كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
ISBN: 978-964-470-562-5
الصفحات: ٤١٩

وأمّا في غيره (١) : ففي جريانه إشكال. أظهره عدم جريانه (٢). وإن كان يظهر ممّا عن بعض الشافعيّة (٣) ـ حيث قال : «قولنا : في الغنم السائمة زكاة ، يدلّ على عدم الزكاة في معلوفة الإبل» ـ جريانه فيه (٤) ، ولعلّ وجهه (٥) استفادة العلّيّة المنحصرة منه (٦). وعليه (٧) فيجري فيما كان الوصف مساويا أو أعمّ مطلقا أيضا ، فيدلّ على انتفاء سنخ الحكم عند انتفائه ؛ فلا وجه في التفصيل (٨) بينهما (٩) وبين ما إذا كان أخصّ من وجه فيما إذا كان الافتراق من جانب الوصف (١٠) بأنّه لا وجه

__________________

(١) أي : غير مورد افتراق الموصوف. وهو مورد انتفاء الوصف والموصوف معا ، كالإبل المعلوفة بالقياس إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «في الغنم السائمة زكاة». وأمّا مورد افتراق الوصف فهو خارج عن محلّ البحث ، لأنّ عدم دلالته على المفهوم معلوم ، حيث يعتبر في المفهوم بقاء الموضوع ؛ مضافا إلى أنّ البحث في اقتضاء انتفاء الوصف انتفاء الحكم وعدمه ، وإذا كان الوصف موجودا فلا مجال لهذا البحث.

(٢) لأنّ محطّ النزاع هو انتفاء الحكم عن الموضوع وعدمه عند انتفاء الوصف ، وهو إنّما يتصوّر فيما إذا فرض بقاء الموضوع بعد انتفاء الوصف ، ولم يكن الموضوع في سائر الصور باقيا ، كما لا يخفى.

(٣) نقل عنهم في اللمع : ٤٦ ، والمنخول : ٢٢٢.

(٤) أي : في مورد افتراق الوصف والموصوف.

(٥) أي : وجه جريان النزاع في مورد افتراق الوصف والموصوف والحكم بدلالة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «في الغنم السائمة زكاة» على عدم الزكاة في معلوفة الإبل.

(٦) أي : من الوصف. فيستفاد من وصف «السائمة» أنّها علّة منحصرة لوجوب الزكاة ، فكلّما لم يجد السوم ـ غنما كان أو بقرا أو إبلا ـ لم يحكم بالزكاة.

(٧) أي : وعلى هذا الوجه.

(٨) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «للتفصيل».

(٩) أي : بين الوصف المساوي والأعمّ وبين ما إذا كان أخصّ من وجه ...

(١٠) لا يخفى ما في العبارة من المسامحة ، لأنّ صورة الافتراق من جانب الوصف ـ وهي صورة وجود الوصف وعدم الموصوف ـ خارجة عن محلّ النزاع بلا خلاف ، كما مرّ. نعم ، وقع الخلاف في صورة الافتراق من جانب الوصف والموصوف معا كالإبل المعلوفة بالقياس إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «في الغنم السائمة زكاة» ، فذهب بعض إلى عدم جريان النزاع فيه ، ويظهر من ـ

١٢١

للنزاع فيهما معلّلا بعدم الموضوع واستظهار جريانه من بعض الشافعيّة فيه (١) ، كما لا يخفى ، فتأمّل جيّدا.

__________________

ـ بعض الشافعيّة جريانه فيه. وحينئذ يصحّ أن يتساءل من بعض الشافعيّة عن وجه جريان النزاع في مورد افتراقهما معا؟ فيقال : «لعلّ وجهه استفادة العلّيّة المنحصرة من الوصف». وحينئذ نقول : استفادة انحصار العلّة في الوصف لا تختصّ بصورة افتراقهما معا فيما إذا كان الوصف أخصّ من وجه ، بل تعمّ ما إذا كان الوصف مساويا أو أعمّ مطلقا أيضا ، فلا وجه للتفصيل بين هاتين الصورتين وبين تلك الصورة بعدم جريان النزاع فيهما وجريانه فيها.

فالصحيح أن يقول : «من جانب الوصف والموصوف».

(١) أي : فيما إذا كان الوصف أخصّ من وجه في مورد افتراقهما معا.

١٢٢

فصل

[مفهوم الغاية]

هل الغاية (١) في القضيّة تدلّ على ارتفاع الحكم عمّا بعد الغاية ـ بناء على دخول الغاية في المغيّى ـ أو عنها وبعدها ـ بناء على خروجها ـ أولا؟ (٢) فيه

__________________

(١) المراد من الغاية هي ما تقع بعد أداة الغاية ، نحو : «إلى» و «حتّى» ، كقوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) المائدة / ٦ ، وقوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) البقرة / ١٨٧ ، وقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» ، مستدرك الوسائل ٢ : ٥٨٣ ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات والأواني ، الباب ٣٠ ، الحديث ٤.

