كفاية الأصول - ج ١

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٦
ISBN: 978-964-470-184-9
الصفحات: ٢٩٦

السادس

[وضع المركّبات]

لا وجه لتوهّم وضع للمركّبات (١) غير وضع المفردات ، ضرورة عدم الحاجة إليه بعد وضعها بموادّها في مثل : «زيد قائم» و: «ضرب عمر وبكرا» ، شخصيّا ، وبهيئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعيّا ، ومنها (٢) خصوص هيئات المركّبات الموضوعة لخصوصيّات النسب والإضافات بمزاياها الخاصّة من تأكيد وحصر وغيرهما نوعيّا ، بداهة أنّ وضعها (٣) كذلك واف بتمام المقصود منها ، كما لا يخفى ، من غير حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها ، مع استلزامه الدلالة على المعنى تارة بملاحظة وضع نفسها واخرى بملاحظة وضع مفرداتها.

ولعلّ المراد من العبارات الموهمة لذلك هو وضع الهيئات على حدة (٤) غير وضع الموادّ ، لا وضعها بجملتها علاوة على وضع كلّ منهما.

__________________

(١) أي : الجملات المركّبة من الموادّ والهيئة. فالنزاع إنّما هو في وضع الجملة المركّبة منهما مجموعا ، وأمّا وضع المفردات بموادّها شخصيّا وبهيئتها وصورتها نوعيّا فلا اشكال فيه. ففي جملة «زيد قائم» ـ مثلا ـ لا إشكال في وضع مادّة «زيد» و «قائم» لمعناهما بالوضع الشخصيّ ووضع هيئة «زيد» للابتداء وهيئة «قائم» للخبر ، كما لا إشكال في وضع صورتهما الحاصلة من ضمّ أحدهما بالآخر في الجملة الاسميّة ، بل النزاع في وضع آخر لمجموع المادّة والهيئة.

(٢) أي : من الهيئات العارضة للموادّ.

(٣) أي : وضع المركّبات.

(٤) كهيئة : «زيد» الناشئة من إعرابه رفعا بالابتداء ؛ وهيئة «قائم» الناشئة من رفعه بالخبريّة.

٤١

السابع

[علامات الوضع وعدمه] (١)

[١ ـ التبادر وعدمه]

لا يخفى : أنّ تبادر المعنى من اللفظ وانسباقه (٢) إلى الذهن ـ من نفسه وبلا قرينة ـ علامة كونه حقيقة فيه (٣) ، بداهة أنّه لو لا وضعه له لما تبادر.

لا يقال : كيف يكون علامة؟ مع توقّفه (٤) على العلم بأنّه موضوع له ـ كما هو

__________________

(١) جعلنا عنوان البحث «علامات الوضع وعدمه» ، وإن كان المتعارف أنّه جعل عنوانه هكذا : «علامات الحقيقة والمجاز». وذلك لأنّه المناسب لما يبحث عنه في المقام ويستدلّ عليه.

بيان ذلك : أنّه قد يبحث حول المستعمل فيه الّذي استعمل اللفظ فيه فيقال : هل استعمل اللفظ في ما وضع له ـ أي مدلوله التصوريّ ـ فيكون استعمالا حقيقيّا ، أو استعمل في غيره ممّا يناسب الموضوع له فيكون استعمالا مجازيّا ، أو استعمل في غيره ممّا لا يناسبه فيكون استعماله غلطا؟ وهذا البحث خارج عمّا نحن بصدده في المقام.

وقد يبحث حول تشخيص المدلول التصوّري للّفظ ، أي الّذي وضع اللفظ بإزائه ، سواء استعمل اللفظ ويصدر من المتكلّم الملتفت أو لم يستعمل ويصدر من غيره. وهذا هو ما يبحث عنه في المقام ، فيقال ـ مثلا ـ : تبادر المعنى من حاقّ اللفظ يكشف عن أنّه المعنى الموضوع له ، فهو دليل على وجود العلقة بينه وبين اللفظ.

ومن هنا يظهر مواضع من الخلط في كلمات بعض المحقّقين ومنهم المصنّف رحمه‌الله كما سيأتي.

(٢) هكذا في النسخ. ولكن لا تساعد عليه اللغة ، بل الصحيح أن يقول : «وإسباقه».

