كفاية الأصول - ج ١

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٦
ISBN: 978-964-470-184-9
الصفحات: ٢٩٦

على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد فضلا عن جوازه.

ولكنّك غفلت عن أنّه لا دلالة لها أصلا على أنّ إرادتها كان (١) من باب إرادة المعنى من اللفظ ، فلعلّه كان بإرادتها في أنفسها حال الاستعمال في المعنى (٢) ، لا من اللفظ كما إذا استعمل فيها (٣) ، أو كان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ ، وإن كان أفهامنا قاصرة عن إدراكها.

__________________

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «كانت».

(٢) أي : حال استعمال اللفظ في المعنى الواحد ، بحيث يكون اللفظ قالبا له وحده وعلامة للباقي.

(٣) أي : لا بإرادة تلك البطون والمعاني من اللفظ كما إذا استعمل اللفظ فيها.

٨١

الثالث عشر

[في المشتقّ]

أنّه اختلفوا في أنّ المشتقّ حقيقة في خصوص ما تلبّس بالمبدإ في الحال أو فيما يعمّه وما انقضى عنه (١) على أقوال ، بعد الاتّفاق على كونه مجازا فيما يتلبّس

__________________

(١) لا يخفى : أنّه وقع الخلاف بين الاصوليّين في موضوع النزاع.

فقد يقال : إنّ النزاع في أمر لغويّ ، فيبحث عن وضع المشتقّ لخصوص المتلبّس بالمبدإ فعلا أو وضعه لأعمّ منه وما انقضى عنه المبدأ.

وقد يقال : إنّ النزاع عقليّ ، لأنّ المبحوث عنه هو صحّة إطلاق المشتقّ على الأعمّ وعدمها بعد التسالم على الموضوع له.

ذهب الأكثر إلى الأوّل. قال المحقّق الاصفهانيّ في نهاية الدراية ١ : ١١٣ : «الظاهر هو الأوّل ، كما تفصح عنه كلمات القوم عن قديم الزمان إلى اليوم ، فإنّ الحقيقة والمجاز المذكورين في عنوان النزاع من شئون الاستعمال ولا ربط لهما بالصدق والإطلاق».

ونسب القول الثاني إلى المحقّق الطهرانيّ صاحب محجّة العلماء ، فراجع نهاية الدراية ١ : ١١٣.

والتحقيق : أنّه لا معنى لكون النزاع عقليّا ، وذلك لأنّ صحّة الإطلاق وعدمها إمّا يرجع إلى أنّ المشتقّ ـ وهو عنوان انتزاعيّ ـ هل يمكن انتزاعه من الذات المنقضى عنها التلبّس كما يمكن انتزاعه من الذات المتلبّسة بالمبدإ فعلا أو لا؟ ولا شكّ أنّه لا مجال للنزاع فيه ، ضرورة أنّ العقل يمنع عن إمكان انتزاع المشتقّ من الذات بعد ارتفاع منشأ انتزاعه ـ أي المبدأ ـ ، لأنّ العناوين الانتزاعيّة معاليل لمناشئ انتزاعها.

وإمّا يرجع إلى أنّ صدق المشتقّ على المنقضى عنه المبدأ هل هو بنحو الحقيقة أو المجاز؟ وهذا أيضا ممّا لا مجال للنزاع فيه ، لأنّ الصدق على نحو الحقيقة أو المجاز ـ

٨٢

به في الاستقبال.

وقبل الخوض في المسألة ، وتفصيل الأقوال فيها ، وبيان الاستدلال عليها ينبغي تقديم امور :

أحدها : [المراد من المشتقّ]

انّ المراد بالمشتقّ هاهنا ليس مطلق المشتقّات (١) ، بل خصوص ما يجري منها على الذوات ممّا يكون مفهومه منتزعا عن الذات بملاحظة اتّصافها بالمبدإ واتّحادها معه بنحو من الاتّحاد ، كان بنحو الحلول (٢) أو الانتزاع (٣) أو الصدور (٤) والإيجاد (٥) ، كأسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبّهات ، بل وصيغ المبالغة وأسماء الأزمنة والأمكنة والآلات ، كما هو ظاهر العنوانات وصريح بعض المحقّقين (٦). مع عدم صلاحيّة ما يوجب اختصاص النزاع بالبعض إلّا التمثيل به ،

__________________

ـ تابع للموضوع له سعة وضيقا ، فإن كان الموضوع له المشتقّ خصوص المتلبّس بالمبدإ فعلا كان صدقه على المنقضى عنه المبدأ مجازا ، وإن كان الموضوع له المشتقّ الأعمّ منه وممن انقضى عنه المبدأ كان صدقه على المنقضى عنه المبدأ حقيقة.

(١) المشتقّ يطلق لغة على مطلق أخذ شيء من شيء. ويطلق في اصطلاح الادباء على لفظ يؤخذ من لفظ آخر. فالمشتقّ على إطلاقيه يشمل المصادر المزيد فيها والأفعال. ولكن المراد من المشتقّ في المقام هو خصوص ما يكون مفهومه منتزعا عن الذات ويجري عليها بملاحظة اتّصافها بمبدإ ما.

(٢) بأن كان المبدأ حالّا في الذات ، كاتّحاد الذات مع البياض والسواد ، فينتزع عنها الأبيض بملاحظة اتّحادها مع البياض ـ مثلا ـ.

(٣) كاتّحاد الذات مع الفوقيّة والتحتيّة ، فإنّ اتّصاف الذات بهما يكون بنحو الانتزاع.

(٤) بأن يصدر المبدأ من الذات ، كالضرب ، فينتزع عنها الضارب بملاحظة صدور الضرب عنها.

(٥) والأولى أن يقول : «أو الإيجاد» ، كالشرب القائم بذات الفاعل ، فينتزع عنها الشارب بملاحظة قيامه بالفاعل ، ويسمّى : «إيجادا».

(٦) كما قال المحقّق الرشتيّ في بدائع الأفكار : ١٧٦ : «قضيّة ظاهر العنوانات وتصريح المحقّق القمّي عموم النزاع لسائر المشتقّات». ولكن المحقّق القمّي لم يصرّح في القوانين إلّا باسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبّهة.

٨٣

وهو غير صالح ، كما هو واضح (١).

فلا وجه لما زعمه بعض الأجلّة (٢) من الاختصاص باسم الفاعل وما بمعناه من الصفات المشبّهة وما يلحق بها ، وخروج سائر الصفات.

ولعلّ منشؤه (٣) توهّم كون ما ذكره (٤) لكلّ منها ـ من المعنى ـ ممّا اتّفق عليه الكلّ ، وهو كما ترى (٥).

