النّظام الصحّي والسّياسة الطبّيّة في الإسلام

الدكتور زهير الاعرجي

النّظام الصحّي والسّياسة الطبّيّة في الإسلام

المؤلف:

الدكتور زهير الاعرجي


الموضوع : الطّب
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨١

نظرية الاسلام في الطب

واستنادا على الارتكاز العقلائي الذي امضاه الشارع المقدس ، فان الاسلام يعلن اول بنود نظامه الصحي واهمها ، وهو ان النظام الطبي والعلاجي ينبغي ان يُبتنى على اساس الخدمة الانسانية لا المنفعة التجارية ؛ لان هدف الطب اولاً واخيراً علاج الآلام التي يعاني منها المريض ، وليس تحويل المريض الى بضاعة في مؤسسة هدفها الربح التجاري. وهذا الاختلاف في النظرة الى المؤسسة الطبية هو أهم الاختلافات بين النظام الصحي الاسلامي ونظيره الرأسمالي.

ولا ريب ان الاسلام بحثّه على العمل ، ومباركته للجهد الانساني ، وربطه العمل الانتاجي في الارض بالثواب والاجر في الاحياة الآخرة ، اراد لكل الافراد في النظام الاجتماعي اداء ادوارهم المرسومة بكل جدية ونشاط ؛ لان الانسانية لا يتكامل نظامها الاجتماعي ولا يتطور بناؤها الفكري والفلسفي ما لم يساهم جميع الافراد بالعمل الانتاجي المؤدي الى اشباع حاجاتهم الاساسية. ونزول المرض بفرد ما ، يعطل جهده الطبيعي في تأدية الدور الاجتماعي المناط به ، مما يؤدي الى تحرك النظام الاجتماعي للتعامل مع ذلك الاستثناء حتى يتم اصلاحه وعلاجه طبياً واجتماعياً.

فاذا كان المرض مؤقتاً ويمكن علاجه بالطرق الطبية المعروفة ، خلد المريض الى الراحة ، وتدخل النظام الاجتماعي الاسلامي لمساعدته على ثلاثة محاور. المحور الاول : العلاج ، فيقدم له كل اسباب التطبيب والعلاج

٦١

دون النظر لدخله السنوي او طبقته الاجتماعية. والمحور الثاني : المساعدة المادية له ولعائلته اذا كان فقيراً ، فيحتسب مقدار حاجته وحاجة عائلته فيدفع له ذلك المقدار حتى يحين وقت الشفاء. والمحور الثالث : تدخل النظام الاجتماعي لسد دور المريض الشاغر في الحقل العملي ، فاذا كان المريض عاملاً في شركة صناعية مثلا ، فان الشركة ملزمة باستئجار عامل آخر يحل محل العامل المريض. وهذا يتم عادة في الامراض التي يستلزم علاجها فترة زمنية قصيرة كالانفلونزا والجروح والكسور وامراض الجهاز الهضمي والبولي.

اما اذا كان المرض مزمناً ، كالشلل التام ، وامراض السرطان ، وامراض نقص المناعة الحادة ، والامراض القلبية ، فان النظام الاجتماعي ملزم بالتدخل ايضاً لمساعدة المريض طبياً ومالياً وايجاد من يسد دور المريض الشاغر في الحقل الاجتماعي بصورة دائمية. ولا يختلف تدخل النظام الاجتماعي في المرض المزمن عن المرض المؤقت الاّ بفرق الزمن ، حيث يتعين على النظام الاجتماعي تخصيص معاش ثابت للمريض وعائلته يستقطع من بيت المال ، كما في الرواية المروية عن الامام امير المؤمنين (ع) مع الشيخ النصراني ، وتعيين برنامج علاجي مستمر للمريض. وينبغي ان يستمر هذا المعاش والعلاج حتى آخر لحظة من حياة المريض. اما النظرية الرأسمالية فتعتبر المريض في هذه الحالة عنصراً مستهلكاً ليست له القدرة على الانتاج ، بمعنى ان المريض بمرض مزمن يعتبر في النظرية الرأسمالية عنصراً ضاراً على النظام الاجتماعي لانه قادر على الاستهلاك فقط ، وليست له القابلية على العمل الانتاجي. ولكن نظرة الاسلام الشمولية واحترامها

٦٢

للحياة الانسانية اوجبت اكرام الانسان المعاق جسدياً ، حتى لو كان عاجزاً عن الانتاج ، حيث ورد ان الامام علياً (ع) عندما صادف النصراني الذي كان يمد يده استجداءً لعدم قدرته على العمل ولكبر سنه ، انكر على عمّاله ذلك وقال : ( استعملتموه ، حتى اذا كبر وعجز منعتموه ) ، وامران يصرف له من بيت المال (١).