(٢) فالبحث عن الغاية يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في دخول الغاية في حكم المغيّى وعدمه. فيبحث عن أنّ الغاية هل هي داخلة في المغيّى حكما أو خارجة عنه كذلك؟ مثلا في قوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) هل يدخل «المرافق» في حكم «أيديكم» فيشمله وجوب الغسل ويكون ما بعد المرافق خارجا عنه أو يكون «المرافق» خارجا عن حكم «أيديكم» فلا يشمله وجوب الغسل كما لا يشمل ما بعد المرافق؟ فيه أقوال :

الأوّل : التفصيل بين كون الغاية واقعة بعد «إلى» فلا تدخل فيه ، كقوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ،) وبين كونها واقعة بعد «حتّى» فتدخل ، نحو ، «كل السمكة حتّى رأسها». وهذا يظهر من ابن الحاجب في الكافية ، واختاره المحقّق العراقيّ ، وحسّنه المحقّق النائينيّ ولكن لم يرتضه. راجع شرح الكافية ٢ : ٣٢٦ ، مقالات الاصول ١ : ٤١٥ ، أجود التقريرات ١ : ٤٣٦.

الثاني : التفصيل بين كون الغاية من جنس المغيّى فتدخل فيه ، نحو : «يجب الصوم في ـ

١٢٣

خلاف. وقد نسب إلى المشهور الدلالة على الارتفاع (١) ، وإلى جماعة ـ منهم السيّد والشيخ (٢) ـ عدم الدلالة عليه.

والتحقيق : أنّه إذا كانت الغاية بحسب القواعد العربيّة قيدا للحكم ـ كما في قولهعليه‌السلام : «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام» (٣) ، و «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» (٤) ـ كانت دالّة على ارتفاعه عند حصولها (٥) ، لانسباق ذلك منها (٦) ،

__________________

ـ النهار إلى المغرب» ، وبين كونها من غير جنسه فلا تدخل ، كقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر». وهذا القول نسبه ابن الحاجب إلى الأندلسيّ ، فراجع شرح الكافية ٢ : ٣٢٦.

الثالث : التفصيل بين ما كان غاية الفعل كمثال : «سر من البصرة إلى الكوفة» ، وبين ما كان غاية الحكم كقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» ، فعلى الأوّل تدخل الغاية في المغيّى ، وعلى الثاني لا تدخل. هذا ما ذهب إليه الشيخ المحقّق الحائريّ في درر الفوائد ١ : ١٧٤.

الرابع : ليس هنا أصل لفظيّ يدلّ على الدخول أو الخروج ، فالمرجع عند الشكّ هو الاصول العمليّة. وهذا ما اختاره المحقّق النائينيّ في فوائد الاصول ٢ : ٥٠٤ ـ ٥٠٥.

الخامس : أنّ الغاية تدخل في حكم المغيّى مطلقا. وهذا مذهب الشيخ الأعظم الأنصاريّ. على ما في مطارح الأنظار : ١٨٥.

السادس : أنّ الغاية لا تدخل في حكم المغيّى مطلقا. وهذا ما اختاره المصنّف رحمه‌الله كما يأتي. وتبعه المحقّق العراقيّ على ما في نهاية الأفكار ٢ : ٤٩٨ ، والسيّدان العلمان : الإمام الخمينيّ والمحقّق الخوئيّ في مناهج الوصول ٢ : ٢٢٤ والمحاضرات ٥ : ١٣٦.

الجهة الثانية : في دلالة الغاية على المفهوم وعدمها. ويختلف تحرير النزاع بحسب الاختلاف في دخول الغاية في المغيّا وعدمه. فإن كانت الغاية داخلة في المغيّى فالنزاع يحرّر هكذا : «هل الغاية تدلّ على انتفاء سنخ الحكم عمّا بعد الغاية أم لا؟». وإن كانت خارجة منه فالنزاع يحرّر هكذا : «هل الغاية تدلّ على انتفاء سنخ الحكم عن الغاية وما بعدها ، أم لا؟». وفيها أقوال سيأتي ذكرها.

(١) نسب إلى المشهور في مطارح الأنظار : ١٨٦ ، وإلى أكثر المحقّقين في قوانين الاصول ١ : ١٨٦.

(٢) راجع الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ٤٠٧ ، والعدّة ٢ : ٤٧٨.

(٣) وسائل الشيعة ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٤) مستدرك الوسائل ٢ : ٥٨٣ ، الباب ٣٠ من أبواب النجاسات والأواني ، الحديث ٤.

(٥) أي : ارتفاع الحكم عند حصول الغاية.

(٦) أي : لتبادر ارتفاع الحكم عند حصول الغاية.

١٢٤

كما لا يخفى ، وكونه (١) قضيّة تقييده بها ، وإلّا لما كانت ما جعل غاية له بغاية ، وهو واضح إلى النهاية.