واختلاف أنحاء التلبّسات حسب تفاوت مبادئ المشتقّات بحسب الفعليّة والشأنيّة والصناعة والملكة ـ حسبما يشير إليه (٦) ـ لا يوجب تفاوتا في المهمّ من محلّ النزاع هاهنا ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا يبعد أن يراد بالمشتقّ في محلّ النزاع مطلق ما كان مفهومه ومعناه جاريا على الذات ومنتزعا عنها بملاحظة اتّصافها بعرض أو عرضيّ ولو كان جامدا ، كالزوج والزوجة والرقّ والحرّ (٧).

وإن أبيت إلّا عن اختصاص النزاع المعروف بالمشتقّ ـ كما هو قضيّة الجمود على ظاهر لفظه ـ فهذا القسم من الجوامد أيضا محلّ النزاع. كما يشهد به ما عن الإيضاح في باب الرضاع في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجته

__________________

(١) تعريض بصاحب الفصول ، حيث ذهب إلى اختصاص النزاع باسم الفاعل وما بمعناه ، واستدلّ عليه حيث قال : «كما يدلّ عليه تمثيلهم به». الفصول الغرويّة : ٦٠. وجه التعريض أنّ التمثيل غير صالح لاختصاص النزاع بالمثال.

(٢) وهو صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ٦٠.

(٣) أي : منشأ ما زعمه صاحب الفصول من الاختصاص.

(٤) أي : ما ذكره صاحب الفصول. راجع الفصول الغرويّة : ٥٩.

(٥) إذ كلّها مصبّ النزاع.

(٦) أي : حسبما يشير صاحب الفصول إليه ، فراجع الفصول : ٦١.

(٧) فالنسبة بين المشتقّ في مورد النزاع والمشتقّ بحسب اصطلاح النحاة هي العموم من وجه ، فيجتمعان في أسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبّهة ، ويفترق الأوّل عن الثاني في الجوامد الجارية على الذات ، كالزوج والحرّ ، ويفترق الثاني عن الأوّل في بعض المشتقّات الاصطلاحيّة ، كالمصادر والأفعال المزيدة.

٨٤

الصغيرة ، ما هذا لفظه :

«تحرم المرضعة الاولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرتين (١) بالاجماع. وأمّا المرضعة الأخيرة ففي تحريمها خلاف ، فاختار والدي المصنّف رحمه‌الله وابن إدريس تحريمها ، لأنّ هذه يصدق عليها أنّها أمّ زوجته ، لأنّه لا يشترط في المشتقّ (٢) بقاء المشتقّ منه ، هكذا هنا»(٣).

وما عن المسالك في هذه المسألة : من ابتناء الحكم فيها على الخلاف في مسألة المشتقّ (٤).

فعليه كلّ ما كان مفهومه منتزعا من الذات بملاحظة اتّصافها بالصفات الخارجة عن الذاتيّات (٥) ـ كانت عرضا أو عرضيّا ، كالزوجيّة والرقيّة والحرّية وغيرها من الاعتبارات والإضافات ـ كان محلّ النزاع وإن كان جامدا. وهذا بخلاف ما كان مفهومه منتزعا عن مقام الذات (٦) والذاتيّات (٧) ، فإنّه لا نزاع في كونه حقيقة في خصوص ما إذا كانت الذات باقية بذاتيّاتها (٨).

ثانيها : [جريان النزاع في اسم الزمان]

قد عرفت أنّه لا وجه لتخصيص النزاع ببعض المشتقّات الجارية على الذوات ، إلّا أنّه ربما يشكل بعدم إمكان جريانه في اسم الزمان ، لأنّ الذات فيه

__________________

(١) هكذا في جميع النسخ. والصحيح هكذا : «بإحدى الكبيرتين» كما في المصدر.

(٢) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «في صدق المشتقّ».

(٣) إيضاح الفوائد ٣ : ٥٢.

(٤) مسالك الأفهام ١ : ٤٧٥.

(٥) مراده من الصفات الخارجة عن الذاتيّات هو المبادئ الخارجة عنها. والمراد من الذاتيّات هو الأعمّ من الذاتيّ في باب الإيساغوجيّ ـ أي الجنس والفصل والحدّ التامّ ـ والذاتيّ في باب البرهان ـ أي المحمول المنتزع عن نفس الذات بلا ضمّ ضميمة ، كإمكان الممكن ـ.

(٦) كالإنسانيّة المنتزعة عن الإنسان.

(٧) كالإنسانيّة المنتزعة عن الحيوان والناطق.

(٨) والوجه في عدم شمول النزاع للمفاهيم المنتزعة عن الذات والذاتيّات أنّ الذات منشأ لانتزاعها ، فارتفاع منشأ انتزاعها مساوق لارتفاع الذات ، ومع عدم بقاء الذات في صورة زوال التلبّس لا مجال للنزاع في صدق المشتقّ ، كما هو واضح.

٨٥

ـ وهي الزمان بنفسه ـ تنقضي وتتصرّم (١). فكيف يمكن أن يقع النزاع في أنّ الوصف الجاري عليه حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدإ في الحال أو فيما يعمّ المتلبّس به في المضيّ؟(٢)

ويمكن حلّ الإشكال بأنّ انحصار مفهوم عامّ بفرد ـ كما في المقام ـ لا يوجب أن يكون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العامّ (٣) ، وإلّا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة (٤) ؛ مع أنّ الواجب موضوع للمفهوم العامّ مع انحصاره فيه تبارك وتعالى (٥).

ثالثها : [خروج الأفعال والمصادر من النزاع]

انّه من الواضح خروج الأفعال والمصادر المزيد فيها عن حريم النزاع ، لكونها غير جارية على الذوات ، ضرورة أنّ المصادر المزيد فيها كالمجرّدة في الدلالة على ما يتّصف به الذوات ويقوم بها كما لا يخفى (٦) ، وأنّ الأفعال إنّما تدلّ على قيام المبادئ بها قيام صدور (٧) أو حلول (٨) ، أو طلب فعلها (٩) أو تركها (١٠)

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «ينصرم» أي : لا استقرار له.

(٢) فإنّ الذات غير محفوظة في كلتا الحالتين.

(٣) والحاصل : أنّ المبحوث عنه في المقام هو مفهوم المشتقّ ، وهذا البحث لا يرتبط بتحقّق مصداق العامّ خارجا وعدم تحقّقه ، كما لا يرتبط بانحصاره في فرد وعدم انحصار فيه ، فلا يكون انحصاره في فرد موجبا لنفي صحّة النزاع في المفهوم.

(٤) وقع الخلاف في ما وضع له لفظ «الله» ، فهل هو مفهوم واجب الوجود أو أنّه علم للذات المقدّسة؟ مع انحصاره خارجا في ذات البارئ.

(٥) واجيب عن الإشكال بوجوه أخر أيضا. فراجع نهاية الدراية ١ : ١١٨ ، فوائد الاصول ١ : ٨٩ ، بدائع الأفكار (للمحقّق العراقيّ) ١ : ١٦٢ ـ ١٦٤.