ويجعل الاسلام الولاية الشرعية مصدر المسؤوليات الاجتماعية ؛ فولي الاسرة مسؤول عن رعاية من يتولاهم من القاصرين ونحوهم. وفي انعدامه ، يتحمل الامام او نائبه ( اي الدولة ) مسئوولية الولاية لمن لا ولي له. وعليه ، فان القاصر عن التحصيل ـ لمرض ونحوه ـ يُضمن اما من قبل الولي العام او الولي الخاص. بمعنى ان الانسان القادر على الانتاج يستطيع ان يسد حاجته الاساسية وحاجة الافراد الذين يتولاهم اصحاء كانوا ام مرضى. واذا عجز الولي بسبب المرض عن اعاشة عائلته ، وجب على الامام اعالتهم لحد الكفاية. وهذا الاسلوب يضمن تكامل النظام المعيشي لكل الافراد في المجتمع الاسلامي. وقد جاء هذا الايمان بكرامة الفرد وصيانته من الاهمال ضمن اطار المسؤولية الجماعية والاخوة الانسانية التي دعا اليها الاسلام.

ولا ريب ان تأكيد الاسلام على ربط العمل الانتاجي في الحياة الدنيوية بالثواب الاُخروي ، وحثه على التزام الصدق والثقة المتبادلة والاعتدال ونهيه عن الكذب وشهادة الزور والجشع ، وجزمه في تثبيت اسس العدالة الاجتماعية ، سهّل دور المؤسسة الصحية في تحديد ( من هو

__________________

(١) التهذيب : ج ٢ ص ٨٨.

٦٣

المريض ؟ ). فمع تضافر هذه العوامل ، تجد من الصعوبة بمكان ان يجد المتمارضون ساحة لكسلهم ومجالاً لعيشهم عبئا على بيت المال ؛ لان المؤسسة الصحية تستطيع تحديد ( من هو المريض ؟ ) عن طريق علامات المرض واعراضه ، وعن طريق دراسة شخصية المريض وتاريخه والتزامه بالاخلاق الدينية وتمسكه بالصدق والنزاهة والاستعفاف.

واغلب الامراض التي يتعرض لها الافراد في المجتمع الاسلامي تنتج من حوادث طارئة او حالات غير متوقعة كحوادث السيارات والحافلات ، وجروح العمل ، والكسور المختلفة التي تحصل لسبب من الاسباب ، او امراض التعرض لبعض الفيروسات كالزكام وغيره. والمهم ان امراض الحضارة الحديثة يفترض ان لا تجد لها مكاناً في المجتمع الاسلامي ؛ لان الاسلام حرم شرب الخمر ، واكل الميتة والدم والخنزير ، وهذه هي اساس امراض الكبد والجهاز الهضمي وامراض القلب. وحرم تناول كل ما يضر بالجسد ومنها التدخين المضر واستعمال المخدرات التي هي المصدر الاساس في امراض سرطان الرئة والبلعوم والاضطراب العقلي. واوصى بالاعتدال باكل اللحوم الحمراء ، خصوصاً لحوم البقر والضأن ، وهذه هي مصدر امراض القلب وتصلب الشرايين. واوصى باستعمال المسواك لتنظيف الاسنان وتطهير الفم لان معالجة امراض الفم والاسنان اساسية الى درجة افرد لها الطب الحديث علماً خاصاً هو طب الاسنان ، وهو اختصاص يعادل اختصاص الطب العام من حيث الكيفية لا الكمية. ولا شك ان للدولة الاسلامية مبدأ حق التدخل للحفاظ على البيئة الطبيعية من التلوث الصناعي ، لان التلوث احد مصادر امراض السرطان وامراض الرئة

٦٤

بانواعهما المختلفة. وحرم الاسلام الاجهاض والانتحار وقتل النفس البريئة فاكفى الطب الدخول في هذا الحقل الذي يستنزف طاقات المؤسسة الصحية. واوجب الاسلام التذكية الشرعية ووضع شروطاً للصيد والذباحة ، وهذا الوجوب جنّب النظام الصحي العديد من الامراض المتعلقة بالقلب وجريان الدورة الدموية. ولا ريب ان الاطمئنان النفسي والراحة الشعورية التي ينزلها النظام الاسلامي على قلوب الافراد ، من حيث محو نسبة الجرائم والاعتداءات والسرقات ، يساهم بشكل فعال في ازالة الارق والضغط النفسي والقرحة والامراض العقلية التي يعاني منها افراد الحضارة الحديثة.

