النّظام الصحّي والسّياسة الطبّيّة في الإسلام

الدكتور زهير الاعرجي

النّظام الصحّي والسّياسة الطبّيّة في الإسلام

المؤلف:

الدكتور زهير الاعرجي


الموضوع : الطّب
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨١

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

( وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَىٰ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) البقره : ١٢٠.

٥
٦

المقدمة

ان تطور صحة الافراد في عالمنا المعاصر خلال العقود القليلة الماضية لم يكن نتيجة الاكتشافات الطبية الحديثة ، بل كان نتيجة التغير الذي حصل في البيئة الانسانية بفضل جهود الانسان. فتزويد المدن الحديثة بالماء الصافي الخالي من الجراثيم ، وتصميم نظام ازالة الفضلات والمجاري العامة ، وجمع القمامة وطرحها خارج المدن بشكل منتظم ، والسيطره على الحشرات الناقلة لمختلف الامراض ، واتباع سياسة صحيحة في المطاعم والتجمعات العامة ، كلها ادت الى تطوير صحة الافراد وتقليل عدد الوفيات. وهذا الشكل الصحي يعكس جانبا من جوانب النظام الوقائي ، يضاف الى ذالك ان تحسن نوعية المواد الغذائية التي يتناولها الافراد ساهم هو الآخر في تطوير صحتهم وتقويه مناعتهم ضد الامراض. وهذا الجانب الثاني يعكس جوهر النظام الغذائي لا يمحو مشكلة المرض او يلغي قضية الموت ؛ بل ان قضية الموت ، بل ان قضية المرض والموت تبقي على الارض. ولا شك ان الطبيعه ، والوضع الاجتماعي ، وعمل الفرد كلها تساهم هي الاخرى في تصميم طبيعة المرض الذي

٧

يتعرض له الانسان.

فالشمس والمطر والهواء النقي مثلا لها تأثير على صحة الافراد. فالتعرض المستمر للشمس يصيب الجلدة البيضاء بمرض سرطان الجلد. ولذلك فان الاوروبيين البيض الذين هاجروا من بريطانيا وهولندا الى استراليا وجنوب افريقيا تعرضوا لذلك المرض الذي لم يألفوه في بلادهم. والتعرض للبرودة الشديدة يعرّض الفرد لمرض ( هايپوثرميا ) الذي يؤدي الى الموت عند الشيوخ. والتعرض للبرد والرطوبة معا يسبب امراضا صدرية مختلفة. والمطر الشديد المتواصل خلال فصول السنة قد يؤدي الى الجلطة الدموية التاجية. والهواء الجاف النقي يفضي بالفرد الى الشفاء من مرض السل ، وهكذا كان يفعل سكان اوروبا في القرن التاسع عشر الميلادي حينما كانوا يتسلقون جبال سويسرا حيث الهواء الجبلي الجاف النقي للتشافي من مرض السل وامراض الربو التي تصيب الاطفال. الا ان الافراد الذين يعيشون على سطح اليابسة وبمستوى سطح البحر لا يستطيعون العيش في المناطق الجبلية التي ترتفع اكثر من خمسة آلاف متر عن مستوى سطح البحر ، لان ذلك يسبب اثقال الرئتين بالماء.

ولا شك ان الامراض التي تصيب الفرد تختلف بحسب طبيعة الاجواء التي يعيش فيها. فالملاريا تنشر في الاجواء التي يكثر فيها بعوض الانوفيلس. والبلهارزيا تنتشر في الاماكن المائية التي يتواجد فيها نوع معين من الحلزونيات. ومرض النوم ينتقل فقط عن طريق اتصال ذباب مرض النوم ( الشذّاة ) الافريقي بجسد الانسان. والدزنتري ، والتيفوئيد ، والكوليرا تنتشر عن طريق عدوى بكتريا تصيب الجهاز الهضمي في

٨

المناطق الحارة الرطبة.