وذكرها السيّد الإمام الخمينيّ ثمّ ناقش في جميعها وذهب إلى خروج اسم الزمان عن محلّ النزاع ، فراجع مناهج الوصول ١ : ١٩٧ ـ ٢٠٠.

(٦) فالمصادر لا تدلّ إلّا على نفس الحدث والمبدأ مع نسبة الحدث إلى ذات ما ، فلا يصحّ حملها على الذات ، لتغاير الذات والمبدأ وجودا ، كتغايرهما مفهوما.

(٧) نحو : ضرب ويضرب.

(٨) نحو : حسن ومرض.

(٩) كقولنا : «صلّ» و «حجّ».

(١٠) نحو : لا تسرق ولا تشرب.

٨٦

منها (١) على اختلافها (٢).

إزاحة شبهة

قد اشتهر في ألسنة النحاة دلالة الفعل على الزمان حتّى أخذوا الاقتران بها في تعريفه (٣). وهو اشتباه ، ضرورة عدم دلالة الأمر ولا النهي عليه (٤) ، بل على إنشاء طلب الفعل أو الترك ؛ غاية الأمر نفس الإنشاء بهما في الحال (٥) ، كما هو الحال في الإخبار بالماضي أو المستقبل أو بغيرهما كما لا يخفى. بل يمكن منع دلالة غيرهما من الأفعال على الزمان إلّا بالإطلاق والإسناد إلى الزمانيّات ، وإلّا لزم القول بالمجاز والتجريد عند الإسناد إلى غيرها من نفس الزمان (٦) والمجرّدات (٧).

نعم ، لا يبعد أن يكون لكلّ من الماضي والمضارع بحسب المعنى خصوصيّة اخرى موجبة للدلالة على وقوع النسبة في الزمان الماضي في الماضي ، وفي الحال أو الاستقبال في المضارع فيما كان الفاعل من الزمانيّات (٨).

__________________

(١) أي : من الذوات.

(٢) والحاصل : أنّه لا يصحّ حمل الأفعال على الذات ، لأنّها لا تدلّ إلّا على نسبة المبدأ إلى الذات وقيامه بها ، فالذات والنسبة متغايرتان وجودا ، ومعه لا يصحّ حملها على الذات.

(٣) كما قال في الفوائد الصمديّة : «الفعل كلمة معناها مستقلّ مقترن بأحدها» أي أحد الأزمنة الثلاثة. راجع جامع المقدّمات : ٤٤٨.

(٤) لا بمادّتهما ، لأنّها لا تدلّ إلّا على طبيعة الفعل ؛ ولا بهيئتهما ، لأنّها لا تدلّ إلّا على إنشاء الطلب أو الترك. فليس في فعل الأمر وفعل النهي ما يدلّ على الزمان.

(٥) وهو أجنبيّ عن الدلالة على الحال ، إذ هو يقع في الزمان قهرا.

(٦) مثل قولنا : «مضى الزمان» ، فلو دلّ الفعل على الزمان لم يصحّ إسناده إلى الزمان ، لأنّ الزمان لم يقع في الزمان ، والّا لدار أو تسلسل.

(٧) كقولنا : «علم الله» ، فلو دلّ الفعل على الزمان لم يصحّ إسناده إلى ما فوق الزمان من المجرّدات ، لأنّها غير محدودة بحدّ.

وأجاب المحقّق الاصفهانيّ عن معضل إسناد الفعل إلى نفس الزمان والمجرّدات بما لا يهمّ التعرّض لها ، وإن شئت فراجع نهاية الدراية ١ : ١٢١ ـ ١٢٢.

(٨) والحاصل : أنّه وقع الكلام في تلك الخصوصيّة وحقيقتها. ذهب المصنّف إلى أنّ ـ

٨٧

ويؤيّده (١) أنّ المضارع يكون مشتركا معنويّا بين الحال والاستقبال ، ولا معنى له إلّا أن يكون له خصوص معنى صحّ انطباقه على كلّ منهما ، لا أنّه يدلّ على مفهوم زمان يعمّهما (٢) ، كما أنّ الجملة الاسميّة ك «زيد ضارب» يكون لها معنى صحّ انطباقه على كلّ واحد من الأزمنة ، مع عدم دلالتها على واحد منها أصلا ، فكانت الجملة الفعليّة مثلها.

وربما يؤيّد ذلك أنّ الزمان الماضي في فعله (٣) وزمان الحال أو الاستقبال في المضارع لا يكون ماضيا أو مستقبلا حقيقة لا محالة ، بل ربما يكون في الماضي مستقبلا حقيقة وفي المضارع ماضيا كذلك ، وإنّما يكون ماضيا أو مستقبلا في فعلهما بالإضافة ، كما يظهر من مثل قوله : «يجيء زيد بعد عام وقد ضرب قبله بأيّام» ، وقوله : «جاء زيد في شهر كذا وهو يضرب في ذلك الوقت أو فيما بعده ممّا مضى» ، فتأمّل جيّدا.

ثمّ لا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما به يمتاز الحرف عمّا عداه بما يناسب المقام ، لأجل الاطّراد في الاستطراد في تمام الأقسام (٤).

فاعلم أنّه وإن اشتهر بين الأعلام أنّ الحرف ما دلّ على معنى في غيره ـ وقد

__________________

ـ تلك الخصوصيّة مأخوذة في المعنى على نحو دخول التقيّد ، فالمعنى في الفعل الماضي تحقّق المادّة مقيّدا بكونه قبل زمان التكلّم ، بنحو دخول التقيّد وخروج القيد ؛ والمعنى في المضارع تحقّق المادّة مقيّدا بكونه في زمان التكلّم أو فيما بعده ، بنحو دخول التقيّد وخروج القيد ؛ فيكون الزمان في كلّ منهما مدلولا التزاميّا فيما إذا كان الفاعل زمانيّا.

وذهب المحقّق الاصفهانيّ إلى أنّ اختلافهما في القيد ، وأمّا ذات المقيّد ـ وهي النسبة الصدوريّة ـ فواحدة ، غاية الأمر أنّها متقيّدة بالسبق الزمانيّ في الماضي ، بنحو يكون التقيّد والقيد خارجا ، ومتقيّدة بعدم السبق الزماني في المضارع كذلك ، فيكون الزمان فيهما مدلولا تضمّنيّا. نهاية الدراية ١ : ١٢٢ ـ ١٢٤.

(١) أي : عدم دلالة الفعل على الزمان تضمّنا.

(٢) لأنّ المقارن للحدث هو مصداق الزمان ، لا مفهومه.

(٣) أي : فعل الماضي.

