلّا عن كون الأداة» : أنّه لا محيص إلّا المحيص عن الالتزام بالخطاب الإيقاعيّ. وهذا خلاف المقصود.

١٧٢

فصل

[ثمرة عموم الخطابات الشفاهيّة] (١)

ربما قيل : إنّه يظهر لعموم الخطابات الشفاهيّة للمعدومين ثمرتان :

الأولى : حجّيّة ظهور خطابات الكتاب لهم كالمشافهين (٢).

وفيه : أنّه مبنيّ على اختصاص حجّيّة الظواهر بالمقصودين بالإفهام (٣) ، وقد حقّق عدم الاختصاص بهم (٤) ؛ ولو سلّم فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك ممنوع ، بل الظاهر أنّ الناس كلّهم إلى يوم القيامة يكونون كذلك ، وإن لم يعمّهم الخطاب ، كما يومئ إليه غير واحد من الأخبار (٥).

__________________

(١) والأولى أن يلحق هذا الفصل بالفصل السابق تحت عنوان «تتمّة» أو «تذنيب».

(٢) وهذه الثمرة ذكرها المحقّق القميّ في قوانين الاصول ١ : ٢٣٣. وتوضيحها : أنّ الخطابات إمّا أن تكون متوجّهة إلى المعدومين أيضا ، وإمّا أن تكون متوجّهة إلى خصوص المشافهين.

فعلى الأوّل ما يفهم المعدومون من ظاهر الخطابات حجّة لهم ـ وإن كان ما فهموه من ظاهرها مخالفا لما فهموا المشافهون ـ ، كما أنّ ما يفهم المشافهون من ظاهرها حجّة للمشافهين.

وعلى الثاني لا بدّ للمعدومين من تحصيل متفاهم المشافهين والتحرّي في استحصاله ولو بضميمة الظنون الاجتهاديّة.

(٣) كما ذهب إليه المحقّق القميّ في قوانين الاصول ١ : ٣٩٨.

(٤) لأنّ الدليل على حجّيّة الظواهر هو السيرة العقلائيّة ، وهي قائمة على العمل بها من دون فرق بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد.

(٥) كحديث الثقلين والأخبار الآمرة بعرض الأخبار المتعارضة على الكتاب وغيرها.

١٧٣

الثانية (١) : صحّة التمسّك بإطلاقات الخطابات القرآنيّة (٢) بناء على التعميم لثبوت الأحكام لمن وجد وبلغ من المعدومين ، وإن لم يكن متّحدا مع المشافهين في الصنف ، وعدم صحّته على عدمه (٣) ، لعدم كونها حينئذ متكفّلة لأحكام غير المشافهين ، فلا بدّ من إثبات اتّحاده معهم (٤) في الصنف حتّى يحكم بالاشتراك مع المشافهين في الأحكام ، حيث لا دليل عليه حينئذ إلّا الإجماع ، ولا إجماع عليه إلّا فيما اتّحد الصنف ، كما لا يخفى (٥).

ولا يذهب عليك : أنّه يمكن إثبات الاتّحاد وعدم دخل ما كان البالغ الآن فاقدا له ممّا كان المشافهون واجدين له (٦) بإطلاق الخطاب إليهم من دون التقييد به (٧).

وكونهم كذلك (٨) لا يوجب صحّة الإطلاق مع إرادة المقيّد منه (٩) فيما يمكن أن يتطرّق الفقدان (١٠) ، وإن صحّ فيما لا يتطرّق إليه ذلك.

__________________

(١) وهذه الثمرة نسبها السيّد القزوينيّ ـ في حواشيه على قوانين الاصول ١ : ٢٣٣ ـ إلى العلّامة البهبهانيّ.

(٢) كقوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) الجمعة / ٩.

(٣) أي : وعدم صحّة التمسّك بناء على عدم التعميم.

(٤) أي : اتّحاد غير المشافهين مع المشافهين.

(٥) وحاصل الثمرة : أنّه على القول بالعموم يصحّ التمسّك بإطلاق مثل قوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) لإثبات وجوب السعي للغائبين والمعدومين أيضا. وأمّا على القول بالاختصاص فلا يصحّ التمسّك به ، لأنّ وجوب السعي في الآية مختصّ بالحاضرين في المجلس ، فإثباته لغيرهم يحتاج إلى تماميّة قاعدة الاشتراك في التكليف هنا ، وهذه القاعدة إنّما تثبت لغيرهم إذا كانوا متّحدين مع الحاضرين في الصنف ، ولا دليل على اتّحادهم معهم.

(٦) كحضور المعصوم عليه‌السلام.