(٣) أي : علامة كونه موضوعا له.

(٤) أي : التبادر.

٤٢

واضح ـ ، فلو كان العلم به موقوفا عليه (١) لدار.

فإنّه يقال : الموقوف عليه غير الموقوف عليه (٢) ، فإنّ العلم التفصيليّ بكونه موضوعا له موقوف على التبادر ، وهو موقوف على العلم الإجماليّ الارتكازيّ به ، لا التفصيليّ ، فلا دور. هذا إذا كان المراد به التبادر عند المستعلم. وأمّا إذا كان المراد به التبادر عند أهل المحاورة فالتغاير أوضح من أن يخفى.

ثمّ إن هذا فيما لو علم استناد الانسباق (٣) إلى نفس اللفظ ، وأمّا فيما احتمل استناده إلى قرينة فلا يجدي أصالة عدم القرينة في إحراز كون الاستناد إليه ، لا إليها ـ كما قيل (٤) ـ ، لعدم الدليل على اعتبارها إلّا في إحراز المراد لا الاستناد.

[٢ ـ عدم صحّة السلب وصحّته]

ثمّ إنّ عدم صحّة سلب اللفظ ـ بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن إجمالا كذلك (٥) ـ عن معنى تكون علامة كونه حقيقة فيه ، كما أنّ صحّة سلبه عنه علامة

__________________

(١) أي : لو كان العلم بالموضوع له موقوفا على التبادر.

(٢) أي : ما يتوقّف على التبادر غير ما يتوقّف التبادر عليه ، فإنّ ما يتوقّف على التبادر هو العلم التفصيليّ بالموضوع له ، وما يتوقّف التبادر عليه هو العلم الارتكازيّ الإجماليّ بالموضوع له ، فلا دور.

ولا يخفى ما فيه : فإنّا ننقل الكلام إلى المعلوم بالعلم الإجماليّ المكنون في خزانة النفس ، فهو أيضا لا بدّ له من سبب ، والسبب لا يخلو : إمّا أن يكون وجود العلقة الذاتيّة بين اللفظ والمعنى بحيث كلّ من سمعه ينتقل إلى المعنى إجمالا ، وقد عرفت بطلانه ؛ وإمّا أن يكون العثور على وجود العلقة الوضعيّة بينهما ، والعثور عليه لا يحصل إلّا بالمراجعة إلى الواضعين من أهل اللغة أو كتبهم أو المواجهة مع المحاورات والإطلاقات الرائجة بين أهل اللغة ، وحينئذ فكان تحصيل العلم بوجودها من التبادر تحصيلا للحاصل وعلى وجه دائر ، فلا يمكن دفع الدور بما ذكر.

(٣) هكذا في النسخ. ولكن لا تساعد عليه اللغة كما مرّ.

(٤) أي : كما قيل بجواز التمسّك بأصالة عدم القرينة في إحراز عدم الاستناد إلى القرينة. والقائل صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ٣٣.

(٥) أي : كالإجمال المذكور في التبادر.

٤٣

كونه مجازا في الجملة (١).

والتفصيل : أنّ عدم صحّة السلب عنه وصحّة الحمل عليه بالحمل الأوّلي الذاتيّ ـ الّذي كان ملاكه الاتّحاد مفهوما ـ علامة كونه نفس المعنى ، وبالحمل الشائع الصناعيّ ـ الّذي ملاكه الاتّحاد وجودا بنحو من أنحاء الاتّحاد (٢) ـ علامة كونه من مصاديقه وأفراده الحقيقيّة (٣). كما أنّ صحّة سلبه كذلك (٤) علامة أنّه ليس منهما (٥) ، وإن لم نقل بأنّ إطلاقه عليه من باب المجاز في الكلمة ، بل من باب الحقيقة وأنّ التصرّف فيه في أمر عقليّ (٦) ـ كما صار إليه السكّاكيّ (٧) ـ.

واستعلام حال اللفظ وأنّه حقيقة أو مجاز في هذا المعنى بهما ليس على وجه دائر ، لما عرفت في التبادر من التغاير بين الموقوف والموقوف عليه بالإجمال والتفصيل ، أو الإضافة إلى المستعلم والعالم ، فتأمّل جيّدا (٨).

__________________

(١) سواء كان مجازا في الكلمة أو مجازا ادّعائيّا.