(٤) أي : تمام أقسام الكلمة من الاسم والفعل والحرف. وقد مرّ الكلام في الفرق بين المعنى الاسميّ والحرفيّ بما لا مزيد عليه.

٨٨

بيّنّاه في الفوائد (١) بما لا مزيد عليه ـ إلّا أنّك عرفت فيما تقدّم (٢) عدم الفرق بينه وبين الاسم بحسب المعنى ما لم يلحظ فيه (٣) الاستقلال بالمفهوميّة ولا عدم الاستقلال بها. وإنّما الفرق هو أنّه (٤) وضع ليستعمل واريد منه معناه حالة لغيره وبما هو في الغير ، ووضع غيره (٥) ليستعمل واريد منه معناه بما هو هو. وعليه يكون كلّ من الاستقلال بالمفهوميّة وعدم الاستقلال بها إنّما اعتبر في جانب الاستعمال ، لا في المستعمل فيه ، ليكون بينهما تفاوت بحسب المعنى ؛ فلفظ «الابتداء» لو استعمل في المعنى الآليّ ولفظة «من» في المعنى الاستقلاليّ لما كان مجازا واستعمالا له في غير ما وضع له ، وإن كان بغير ما وضع له (٦).

فالمعنى في كليهما في نفسه كليّ طبيعيّ يصدق على كثيرين ؛ ومقيّدا باللحاظ الاستقلاليّ أو الآليّ كليّ عقليّ (٧) ، وإن كان بملاحظة أنّ لحاظه وجوده ذهنا كان جزئيّا ذهنيّا (٨) ، فإنّ الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد وإن كان بالوجود الذهنيّ ، فافهم وتأمّل فيما وقع في المقام من الأعلام من الخلط والاشتباه وتوهّم كون الموضوع له أو المستعمل فيه في الحروف خاصّا ، بخلاف ما عداها ، فإنّه عامّ.

وليت شعري إن كان قصد الآليّة فيها موجبا لكون المعنى جزئيّا فلم لا يكون قصد الاستقلاليّة فيه (٩) موجبا له؟! وهل يكون ذلك إلّا لكون هذا القصد ليس ممّا يعتبر في الموضوع له ولا المستعمل فيه ، بل في الاستعمال؟ فلم لا يكون فيها كذلك؟! كيف؟ وإلّا لزم أن يكون معاني المتعلّقات غير منطبقة على الجزئيّات

__________________

(١) فوائد الاصول (للمصنّف) : ٦٦.

(٢) في الأمر الثاني من المقدّمة : ٢٨.

(٣) أي : في المعني.

(٤) أي : الحرف.

(٥) أي : الاسم.

(٦) أي : وإن كان بغير النحو الّذي وضع له اللفظ.

(٧) وفي النسخة الأصليّة : «أو الآليّ الكلّيّ كلّيّ عقليّ».

(٨) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «جزئيّا ذهنيّا» ، فإنّ لفظة «كان» مستدركة ، حيث إنّ قوله : «جزئيّا ذهنيّا» خبر كان في قوله : «وإن كان» ، فكان الأولى أن يقول : «وإن كان جزئيّا ذهنيّا بملاحظة أنّ لحاظه وجوده ذهنا».

(٩) أي : في الاسم.

٨٩

الخارجيّة ، لكونها ـ على هذا ـ كلّيّات عقليّة ، والكلّيّ العقليّ لا موطن له إلّا الذهن ؛ فالسير والبصرة والكوفة في : «سرت من البصرة إلى الكوفة» لا يكاد يصدق على السير والبصرة والكوفة ، لتقيّدها بما اعتبر فيه القصد (١) ، فتصير عقليّة ، فيستحيل انطباقها على الامور الخارجيّة.

وبما حقّقناه يوفّق بين جزئيّة المعنى الحرفيّ بل الاسميّ والصدق على الكثيرين ، وأنّ الجزئيّة باعتبار تقيّد المعنى باللحاظ في موارد الاستعمالات آليّا أو استقلاليّا ، وكلّيّته بلحاظ نفس المعنى.

ومنه ظهر عدم اختصاص الإشكال والدفع بالحرف ، بل يعمّ غيره. فتأمّل في المقام ، فإنّه دقيق ومزالّ الأقدام للأعلام ، وقد سبق في بعض الامور (٢) بعض الكلام ، والإعادة مع ذلك لما فيها من الفائدة والإفادة (٣) ، فافهم.

رابعها : [اختلاف المبادئ لا يوجب اختلافا في دلالة المشتقّ]

أنّ اختلاف المشتقّات في المبادئ ـ وكون المبدأ في بعضها حرفة وصناعة (٤) ، وفي بعضها قوة وملكة (٥) ، وفي بعضها فعليّا (٦) ـ لا يوجب اختلافا في دلالتها بحسب الهيئة أصلا ، ولا تفاوتا في الجهة المبحوث عنها ، كما لا يخفى (٧). غاية الأمر أنّه يختلف التلبّس به في المضيّ أو الحال ، فيكون التلبّس به فعلا لو اخذ حرفة أو ملكة ولو لم يتلبّس به إلى الحال أو انقضى عنه ، ويكون ممّا مضى أو يأتي

__________________

(١) أي : لتقيّد السير والبصرة والكوفة بالمعنى الحرفيّ الّذي اعتبر فيه قصد الآليّة.

(٢) في الأمر الثاني من المقدّمة : ٢٨.

(٣) ومن الفوائد المترتّبة على الإعادة ثبوت عدم المنافاة بين كون الشيء كلّيّا عقليّا وكونه جزئيّا ذهنيّا أو كونه كلّيّا طبيعيّا وكونه جزئيّا ذهنيّا.

(٤) كالخياطة في الخيّاط.

(٥) كالاجتهاد في المجتهد.

(٦) كالضرب في الضارب.

(٧) بخلاف الفاضل التونيّ ـ على ما في بدائع الأفكار (للمحقّق الرشتيّ) : ١٧٨ ، وحاشية قوانين الاصول ١ : ٧٨ ـ ، فإنّه توهّم أنّ النزاع لا يجري في المشتقّات الّتي مبدؤها حرفة ـ كالنجّار والخيّاط ـ والمشتقّات الّتي مبدؤها ملكة ـ كالاجتهاد ـ ، بل المتّفق عليه أنّ المشتقّ في هذه الموارد موضوع للأعمّ.

٩٠

لو اخذ فعليّا ، فلا يتفاوت فيها (١) أنحاء التلبّسات وأنواع التعلّقات ، كما أشرنا إليه.

خامسها : [المراد من كلمة «الحال» في العنوان]

انّ المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال التلبّس (٢) لا حال النطق (٣) ، ضرورة أنّ مثل : «كان زيد ضاربا أمس» ، أو «سيكون غدا ضاربا» حقيقة إذا كان متلبّسا بالضرب في الأمس في المثال الأوّل ، ومتلبّسا به في الغد في الثاني ، فجري المشتقّ حيث كان بلحاظ حال التلبّس ـ وإن مضى زمانه في أحدهما ، ولم يأت بعد في آخر ـ كان حقيقة بلا خلاف.