وبطبيعة الحال ، فان النظرية الاسلامية في الطب تهتم بشكل استثنائي بنظامين في غايتي الاهمية وهما : ١ ـ النظام الوقائي ٢ ـ النظام الغذائي ، وسنتعرض لاحقاً بالتفصيل لهذين النظامين. ولكن لابد لنا ان نذكر هنا ، من نافلة القول ، ان صحة المتقدمين وتعميرهم تلك السنين الطويلة لم يكن نتيجةً لمعاينة طبية او فهم للنظرية الجرثومية ، اواستخدام للعقاقير الطبية ، بل ان الوقاية وتنظيم النظام الغذائي كانا من اهم اسباب العيش السليم من الامراض. وقد ورد في بعض الكتب التاريخية ان سلمان الفارسي (رض) عاش اكثر من ثلاثمائة سنة. ولو صحت هذه الرواية لكان الاجدر بالجهاز الطبي دراسة هذه الظاهرة الطبيعية وفهم منشأها واسبابها.

ولا يمكننا الاعتماد على العلاج الكيميائي والشعاعي في جميع الحالات المرضية ، بل لابد ان نترك فسحة لتقدم العلاج الطبيعي والروحي ؛ لان الكثير من الامراض النفسية لا يتم علاجها الاّ بالعلاج الغيبي. ولا شك

٦٥

ان النفس الانسانية عميقة الغور ، بعيدة المنال ، فلا يستطيع امهر الجراحين او اقدر علماء النفس على معالجة بعض الامراض التي يستعصي على الطب الحديث فهمها والتعامل معها ، كالكآبة النفسية وما يترتب عليها من اقدام الفرد على الانتحار مثلاً. والعلاج الطبيعي مهم في شفاء الجروح العضلية والغضروفية. وطالما كان الاسلام ولا يزال يهاجم النظام الطبقي ويدعو الى توزيع عادل للثروة الاجتماعية ، فان النظام الصحي الاسلامي سيجعل الانشطة الطبية جميعاً انشطة يهمها العلاج الحقيقي للافراد ، لا تجارة تجني ارباحاً على حساب الفقراء والمستضعفين ، ويجعلها ايضاً تزدهر في بحوثها وتجاربها وانتاجها ؛ فلا يحدها الجشع المادي ولا يلزمها سيطرة طبقة دون أخرى ، بل ان العقل الطبي المسلم ارحم وانزه من العقل الطبي الرأسمالي ؛ لان الطبيب المؤمن بقدر ما تهمه الخدمات الانسانية لتخفيف الآلام ، يهمه بناء النظام الاجتماعي النظيف عن المطامع الفردية المحضة.

ولا تتوقف وظيفة الطب على تحديد ( من هو المريض ؟ ) بل تتعداه الى قاعدة المحافظة على صحة الافراد عموماً ، حتى يستطيع النظام الاجتماعي تنشيط منهجه الاقتصادي في الانتاج وعدالة التوزيع. وبطبيعة الحال فان المؤسسة الصحية الاسلامية مسؤولة عن صحة الافراد في المجتمع الاسلامي على مستويين ، المستوى الاول : تثقيف افراد المجتمع تثقيفاً عاماً فيما يتعلق بفهم منشأ الامراض وسببها ، والتركيز على نظامي الوقاية والغذاء في تنمية الجسم البشري ، حيث يتم ذلك من خلال النشر والاعلام والتبليغ الفردي والجماعي. والمستوى الثاني : معالجة الافراد معالجة فردية في الظروف الطبيعية ، ومعالجة جماعية في الظروف الاستثنائية ؛ ومن ذلك

٦٦

توفير الحقن المضادة للاوبئة المعدية ، وتنقية مياه الشرب من الجراثيم ، والسيطرة على انظمة المجاري العامة ، والتدقيق في الفحص الصحي للاسواق ومراكز بيع اللحوم والمواد الغذائية الاُخرى ، والمطاعم ، والفنادق. والسيطرة على الكائنات الناقلة للجراثيم كالذباب والبعوض والقمّل.

ولعل اهم عوامل تقدم الطب الانساني قيام الحكومة الاسلامية والجامعات والمؤسسات الاجتماعية الخيرية بمساندة مراكز البحوث الطبية ، لان البحث عن اسباب المرض وطرق انتشاره واكتشاف الدواء المناسب تعد من افضل الوسائل لعلاج الامراض واذا كانت الامراض متباينة بتباين المناطق الاسلامية ، فان من مهمات حكومات المناطق المحلية قيام المؤسسة الطبية التجريبية بالتركيز على معالجة الامراض المبتلى بها ذلك الاقليم. فالامراض المنتشرة في الاقاليم الصحراوية الحارة تختلف عن تلك التي تنتشر في الاقاليم الجبلية الباردة. والامراض المنتشرة في البلدان الفقيرة نسبياً تختلف عن امراض البلدان الموسرة. والمدار ان المؤسسات الخيرية وبيت المال بالخصوص ينبغي ان يتحملا جزءاً كبيراً من مصاريف النظام الصحي وبحوثه الاساسية.