والأولى أن يقول : «وصحّة سلبه عنه علامة كونه غير الموضوع له ، سواء كان ممّا يناسب الموضوع له أو لا يناسبه».

(٢) كالاتّحاد الصدوريّ في قولنا : «زيد ضارب» أو الحلوليّ في قولنا : «هذا الجسم أبيض» أو القياميّ في قولنا : «زيد قائم».

(٣) فيما إذا كان المحمول والمحمول عليه كلّيّا وفردا ، لا فيما إذا كانا كلّيّين متساويين أو غيرهما ، كما لا يخفى. منه رحمه‌الله.

(٤) أي : سلبا أوّليّا ذاتيّا أو شائعا صناعيّا.

(٥) وفي بعض النسخ : «منها» ، والأصحّ : «منهما» أي : ليس من مصاديق الموضوع له ولا نفس الموضوع له.

(٦) وأنت عرفت أنّ كون إطلاق اللفظ على المعنى من باب المجاز في الكلمة أو من باب الحقيقة مربوط بمقام الاستعمال لا الوضع ، فلا وجه لذكره في المقام.

(٧) مفتاح العلوم : ١٥٦.

(٨) ولا يخفى ما فيه ، فإنّ الدور لا يندفع بما ذكر ، كما مرّ في التبادر.

وأنكر بعض من المتأخّرين علاميّة صحّة الحمل وصحّة السلب ، منهم المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ١ : ٦٧ ـ ٦٨ ، والسيّدان المحقّقان : الخمينيّ والخوئيّ ، في مناهج الوصول ١ : ١٢٧ والمحاضرات ١ : ١١٦.

٤٤

[٣ ـ الاطّراد وعدمه]

ثمّ إنّه قد ذكر (١) الاطّراد وعدمه علامة للحقيقة والمجاز أيضا.

ولعلّه بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات ، حيث لا يطّرد صحّة استعمال اللفظ معها ، وإلّا فبملاحظة خصوص ما يصحّ معه الاستعمال فالمجاز مطّرد كالحقيقة (٢).

وزيادة قيد : «من غير تأويل» ، أو : «على وجه الحقيقة» (٣) وإن كان موجبا لاختصاص الاطّراد كذلك بالحقيقة ، إلّا أنّه حينئذ لا يكون علامة لها إلّا على وجه دائر. ولا يتأتّى التفصّي عن الدور بما ذكر في التبادر هاهنا (٤) ، ضرورة أنّه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطّراد أو بغيره (٥).

__________________

(١) الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ١٠ ، القوانين ١ : ٣٢ ، الفصول : ٣٨.

(٢) هذا دفع إشكال مقدّر.

حاصل الإشكال : أنّ الاطّراد حاصل بالنسبة إلى المعاني المجازيّة أيضا ، نظير استعمال لفظ «أسد» في زيد بلحاظ الشجاعة ، فإنّه يصحّ استعماله في غير زيد من أفراد الشجاع.

وحاصل الجواب : أنّ الملحوظ في استعمال المجازيّ نوع العلاقة كعلاقة المشابهة ، لا خصوصها ـ كالمشابهة بالشجاعة ـ ، وبملاحظة نوع العلاقة لا يطّرد الاستعمال ، بداهة أنّه لا يطّرد استعمال لفظ «أسد» في كلّ ما شابهه بلحاظ المشابهة ، إذ لا يصحّ استعماله في الجبّان الأبخر ولا الجبّان ذي العينين وهكذا.

(٣) كما زادهما صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ٣٨.

(٤) وفي بعض النسخ «هنا».

(٥) وفيه : أنّا لم تكن بصدد استعلام حال الاستعمال بالاطّراد ، بل كنّا بصدد استعلام حال الوضع والموضوع له بالاطّراد. فنقول : انّا إذا راجعنا إلى أهل لغة ورأينا أنّهم يستعملون لفظا ويريدون به معنى وكان استعماله في ذاك المعنى شائعا بحيث ينتقلون إلى ذاك المعنى بمجرّد سماعه ـ من أيّ فرد وفي أيّ مورد ـ يحصل لنا القطع بأنّه الموضوع له ، لأنّ صحّة الاستعمال ـ بعد فرض عدم استناده إلى القرينة ولا إلى ذات اللفظ ـ مستندة إلى الوضع.