وأمّا إذا كانت بحسبها قيدا للموضوع ـ مثل «سر من البصرة إلى الكوفة» ـ فحالها حال الوصف في عدم الدلالة ، وإن كان تحديده بها بملاحظة حكمه وتعلّق الطلب به (٢) ، وقضيّته ليس إلّا عدم الحكم فيها إلّا بالمغيّا (٣) ، من دون دلالة لها أصلا على انتفاء سنخه عن غيره ، لعدم ثبوت وضع لذلك ، وعدم قرينة ملازمة لها ولو غالبا دلّت على اختصاص الحكم به. وفائدة التحديد بها كسائر أنحاء التقييد غير منحصرة بإفادته (٤) ، كما مرّ في الوصف (٥).

__________________

ـ ولا يخفى : أنّ كلمة «الانسباق» لا يساعد عليه اللغة.

(١) معطوف على «انسباق».

(٢) أي : وإن ثبت تحديد الموضوع بالغاية بملاحظة حكم الموضوع وتعلّق الطلب به.

(٣) أي : وتحديد الموضوع بالغاية إنّما يقتضي تقييد شخص الحكم في القضيّة بالغاية. وحينئذ ينتفي الحكم بانتفاء الغاية ، لكنّه ليس من باب المفهوم وارتفاع سنخ الحكم ، بل من باب انتفاء الحكم الشخصيّ بارتفاع موضوعه.

(٤) أي : إفادة المفهوم.

(٥) والحاصل : أنّ الغاية إن كانت قيدا للحكم فتدلّ على المفهوم ، وإن كانت قيدا للموضوع فلا تدلّ.

وإنّما الكلام في أنّه من أين يعرف كون الغاية قيدا للحكم أو للموضوع؟

قال المحقّق النائينيّ : «الظاهر أنّ الغاية قيد للحكم إلّا أن تقوم قرينة على خلافه». فوائد الاصول ٢ : ٥٠٥.

وقال السيّد المحقّق الخوئيّ : «إنّ الحكم في القضيّة إن كان مستفادا من الهيئة فالظاهر من الغاية هو كونها قيدا للمتعلّق لا للموضوع ، وإن كان مستفادا من مادّة الكلام فالظاهر أنّها قيد للحكم إن لم يكن المتعلّق مذكورا ، وإلّا فلا ظهور له في شيء». المحاضرات ٥ : ١٣٨ ـ ١٣٩.

وأمّا السيّد الإمام الخمينيّ فقال : «وأمّا كون الغاية للموضوع أو للحكم أو المتعلّق إثباتا فهو يختلف بحسب المقامات والتراكيب ومناسبة الغايات لها». مناهج الوصول ٢ : ٢٢٢.

ثمّ إنّ هؤلاء الأعلام وافقوا المصنّف رحمه‌الله في ما اختاره في المقام. راجع فوائد الاصول ٢ : ٥٠٤ ، والمحاضرات ٥ : ١٣٧ ، ومناهج الوصول ٢ : ٢٢٠ ـ ٢٢٢.

وفصّل المحقّق العراقيّ بين ما إذا كانت الغاية قيدا للنسبة الحكميّة نحو : «أكرم زيدا إلى ـ

١٢٥

ثمّ إنّه في الغاية خلاف آخر ـ كما أشرنا إليه ـ. وهو أنّها هل هي داخلة في المغيّى بحسب الحكم أو خارجة عنه؟

والأظهر خروجها ، لكونها من حدوده ، فلا تكون محكومة بحكمه. ودخوله فيه (١) في بعض الموارد إنّما يكون بالقرينة. وعليه تكون كما بعدها بالنسبة إلى الخلاف الأوّل ، كما أنّه على القول الآخر تكون محكومة بالحكم منطوقا.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا الخلاف لا يكاد يعقل جريانه فيما إذا كانت قيدا للحكم ، فلا تغفل (٢).

__________________

ـ الليل» أو «أطعم الفقراء حتّى يقدم الحاجّ» فتدلّ على المفهوم ويلزم ارتفاع سنخ الحكم عند تحقّق الغاية ، وبين ما إذا كانت قيدا للموضوع أو الحكم فلا تدلّ على المفهوم. نهاية الأفكار ٢ : ٤٩٧.

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «دخولها فيه».

(٢) حيث إنّ المغيّى حينئذ هو نفس الحكم لا المحكوم به ليصحّ أن ينازع في دخول الغاية في حكم المغيّى أو خارج عنه* ، كما لا يخفى. نعم ، يعقل أن ينازع في أنّ الظاهر هل هو انقطاع الحكم المغيّى**؟ بحصول غايته الاصطلاحيّ ـ أي مدخول إلى أو حتّى ـ أو استمراره في تلك الحال؟ ولكن الأظهر هو انقطاعه ، فافهم واستقم. منه [أعلى الله مقامه].

* هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «أو خروجه عنه».

** وقد يقال : إنّ الوجه في عدم المعقوليّة أنّ دخول الغاية في المغيّى فيما إذا كانت الغاية قيدا للحكم مستلزم لاجتماع الضدّين ، ضرورة أنّه إذا كان مثل قوله عليه‌السلام : «حتّى تعلم أنّه قذر» داخلا في حكم المغيّى يلزم منه أن يكون معلوم النجاسة طاهرا ، وليس ذلك إلّا اجتماع الضدّين.