ولا ينافيه الاتّفاق على أنّ مثل «زيد ضارب غدا» مجاز ، فإنّ الظاهر أنّه فيما إذا كان الجري في الحال (٤) ـ كما هو قضيّة الإطلاق ـ ، والغد إنّما يكون لبيان زمان التلبّس ، فيكون الجري والاتّصاف في الحال والتلبّس في الاستقبال (٥).

ومن هنا ظهر الحال في مثل : «زيد ضارب أمس» وأنّه داخل في محلّ الخلاف والإشكال. ولو كانت لفظة «أمس» أو «غد» قرينة على تعيين زمان النسبة والجري أيضا (٦) كان المثالان حقيقة.

وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في كون المشتقّ حقيقة فيما إذا جرى على الذات بلحاظ حال التلبّس ، ولو كان في المضيّ أو الاستقبال ؛ وإنّما الخلاف في كونه حقيقة في خصوصه (٧) أو فيما يعمّ ما إذا جرى عليها في الحال بعد ما انقضى عنه التلبّس ، بعد الفراغ عن كونه مجازا فيما إذا جرى عليها فعلا بلحاظ التلبّس في الاستقبال.

__________________

(١) أي : في دلالة الهيئة.

(٢) ليس المقصود من حال التلبّس زمان التلبّس كما استظهره المحقّق النائينيّ من كلام المصنّف ، بل المقصود هو فعليّة التّلبس واتّحاد الإسناد والتلبّس.

(٣) فلا يعتبر في صدق المشتقّ حقيقة تلبّس الذات بالمبدإ حال النطق ، كما لا يعتبر فيه تلبّسها بالمبدإ حال الجري وإطلاق المشتقّ على الذات.

(٤) أي : حال النطق.

(٥) فالمجازيّة في المثال المزبور انّما هو لأجل انفكاك الجري عن فعليّة التلبّس.

(٦) بحيث يتّحد زمان الجري مع زمان التلبّس.

(٧) أي : في خصوص حال التلبّس.

٩١

ويؤيّد ذلك (١) اتّفاق أهل العربيّة على عدم دلالة الاسم على الزمان ، ومنه الصفات الجارية على الذوات. ولا ينافيه اشتراط العمل في بعضها (٢) بكونه بمعنى الحال أو الاستقبال ، ضرورة أنّ المراد الدلالة على أحدهما بقرينة ، كيف لا وقد اتّفقوا على كونه مجازا في الاستقبال؟

لا يقال : يمكن أن يكون المراد بالحال في العنوان زمانه ، كما هو الظاهر منه عند إطلاقه ، وادّعي (٣) أنّه الظاهر في المشتقّات ، إمّا لدعوى الانسباق من الإطلاق أو بمعونة قرينة الحكمة.

لأنّا نقول : هذا الانسباق وإن كان ممّا لا ينكر إلّا أنّهم في هذا العنوان بصدد تعيين ما وضع له المشتقّ ، لا تعيين ما يراد بالقرينة منه.

سادسها : [لا أصل في المسألة]

انّه لا أصل في نفس هذه المسألة يعوّل عليه عند الشكّ (٤).

وأصالة عدم ملاحظة الخصوصيّة (٥) ـ مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم ـ لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له.

وأمّا ترجيح الاشتراك المعنويّ على الحقيقة والمجاز إذا دار الأمر بينهما لأجل الغلبة (٦) ، فممنوع ، لمنع الغلبة أوّلا ، ومنع نهوض حجّة على الترجيح بها ثانيا.

وأمّا الأصل العمليّ فيختلف في الموارد ، فأصالة البراءة في مثل : «أكرم كلّ عالم» يقتضي عدم وجوب إكرام ما انقضى عنه المبدأ قبل الإيجاب (٧) ، كما أنّ

__________________

(١) أي : كون المراد من الحال حال التلبّس.

(٢) كاسمي الفاعل والمفعول.

(٣) كما ادّعاه صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ٦٠.

(٤) أي : عند التردّد وعدم قيام الدليل على أنّ الموضوع له خصوص المتلبّس فعلا أو الأعمّ منه.

(٥) أي : خصوصيّة حال التلبّس.

(٦) أي : غلبة الاشتراك المعنويّ على المجاز.

(٧) أي : قبل تشريع الحكم. بيان ذلك : أنّا لمّا نشكّ في صدق العالم فعلا على من انقضى عنه العلم للشكّ في الوضع ، فنشكّ في ثبوت الحكم له ، وأصالة البراءة عن وجوب إكرامه تنفي ـ

٩٢

قضيّة الاستصحاب وجوبه لو كان الإيجاب قبل الانقضاء (١).

[الأقوال في مسألة المشتقّ]

[١ ـ مختار المصنّف وأدلّته]

فإذا عرفت ما تلونا عليك فاعلم أنّ الأقوال في المسألة وإن كثرت إلّا أنّها حدثت بين المتأخّرين ـ بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدّمين (٢) ـ ، لأجل توهّم اختلاف المشتقّ باختلاف مبادئه في المعنى أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال. وقد مرّت الإشارة إلى أنّه لا يوجب التفاوت فيما نحن بصدده ، ويأتي له مزيد بيان في أثناء الاستدلال على ما هو المختار ، وهو اعتبار التلبّس في الحال ، وفاقا لمتأخّري الأصحاب والأشاعرة ، وخلافا لمتقدّميهم والمعتزلة.

ويدلّ عليه :

١ ـ تبادر خصوص المتلبّس بالمبدإ في الحال.

٢ ـ وصحّة السلب مطلقا عمّا انقضى عنه ـ كالمتلبّس به في الاستقبال ـ ؛

__________________

ـ ثبوت الحكم له. وهذا يلائم الوضع للأخصّ.

(١) أي : فكان زيد متلبّسا بالعلم حال الإيجاب ، لكنّه انقضى عنه بعد ورود الوجوب ، فيشكّ في بقاء الحكم له ، للشكّ في عالميّته الناشئ من الشكّ في الوضع ، فيستصحب وجوب إكرامه. وهذا يلائم الوضع للأعمّ.

وأورد عليه السيّد المحقّق الخوئيّ بأنّه لا فرق بين الموردين ، بل في كلا الموردين كان المرجع أصالة البراءة ، لا الاستصحاب ، فراجع محاضرات في اصول الفقه ١ : ٢٤٣.

(٢) ذهبت المعتزلة وجماعة من الأقدمين إلى أنّه موضوع للأعمّ. فراجع نهاية السئول ٢ : ٨٢ ، إرشاد الفحول : ١٨ ، مبادئ الوصول إلى علم الاصول : ٦٧ ، رسائل المحقّق الكركيّ ٢ : ٨٢ ، زبدة الاصول : ٣٣.