والحاصل : أنّ شيوع استعمال لفظ في معنى خاصّ عند أهل لغة ـ من دون ذكر قرينة ـ يكشف عن أنّه الموضوع له ، فهذا طريقة إلى فهم المعنى الموضوع له كما أنّ تصريح ـ

٤٥

الثامن

[تعارض الأحوال]

أنّه للّفظ أحوال خمسة ، وهي : التجوّز والاشتراك والتخصيص والنقل والإضمار (١) ، لا يكاد يصار إلى أحدها فيما إذا دار الأمر بينه وبين المعنى

__________________

ـ الواضعين بالوضع طريقة اخرى إليه.

هذا كلّه لو كان المراد من الاطّراد ما ذكرناه ، وأمّا التقارير الأخر فلا تخلو من ضعف. فراجع نهاية الدراية ١ : ٥١ ، مناهج الوصول ١ : ١٢٩ ـ ١٣٠ ، محاضرات في اصول الفقه ١ : ١٢١ ـ ١٢٣.

تنبيه :

ثمّ لا يخفى : أنّه لا يترتّب على العلم بالوضع ثمرة عمليّة إلّا على القول بأنّ مدار حجيّة اللفظ على أصالة الحقيقة تعبّدا ، فيقال : إنّ مراد المستعمل هو المعنى الموضوع له ولو لم يكن اللفظ ظاهرا فيه ، فيستعلم المعنى الموضوع له ـ ولو بمعونة أصالة عدم النقل ـ ويحمل كلامه عليه. وأمّا لو كان مدار حجّيّة اللفظ على أصالة الظهور ـ كما هو التحقيق ـ فلا يترتّب على العلم بالموضوع له ثمرة عمليّة ، لأنّ كلام المستعمل يحمل على ما يكون ظاهرا فيه وإن كان ظهوره فيه مستندا إلى وجود القرينة ، ولا يحمل على ما لا يكون ظاهرا فيه وإن كان معنى حقيقيّا قد وضع اللفظ له.

(١) أمّا التجوّز فهو استعمال اللفظ فيما يناسب الموضوع له من جهة وجود العلاقة بينه وبين الموضوع له.

وأمّا الاشتراك فهو قسمان :

١ ـ الاشتراك اللفظيّ : وهو وضع لفظ لمعاني مختلفة بأوضاع متعدّدة.

٢ ـ الاشتراك المعنويّ : وهو وضع لفظ لمعنى عامّ له أفراده مختلفة. ـ

٤٦

الحقيقيّ (١) إلّا بقرينة صارفة عنه إليه.

وأمّا إذا دار الأمر بينها ، فالاصوليّون وإن ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوها (٢) إلّا أنّها استحسانيّة لا اعتبار بها إلّا إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى ، لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك ، كما لا يخفى.

__________________

ـ وأمّا التخصيص فهو اختصاص حكم العامّ ببعض أفراده.

وأمّا النقل فهو غلبة استعمال اللفظ الموضوع لمعنى في معنى آخر بحيث هجر المعنى الأوّل.

وأمّا الإضمار فهو تقدير شيء يتوقّف الكلام عليه.

(١) لا يخفى : أنّ تصوّر دوران الأمر بين المعنى الحقيقيّ والمجازيّ ظاهر. وتصوّره بين المعنى الحقيقيّ والمعنى المنقول أيضا بمكان من الإمكان ، بأن يقال : إنّ المراد من المعنى الحقيقيّ هو المعنى الموضوع له اللفظ بالوضع الأوّلي ، فيدور الأمر بينه وبين المعنى الموضوع له اللفظ بالوضع الثانويّ. وكذلك الحال في دوران الأمر بين المعنى الحقيقيّ والتخصيص بناء على أنّ التخصيص لا يوجب المجازيّة. وأمّا دوران الأمر بين المعنى الحقيقيّ والمشترك اللفظيّ أو المشترك المعنويّ فلا يتصوّر ، لأنّ المعنى المشترك أيضا معنى حقيقيّ ، فلا يعدّ قسيما للمعنى الحقيقيّ حتّى يتصوّر دوران الأمر بينهما.

(٢) راجع الفصول الغرويّة : ٤٠ ، وقوانين الاصول ١ : ٣٢.