(٧) أي : من دون التقييد بوصف كانت المشافهون واجدين له.

(٨) أي : وكون المشافهين واجدين لوصف حضور المعصوم عليه‌السلام مثلا.

(٩) وفي بعض النسخ : «إرادة المقيّد معه».

(١٠) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «يتطرّق إليه الفقدان».

١٧٤

وليس المراد بالاتّحاد في الصنف إلّا الاتّحاد فيما اعتبر قيدا في الأحكام ، لا الاتّحاد فيما كثر الاختلاف بحسبه والتفاوت بسببه بين الأنام ، بل في شخص واحد بمرور الدهور والأيّام ، وإلّا لما ثبت بقاعدة الاشتراك للغائبين ـ فضلا عن المعدومين ـ حكم من الأحكام.

ودليل الاشتراك إنّما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين فيما لم يكونوا مختصّين بخصوص عنوان لو لم يكونوا معنونين به (١) لشكّ في شمولها لهم أيضا. فلو لا الإطلاق وإثبات عدم دخل ذاك العنوان في الحكم لما أفاد دليل الاشتراك. ومعه كان الحكم يعمّ غير المشافهين ولو قيل باختصاص الخطابات بهم ، فتأمّل جيّدا (٢).

__________________

(١) وفي بعض النسخ ـ على ما ذكره المحشّي المشكينيّ ـ : «ولو كانوا معنونين به». وما في المتن موافق لما بأيدينا من النسخ. وسيأتي الفرق بين العبارتين.

(٢) ولعلّ الوجه في الأمر بالتأمّل ما في العبارة من الغموض. فيحتاج إلى الإيضاح. فنقول : غرض المصنّف رحمه‌الله من قوله : «لا يذهب عليك» إلى هنا هو المناقشة في الثمرة الثانية المنسوبة إلى العلّامة البهبهانيّ.

أمّا الثمرة ، فحاصلها : أنّ ثمرة القول بالعموم هي التمسّك بإطلاق الخطاب لإثبات الحكم الشرعيّ للغائبين والمعدومين. وثمرة القول بالاختصاص هي عدم صحّة التمسّك بالإطلاق ، لأنّ الحكم حينئذ مختصّ بالحاضرين في المجلس ، وعليه لا بدّ في إثبات الحكم لغير الحاضرين من التمسّك بالدليل اللبّيّ ـ أي الإجماع ـ الّذي يدلّ على اشتراك المعدومين والمشافهين في التكليف فيما إذا كانوا متّحدين معهم في الصنف.

وأمّا المناقشة ، فتوضيحها : أنّ ما ذكره من ثمرة القول بالاختصاص ـ من عدم صحّة ـ التمسّك بالإطلاق ـ مخدوش من وجهين :

أوّلا : أنّه بناء على الاختصاص يكون الملاك في ثبوت الأحكام الصادرة ـ خطابا للحاضرين ـ للغائبين والمعدومين هو اتّحادهم مع الحاضرين في الصنف. والتحقيق أنّهم متّحدون معهم في الصنف ، حيث لا خصوصيّة للحاضرين بالنسبة إلى غيرهم توجب اختصاص الحكم بهم. وأمّا بعض الخصوصيّات الّذي كان البالغ في زماننا فاقدا له ممّا كان المشافهون واجدين له ـ كحضور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليه‌السلام ـ فهو وإن كان محتمل الدخل في الحكم ، إلّا أنّ إطلاق الخطاب وعدم تقييده بتلك الخصوصيّة يقتضي عدم دخلها في الحكم ـ

١٧٥

__________________

ـ وعمومه لكلّ من المشافهين والمعدومين. فإذن يصحّ التمسّك بإطلاق الخطاب لإثبات الاتّحاد الّذي هو الملاك في ثبوت الأحكام لغير المشافهين ، من دون احتياج إلى التمسّك بقاعدة الاشتراك ، كما يصحّ التمسّك بإطلاق الخطاب على القول بالعموم. فلا فرق بين القولين.

هذا ما أفاده المصنّف رحمه‌الله بقوله : «إنّه يمكن إثبات الاتّحاد ... من دون التقييد به».

إن قلت : لا يصحّ التمسّك بإطلاق الخطاب لإثبات الاتّحاد بعد البناء على اختصاص الخطاب بالحاضرين. وذلك لأنّ من مقدّمات الإطلاق عدم وجود ما يصلح للقرينيّة ، واتّصاف الحاضرين ببعض الخصوصيّات ـ كحضور المعصوم عليه‌السلام ـ يصلح لأن يكون قرينة على التقييد ، فلا يتمّ الإطلاق كي يمكن إثبات الاتّحاد بالتمسّك به.