١٢٦

فصل

[مفهوم الحصر]

[الجملة المشتملة على كلمة «إلّا»]

لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم سلبا أو ايجابا بالمستثنى منه ، ولا يعمّ المستثنى. ولذلك يكون الاستثناء من النفي إثباتا (١) ومن الإثبات نفيا (٢). وذلك للانسباق (٣) عند الإطلاق قطعا.

فلا يعبأ بما عن أبي حنيفة من عدم الإفادة (٤) ، محتجّا بمثل : «لا صلاة إلّا بطهور» (٥) ؛ ضرورة ضعف احتجاجه (٦) : أوّلا ، بكون المراد من مثله أنّه لا تكون

__________________

(١) كقوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) الحجر / ٤٢.

(٢) كقوله تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) العنكبوت / ١٤.

(٣) أي : لتبادر الاختصاص من الاستثناء.

(٤) أي : عدم إفادة الاستثناء من النفي إثبات الحكم للمستثنى ومن المثبت نفي الحكم من المستثنى. راجع الإحكام (للآمديّ) ٢ : ٣٠٨ ، شرح العضديّ ١ : ٢٦٥.

(٥) وسائل الشيعة ١ : ٢٥٦ ، الباب ١ من أبواب الوضوء الحديث ١ و ٦. والمراد من مثل : «لا صلاة إلّا بطهور» هو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا نكاح إلّا بوليّ» ، راجع مستدرك الوسائل ١٤ : ٣١٧.

(٦) وحاصل احتجاجه : أنّه لو دلّ الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه بحيث يكون الاستثناء من النفي إثباتا ومن الإثبات نفيا لكان مثل : «لا صلاة إلّا بطهور» دالّا على تحقّق الصلاة عند وجود الطهارة مطلقا ـ أي وإن كان فاقدا لما عداها من الأجزاء والشرائط ـ ، وهو باطل قطعا ، فليكشف هذا من عدم دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه.

١٢٧

الصلاة الّتي كانت واجدة لأجزائها وشرائطها المعتبرة فيها صلاة إلّا إذا كانت واجدة للطهارة (١) ، وبدونها لا تكون صلاة على وجه (٢) ، وصلاة تامّة مأمورا بها على آخر (٣). وثانيا ، بأنّ الاستعمال مع القرينة ـ كما في مثل التركيب ممّا علم فيه الحال ـ لا دلالة له على مدّعاه أصلا ، كما لا يخفى.

ومنه قد انقدح : أنّه لا موقع للاستدلال على المدّعى بقبول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إسلام من قال كلمة التوحيد (٤). لإمكان دعوى أنّ دلالتها على التوحيد كانت بقرينة الحال أو المقال (٥).

والإشكال في دلالتها عليه بأنّ خبر «لا» إمّا يقدّر «ممكن» أو «موجود» ، وعلى كلّ تقدير لا دلالة لها عليه. أمّا على الأوّل : فلأنّه (٦) حينئذ لا دلالة لها إلّا على إثبات إمكان وجوده تبارك وتعالى ، لا وجوده. وأمّا على الثاني : فلأنّها وإن دلّت على وجوده تعالى ، إلّا أنّه لا دلالة لها على عدم إمكان إله آخر.

مندفع بأنّ المراد من الإله هو واجب الوجود ، ونفي ثبوته ووجوده

__________________

(١) بل المراد من مثله في المستثنى منه نفي الإمكان وأنّه لا يكاد يكون بدون المستثنى ، وقضيّته ليس إلّا إمكان ثبوته معه ، لا ثبوته فعلا ، لما هو واضح لمن راجع أمثاله من القضايا العرفيّة. منه [أعلى الله مقامه].

(٢) أي : على القول بكون ألفاظ العبادات موضوعة للصحيحة منها.

(٣) أي : على القول بكون ألفاظ العبادات موضوعة للأعمّ.

(٤) استدلّ الشيخ الأعظم الأنصاريّ بهذا الدليل ـ على ما في تقريرات درسه ـ ، حيث قال : «وقبول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إسلام من قال لا إله إلّا الله من أعدل الشواهد على ذلك».

مطارح الأنظار : ١٨٧.

وتقريب الاستدلال : أنّه لو لم يدلّ الاستثناء في كلمة التوحيد على الحصر ونفي الالوهيّة عن غير الفرد الواحد الأحد ـ وهو الله سبحانه ـ لم تنفع في إسلام من قال : «لا إله إلّا الله». وقبول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إسلام من تفوّه به من أعدل الشواهد على أنّ الاستثناء يفيد الحصر.

(٥) ولكن قال الشيخ الأعظم الأنصاريّ ـ على ما في مطارح الأنظار : ١٨٧ ـ : «والقول بأنّ ذلك للقرينة أو أنّها تدلّ على التوحيد شرعا بمكان من السخافة».