٤٧

التاسع

[الحقيقة الشرعيّة]

أنّه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعيّة (١) وعدمه على أقوال.

[تمهيد مقال]

وقبل الخوض في تحقيق الحال لا بأس بتمهيد مقال ، وهو : أنّ الوضع التعيينيّ كما يحصل بالتصريح بإنشائه (٢) كذلك يحصل باستعمال اللفظ في غير ما وضع له كما إذا وضع له ، بأنّ يقصد الحكاية عنه والدلالة عليه بنفسه لا بالقرينة (٣) ، وإن كان لا بدّ حينئذ من نصب قرينة ، إلّا أنّه للدلالة على ذلك (٤) ، لا على إرادة المعنى كما

__________________

(١) وهي الحقيقة الثانوية الّتي وضع لها اللفظ بالوضع الثانويّ الصادر من الشارع بعد ما كان موضوعا بالوضع الأوّلى في معنى آخر لغويّ.

وتحرير النزاع : أنّه لا اشكال في أنّ الشارع استعمل ألفاظا وأراد منها معان معيّنة مستحدثة غير معانيها اللغويّة ، انّما الكلام في أنّه هل نقلها من المعاني اللغويّة ووضعها بالوضع الثانويّ في هذه المعانيّ المستحدثة فيثبت الحقيقة الشرعيّة ، أو لم ينقلها ، بل استعملها فيها بنحو المجاز؟

(٢) بأن يقول الواضع : «وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى».

(٣) أي : كذلك يتحقّق بنفس استعمال اللفظ في معنى مستحدث على سبيل الوضع بقصد الحكاية عن المعنى المستحدث بنفس اللفظ ـ كما كان كذلك حين استعماله في المعنى اللغويّ السابق ـ ، لا بالقرينة حتّى يكون من استعمال اللفظ في غير الموضوع له.

(٤) أي : لا بدّ من نصب قرينة على إرادة الوضع الثانويّ.

٤٨

في المجاز ، فافهم.

وكون استعمال اللفظ فيه كذلك [استعمالا] (١) في غير ما وضع له بلا مراعاة ما اعتبر في المجاز فلا يكون بحقيقة ولا مجاز ، غير ضائر بعد ما كان ممّا يقبله الطبع ولا يستنكره. وقد عرفت سابقا (٢) أنّه في الاستعمالات الشائعة في المحاورات ما ليس بحقيقة ولا مجاز (٣).

[ثبوت الحقيقة الشرعيّة]

إذا عرفت هذا ، فدعوى الوضع التعيينيّ في الألفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جدّا ، ومدّعي القطع به غير مجازف قطعا (٤). ويدّل عليه تبادر المعاني الشرعيّة منها في محاوراته (٥).

ويؤيّد ذلك أنّه ربما لا تكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعيّة واللغويّة ، فأيّ

__________________

(١) ما بين المعقوفتين ليس في النسخ ، ولكن لا بدّ منه ، فيكون معنى العبارة : كون استعمال اللفظ في المعنى المستحدث بقصد الوضع الثانويّ استعمالا في غير ما وضع له بلا مراعاة ما اعتبر في المجاز ، فلا يكون الاستعمال حقيقيّا حيث لم يستعمل في الموضوع له ولا مجازيّا حيث لم يلاحظ وجود العلاقة بينه وبين المعنى المستحدث. هذا كلّه مبتدأ ، وخبره «غير ضائر».

(٢) في الأمر الرابع : ٣٥.

(٣) كاستعمال اللفظ في نوعه أو مثله.

(٤) أورد عليه المحقّق النائينيّ بأنّ حقيقة الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى وإلقاء المعنى في الخارج بحيث تكون الألفاظ مغفولا عنها. فالاستعمال يستدعي أن يكون النظر إلى الألفاظ آليّا ، والوضع يستدعي أن يكون النظر إليها استقلاليّا ، لأنّه جعل الارتباط بين اللفظ والمعنى ، فالجمع بين الوضع والاستعمال في شيء يلازم الجمع بين اللحاظ الآليّ والاستقلاليّ ، وهو محال. أجود التقريرات ١ : ٣٣.