ولما كان الطب مرتبطاً وثيقاً بالاحكام الشرعية التي تخص حالة المكلف البدنية في امور الولادة والنفاس والحيض والاستحاضة ، والحالات الاستثنائية كسلس البول ، والبطنة ، والوسوسة ، والنسيان ، والحالات المرضية التي لها علاقة بتعليق جزء من العبادات كالصلاة والصيام والحج ، والموت ومس الميت واحكامهما ، أصبح من الاهمية بمكان ان توثق المؤسسة التعليمية الدينية ـ المتمثلة بالحوزة العلمية ـ علاقتها

٦٧

بالمؤسسة الطبية من خلال انشاء مراكز مشتركة تساهم في اغناء الفقهاء بالآراء الطبية المرتبطة بالحياة العامة للمكلف ، واغناء الاطباء والمؤسسة الطبية بالاحكام الشرعية المتعلقة بمختلف الحالات المرضية التي يجد فيها الطبيب نفسه حائراً في التعامل معها.

وبطبيعة الحال ، فان المؤسسة الطبية تساهم بشكل حاسم في تنظيم الحالة الاجتماعية من حيث منح شهادات الميلاد والوفيات حتى يتم توزيع الثروة الاجتماعية ، وتساعد في فصل التخاصم في الارث والحقوق بين الافراد من خلال تشخيص الجينات الوراثية. وكذلك تساعد في السيطرة على الامراض ، واثبات أحقية المعوقين باستلام المساعدة المالية ، ودراسة الساحة الصحية الميدانية حتى يتم تحديد الطاقة الانتاجية للنظام الاجتماعية الاسلامي. ولذلك ، فان المؤسسة الطبية تعتبر ركنا هاماً من اركان النظام الاجتماعي ، والنظام الديني والاخلاقي ايضاً.

ولما كانت المنافسة الاقتصادية في الاسلام مرتبطة بالمعنى العبادي وبمفهوم تعمير الارض ، على عكس المبدأ الرأسمالي الذي اقحم المؤسسة الطبية في المعركة الاقتصادية فأفقدها مفهومها الانساني ، اصبحت الرعاية البدنية مرتبطة بالثواب والعقاب ايضاً ، لانها من الضروريات العقلية التي يحتاجها الفرد بالخصوص ، والنظام الاجتماعي عموماً. ولا شك ان الدولة مكلّفة بسد هذه الحاجة الاساسية من شتى المصادر المتوفرة لها ، حتى تقوي في الفرد روح الانتاج والعبادة ، وحتى تبعد النظام الصحي عن المنافسة الاقتصادية الرأسمالية وما تجر معها من ويلات ومظالم بحق الفقراء.

ولكي تضمن الدولة عدم انجرار المؤسسة الطبية واعضائها الى انشاء

٦٨

طبقة عليا خاصة تتحكم بمقاليد النظام الصحي وتشكل خطراً كامناً لانشاء طبقة رأسمالية مستقبلية ، فان لها طريقين في تحقيق ذلك ؛ الاول : ان تشرع في برنامج ترشح فيه دخول الطلبة على اساس المستوى الدراسي والايماني للطالب دون النظر للدخل السنوي. والثاني : فيما لو تساوى طالب فقير مع طالب غني في الدرجات وفي المستوى الايماني ، يقرع بينهما. ويدخل الفائز بالقرعة كلية الطب. واذا ارتأت الدولة أن من المصلحة العليا تفضيل الطالب الفقير على الطالب الغني مع التساوي في المستوى الدراسي ، فانها تستطيع ان تسمح للفقير الانضمام لكلية الطب حتى ينكسر الحاجز الطبقي الذي حرم الفقراء من التمتع بخيرات النظام الاجتماعي. وسبب الترجيح هنا ، تقديم الأهم على المهم. وهذا مجرد مثال نستطيع على ضوئه التفتيش عن امثلة اخرى تساهم في حل المشاكل الناتجة عن ظلم النظام الطبقي الذي انشأه الحاكم المستعمر في بلاد المسلمين.