(٦) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «فلأنّها».

١٢٨

في الخارج وإثبات فرد منه فيه ـ وهو الله ـ يدلّ بالملازمة البيّنة على امتناع تحقّقه في ضمن غيره تبارك وتعالى ، ضرورة أنّه لو لم يكن ممتنعا لوجد ، لكونه من أفراد الواجب.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمفهوم ، وأنّه لازم خصوصيّة الحكم في جانب المستثنى منه الّتي دلّت عليها الجملة الاستثنائيّة.

نعم ، لو كانت الدلالة في طرفه بنفس الاستثناء ، لا بتلك الجملة ، كانت بالمنطوق ، كما هو ليس ببعيد ، وإن كان تعيين ذلك لا يكاد يفيد (١).

__________________

(١) وذهب المحقّق النائينيّ إلى أنّ دلالتها على الحصر كانت بالمنطوق. أجود التقريرات ٢ : ٤٣٨.

وقال المحقّق الخوئيّ : «لا أثر لهذا البحث أصلا». المحاضرات ٥ : ١٤٥ و ١٤٩.

ولا يخفى : أن أثر هذا البحث يظهر في موارد :

منها : أنّه إذا كان ثبوت الحكم في المستثنى أو نفيه عنه من باب المفهوم فمع الشكّ في سعة الحكم في المستثنى وضيقه لا يمكن التمسّك بإطلاقه ، سواء قلنا بأنّ المفهوم مدلول التزاميّ للفظ ـ كما عليه المحقّق النائينيّ وبعض آخر من المحقّقين ـ أو قلنا بأنّه حكم عقليّ ولا ربط له باللفظ ـ كما يظهر من كلمات المصنّف في تحديد المفهوم ـ. بخلاف ما إذا كان ثبوت الحكم في المستثنى من باب المنطوق ، فإنّه يمكن التمسّك بإطلاقه في إثبات سعة الحكم. مثلا : لو شكّ في قوله عليه‌السلام : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس ...» أنّ الإعادة تثبت من جهة هذه الخمس في بعض الحالات أم لا ، فإن كان ثبوت الإعادة فيها من باب المفهوم لا يصحّ التمسّك بإطلاق الكلام في ثبوت الإعادة في مورد الشكّ ، وإن كان ثبوت الإعادة فيها من باب المنطوق يمكن التمسّك بإطلاقه في إثبات الإعادة في مورد الشكّ.

ومنها : أنّ هذا النزاع يثمر في باب التعارض بناء على كون المنطوق أظهر دلالة من المفهوم. مثلا : إذا قال المولى : «لا تكرم العلماء إلّا زيدا» ثمّ قال : «لا تكرم زيدا» فبناء على أنّ دلالة الاستثناء من النفي على ثبوت الحكم في المستثنى تكون من باب المفهوم وأنّ دلالة المنطوق أظهر من دلالة المفهوم فيقدّم المنطوق ـ أي قوله : «لا تكرم زيدا» ـ. وأمّا إذا كان من باب المنطوق فلا يكون أحدهما أظهر من الآخر ويقع بينهما التعارض ، فيعامل معهما معاملة التعارض.

١٢٩

[الجملة المشتملة على «إنّما»]

وممّا يدلّ على الحصر والاختصاص «إنّما». وذلك لتصريح أهل اللغة بذلك (١) ، وتبادره منه قطعا عند أهل العرف والمحاورة.

ودعوى «أنّ الإنصاف أنّه لا سبيل لنا إلى ذلك (٢) ، فإنّ موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة ، ولا يعلم بما هو مرادف بها في عرفنا حتّى يستكشف منها ما هو المتبادر منها» (٣) غير مسموعة ، فإنّ السبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق (٤) إلى أذهاننا ، فإنّ الانسباق (٥) إلى أذهان أهل العرف أيضا سبيل.

[الجملة المشتملة على «بل» الإضرابيّة]

وربما يعدّ ممّا دلّ على الحصر كلمة «بل» الإضرابيّة (٦).

والتحقيق : أنّ الإضراب على أنحاء :

منها : ما كان لأجل أنّ المضرب عنه إنّما أتى به غفلة ، أو سبقه به لسانه فيضرب بها عنه إلى ما قصد بيانه ، فلا دلالة له على الحصر أصلا ، فكأنّه أتى بالمضرب إليه ابتداء ، كما لا يخفى.

ومنها : ما كان لأجل التأكيد ، فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة والتمهيد لذكر المضرب إليه ، فلا دلالة له عليه أيضا.

ومنها : ما كان في مقام الردع وإبطال ما أثبت أوّلا ، فيدلّ عليه (٧) ، وهو واضح.

__________________

(١) راجع تاج العروس ٩ : ١٢٩.

(٢) أي : تبادر الاختصاص منها.

(٣) هذا ما ادّعاه الشيخ الأعظم الأنصاريّ على ما في مطارح الأنظار : ١٨٨.