وذهبت الأشاعرة وجماعة من المتأخّرين من أصحابنا إلى أنّه موضوع للأخصّ. فراجع مناهج العقول (البدخشيّ) ١ : ٢٧٥ ، قوانين الاصول ١ : ٧٦ ، تقريرات المجدّد الشيرازيّ ١ : ٢٦٣ ، فوائد الاصول ١ : ١٢٠ ، نهاية الأفكار ١ : ١٣٥.

٩٣

وذلك لوضوح أنّ مثل القائم والضارب والعالم وما يرادفها من سائر اللغات لا يصدق على من لم يكن (١) متلبّسا بالمبادئ ، وإن كان متلبّسا بها قبل الجري والانتساب ، ويصحّ سلبها عنه. كيف؟ (٢) وما يضادّها بحسب ما ارتكز من معناها في الأذهان يصدق عليه ، ضرورة صدق القاعد عليه في حال تلبّسه بالقعود بعد انقضاء تلبّسه بالقيام ، مع وضوح التضادّ بين القاعد والقائم بحسب ما ارتكز لهما من المعنى ، كما لا يخفى.

وقد يقرّر هذا (٣) وجها على حدة ، ويقال : لا ريب في مضادّة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادّة على ما ارتكز لها من المعاني ، فلو كان المشتقّ حقيقة في الأعمّ لما كان بينها مضادّة ، بل مخالفة ، لتصادقها فيما انقضى عنه المبدأ وتلبّس بالمبدإ الآخر.

ولا يرد على هذا التقرير ما أورده بعض الأجلّة من المعاصرين (٤) من عدم التضادّ على القول بعدم الاشتراط ، لما عرفت من ارتكازه بينها (٥) كما في مبادئها.

إن قلت : لعلّ ارتكازها (٦) لأجل السبق من الإطلاق لا الاشتراط (٧).

قلت : لا يكاد يكون لذلك ، لكثرة استعمال المشتقّ في موارد الانقضاء لو

__________________

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «من لا يكون».

(٢) أي : كيف لا يصحّ سلبها عمّن لا يكون متلبّسا فعلا بالمبادئ؟

(٣) أي : لزوم اجتماع الضدّين.

(٤) وهو المحقّق الرشتيّ في بدائع الأفكار : ١٨١.

(٥) أي : ارتكاز التضادّ بين الصفات المتقابلة كارتكازيّته بين مبادئها ، فلا يتوقّف التضادّ بينها على القول بالاشتراط كي يلزم الدور.

ولا يخفى ما في ارتكازيّته كما مرّ في علاميّة التبادر.

(٦) أي : ارتكاز المضادّة بين الصفات.

(٧) حاصل الإشكال : أنّ مجرّد ارتكاز التضادّ بين الصفات لا يدلّ على وضع المشتقّ لخصوص حال التلبّس ، بل إنّما يدلّ عليه إذا كان الارتكاز ناشئا من حاقّ اللفظ ، وهو غير معلوم ، بل يحتمل أن يكون ناشئا من الإطلاق.

٩٤

لم يكن بأكثر (١).

إن قلت : على هذا يلزم أن يكون في الغالب (٢) أو الأغلب (٣) مجازا ، وهذا بعيد ربما لا يلائمه حكمة الوضع. لا يقال : كيف؟ (٤) وقد قيل بأنّ أكثر المحاورات مجازات. فإنّ ذلك (٥) ـ لو سلّم ـ فإنّما هو لأجل تعدّد المعاني المجازيّة بالنسبة إلى المعنى الحقيقيّ الواحد. نعم ربما يتّفق ذلك بالنسبة إلى معنى مجازيّ ، لكثرة الحاجة إلى التعبير عنه ، لكن أين هذا ممّا إذا كان دائما كذلك ، فافهم.

قلت : ـ مضافا إلى أنّ مجرّد الاستبعاد غير ضائر بالمراد بعد مساعدة الوجوه المتقدّمة عليه ـ إنّ ذلك (٦) إنّما يلزم لو لم يكن استعماله فيما انقضى بلحاظ حال التلبّس ، مع أنّه بمكان من الإمكان ، فيراد من «جاء الضارب ، أو الشارب» ـ وقد انقضى عنه الضرب والشرب ـ جاء الّذي كان ضاربا وشاربا قبل مجيئه حال التلبّس بالمبدإ ، لا حينه (٧) بعد الانقضاء ، كي يكون الاستعمال بلحاظ هذا الحال (٨) ، وجعله معنونا بهذا العنوان فعلا بمجرّد تلبّسه قبل مجيئه (٩) ، ضرورة أنّه لو كان للأعمّ لصحّ استعماله بلحاظ كلا الحالين.

وبالجملة : كثرة الاستعمال في حال الانقضاء يمنع عن دعوى سبق خصوص حال التلبّس من الإطلاق ، إذ مع عموم المعنى وقابليّة كونه حقيقة في المورد (١٠)

__________________

(١) بتعبير آخر : إنّ السبق الإطلاقيّ مشروط بكثرة استعمال المشتقّ في خصوص حال التلبّس ، وهذا الشرط مفقود في المقام ، ضرورة كثرة استعمال المشتقّ في موارد الانقضاء لو لم يكن بأكثر.

(٢) وهو فيما إذا كان استعمال المشتقّ في موارد الانقضاء كثيرا.

(٣) وهو فيما إذا كان استعماله في موارد الانقضاء أكثر.

(٤) أي : كيف يلائمه حكمة الوضع؟

(٥) أي : كون أكثر المحاورات مجازا.

(٦) أي : كون الاستعمال في الغالب أو الأغلب مجازا.

(٧) يعني : لا حين المجيء.

(٨) أي : حال الانقضاء.

(٩) أي : وكي يكون جعل من صدر عنه الضرب أو الشرب قبل مجيئه معنونا بعنوان كونه ضاربا وشاربا فعلا بمجرّد تلبّسه بهما قبل المجيء.

(١٠) أي : وقابليّة كون المشتقّ حقيقة في مورد انقضى عنه المبدأ.

٩٥

ـ ولو بالانطباق (١) ـ لا وجه لملاحظة حالة اخرى (٢) ، كما لا يخفى. بخلاف ما إذا لم يكن له العموم ، فإنّ استعماله حينئذ مجازا بلحاظ حال الانقضاء وإن كان ممكنا ، إلّا أنّه لمّا كان بلحاظ حال التلبّس على نحو الحقيقة بمكان من الإمكان ، فلا وجه لاستعماله وجريه على الذات مجازا وبالعناية وملاحظة العلاقة ، وهذا غير استعمال اللفظ فيما لا يصحّ استعماله فيه حقيقة ، كما لا يخفى ، فافهم.