ودفعه المحقّق العراقيّ بما حاصله : أنّ متعلّق اللحاظ الاستقلاليّ في حال الوضع هو طبيعيّ اللفظ ، ومتعلّق اللحاظ الآليّ في حال الاستعمال هو مصداق اللفظ ، إذ به تكون الحكاية ، فلا يلزم من انشاء الوضع بالاستعمال اجتماع لحاظين في شيء واحد. بدائع الأفكار ١ : ٣٣.

والمحقّق الاصفهانيّ قرّب الإشكال بوجه ثان ، ثمّ دفعه بوجه آخر. راجع نهاية الدراية ١ : ٥٢ ، وبحوث في الاصول ١ : ٣٢.

(٥) مرّ ما في علاميّة التبادر ، فراجع.

٤٩

علاقة بين الصّلاة شرعا (١) والصّلاة بمعنى الدعاء؟ ومجرّد اشتمال الصّلاة على الدعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء والكلّ بينهما ، كما لا يخفى (٢).

هذا كلّه بناء على كون معانيها مستحدثة في شرعنا.

وأمّا بناء على كونها ثابتة في الشرائع السابقة ـ كما هو قضيّة غير واحد من الآيات ، مثل قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (٣) ، وقوله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) (٤) ، وقوله تعالى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا)(٥) ... إلى غير ذلك ـ فألفاظها حقائق لغويّة (٦) لا شرعيّة (٧). واختلاف الشرائع فيها جزءا وشرطا لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهيّة ، إذ لعلّه كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحقّقات ، كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا ، كما لا يخفى.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه مع هذا الاحتمال (٨) لا مجال لدعوى الوثوق ، فضلا عن القطع بكونها حقائق شرعيّة ، ولا لتوهّم دلالة الوجوه الّتي ذكروها على ثبوتها لو سلّم دلالتها على الثبوت لولاه (٩).

__________________

(١) وهي الحركات المخصوصة.

(٢) وذلك لأنّ شرط العلاقة المصحّحة ـ في علاقة الكلّ والجزء ـ هو كون الجزء ممّا ينتفي الكلّ بانتفائه ، وليس الدعاء في الصلاة كذلك.

(٣) البقرة / ١٨٣.

(٤) الحجّ / ٢٧.

(٥) مريم / ٣١.

(٦) إذ استعملها الشارع في معانيها المعهودة الثابتة في اللغة.

(٧) أورد عليه تلميذه المحقّق الاصفهانيّ بما حاصله : أنّ ثبوت هذه المعاني في الشرائع السابقة لا يضرّ بثبوت الحقيقة الشرعيّة في شرعنا ، لأنّ معنى الحقيقة الشرعيّة ليس جعل المعنى ، بل هي جعل اللفظ بإزاء المعنى المستحدث وتسميته بذلك ، وأمّا مجرّد ثبوتها هنا لا يلازم التسمية بهذه الألفاظ الخاصّة ، بل ـ لو فرض ثبوتها هناك ـ يعبّر عنها بألفاظ سريانيّة أو عبرانيّة. نهاية الدراية ١ : ٥٥.

(٨) أي : احتمال ثبوتها في الشرائع السابقة وكون ألفاظها حقائق لغويّة. وهذا الاحتمال منسوب إلى الباقلانيّ كما في شرح العضديّ ١ : ٥١ ـ ٥٢.

(٩) أي : لو سلّم دلالة تلك الوجوه على ثبوت الحقيقة الشرعيّة لو لا هذا الاحتمال.

٥٠

ومنه قد انقدح حال دعوى الوضع التعيّنيّ معه (١). ومع الغضّ عنه فالإنصاف أنّ منع حصوله (٢) في زمان الشارع (٣) في لسانه ولسان تابعيه مكابرة. نعم حصوله في خصوص لسانه ممنوع ، فتأمّل.

[ثمرة البحث]

وأمّا الثمرة بين القولين فتظهر في لزوم حمل الألفاظ الواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على معانيها اللغويّة مع عدم الثبوت ، وعلى معانيها الشرعيّة على الثبوت فيما إذا علم تأخّر الاستعمال (٤). وفيما إذا جهل التأريخ ففيه إشكال. وأصالة تأخّر الاستعمال ـ مع معارضتها بأصالة تأخّر الوضع ـ لا دليل على اعتبارها تعبّدا إلّا على القول بالأصل المثبت(٥). ولم يثبت بناء من العقلاء على التأخّر مع الشّك. وأصالة عدم النقل (٦) إنّما كانت معتبرة فيما إذا شكّ في أصل النقل ، لا في تأخّره ، فتأمّل (٧).