(٤ و ٥) قد مرّ مرارا أنّ كلمة «الانسباق» لا تساعد عليه اللغة.

(٦) عدّها الشيخ الأنصاريّ ممّا دلّ على الحصر على ما في مطارح الأنظار : ١٨٨.

(٧) إذا كان بصدد الردع عنه ثبوتا. وأمّا إذا كان بصدده إثباتا ـ كما إذا كان مثلا بصدد بيان أنّه إنّما أثبته أوّلا بوجه لا يصحّ معه الإثبات اشتباها ـ فلا دلالة له على الحصر أيضا ، فتأمّل جيّدا. منه [أعلى الله مقامه].

١٣٠

[تعريف المسند إليه باللام]

وممّا يفيد الحصر ـ على ما قيل (١) ـ تعريف المسند إليه باللام.

والتحقيق : أنّه لا يفيده إلّا فيما اقتضاه المقام (٢) ، لأنّ الأصل في اللام أن تكون لتعريف الجنس ، كما أنّ الأصل في الحمل في القضايا المتعارفة هو الحمل المتعارف الّذي ملاكه مجرّد الاتّحاد في الوجود ، فإنّه الشائع فيها ، لا الحمل الذاتيّ الّذي ملاكه الاتّحاد بحسب المفهوم ، كما لا يخفى. وحمل شيء على جنس وماهيّة كذلك (٣) لا يقتضي اختصاص تلك الماهيّة به وحصرها عليه.

نعم ، لو قامت قرينة على أنّ اللام للاستغراق ، أو أنّ مدخوله اخذ بنحو الإرسال والإطلاق ، أو على أنّ الحمل عليه كان ذاتيّا ، لافيد حصر مدخوله على محموله واختصاصه به.

وقد انقدح بذلك الخلل في كثير من كلمات الأعلام في المقام وما وقع منهم من النقض والإبرام (٤). ولا نطيل بذكرها ، فإنّه بلا طائل ، كما يظهر للمتأمّل ، فتأمّل جيّدا.

__________________

(١) راجع قوانين الاصول ١ : ١٨٨.

(٢) كقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الحمد / ٢.

(٣) أي : حملا متعارفا.

(٤) راجع قوانين الاصول ١ : ١٨٨ ـ ١٩٠ ، ومطارح الأنظار : ١٨٨ ـ ١٩٠.

١٣١

فصل

[مفهوم اللقب والعدد]

لا دلالة للّقب (١) ولا للعدد على المفهوم وانتفاء سنخ الحكم عن غير موردهما أصلا. وقد عرفت (٢) أنّ انتفاء شخصه ليس بمفهوم.

كما أنّ قضيّة التقييد بالعدد منطوقا عدم جواز الاقتصار على ما دونه ، لأنّه ليس بذاك الخاصّ والمقيّد (٣) ، وأمّا الزيادة فكالنقيصة إذا كان التقييد به (٤) للتحديد بالإضافة إلى كلا طرفيه (٥).

نعم ، لو كان لمجرّد التحديد بالنظر إلى طرفه الأقلّ لما كان في الزيادة ضير أصلا (٦) ، بل ربما كان فيها فضيلة وزيادة ، كما لا يخفى.

__________________

(١) المراد من اللقب هو كلّ ما يعبّر عن الشيء ، سواء كان اسما أم لقبا ، وسواء كان ركنا في الكلام ـ بأن يكون مبتداء أو خبرا ـ أو لم يكن ركنا.

(٢) في الصفحة : ١٠٥ من هذا الجزء.

(٣) وبتعبير أوضح : إنّه وإن كان العدد يدلّ على جواز الاقتصار على ما دونه ، إلّا أنّه ليس من جهة دلالته على المفهوم ، بل من جهة أنّ المأمور به المقيّد لا ينطبق عليه.

(٤) أي : العدد.

(٥) أي : إنّ العدد يدلّ على عدم جواز الزيادة أيضا فيما إذا جيء بالعدد في مقام التحديد بالنسبة إلى طرفي الزيادة والنقيصة. ولكن دلالته عليه ليس من باب دلالته على المفهوم ، بل من جهة أنّ المأمور به المقيّد لا ينطبق على المأتيّ به.

(٦) كما سئل عن أبي جعفر عليه‌السلام : أيّ شيء حدّ الركوع والسجود؟ قال عليه‌السلام : «سبحان ربّي العظيم ـ

١٣٢

وكيف كان فليس عدم الاجتزاء بغيره من جهة دلالته على المفهوم ، بل إنّما يكون لأجل عدم الموافقة مع ما اخذ في المنطوق ، كما هو معلوم.

__________________

ـ وبحمده ثلاثا في الركوع ، وسبحان ربّي الأعلى وبحمده ثلاثا في السجود». وسائل الشيعة ٤ : ٩٢٤ ، الباب ٤ من أبواب الركوع ، الحديث ٥.