واهم عمل ينبغي ان تنظر اليه الدولة في ترشيحها خريجي الدراسة الاعدادية للدخول الى الكليات الطبية هو حسن ايمان الفرد ونزاهته وصدقه. ولا ريب ان عامل الايمان يعتبر اهم من عوامل الدخل السنوي والطبقة الاجتماعية والدرجات. فالايمان بالله وبالنظام الاخلاقي للرسالة الدينية يبعد الطبيب عن شهوة حب المال وما يترتب عليها من انعدام النظرة الانسانية تجاه المرض والمريض. فالطبيب المؤمن يتحسس لآلام المريض ويعيش مشاعره المجروحة ، ويترحم ببذل اقصى الجهد لايجاد علاج ناجع يصلح وضعه الاستثنائي المرضي ، على عكس الطبيب الرأسمالي الذي لا يفكر الا بمحصوله المادي ومنفعة الشخصية. والطبيب

٦٩

المؤمن صادق ثقة فهو لا يصف علاجاً كاذباً للمريض ، بل لو افترضنا استعصاء تشخيص الحالة المرضية على ذلك المريض فانه ـ بسبب صدقه وايمانه ـ يحيل المريض الى طبيب آخر اكثر خبرة واعمق علماً ؛ ولا يضيره ذلك في شيء حتى لو خسر اجور معالجة ذلك المريض ، لانه يعلم ان الحفاظ على حياة الفرد اهم واولى من المكسب المالي.

ولا شك ان مناداة الاسلام بالعدالة الاجتماعية لها نتائج عديدة على المستوى الصحي. فاذا كان الافراد متساوين في الحقوق والواجبات ، فان من حقهم نظرياً التمتع بصحة جيدة بعيداً عن الامراض والنحول الجسدي ، بغض النظر عن دخلهم المادي ومستوى معيشتهم. ومن اجل ذلك علينا ملاحظة مسألتين مهمتين للغاية. الاولى : رفع الحالة المعيشة والسكنية لكل الافراد في المجتمع الاسلامي الى مستويات متقاربة. ويلاحظ في هذه المسألة جهود الدولة في بناء وحدات سكنية على نطاق واسع بحيث يؤمّن ولو نظريا ، انشاء مسكن واحد تراعى فيه القضايا الصحية من التهوية وتعقيم المياه ونظام المجاري لكل عائلة تسكن ارض الاسلام. فمن حق العائلة المسلمة ان يكون لها مسكن صحي وغذاء متوفر حتى تستطيع ان تقوم بدورها الاساسي في العملية الانتاجية للمجتمع. والثانية : رفع المستوى الاداري والمهني والتقني للمستشفيات العامة بحيث لا تساهم تلك المؤسسات في حرمان الفقراء من العلاج الطبي الذي يتمتع به اقرانهم من الاغنياء. فمع ان المال يشجع الاطباء على الاهتمام بدقة عملهم وخدمة زبائنهم ، الاّ أن ايمان الطبيب بان علاجه للمرضى مرتبط بجزائه الاخروي ، وان عدالته في عملية الفحص والتشخيص والعلاج بين جميع الافراد واجب

٧٠

شرعي ، كل ذلك سيساهم في رفع مستوى العلاج الطبي العام ، وتوطيد الثقة بين افراد المجتمع وافراد المؤسسة الطبية.

ولا شك ان مناداة الاسلام ايضاً بالعدالة الاجتماعية وتضييق الفوارق الطبقية بين الافراد ـ سيساعد على ازالة الامراض العقلية وغير العقلية بين الفقراء ، فيشترك الفقراء حينئذ مع اقرانهم في ادارة النظام الاجتماعي ، وكذلك فان مشاركة الطبقة الفقيرة في رفد المؤسسة الصحية بالاطباء في النظام الاسلامي سيخفف من حدة الفوارق الطبقية بين الافراد.

ويمكن تخفيف الضغط على المستشفيات بتصميم نظام صحي يقوم على اساس فصل المستشفى عن عيادة الطبيب. وكمثال على ذلك ، فلنفترض ان المستشفيات مصمّمة بالاصل للحالات المرضية الطارئة كالكسور والجروح الشديدة والعمليات الجراحية وسحب الدم ، والفحوصات المختبرية. اما العيادات الطبية فانها تستقبل المرضى الاقل خطورة كامراض الجهاز الهضمي والعصبي والعظمي التي لا تستدعي اجراء عمليات جراحية فورية ، وتستقبل ايضا حالات الفحص الطبي السنوي. بمعنى ان العيادة الطبية ينبغي ان تستخدم العلاج الوقائي ، وهو فحص الافراد بشكل دوري سنوي منتظم حتى يتم معالجة المرض منذ بداية نشوئه وقبل استفحاله وتعذر معالجته. وينبغي ان تتوزع العيادات الطبية على مختلف انحاء المدينة الواحدة ، بحيث يكون مسؤولية كل طبيب معالجة عدد محدد من الافراد في محلة واحدة ، ولنفترض ان عددهم الف فرد على الاكثر ، حيث يحتفظ بملفاتهم للاستفادة منها وقت الحاجة. فاذا كان المرض يصيب عشرة بالمائة من الافراد على سبيل المثال ، فان الطبيب سيعاين مائة فرد شهرياً. ولو