__________________

(١) أي : مع هذا الاحتمال.

(٢) أي : حصول الوضع التعيّنيّ.

(٣) وهو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٤) وأنكر المحقّق النائينيّ وجود أيّة ثمرة للبحث عن هذه المسألة ، لأنّ ألفاظ الكتاب والسنّة الّتي وصلت إلينا يدا بيد كان المراد منها معلوما ، فليس لنا مورد نشكّ في المراد الاستعماليّ منه. أجود التقريرات : ١ : ٣٣.

وتبعه السيّدان العلمان : الخمينيّ والخوئيّ ، فراجع مناهج الوصول ١ : ١٣٨ ، ومحاضرات في اصول الفقه ١ : ١٣٣.

(٥) لأنّه يرجع إلى استصحاب عدم الاستعمال إلى حين الوضع ، وهو ملازم لتأخّر الاستعمال عن الوضع وثبوته بعده.

(٦) بمعنى استصحاب عدم النقل إلى ما قبل الاستعمال ، وهو أصل عقلائيّ يسمّى بالاستصحاب القهقريّ.

(٧) لعلّه إشارة إلى سقوط الثمرة السابقة ، لما ذكره المحقّق النائينيّ ، كما مرّ.

٥١

العاشر

[الصحيح والأعمّ]

أنّه وقع الخلاف في أنّ ألفاظ العبادات أسام لخصوص الصحيحة أو للأعمّ منها (١).

وقبل الخوض في ذكر أدلّة القولين يذكر امور :

[١ ـ ابتناء النزاع على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة]

منها : أنّه لا شبهة في تأتّي الخلاف على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة (٢). وفي جريانه على القول بالعدم إشكال.

وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره (٣) : أنّ النزاع وقع على هذا في أنّ الأصل

__________________

(١) وقد يقال : «ألفاظ العبادات هل هي موضوعة بإزاء خصوص الصحيحة أو الأعمّ؟».

(٢) فيقال : «إنّ ألفاظ العبادات هل وضعها الشارع بالوضع الثانويّ لخصوص الصحيحة من العبادات أو لما يعمّ الفاسدة منها؟».

(٣) أي : تصوير الخلاف على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة. وهذا التصوير ذكره الشيخ الأعظم الأنصاريّ ـ على ما في تقريرات بحثه : ٣ ـ. وحاصله : أنّه لا شكّ أنّ استعمال ألفاظ العبادات في معانيها استعمال في غير الموضوع له ـ على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة ـ ، واستعمال اللفظ في غير الموضوع له غلط إلّا فيما إذا كان بينه وبين المعنى الموضوع له علاقة بها يصحّح الاستعمال ، كي يكون استعمال ألفاظ العبادات في معانيها استعمالا ـ

٥٢

في هذه الألفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الأعمّ ، بمعنى أنّ أيّهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغويّة ابتداء وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبته ، كي ينزّل كلامه عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغويّة وعدم قرينة اخرى معيّنة للآخر.

وأنت خبير بأنّه لا يكاد يصحّ هذا إلّا إذا علم أنّ العلاقة إنّما اعتبرت كذلك ، وأنّ بناء الشارع في محاوراته استقرّ ـ عند عدم نصب قرينة اخرى (١) ـ على إرادته (٢) ، بحيث كان هذا (٣) قرينة عليه (٤) من غير حاجة إلى قرينة معيّنة اخرى ، وأنّى لهم بإثبات ذلك (٥).

وقد انقدح بما ذكرنا تصوير النزاع على ما نسب إلى الباقلانيّ (٦) ، وذلك بأن يكون النزاع في أنّ قضيّة القرينة المضبوطة (٧) الّتي لا يتعدّى عنها إلّا بالاخرى الدالّة على أجزاء المأمور به وشرائطه هي تمام الأجزاء والشرائط أو هما في الجملة ، فلا تغفل.