وبطبيعة الحال ، فان للامراض ابعاداً اجتماعية ايضا. فالطبقة الاجتماعية احيانا تشخّص مرض الفرد. فافراد الطبقة العليا في النظام الطبقي غالبا ما يتمتعون بصحة جيدة ، مع حمل وولادة طبيعية فيما يتعلق بنسائهم. والمسكن الذي تسكن فيه العائلة يشخّص بعض الامراض ، فالبيوت القديمة الرطبة تكون مرتعا لمرض السل والامراض الصدرية الاخرى ، والبيوت القريبة من مناطق التلوث الصناعي تكون سببا لمرض التهاب القصبات. وطبيعة عمل الفرد تشخّص بعض الامراض ايضا. فعمال المناجم يعانون من الامراض الرئوية الناشئة من فرط استنشاق الدقائق المعدنية ، وعمال الصناعات الكيميائية قد يتعرضون لسرطان الكبد والمثانة.

الا ان اخطر الامراض التي يعاني منها انسان اليوم هي الامراض التي جلبتها الحضارة الغربية الحديثة بما فيها من صناعات وتطور تقني. ويقع على صدر قائمة هذه الامراض مرض تصلب الشرايين الذي يسبب الجلطة الدموية التاجية ، وامراض السكتة القلبية او الدماغية ، وامراض السرطان. وقد دلّت كل البحوث الطبية على ان نوع الغذاء والعادات الانسانية المضرة كالتدخين والكحول ، وعدم ممارسة التمارين الرياضية ، والكآبة النفسية ، والمنافسة على اصعدة الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، كلها لها دور مهم في انشاء هذه الامراض. ولعل اهم تغيير صحي مضر حصل مع تطور الحضارة الغربية خلال المائة سنة الماضية هو تصنيع المواد الغذائية ، ومحاولة الانسان الغربي ـ بجهل غير متعمد ـ حذف الالياف النباتية من المواد الغذائية. فاصبحت الحنطة والشعير التي هي من اغنى المصادر الغذائية

٩

بالسعرات الحرارية التي ينبغي ان نتناولها كما تناولها اجدادنا من قبل بشكل طبيعي بعيد عن تدخل الانسان ، تصفّى وتنظّف تدريجيا من الالياف النباتية ، بحيث اصبح غذاؤنا الرئيسي خبزاً ابيض لا يبني اجسامنا بالشكل الطبيعي الذي بناه الخبز الاسمر الحاوي على كل الالياف النباتية. وجلَب السكر المطحون الذي اصبح جزءا رئيسيا من حياتنا الغذائية ظاهرة تسوس الاسنان ، بحيث قيل ان اجدادنا لم يكونوا يعرفوا شيئا اسمه تنخر الانسان ، بل كانت اسنانهم تواصل عملها بسلامة ولحد الموت بسبب تناولهم طعاما طبيعيا لا يحوي سكراً مطحوناً اولاً ، وبسبب استعمالهم المسواك ثانياً. ولا شك ان هذا الطعام المصنّع الذي عرضته الحضارة الغربية الحاوي على كمية كبيرة من السكريات ، كمية قليلة من الالياف ، وكمية اكبر من الدهنيات الحيوانية هو احد اسباب امراض القلب تصلب الشرايين الحديثة العهد بالانسان.

ان هذا العرض المختصر حول الامراض التي يواجهها الانسان المعاصر تجعلنا ارسخ ايمانا بان النظرية الصحية التي جاء بها الاسلام فيما يتعلق بالنظامين الوقائي والغذائي هي اسلم الطرق لحفظ صحة الافراد في النظام الاجتماعي ؛ ولذلك فاننا لا نملك خياراً آخر غير الخيار الاسلامي اذا حاولنا صياغة سياسه طبية للدولة الاسلامية.