٧١

افترضنا ان الدولة تزود كل عائلة ، حسب دخلها ، ببطاقة شهرية للعلاج الطبي ، فان الطبيب الماهر المجتهد في عمله سيستقبل عدداً اكبر من المرضى ، ويترتب على ذلك ان دخله السنوي سيزداد. ولو علمنا ان الحاكم الشرعي او الدولة تفرض على الاغنياء دفع الحقوق الشرعية وهي عشرين بالمائة من فائض المؤونة السنوية وحقوقاً اخرى تتجمع في بيت المال ، تبين لنا ان الدولة الاسلامية قادرة على توفير العلاج الصحي لجميع الافراد ، علاوة على توفير الغذاء والسكن الكريم للجميع. وهذا النظام الاسلامي العادل يتفوق على النظام الرأسمالي الامريكي الذي يضطر سدس افراده سنوياً الى بيع ممتلكاتهم لدفع اجور العلاج الصحي.

٧٢

العلاقة بين الطبيب والمريض

وتستند العلاقة بين الطبيب وكل ما يمثله من منتجات دوائية واجهزة طبية ورأي شخصي من جهة ، وبين المريض وما يمثله من قوة شرائية من جهة اخرى ، الى روح النظام الاخلاقي الاسلامي. فهذا النظام الاخلاقي يرتكز على ثلاثة عناصر مهمة : هي الخبرة والثقة والاستعفاف عن المال. فالخبرة الطبية علامة حاسمة في تعريف الطبيب وتشخيصه عن غيره من الخبراء كالصيادلة والممرضين والكيميائيين. والثقة عنصر مهم في التعامل الطبي وتعني هنا صدق الطبيب في تشخيصه المرض. اما الاستعفاف فهو الاطار العام الذي يبلور شخصية الطبيب الاخلاقية ويمنحها فهماً وشفافية في التعامل مع المرض والموت ؛ بمعني ان دور الطبيب ينبغي ان يفهم على انه يمثل رسالة رحمة لعلاج امراض الناس ، وليس تاجراً يتصيّد الحالات الاستثنائية لتجميع الثروة على حساب الآخرين. والفارق بين الطبيب والمريض في المجتمع الاسلامي هو الفارق بين امتلاك الخبرة وعدمها. فالطبيب خبير ، والمريض فرد يبحث عن استثمار تلك الخبرة لتصحيح وضعه الصحي. هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فان المريض ينبغي ان يتمتع بصفة الثقة ايضاً ، فيفترض ان يكون صادقاً في عرضه لاعراض المرض على الطبيب ، فالتحايل واخفاء الحقيقة ليست علامة من علامات الثقة ، ونتيجتها ارباك المؤسسة الطبية اولاً ، والنظام الاجتماعي ثانياً. وايمان المريض بالدين عامل آخر مهم ، لان المريض الملحد مثلاً لا يؤمن بالغيب

٧٣

ولا بالقدرة الالهية على شفاء بعض الامراض التي يعجز عن شفائها الطب الحديث ، فيعرض مرضه على الطبيب بصورة تختلف عن عرض المريض المؤمن الواثق بقدرة الله عزوجل على شفاء المرض. فتصبح صورة التعامل الاجتماعي والعلاقة الاستشارية بين الخبير والمريض مشوشة باطار القلق والاضطراب النفسي.

ولما كان الطبيب مسؤولاً عن ربط الاعراض المرضية التي يظهرها المريض باسم طبي معروف ، فان دوره كخبير يتجاوز مجرد وضع العلاج الطبي ، ويذهب الى حد التدخل بشؤونه العبادية الشخصية كمقدمات العبادة وهي الطهارة كالوضوء والغسل ، وقضايا العبادات مثل اقامة الصلاة وتأدية الصيام ، والتدخل بشوون الافراد مثل تصرفات المريض الذي يؤدي به مرضه الى الوفاة ، وما يترتب عليها من احكام تجاه الهبة والشركة والوصية. فالطبيب هو الذي يحدد المرض المتصل بالموت فيترتب على حكمه احكام تصرفات المريض. وقد يمنع الطبيب مريضه من الصوم ، ولكن يجيزه على الغسل للصلاة الواجبة. وقد ينهاه عن السفر بقصد الحج ولكن يجيزه على الصيام. وقد يحكم على ان مرضه ليس متصلاً بالوفاة. وفي هذه الحالات يتصرف الطبيب من وحي واجبه الشرعي كخبير ، فيتجاوز بذلك الدور الذي وضعته له المؤسسة الصحية الى الدور الذي وضعه له الدين. فخبير له هذا الدور يجب ان يكون ثقة حتى يطمئن الناس الى ممارسة اعمالهم العبادية ، حينما يتعلق الامر وينحصر بخبرته الطبية.