قلت : إنّ ما يحتمل دخله في الحكم ـ ممّا كان المشافهون واجدين له ـ قسمان :

الأوّل : ما يمكن أن يتطرّق إليه الفقدان ، وهو الأوصاف المفارقة ، كالفقر والغنى والحضور عند المعصومعليه‌السلام. ولا شكّ أنّه لو كانت هذه الأوصاف دخيلة في الحكم كان على المتكلّم بيانه بنصب قرينة دالّة على التقييد ، وإلّا لأخلّ بغرضه ، نظرا إلى انفكاك الوصف عن الموضوع. فلا يجوز له إطلاق الخطاب وإرادة المقيّد بها ، بل ترك التقييد دليل على عدم اعتبارها ، ويكون الإطلاق محكّم.

الثاني : ما لا يمكن أن يتطرّق إليه الفقدان ، وهو الأوصاف اللازمة للذات. وهذه الأوصاف لو كانت دخيلة في الحكم يجوز للمتكلّم إطلاق الخطاب وإرادة المقيّد بها ، إذ على تقدير عدم بيانه لا يكون إخلالا بالغرض نظرا إلى عدم انفكاك الوصف عن الموضوع.

وهذا ما أفاده المصنّف رحمه‌الله بقوله : «وكونهم كذلك لا يوجب ... فيما لا يتطرّق إليه كذلك».

إن قلت : بما أنّ الاختلاف بين المشافهين وغيرهم كثير ـ مثل كون المشافهين في المدينة ، وكونهم في المسجد ، وكونهم من الأنصار أو المهاجرين وغير ذلك ـ لا يمكن التمسّك بإطلاق الخطاب لإثبات الاتّحاد في الصنف.

قلت : إنّ المراد من الاتّحاد ليس إلّا الاتّحاد في الأوصاف الّتي يعتبر قيدا للحكم ، وهي ليست كثيرة ، وإلّا لما ثبت بقاعدة الاشتراك حكم من الأحكام لغير الحاضرين ، لكثرة اختلافهم في الخصوصيّات.

وهذا ما أفاده المصنّف رحمه‌الله بقوله : «وليس المراد ... حكم من الأحكام».

وثانيا : أنّ الثمرة المذكورة إنّما تتمّ فيما إذا كان دليل قاعدة الاشتراك ـ وهو الإجماع ـ دليلا مستقلّا على إثبات الحكم للمعدومين بناء على اختصاص الخطاب بالمشافهين. ولكنّه ـ

١٧٦

فتلخّص : أنّه لا يكاد تظهر الثمرة إلّا على القول باختصاص حجّيّة الظواهر لمن قصد إفهامه مع كون غير المشافهين غير مقصودين بالإفهام ، وقد حقّق عدم الاختصاص به في غير المقام (١) ، وأشير إلى منع كونهم غير مقصودين به في خطاباته تبارك وتعالى في المقام.

__________________

ـ ليس كذلك. بيان ذلك : أنّ الأوصاف والعناوين الثابتة للمشافهين قسمان :

الأوّل : العناوين الّتي يعلم بعدم دخلها في الحكم ، بحيث لو سلبت من المشافهين لم نشكّ في ثبوت الحكم لهم ، ككونهم جالسين أو كونهم من أهل المدينة وغيرهما.

الثاني : العناوين الّتي لم يعلم عدم دخلها في الحكم ، بل يحتمل دخلها فيه ، بحيث لو سلبت عن المشافهين ولم يكونوا معنونين بها بعد الخطاب لشكّ في شمول التكاليف لهم أيضا ، ككونهم مشرّفين بمحضر المعصوم عليه‌السلام.

وهذا ما أفاده المصنّف رحمه‌الله بقوله : «دليل الاشتراك ... ولو قيل باختصاص الخطابات لهم».

ولا يخفى : أنّه جاء في بعض النسخ ـ على ما في حواشي العلّامة المشكينيّ على الكفاية المطبوعة بالطبع الحجريّ ١ : ٣٦١ ـ «ولو كانوا معنونين به» مكان قوله : «لو لم يكونوا معنونين به». وكلتا العبارتين صحيحة ، وتشيران إلى القسم الثاني من العناوين.

فيكون معنى العبارة على ما في المتن : أنّ دليل الاشتراك إنّما يقتضي عدم اختصاص التكاليف بالمشافهين فيما إذا لم يكونوا مختصّين بعناوين يحتمل دخلها في الحكم الّتي لو سلبت عن المشافهين ولم يكونوا معنونين بها بعد الخطاب لشكّ في شمولها لهم أيضا.