وقد بحثنا في هذا الكتاب مقدمات السياسة الطبية الاسلامية. فقد تطرقنا في القسم الاول من الكتاب الى عرض ونقد آراء النظرية الرأسمالية فيما يتعلق بالصحة والمرض السياسة الطبية بمدارسها الفكرية الموسومة بالمدرسة التوفيقية ، ومدرسة الصراع الاجتماعي ، والمدرسة الامريكية التي

١٠

سميت ايضا بمدرسة ( جامعة شيكاغو ) وروادها علماء اجتماع امريكان امثال ( جورج ميد ) ، و ( روبرت پارك ) و ( ارنست بيرجيس ) الذين كانوا جميعا اما ابناء قساوسة بروتستانت او انفسهم قساوسة بروتستانت ، فتكون النظرة الاجتماعية الامريكية اقرب الى النظرة النصرانية البروتستانتية. وتطرقنا في القسم الثاني من الكتاب الى عرض مجمل للآراء الفقهية الاسلامية الخاصة بالصحة والمرض والموت. وخرجنا بنتيجة مهمة وهي ان النظام الصحي والسياسة الطبية الاسلامية ينبغي ان تطرح كنموذج عملي يستحق ـ على اقل تقدير ـ انزاله الى الساحة الاجتماعية الاسلامية ، وضرورة تبنيه بكل قوة حتى يتحقق تكامل نظام الدولة والحكم في الاسلام.

ان التفصيلات المذكورة في طيات الكتاب ، والخاصة بتطبيق افكار المدرسة التوفيقية والافكار الرأسمالية في النظام الصحي الغربي عموما والامريكي بالخصوص ، تنتهي الى نتيجة على درجة كبيرة من الخطورة وهي ان المؤسسة الصيحة الغربية اصبحت السياسة الطبية الغربية دون ادنى شك مرتبطة بالسياسة الاستعمارية لدول الاستكبار.

ان اطباء العالم الاسلامي اليوم يتحملون اكبر المسؤوليات الاجتماعية فيما يتعلق بتطوير النظام الطبي في المجتمع الاسلامي. ويتحمل فقهاء الامة ايضا مسؤولية رسم السياسة الطبية الاسلامية واكتشاف كل ما من شأنه الوقاية من الامراض والعناية بصحة الفرد من خلال الكتاب المجيد الروايات الواردة عن رسول الله (ص) وائمة اهل البيت (ع). وينبغي ان يكون حمل همّ هذه القضية من اولويات السياسة الاسلامية. لان

١١

الاستعمار الطبي يخدم السياسة الاستكبارية على مستويين ؛ الاول : الاستنزاف طاقات وموارد العالم الاسلامي والدولة الاسلامية بالخصوص من خلال تصدير الادوية والمعاجين الكيميائية او موادها الاساسية. الثاني : حرمان الاسلام من فرص عرض نظامه الصحي المتميز والمستند على الانظمة الوقائية والغذائية والعلاجية ، التي هي ارخص الطرق واسلمها الى السعادة الصحية ، وبالتالي الابقاء على حالة التخلف الحضاري التي يشهدها المسلمون اليوم. ولا شك ان صياغة سياسة طبية مستندة تماما على اطار الافكار الاسلامية يتطلب فهما استثنائيا لدور الطب في الحياة الاجتماعية ودور الفقه الاجتماعي في معالجة المشاكل الاجتماعية التي تواجهها الدولة الاسلامية. وقد حاولنا بكل جهد ان نضع قدمنا على الخطوة الاولى لهذا الطريق الطويل.

وهو المستعمان ، وله الحمد في الاولى والاخرة ، وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب.

زهير الاعرجي

مدينة قم المشرفة / ذوالحجة ١٤١٣ ه‍.