ثمّ إنّه ربما اورد (٣) على الاستدلال بصحّة السلب بما حاصله : أنّه إن اريد بصحّة السلب صحّته مطلقا (٤) فغير سديد ، وإن اريد مقيّدا فغير مفيد ، لأنّ علامة المجاز هي صحّة السلب المطلق.

وفيه : أنّه إن اريد بالتقييد تقييد المسلوب الّذي يكون سلبه أعمّ من سلب المطلق ـ كما هو واضح ـ فصحّة سلبه وإن لم تكن علامة على كون المطلق مجازا فيه إلّا أنّ تقييده ممنوع ؛ وإن اريد تقييد السلب فغير ضائر بكونها علامة ، ضرورة صدق المطلق على أفراده على كلّ حال ، مع إمكان منع تقييده أيضا بأن يلاحظ حال الانقضاء في طرف الذات الجاري عليها المشتقّ ، فيصحّ سلبه مطلقا بلحاظ هذا الحال ، كما لا يصحّ سلبه بلحاظ حال التلبّس ، فتدبّر جيّدا (٥).

__________________

(١) أي : انطباق المعنى العامّ الموضوع له عليه ، لا بالاستعمال. والفرق بينهما : أنّ الاستعمال ـ وهو إلقاء المعنى باللفظ ـ يتّصف بالحقيقة والمجاز والغلط ، فإن كان المستعمل فيه نفس المعنى الموضوع له اللفظ كان الاستعمال حقيقيّا ، وإن كان المعنى المناسب للموضوع له كان الاستعمال مجازيّا ، وإن كان غير المناسب له كان الاستعمال غلطا. وأمّا انطباق المعنى الكلّيّ على مصاديقه فلا يتّصف بها ، بل أمره دائر بين الوجود والعدم.

(٢) أي : لا وجه لملاحظة حال التلبّس ، لأنّ استعماله في مورد الانقضاء حقيقة بلحاظ حال الجري على القول بالأعمّ.

(٣) راجع بدائع الأفكار (المحقّق الرشتيّ) : ١٨٠ ، والفصول الغرويّة : ٦١.

(٤) أي : من دون تقييده بحال الانقضاء.

(٥) وتوضيح الجواب : أنّ في تقييد صحّة السلب وجوه :

الأوّل : أن يكون المقيّد نفس المسلوب ـ أي المشتقّ ـ نحو : «زيد ليس بضارب حال ـ

٩٦

[٢ ـ القول بالتفصيل]

ثمّ لا يخفى أنّه لا يتفاوت في صحّة السلب عمّا انقضى عنه المبدأ بين كون المشتقّ لازما وكونه متعدّيا (١) ، لصحّة سلب الضارب عمّن يكون فعلا غير متلبّس بالضرب ، وكان متلبّسا به سابقا. وأمّا إطلاقه عليه في الحال ، فإن كان بلحاظ حال التلبّس فلا إشكال كما عرفت ، وإن كان بلحاظ الحال فهو وإن كان صحيحا إلّا أنّه لا دلالة على كونه بنحو الحقيقة ، لكون الاستعمال أعمّ منها ، كما لا يخفى.

كما لا يتفاوت في صحّة السلب عنه بين تلبّسه بضدّ المبدأ وعدم تلبّسه ، لما عرفت من وضوح صحّته مع عدم التلبّس أيضا ، وإن كان معه أوضح.

وممّا ذكرنا ظهر حال كثير من التفاصيل ، فلا نطيل بذكرها على التفصيل.

[٣ ـ القول بوضع المشتقّ للأعمّ]

حجّة القول بعدم الاشتراط وجوه :

الأوّل : التبادر.

وقد عرفت أنّ المتبادر هو خصوص حال التلبّس.

__________________

ـ الانقضاء». ولا شكّ أنّ صحّة هذا السلب ليست علامة للمجاز ، إذ المعتبر في علاميّتها صحّة سلب المحمول بما هو محمول ، وسلب المحمول مقيّدا بحال الانقضاء لا يستلزم سلب المطلق ليكون علامة للمجاز.

ولكن يرد عليه : أنّه لا دليل على تقييد المسلوب بحال الانقضاء.

الثاني : أن يكون المقيّد هو المسلوب عنه ـ أي الموضوع ـ ، نحو : «زيد المنقضي عنه الضرب ليس بضارب». وحينئذ يكون المسلوب ـ أي المشتقّ ـ مطلقا ، فصحّة سلبه مطلقة ، وتكون علامة المجاز.

الثالث : أن يكون المقيّد نفس السلب ، نحو : «زيد ليس حال الانقضاء بضارب». وحينئذ تكون صحّة السلب علامة المجاز ، إذ يصحّ سلب الضارب مطلقا عن زيد بلحاظ حال الانقضاء.

ولا يخفى : أنّه قد مرّ نفي علاميّة صحّة السلب في مبحث علامات الوضع ، فراجع.

(١) تعريض بصاحب الفصول ، حيث فصّل بين كون المشتقّ متعدّيا وبين كونه لازما ، بأنّ الأوّل حقيقة في الأعمّ ، والثاني حقيقة في خصوص المتلبّس فعلا. راجع الفصول الغرويّة : ٦٠.

٩٧

الثاني : عدم صحّة السلب في «مضروب» و «مقتول» عمّن انقضى عنه المبدأ.

وفيه : أنّ عدم صحّته في مثلهما إنّما هو لأجل أنّه اريد من المبدأ معنى يكون التلبّس به باقيا في الحال ولو مجازا ، وقد انقدح من بعض المقدّمات أنّه لا يتفاوت الحال فيما هو المهمّ في محلّ البحث والكلام ، ومورد النقض والإبرام اختلاف (١) ما يراد من المبدأ في كونه حقيقة أو مجازا.

وأمّا لو اريد منه نفس ما وقع على الذات ممّا صدر عن الفاعل ، فإنّما لا يصحّ السلب فيما لو كان بلحاظ حال التلبّس والوقوع كما عرفت ، لا بلحاظ الحال أيضا ، لوضوح صحّة أن يقال : «إنّه ليس بمضروب الآن ، بل كان».

الثالث : استدلال الإمام عليه‌السلام (٢) ـ تأسّيا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما عن غير واحد من الأخبار (٣) ـ بقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٤) على عدم لياقة من عبد صنما أو وثنا لمنصب الإمامة والخلافة ؛ تعريضا بمن تصدّى لها ممّن عبد الصنم مدّة مديدة. ومن الواضح توقّف ذلك (٥) على كون المشتقّ موضوعا للأعمّ ، وإلّا لما صحّ التعريض ، لانقضاء تلبّسهم بالظلم وعبادتهم للصنم حين التصدّي للخلافة.