١٣٣
١٣٤

المقصد الرابع

في العامّ والخاصّ

[وفيه فصول :]

١٣٥
١٣٦

فصل

[تعريف العامّ وأقسامه]

[تعريف العامّ]

قد عرّف العامّ بتعاريف قد وقع (١) من الأعلام فيها النقض ـ بعدم الاطّراد تارة والانعكاس اخرى ـ بما لا يليق بالمقام (٢) ، فإنّها تعاريف لفظيّة تقع في جواب السؤال عنه ب «ما الشارحة» (٣) ، لا واقعة في جواب السؤال عنه : ب «ما الحقيقيّة». كيف؟!(٤) وكان المعنى المركوز منه في الأذهان أوضح ممّا عرّف به مفهوما ومصداقا ، ولذا يجعل صدق ذاك المعنى على فرد وعدم صدقه المقياس في الإشكال عليها (٥) بعدم الاطّراد أو الانعكاس بلا ريب فيه ولا شبهة تعتريه من أحد ،

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «وقد وقع».

(٢) راجع هداية المسترشدين : ٣٣٩ ، الفصول الغرويّة : ١٥٨ ، الإحكام (للآمديّ) ٢ : ٤١٣ ـ ٤١٤.

(٣) قد كرّر المصنّف رحمه‌الله أنّ مثل هذه التعاريف تعاريف لفظيّة تقع في جواب السؤال ب «ما الشارحة».

وظاهر كلامه أنّ التعريف اللفظيّ مساوق لمطلب ما الشارحة. ولكن أورد عليه المحقّق الاصفهانيّ بأنّه لا مساوقة بين التعريف اللفظيّ ومطلب ما الشارحة ، فإنّ التعريف اللفظيّ يبيّن مفهوم اللفظ ، ومطلب ما الشارحة يبيّن ماهيّة مفهوم اللفظ. راجع نهاية الدراية ١ : ٣٢٧ و ٦٣١.

(٤) أي : كيف لا تكون هذه التعاريف لفظيّة؟!

(٥) أي : على التعاريف بما هي حقيقة العامّ.

١٣٧

والتعريف لا بدّ أن يكون بالأجلى ، كما هو أوضح من أن يخفى.

فالظاهر أنّ الغرض من تعريفه إنّما هو بيان ما يكون بمفهومه جامعا بين ما لا شبهة في أنّها أفراد العامّ ليشار به إليه في مقام إثبات ماله من الأحكام ، لا بيان ما هو حقيقته وماهيّته ، لعدم تعلّق غرض به (١) ـ بعد وضوح ما هو محلّ الكلام بحسب الأحكام من أفراده ومصاديقه ـ ، حيث لا يكون بمفهومه العامّ (٢) محلّا لحكم من الأحكام (٣).

[أقسام العامّ]

ثمّ الظاهر أنّ ما ذكر له من الأقسام من الاستغراقيّ والمجموعيّ والبدليّ (٤) إنّما هو باختلاف كيفيّة تعلّق الأحكام به (٥) ، وإلّا فالعموم

__________________

(١) أي : بما هو حقيقة العامّ.

(٢) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «لا يكون العامّ بمفهومه».

(٣) بل الأحكام الشرعيّة ثابتة لما هو عامّ بالحمل الشائع ، أي ما يكون مصداقا له.

(٤) والمحقّق النائينيّ أنكر العموم البدليّ ، وقال : «وتسمية العموم البدليّ بالعموم ـ مع أنّ العموم بمعنى الشمول ، والبدليّة تنافي الشمول ـ لا تخلو عن مسامحة. وعلى كلّ تقدير العموم بمعنى الشمول ليس إلّا الاستغراقيّ والمجموعيّ». فوائد الاصول ٢ : ٥١٤.

ولا يخفى : أنّ الملاك في إطلاق العموم على مفهوم هو شموله وسريانه إلى جميع ما يصلح لأن ينطبق عليه. وهذا الشمول والسريان ثابت في العامّ البدليّ ، غاية الأمر أنّ الحكم المتعلّق به يسقط بمجرّد إتيان فرد من الأفراد الّتي يشملها ، ففي مثل قولنا : «جئني برجل أيّ رجل» تشمل كلمة «أيّ رجل» جميع أفراد الرجل ، غاية الأمر يسقط الأمر المتعلّق بهذا المفهوم العامّ بمجرّد إتيان فرد من الأفراد الّتي ينطبق عليها.

(٥) إن قلت : كيف ذلك ولكلّ واحد منها لفظ غير ما للآخر مثل «أيّ رجل» للبدليّ ، و «كلّ رجل» للاستغراقيّ.

قلت : نعم ، ولكنّه لا يقتضي أن تكون هذه الأقسام له ولو بملاحظة اختلاف كيفيّة تعلّق الأحكام ، لعدم إمكان تطرّق هذه الأقسام إلّا بهذه الملاحظة ، فتأمّل جيّدا. منه [أعلى الله مقامه].