١٢

( اطروحة الكتاب )

تربط النظريات الاجتماعية الغربية الصحة والمرض بصميم فعاليات النظام الاجتماعي. ففي الوقت الذي تعتقد فيه النظرية التوفيقية على لسان ( تالكوت بارسن ) و ( جورج ميد ) بضرورة ربط المرض بالدور الاجتماعي الذي يشغله الفرد ترتب على ذلك استنتاجا مهمّا يصرّح بان للنظام الاجتماعي مصلحة حقيقية في انشاء المؤسسة الطبية للحفاظ على سلامة الافراد وصيانة انتاجهم الاجتماعي ، فانها لا تمانع من ربط النظام الصحي بالفلسفة الرأسمالية التي تؤمن بتقييم العمل من زاوية الربح والخسارة لا الخدمات الانسانية. بينما تقوم نظرية الصراع الاجتماعي على لسان ( كارل ماركس ) والمتأخرين من انصارها باتهام النظام الرأسمالي بضلوعه في انشاء المؤسسة الطبية التي لا تعدو كونها مجرد صنيعة من صنائع الطبقة الرأسمالية ، لان صياغة شكل سياسة تلك المؤسسة الطبية يمثل الطرف المنتصر في عملية الصراع الاجتماعي.

ويتلخص نقدنا لكلا المدرستين ، بان للطب وظيفة خطيرة في المحافظة على صحة الافراد وزيادة انتاجهم الاجتماعي وليس بالضرورة ان يكون النظام الصحي وليد الطبقة الرأسمالية ، لان المجتمع الانساني يحتاج الى تلك المؤسسة بل لا يشك عاقل انها من اولويات مسؤولية الدولة الحديثة. الا ان الخبرة الطبية والتقدم التقني وحدهما لا يستطيعان تطوير انسانية النظام الصحي ما لم تستند فلسفة ذلك النظام على رسالة الدين الاخلاقية في التعامل مع الصحة والمرض والموت.

فرسالة الدين تولي اهتماما خاصا بالفرد ومصلحتة الشخصية والاجتماعية.

١٣

فتَبني اولا في شخصيات الافراد حب التعفف عن المال ، وهو ما يساهم في تربية الطبيب على الخدمة الانسانية في عمله المهني ويجنبه حب تكديس المال على حساب دخل المريض ومعاناته الانسانية. وتحاول الرسالة الدينية ايضا تثقيف المريض من خلال حثه على معرفة اساليب الوقاية وتناول الغذاء الصحيح. وتقوم تلك الرسالة ايضا في تحميل النظام الاجتماعي الاسلامي المسؤوليته الشرعية في علاج المريض وتعويضه ماليا بشكل يحفظ كرامته ويسد حاجته وحاجة عائلته الاساسية.

ويتخلص جوهر النظرية الاسلامية في الطب والصحة العامة في نظامين هما : النظام الوقائي ، والنظام الغذائي. فالنظام الوقائي يعالج الحالة المرضية قبل وقوعها. وقد تعاملت الشرعية مع هذا النظام باسلوب التحريم ، فمنعت العديد من المأكولات التي اثبت العلم التجريبي الحديث ضررها القطعي على الجسد الانساني كالميتة والدم ولحم الخنزير الخمر نحوها استنادا على قاعدة ( لا ضرر ولا ضرار في الاسلام ) ، بينما أحلّت الكثير من اللحوم والثمار. وقد جاء الاسلام بنظام وقائي فريد فيه الكثير من التفصيلات فيما يتعلق بطهارة الجسد الانساني ، خصوصا تنظيف الاسنان عن طريق السواك ، وتنظيف الجسد بالطهارة المائية ، وطهارة الشمس الخاصة بالارض وهي بيئة الفرد ، الطهارة الطبية الباطنية عن طريق الصيام. والنظام الغذائي هو الآخر يمثل قسما واسعا من الدائرة الفقهية الخاصة بصحة الفرد. واعمدته وجوب التذكية الشرعية ، وآداب المائدة ، الاعتدال في تناول اللحوم ، والنظام الشفائي في العسل ونحوها.