ويتدخل الطبيب في شؤون المريض الخاصة ، فله الحق في سؤال المريض حول ادق شؤونه الحياتية. وواجب الطبيب هنا ان يحفظ للمريض

٧٤

ثقته به ، فلا يتعدى في السؤال الى ما يضر بمصلحة المريض او ما يشبع شهوة الطبيب من معلومات. والمدار في كل ذلك هو الاطار الاخلاقي الاسلامي الذي يدعو الى الاعتدال وحصر الاستفسار بما يتعلق بالحالة المرضية.

وينبغي على النظام الاجتماعي ايضا تقسيم الطب ومؤسسته الى قسمين ؛ قسم يتعلق بالنساء وامراضهن ، من ولادة وحمل ، وأمومة وطفولة. وقسم يتعلق بالرجال وامراضهم. فالقسم النسائي يتحمل مسؤولية الاشراف عليه والعمل فيه النساء من طبيبات وممرضات ومديرات ، وينبغي تخصيص اجنحة او مستشفيات خاصة بالامراض النسائية ، محددة بدخول النساء الخبيرات في الطب والتمريض. وفي هذا تشجيع للمرأة على تأدية دورها الاجتماعي في التطبيب والعلاج ، وتخفيف عن عبء الرجل في علاج النساء ، خصوصاً في الامراض النسائية ؛ وهو ادعى للعفة في تجنب بعض المشاكل الاخلاقية التي تحصل في المستشفيات المعمول بها اليوم.

واذا ارادت المؤسسة الطبية تقليص الفجوة الواسعة بين الطبيب كخبير وبين المريض كفرد من عامة الناس ، فما عليها الاّ ان ترفع مستوى الافراد علمياً في القراءة والكتابة وفهم اسباب نشوء الامراض ، عن طريق نشر الموسوعات الطبية الميسرة بين الناس ، واذاعة المعلومات الطبية المبسطة التي لا تضر بعمل الطبيب او اختصاصه. ولابد ان يدرك الطبيب ، ان تبسيطه المعلومات الطبية للمرضى لا يقلل من قيمته العلمية او المهنية ، بل ان ذلك يضفي احتراماً وتقديراً لعمله. فالطبيب المتواضع الذي يحاول بذل جهده في تبسيط المعلومات الطبية لمرضاه يساهم بشكل من الاشكال

٧٥

في تقليل آثار الألم والمعاناة التي يمر بها المريض ، ويساهم ايضاً في رفع المستوى العلمي والثقافي على صعيد افراد الاُمة الاسلامية جميعاً.

٧٦

اهل الخبرة الطبية

ودفعاً للاشكلات التي يواجهها المجتمع في تمييز الطبيب القادر على العلاج من بين المشعوذين والمنتحلين للصفات الطبية ، فان المؤسسة الطبية مكلفة بحصر تعليم الطب في الكليات والجامعات الطبية التي يحدد مستواها وكمية المعلومات الواجب تدريسها ، اكثر الخبراء علماً وتجربة في العلوم الطبية. ولا شك ان هذه العلوم متغيرة بتغير البحوث التجريبية والواقع الاجتماعي المتبدل يوما بيوم ، ولذلك فان اي تطور في هذه العلوم يجب أن ينعكس على المواد المنهجية التي تدرس في هذه الكليات. ولابد من التأكيد على الجانب الفقهي الطبي في المنهج الدراسي بقسميه الغذائي والوقائي ، ودراسة آثار المحرمات كالخمرة والدم والميتة والخنزير والمسوخ ، وآثار التدخين والمخدرات وتلويث البيئة ، وآثار كثرة تناول اللحوم الحمراء وشحومها ، واحكام الصيد والتذكية الشرعية ، واستحباب السواك والتخليل. وهذه الموارد كلها تساهم بشكل فعال في تحليل اسباب نشوء امراض الحضارة الحديثة. ولا شك ان فكرة الوقاية تجنب المجتمع الاسلامي العديد من الامراض التي اُبتلي بها صانعو تلك الحضارة ومناصروها.

ولابد في تقييم العمل الطبي قضائياً من اشتراك الحاكم الشرعي ، والبينة ، والقرائن الموضوعية. فاذا اخطأ شرعاً الزَمَهُ القاضي الشرعي العادل بالضمان. ولابد في نفس الوقت من تصميم نظام خاص ، ضمن اطار النظام القضائي ، يُحفظ فيه حق المريض

٧٧

اذا اصابه الخطأ ، ويحفظ سمعة المهنة الطبية ويقيم العدل بين افراد النظام الاجتماعي في هذا الحقل بالخصوص.