ويكون معناها على ما في بعض النسخ : أنّ دليل الاشتراك إنّما يقتضي عدم اختصاص التكاليف بالمشافهين فيما إذا لم يكونوا مختصّين بعناوين يحتمل دخلها في الحكم ـ ولو كانوا معنونين بها حال الخطاب ـ الّتي لو سلبت عنهم لشكّ في شمولها لهم أيضا.

(١) وهو مبحث حجّيّة الظواهر ، فراجع الصفحة : ٢٩٠ من هذا الجزء.

١٧٧

فصل

[تعقيب العامّ بضمير يرجع إلى بعض أفراده]

هل تعقّب العامّ بضمير يرجع إلى بعض أفراده يوجب تخصيصه به أو لا؟ (١) فيه خلاف بين الأعلام (٢).

وليكن محلّ الخلاف ما إذا وقعا (٣) في كلامين (٤) أو في كلام واحد (٥) مع استقلال العامّ بما حكم عليه في الكلام ، كما في قوله تبارك وتعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ

__________________

(١) فيدور الأمر حينئذ بين تصرّفات ثلاثة :

أحدها : التصرّف في العامّ ، بأن يراد منه خصوص ما اريد من الضمير.

ثانيها : التصرّف في الضمير ، بإرجاعه إلى بعض أفراد العامّ مع كون العامّ هو المراد في ما حكم عليه في الكلام ، فيكون من باب المجاز في الكلمة.

ثالثها : التصرّف في الضمير بإرجاعه إلى تمام ما اريد من العامّ مع التوسّع في الإسناد ، فيكون المراد بالعامّ حقيقة خصوص ما اريد من الضمير ، وإنّما اسند الحكم إلى جميع أفراده مجازا.

(٢) راجع العدّة في اصوله الفقه ١ : ٣٨٤ ، الإحكام (للآمديّ) ٢ : ٣٣٦ ، الفصول الغرويّة : ٢١١ ، مطارح الأنظار : ٢٠٧ ، فوائد الاصول ٢ : ٥٥٢ ـ ٦٦٣ ، نهاية الأفكار ٢ : ٥٤٥ ـ ٥٤٦ ، مناهج الوصول ٢ : ٢٩٤ ، المحاضرات ٥ : ٢٨٥ ـ ٢٨٨.

(٣) أي : العامّ والضمير الراجع إلى بعض أفراده.

(٤) كما يأتي مثاله في السطر الآتي.

(٥) كأن نقول : «أكرم العلماء وخدّامهم» على فرض عود الضمير إلى خصوص الفقهاء من العلماء.

١٧٨

يَتَرَبَّصْنَ) إلى قوله (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) (١). وأمّا ما إذا كان مثل «والمطلّقات

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

فيقال : إنّ الأمر يدور في الآية مدار امور ثلاثة :

الأوّل : التصرّف في عموم قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) بأن يحمل «المطلّقات» على خصوص الرّجعيّات ، كأنّه قيل : «والرّجعيّات يتربّصن ...». وعليه يكون الموضوع في قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) واحدا ، وهو الرجعيّات.

الثاني : التصرّف في ظاهر الضمير ـ وهو تطابق الضمير مع مرجعه في العموم ؛ ويعبّر عنه ب «أصالة عدم الاستخدام» ، ومقتضاه في المقام أن يراد بضمير «بعولتهنّ» جميع المطلّقات كي يطابق الضمير مع مرجعه ـ ، فنتصرّف فيه بالاستخدام ، فيرجع الضمير إلى بعض أفراد العامّ ـ وهو الرّجعيّات ـ ، مع كون المطلّقات بأجمعها موضوعا للحكم بلزوم التربّص.

الثالث : التصرّف في الضمير بإرجاعه إلى تمام أفراد المطلّقات مع التوسّع في الإسناد ، بأن يكون المراد من المطلّقات حقيقة خصوص الرّجعيّات الّتي اريد من الضمير ، وإنّما اسند حكم جواز الرجوع في العدّة إلى جميع أفرادها من قبيل المجاز في الإسناد.

وظاهر تمثيل المصنّف رحمه‌الله بالآية الشريفة أنّه عدّها من صغريات المسألة. وتبعه المحقّقان النائينيّ والعراقيّ. فراجع فوائد الاصول ٢ : ٥٥٢ ـ ٥٥٣ ، ونهاية الأفكار ٢ : ٥٤٥ ـ ٥٤٦.