وفي الحالات الاستثنائية يتعين الطب العلاجي الذي يؤيده الاسلام ويضع له الضوابط الاخلاقية ومنها ضمان الطبيب بشروطه الشرعية ، الارتكاز العقلائي ، ومسؤولية الدولة في تطبيب الافراد ومعالجتهم وقت الطوارئ.

ومن هذا البحث نستنتج ان للنظام الطبي الاسلامي اخلاقية دينية وادبية عظيمة تميزه عن بقية الانظمة الصحية في العالم وخصوصا النظام الطبي الرأسمالي الغربي. وهذا الكتاب مقدمة على طريق اكتشاف النظام الصحي للدولة الاسلامية من مصادره ومنابعه الاصيلة.

١٤

١٥
١٦

الطب في النظرية التوفيقية

يقول ( تالكوت بارسن ) ، احد رواد النظرية التوفيقية في الطب بان « المرض ليس ظاهرة بيولوجية فحسب ، بل انه ظاهرة اجتماعية ايضا » (١) ، لان المجتمع الانساني يتطور تطوراً طبيعياً ما لم يقم الافراد جميعاً باداء ادوارهم الاجتماعية في كل الاوقات. فاذا تعرض فرد ما لمرض من الامراض اصبح دوره الاجتماعي شاغراً لانه لا يستطيع القيام بتأدية ذلك الدور المناط به اجتماعيا. وكنتيجة لهذا الخلل ، اصبح ذلك الدور معرضاً الى احتمالين ، الاول : ان يحال الى فرد آخر سليم من الناحية الصحية ، والثاني : ان يبقى ذلك الدور معطلاً دون شاغل يشغله. وهذا التبدل في الادوار الاجتماعية يسلط ضغطاً ويولد ارباكا ضد الحركة الطبيعية للنظام الاجتماعي.

ولا شك ان للنظام الاجتماعي ـ مهما كان لونه وشكله ـ مصلحة حقيقية في انشاء نظام صحي متكامل لعلاج الامراض وللحفاظ على نظافة المجتمع من الاوبئة والامراض المعدية حتى يتم استثمار طاقات العمال الاصحاء بطريقة يكون مردودها الانتاجي متناسباً مع حجم ذلك النظام وقابلياته. وعلى هذا الاساس فان من مصلحة النظام الاجتماعي مثلاً ، تحديد ( من هو المريض ؟ ) ، ومن مصلحة النظام الاجتماعي ايضاً معرفة من

__________________

(١) ( تالكوت بارسن ) : بحوث في النظرية الاجتماعية. نيويورك : المطبعة الحرة ، ١٩٥٤ م.

١٧

يصطنع المرض كي يجد مخرجاً يتهرب فيه من اداء الواجبات الاجتماعية المناطة به. فلو نظرنا الى قائمة الامراض التي تصيب الافراد في اي مجتمع انساني ، وابتدأنا من الصداع وانتهينا بامراض القلب مروراً بامراض الكبد والجهاز الهضمي والدماغ والاعصاب ، لتبين لنا ان المؤسسات الصحية التي اسسها النظام الاجتماعي هي التي تحدد طبيعة المرض خطورته. فالمجتمع مثلاً لا يعتبر الصداع مرضاً لان المؤسسة الصحية لم تعتبره حالة مرضية تستوجب دخول المستشفى او عيادة الطبيب الا في حالات استثنائية نادرة ، ولكنه يعتبر قرحة الامعاء ، مرضاً يتوجب معالجته عن طريق الطبيب او المستشفى ، مع ان الصداع والقرحة معا قد يعطلان الفرد عن الانتاج. وعلى هذه القاعدة يمكن تطبيق كل الحالات المرضية التي يتم تحديدها عن طريق مؤسسات النظام الصحية.