والجواب : منع التوقّف على ذلك ، بل يتمّ الاستدلال ولو كان موضوعا لخصوص المتلبّس.

وتوضيح ذلك يتوقّف على تمهيد مقدّمة ، وهي : أنّ الأوصاف العنوانيّة الّتي تؤخذ في موضوعات الأحكام تكون على أقسام :

أحدها : أن يكون أخذ العنوان لمجرّد الإشارة إلى ما هو في الحقيقة موضوع. للحكم ، لمعهوديّته بهذا العنوان من دون دخل لاتّصافه به في الحكم أصلا (٦).

__________________

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «باختلاف».

(٢) مراده من الإمام عليه‌السلام هو الإمام الصادق عليه‌السلام أو الإمام الرضا عليه‌السلام ، فانّهما استدلّا بقوله تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) على عدم لياقة من عبد صنما لمنصب الإمامة. راجع الكافي ١ : ١٧٥ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢١٧.

(٣) راجع تفسير البرهان ١ : ١٥١ ، الحديث ١٣.

(٤) البقرة / ١٢٤.

(٥) أي : الاستدلال.

(٦) كأن يقال : «صلّ خلف عمرو بن زيد» ، فعنوان «ابن زيد» قد اخذ معرّفا لما هو الموضوع ـ

٩٨

ثانيها : أن يكون لأجل الإشارة إلى علّيّة المبدأ للحكم مع كفاية مجرّد صحّة جري المشتقّ عليه ولو فيما مضى (١).

ثالثها : أن يكون لذلك مع عدم الكفاية (٢) ، بل كان الحكم دائرا مدار صحّة الجري عليه واتّصافه به حدوثا وبقاء.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ الاستدلال بهذا الوجه إنّما يتمّ لو كان أخذ العنوان في الآية الشريفة على النحو الأخير ، ضرورة أنّه لو لم يكن المشتقّ للأعمّ لما تمّ بعد عدم التلبّس بالمبدإ ظاهرا حين التصدّي ، فلا بدّ أن يكون للأعمّ ، ليكون حين التصدّي حقيقة من الظالمين ولو انقضى عنهم التلبّس بالظلم ، وأمّا إذا كان على النحو الثاني فلا ، كما لا يخفى.

ولا قرينة على أنّه على النحو الأوّل ، لو لم نقل بنهوضها على النحو الثاني ، فإنّ الآية الشريفة في مقام بيان جلالة قدر الإمامة والخلافة وعظم خطرها ورفعة محلّها ، وأنّ لها خصوصيّة من بين المناصب الإلهيّة ، ومن المعلوم أنّ المناسب لذلك هو أن لا يكون المتقمّص بها متلبّسا بالظلم أصلا ، كما لا يخفى.

إن قلت : نعم ، ولكن الظاهر أنّ الإمام عليه‌السلام إنّما استدلّ بما هو قضيّة ظاهر العنوان وضعا ، لا بقرينة المقام مجازا ، فلا بدّ أن يكون للأعمّ ، وإلّا لما تمّ.

قلت : لو سلّم ، لم يكن يستلزم جري المشتقّ على النحو الثاني كونه مجازا ، بل يكون حقيقة لو كان بلحاظ حال التلبّس ، كما عرفت ؛ فيكون معنى الآية ـ والله العالم ـ : «من كان ظالما ولو آنا في زمان سابق لا ينال عهدي أبدا». ومن الواضح أنّ إرادة هذا المعنى لا تستلزم الاستعمال لا بلحاظ حال التلبّس.

ومنه قد انقدح ما في الاستدلال على التفصيل بين المحكوم عليه والمحكوم

__________________

ـ في الواقع ـ أي عمرو ـ بلا دخل له في الحكم.

(١) وبتعبير آخر : تلاحظ العنوان دخيلا في الحكم حدوثا ، لا بقاء ، فبقاء الحكم يدور مدار بقاء العنوان ، بل يكون حدوث العنوان علّة محدثة ومبقية معا.

(٢) أي : يكون أخذ العنوان لأجل الإشارة إلى أنّ العنوان دخيل في الحكم حدوثا وبقاء.

٩٩

به ـ باختيار عدم الاشتراط في الأوّل ـ بآية حدّ السارق والسارقة (١) والزاني والزانية (٢). وذلك حيث ظهر أنّه لا تنافي إرادة خصوص حال التلبّس دلالتها على ثبوت القطع والجلد مطلقا ولو بعد انقضاء المبدأ (٣) ؛ مضافا إلى وضوح بطلان تعدّد الوضع حسب وقوعه محكوما عليه أو به ، كما لا يخفى.

ومن مطاوي ما ذكرنا هاهنا وفي المقدّمات ظهر حال سائر الأقوال ، وما ذكر لها من الاستدلال ، ولا يسع المجال لتفصيلها ، ومن أراد الاطّلاع عليها فعليه بالمطوّلات.

بقي امور

الأوّل : [بساطة مفهوم المشتقّ]

انّ مفهوم المشتقّ (٤) ـ على ما حقّقه المحقّق الشريف في بعض حواشيه (٥) ـ بسيط منتزع عن الذات باعتبار تلبّسها بالمبدإ واتّصافها به ، غير مركّب. وقد أفاد في وجه ذلك : «أنّ مفهوم الشيء لا يعتبر في مفهوم الناطق ـ مثلا ـ ، وإلّا لكان العرض العامّ داخلا في الفصل ؛ ولو اعتبر فيه ما صدق عليه الشيء انقلبت مادّة الإمكان الخاصّ ضرورة ، فإنّ الشيء الّذي له الضحك هو الإنسان ، وثبوت الشيء

__________________

(١) قال الله تعالى : (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما). المائدة / ٣٨.

(٢) قال الله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ.) النور / ٢.

وتقريب الاستدلال : أنّ الجلد والقطع ثابتان للزاني والسارق أو الزانية والسارقة ، ولو لا وضع المشتقّ للأعمّ فلا يصدقان على من انقضى عنه الزنا والسرقة ، فلا موضوع لإجرائهما.

(٣) لأنّ الزنا والسرقة من العناوين الدخيلة في الحكم حدوثا ، لا بقاء.

(٤) الظاهر أنّ المراد من المشتقّ هاهنا هو العناوين الاشتقاقيّة الاصطلاحيّة ، فلا يشمل الجوامد الجارية على الذات.

ولكن التحقيق أنّ ما استدلّ به على بساطة المشتقّ الاصطلاحيّ يدلّ على بساطة الجوامد الجارية على الذات أيضا ، فإنّ دليل انقلاب مادّة الإمكان إلى الضرورة ودليل التبادر يتأتّيان في الجوامد الجارية على الذات أيضا ، فتعميم النزاع غير مجازف.

(٥) وهو حاشيته على شرح المطالع.

١٠٠