وخالفه السيّد المحقّق الخوئيّ ، فإنّه ـ بعد ما ذهب إلى تقديم أصالة عدم الاستخدام ـ أنكر كون الآية من صغريات المسألة. وحاصل ما أفاده : أنّ موضوع المسألة هو ما إذا استعمل الضمير الراجع إلى العامّ في خصوص بعض أفراده ، فدار الأمر بين الالتزام بالاستخدام وبين رفع اليد عن أصالة العموم. والضمير الراجع إلى المطلّقات في الآية الكريمة (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) لم يستعمل في خصوص بعض أفراد المطلّقات ، بل استعمل في العامّ ، أو تدلّ الآية على أنّ بعولة جميع المطلّقات أحقّ بردّهن. وأمّا الاختصاص فيثبت بدليل خارجيّ ، وهو لا يوجب استعماله في الخاصّ. فتكون الآية الشريفة خارجة عن موضوع المسألة. وبما أنّه لم يوجد في القضايا المتكفّلة ببيان الأحكام الشرعيّة مورد يدور الأمر فيه بين أصالة عدم الاستخدام وأصالة العموم ، فلا تترتّب على البحث عن المسألة ثمرة في الفقه. المحاضرات ٥ : ٢٨٨ ـ ٢٢٩.

وظاهر كلام السيّد الإمام الخمينيّ ـ بعد ما ذهب إلى التفصيل بين ما إذا كان الدالّ على اختصاص الحكم ببعض الأفراد منفصلا فلا يوجب تخصيص العامّ وبين ما إذا كان متّصلا فيوجب إجمال العامّ ـ أنّ الآية الشريفة داخلة في محلّ النزاع ، لأنّ محطّ البحث لا يختصّ بما إذا كان المقام من قبيل دوران الأمر بين أصالة العموم وأصالة عدم الاستخدام ، بل يعم

١٧٩

أزواجهنّ أحقّ بردّهنّ» فلا شبهة في تخصيصه به.

والتحقيق أن يقال : إنّه حيث دار الأمر بين التصرّف في العامّ بإرادة خصوص ما اريد من الضمير الراجع إليه أو التصرّف في ناحية الضمير ـ إمّا بإرجاعه إلى بعض ما هو المراد من مرجعه ، أو إلى تمامه مع التوسّع في الإسناد ، بإسناد الحكم المسند إلى البعض حقيقة إلى الكلّ توسّعا وتجوّزا ـ كانت أصالة الظهور في طرف العامّ سالمة عنها في جانب الضمير. وذلك لأنّ المتيقّن من بناء العقلاء هو اتّباع الظهور في تعيين المراد ، لا في تعيين كيفيّة الاستعمال وأنّه على نحو الحقيقة أو المجاز في الكلمة أو الإسناد مع القطع بما يراد ، كما هو الحال في ناحية الضمير.

وبالجملة : أصالة الظهور إنّما تكون حجّة فيما إذا شكّ فيما اريد ، لا فيما إذا شكّ في أنّه كيف اريد ، فافهم.

لكنّه إذا انقعد للكلام ظهور في العموم بأن لا يعدّ ما اشتمل على الضمير ممّا يكتنف به عرفا (١) ، وإلّا فيحكم عليه بالإجمال ، ويرجع إلى ما تقتضيه الاصول (٢).

__________________

ـ ما إذا ورد عامّ ثمّ ورد كلمة فيها ضمير لا يرجع إلى بعض أفراد العامّ ، بل يدلّ الدليل الخارجيّ على أنّ الحكم ثابت لبعض أفراد مرجع الضمير ، فيكون المقام من قبيل الدوران بين تخصيص عامّ وتخصيص عامّين. مناهج الوصول ٢ : ٢٩٣ ـ ٢٩٦.

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «يكتنف بما يصلح للقرينيّة عرفا».

(٢) أي : جريان أصالة الظهور في طرف العامّ وتقديمها على أصالة الظهور في الضمير إنّما يكون فيما إذا انعقد للكلام ظهور في العموم ، وهو فيما إذا لم يكتنف العامّ بما يمنع عن ظهوره في العموم ، بأن لا يعدّ الكلام المشتمل على الضمير من الكلام المكتنف بما يصلح عرفا للقرينيّة على عدم إرادة العموم من العامّ. وأمّا إذا عدّ الكلام المشتمل على الضمير ممّا يكتنف به عرفا فيحكم عليه بالإجمال.

ومن هنا يظهر أنّ الصحيح أن يقول : «ممّا يكتنف بما يصلح للقرينيّة عرفا» ، وإلّا صار الضمير في قوله : «ممّا يكتنف به عرفا» بلا مرجع.

ولا يخفى : أنّ في كلامه هذا وجهين :

الأوّل : أن يكون مراده من قوله : «بأن لا يعدّ ما اشتمل على الضمير ممّا يكتنف بما يصلح ـ

١٨٠