ولا يتوقف النظام الاجتماعي عند تحديد المرض وتشخيصه ، بل يتوقع من الفرد سلوكاً معينا يتناسب مع ذلك المرض. فسلوك المريض مثلاً ، يعتبر من الناحية الاجتماعية مناقضاً للسلوك الطبيعي للافراد الاصحاء. فما ان يعلن المريض اعراضه المرضية حتى يخلد الى الفراش ، باحثاً عن المساعدة الطبية ، باذلاً ماله لتحصيل الدواء الموصوف. وبما ان المرض عامل اجتماعي سلبي على الانسان ، فان نزوله بعضو من اعضاء النظام الاجتماعي يضع ذلك المجتمع وجهاً لوجه امام مسؤولياته في التعامل مع ذلك المريض. ولذلك فان الجهة التي تحدد المرض يجب ان تتمتع بشرعية قانونية يقرها النظام الاجتماعي ، حتى تستطيع تعويض الخسارة الاجتماعية التي يجلبها المرض على الفرد والعائلة والنظام الاقتصادي والاجتماعي

١٨

بشكل عام.

وتعْتَبِر هذه النظرية ، المرض لونا من الوان الانحراف الاجتماعي ؛ لان المريض يسلك خلال مرضه سلوكاً مناقضاً للسلوك الطبيعي الذي يقره الاصحاء. فالخلود الى الفراش ، وتناول الدواء ، وتسخير الآخرين لخدمة المريض ، كلها تصرفات لا يقوم بها الاصحاء غالباً. ولكن هذا الانحراف الصحي يعتبر انحرافاً استثنائيا ، لاسباب عدة منها ، اولا : ان هذا السلوك يستغرق فترة قصيرة محدودة ، وثانياً : انه يعبّر عن قوة لا ارادية داخل جسم الانسان. فالمريض مجبر على قبول حالته الاستثنائية ، وملزم بالاستسلام لواقعه الانحرافي الجديد. ولذلك فهو غير مُلام على تركه العمل الانتاجي ، وغير مسؤول عن التقصير في اداء دوره الاجتماعي الذي اصبح شاغراً بسبب مرضه. وما على المجتمع ونظامه الاجتماعي الا الاذعان والتسليم لحق المريض ومعاملته معاملة خاصة ، عن طريق منحه اجازة التخلي عن دوره ومسؤولياته الاجتماعية الى موعد الشفاء التام. فالعامل المريض مثلا يستطيع ترك العمل والتوقف عن الانتاج والخلود للراحة فور ظهور اعراضه المرضية. والطالب المريض يستطيع تأجيل موعد امتحانه النهائي لاسباب مرضية. والتاجر المريض يعطل تجارته بسبب عجزه عن ممارسة العمل الطبيعي الذي تعارف افراد المجتمع عليه.

ولا شك ان المريض الصادق ينبغي ان يطلب علاجاً سريعاً لحالته المرضية الاستثنائية. لان تباطؤه في العلاج يعني ان ذلك الفرد يهوى البقاء عالة على الآخرين ، ويود التخلي عن عمله الانتاجي في الحقل الاجتماعي ؛ وهو بذلك لا يعطل دوره الاجتماعي فحسب ، بل يستهلك

١٩

موارد الآخرين الاقتصادية ايضاً. وهذا التمارض يعطل الطاقات الانتاجية للافراد ويسبب خللا في الميزان الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمجتمع.

وعلى الاغلب ، فان النظام الاجتماعي يتوقع من المريض قبول المساعدة الطبية الممنوحة له من قبل المؤسسة الصحية المعترف بها اجتماعياً. فالفرد المصاب بمرض حقيقي لا يستطيع رفض استشارة الطبيب ، او تعليماته الخاصة بالفحص الشعاعي او الكيميائي ، او اخذ الدواء ؛ لان ذلك كله يعرضه الى الشكوك والشبهات التي تتهمه بالتمارض تهربا من المسؤوليات الاجتماعية المناطة به.

٢٠