١٣٨

في الجميع بمعنى واحد ، وهو : «شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق (١) عليه (٢)». غاية الأمر أنّ تعلّق الحكم به تارة بنحو يكون كلّ فرد موضوعا على حدة للحكم ؛ واخرى بنحو يكون الجميع موضوعا واحدا ، بحيث لو أخلّ بإكرام واحد في «أكرم كلّ فقيه» ـ مثلا ـ لما امتثل أصلا ، بخلاف الصورة الأولى ، فإنّه أطاع وعصى ؛ وثالثة بنحو يكون كلّ واحد موضوعا على البدل ، بحيث لو أكرم واحدا منهم لقد أطاع وامتثل ، كما يظهر لمن أمعن النظر وتأمّل (٣).

__________________

(١) هكذا في جميع النسخ ، والصحيح : «لأن ينطبق ...».

(٢) فالعامّ ـ عند المصنّف رحمه‌الله ـ عبارة عمّا دلّ على شمول مفهوم لجميع ما يصلح لأن ينطبق عليه.

(٣) لا يخفى : أنّ الظاهر من كلام المصنّف رحمه‌الله أنّ منشأ هذا التقسيم هو اختلاف كيفيّة تعلّق الحكم بالعامّ.

ولكن التحقيق : أنّ الاستغراقيّة والمجموعيّة والبدليّة من خصوصيّات الموضوع العامّ ، ضرورة أنّ الموضوع المنطبق على جميع الأفراد قد يلحظ كلّ فرد من أفراده وحده موضوعا للحكم ، وقد يلحظ مجموع أفراده بما هو مجموع موضوعا للحكم ، وقد يلحظ فرد من أفراده على البدل موضوعا للحكم. ولا شكّ أنّ الموضوع مقدّم على الحكم ، فيمتنع أن ينشأ خصوصيّات الموضوع المقدّم من قبل الحكم المتأخّر عنه.

ولذا حمل المحقّق الأصفهانيّ عبارة الكفاية على غير ظاهره ، فأفاد ما حاصله : أنّ طبيعة العامّ متقوّمة بجهتين : جهة وحدة وجهة كثرة ، فإنّها واحدة مفهوما ومتكثّرة ذاتا. لكن المولى في مرحلة جعل الحكم تارة يلحظ جهة الوحدة من دون لحاظ جهة الكثرة ، فيلحظ الطبيعة فانية في أفرادها على نحو الوحدة في الجمع ـ أي يلحظ الأفراد الكثيرة على نحو الجمع واقعا في مفهوم واحد ـ ويجعل الحكم عليها على نحو الجمع ، فيكون المجموع موضوعا واحدا بحيث يكون كلّ فرد جزء الموضوع. واخرى يلحظ الطبيعة فانية في أفرادها على نحو الوحدة في الكثرة ـ أي يلحظ الأفراد الكثيرة على نحو الاستقلال واقعا في مفهوم واحد ـ ويجعل الحكم على الأفراد بحيث يكون كلّ واحد منها مفهوما مستقلّا. وثالثة يلحظ الطبيعة فانية في صرف وجود الأفراد بنحو يكون كلّ واحد منها على البدل موضوعا للحكم. فعلى الأوّل يكون العموم مجموعيّا ، أي : جهة الكثرة وإن كانت محفوظة فيه ، إلّا أنّها ملغاة في مرتبة الموضوعيّة. وعلى الثاني يكون استغراقيّا ، أي : جهة الوحدة بين الأفراد وإن كانت محفوظة ، إلّا أنّها ملغاة في مرتبة الموضوعيّة. وعلى الثالث يكون بدليّا أي : كلتا الجهتين ملغاة في مرتبة الموضوعيّة. نهاية الدراية ١ : ٦٣١ ـ ٦٣٢.

١٣٩

وقد انقدح : أنّ مثل شمول «عشرة» وغيرها لآحادها المندرجة تحتها ليس من العموم ، لعدم صلاحيّتها بمفهومها للانطباق على كلّ واحد منها ، فافهم (١).

__________________

(١) ولعلّه إشارة إلى أنّه لو كان دليل خروج أسماء الأعداد من المفهوم عدم صلاحيّتها بمفهومها للانطباق على الآحاد المندرجة تحتها يلزم منه خروج الجمع المحلّى باللام عن تعريف العموم ، فإنّ مثل «العلماء» لا ينطبق بمفهومه على كلّ فرد من أفراد العلماء ، بل ينطبق على كلّ جماعة جماعة من العلماء ، ضرورة أنّ لفظ «العلماء» لا ينطبق على زيد العالم أو عمرو العالم أو الحسين العالم ، بل ينطبق على الثلاثة مجموعا.

وأجاب عنه العلّامة المحشّي المشكينيّ بأنّ الملاك في إطلاق العموم على مفهوم هو أن يكون له ماهيّة قابلة للانطباق على الآحاد المندرجة تحتها ، ولا يلزم أن تكون تلك الماهيّة نفس المدخول ، وهي موجودة في كلمة «العلماء» ، وهي ماهيّة العالم. راجع حواشيه على الكفاية ـ المطبوعة بالطبع الحجريّ ـ ١ : ٣٣٢.

١٤٠