وقد تتولى الدولة تحديد اجور الطبيب ، حتى لا يتجاوز الحد الشرعي فيكون مدعاة لانشاء طبقة رأسمالية جديدة في مجتمع يرفض الظلم الاجتماعي. واذا كان الطبيب يتعامل مع المرض والموت ، فان هناك ، من غير الاطباء ، ممن يتعاملون مع المرض والموت ايضاً. فالممرض والممرضة يتعاملان مع نفس الحالة المرضية ، وهناك من يقوم بتغسيل الميت وتكفينه ، وعالم الدين يقوم بالصلاة عليه ، ويقوم آخر بدفنه. نعم ان الطبيب له الكلمة الفصل في تحديد العلاج وعليه يتم الأجر ، ولكن يجب ان يكون الأجر عادلاً للجميع ، عدا عالم الدين الذي ينبغي ان لا يأخذ اجراً على الاعمال الكفائية التي يقوم بها. ومع ان تحديد الاجر يتم من خلال نوعية العمل المنجر الاّ ان رفع اجور العمل الطبي بشكل يؤدي الى تكديس المال في طرف وحرمان طرف آخر منه لا يمثل اي شكل من اشكال العدالة الاجتماعية. وامام هذه المشكلة يقف الاسلام موقف الحكم. فالهدف من المهنة الطبية ـ كما يؤكد الاسلام ـ ليس جمع المال وكسب القوة السياسية والاجتماعية بل الخدمة الانسانية ؛ وعليه فان أجر الطبيب في النظام الاسلامي يتناسب مع نوعية العمل وكمية الجهد المبذول ولكن بشكل لا يسبب حرماناً للفقراء والمعدمين. وعلى ضوء ذلك تحدد الدولة أجور الطبيب في المعاينة والعمليات الجراحية ، وتحدد اجور بقية العاملين في الحقل الطبي.

ولا ريب ان رأي اهل الخبرة الطبية حاسم في فصل القضايا القانونية

٧٨

امثال تشخيص الاضطراب العقلي بنوعيه الادواري والمطبق ، وتقرير عجز الفرد عن القيام بالعمل الانتاجي ، وتحديد مقدار الجروح او الكسور في الديات. ولا يستطيع احد انكار اهمية دور الطب الجنائي في الكشف عن اسباب الجريمة ومنشأها. ومع ان هذه العوامل تشكل مادة الحسم في الحكم الصادر ضد المتخاصمين في الامور القضائية ، الا أن وظيفة الطبيب تبقى مقيدة بحدود تقديم الخبرة الطبية ، ويبقى للقاضي اصدار الحكم الشرعي على طرفي النزاع بالاستناد على المصادر الشرعية والقضائية.

٧٩

ضمان الطبيب

ولما كان الطب يتعامل مع الانسان تعاملاً مباشراً ، فان الخطأ الذي يقع سيسبب للمريض اضراراً بالغة. ولذلك ، فان الطبيب لابد وان يتحمل جزءاً من المسؤولية في ضمان ما يتلفه بالعلاج. فقد ذكر الفقهاء ان الطبيب يضمن لو مات المريض بسبب العلاج. وينطبق نظام الديات في تلف النفس والاطراف على ذلك. ولما كان الضامن في الخطأ المحض عاقلة الطبيب ، فان الضامن في الشبيه في العمد ، الفاعل وهو الطبيب نفسه ، « لحصول التلف المستند الى فعله ، ولا يُطل دم امرئ مسلم ، ولأنه قاصد الى الفعل مخطئ في القصد. فكان فعله شبيه عمد ، وان احتاط واجتهد واذن المريض ، لان ذلك لا دخل له في عدم الضمان هنا ، لتحقق الضمان مع الخطأ المحض. فهنا اولى وان اختلف الضامن » (١).

وذهب ابن ادريس في كتاب السرائر الى عدم ضمان الطبيب اذا كان عالماً مجتهدا في تشخيص المرض ، واستدل على ذلك بثلاثة اُمور ، اولها : اصالة البراءة من الضمان. وثانيها : اذن المريض للطبيب في العلاج وهو مسقط للضمان فيما لو حصل التلف في الأثناء. وثالثها : ان العلاج فعل سائغ شرعاً ، فلا يستعقب ضماناً.

ورده الشهيد الثاني بقوله : « ان اصالة البراءة تنقطع بدليل الشغل. والأذن في العلاج لا في الأتلاف. ولا منافاة بين الجواز والضمان ، كالضارب

__________________

(١) شرح اللمعة الدمشقية : ج ١٠ ص ١٠٨.

٨٠