__________________

ـ مجازيّا. انّما الكلام في أنّ العلاقة هل اعتبرت ابتداء بين الموضوع له وبين خصوص الصحيحة من المعاني الشرعيّة ثمّ استعملت فيما يعمّ الفاسدة بالتبع والمناسبة فيكون من قبيل سبك مجاز في مجاز أم اعتبرت ابتداء بين الموضوع له وبين ما يعمّ الفاسدة؟ فعلى الأوّل تحمل الألفاظ على خصوص الصحيحة فيما إذا لم تقم قرينة على تعيين أحد المعنيين ـ بعد قيام قرينة صارفة عن الموضوع له ـ ، وعلى الثاني تحمل على الأعمّ.

(١) غير القرينة الصارفة عن المعنى اللغويّ الّتي لا بدّ منها.

(٢) أي : إرادة خصوص المعنى الّذي اعتبرت العلاقة ابتداء بينه وبين المعنى اللغويّ.

(٣) أي : هذا البناء.

(٤) هكذا في جميع النسخ. والصحيح أن يقول : «وعليها» ، فإنّ الضمير يرجع إلى إرادة أحد المعنيين بالخصوص.

(٥) وقد ذكر المحقّق النائينيّ وجها آخر في التصوير لا يتوقّف على اثبات ما ذكره المصنّف.

فراجع فوائد الاصول ١ : ٥٩ ، أجود التقريرات ١ : ٣٤.

(٦) وحاصله : أنّ ألفاظ العبادات استعملت في معانيها اللغويّة ، وأمّا المعاني الشرعيّة فاريدت بالقرائن من قبيل تعدّد الدالّ والمدلول. شرح العضديّ ١ : ٥١ ـ ٥٢.

(٧) فإنّ النزاع ـ حينئذ ـ يقع في القرائن ، لا في نفس الألفاظ.

٥٣

[٢ ـ معنى الصحّة والفساد]

ومنها : أنّ الظاهر أنّ الصحّة عند الكلّ بمعنى واحد ، وهو التماميّة. وتفسيرها بإسقاط القضاء ـ كما عن الفقهاء ـ أو بموافقة الشريعة ـ كما عن المتكلّمين ـ أو غير ذلك إنّما هو بالمهمّ من لوازمها (١) ، لوضوح اختلافه (٢) بحسب اختلاف الأنظار. وهذا لا يوجب تعدّد المعنى ، كما لا يوجبه اختلافها بحسب الحالات من السفر والحضر والاختيار والاضطرار إلى غير ذلك ، كما لا يخفى.

ومنه ينقدح : أنّ الصحّة والفساد أمران إضافيّان (٣) ، فيختلف شيء واحد صحّة وفسادا بحسب الحالات ، فيكون تامّا بحسب حالة وفاسدا بحسب اخرى ، فتدبّر جيّدا.

[٣ ـ لزوم قدر جامع على القولين]

ومنها : أنّه لا بدّ على كلا القولين من قدر جامع في البين كان هو المسمّى بلفظ كذا(٤).

__________________

(١) وأورد عليه المحقّق الاصفهانيّ بما حاصله : أنّ حيثيّة القضاء وموافقة الشريعة وغيرهما ليست من لوازم التماميّة بالدقّة ، بل هي من الحيثيّات الّتي يتمّ بها حقيقة التماميّة حيث لا رافع للتماميّة إلّا التماميّة من حيث إسقاط القضاء أو من حيث موافقة الأمر وغيرهما ، واللازم ليس من متمّمات معنى ملزومه. نهاية الدراية ١ : ٥٨ ـ ٥٩.

وأجاب عنه السيّد المحقّق الخوئيّ بأنّ للتماميّة واقعيّة مستقلّة هي : جامعيّة الأجزاء والشرائط ، فلها واقعيّة قطع النظر عن إسقاط القضاء وموافقة الشريعة وغيرهما ، وليست هذه الامور إلّا من آثار التماميّة ولوازمها. محاضرات في اصول الفقه ١ : ١٣٥ ـ ١٣٦.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ الجامعيّة والتماميّة والصحّة أوصاف وجوديّة تعرض الشيء الموجود ، فهي كيفيّات عرضيّة ، والأعراض لا واقع لها مستقلّا حتّى تكون موجودة في نفسه لنفسه ، بل هي وجودات غير مستقلّة ومن نوع الوجود في نفسه لغيره ، فإسقاط القضاء وموافقة الشريعة وغيرهما ليست من مقوّمات التماميّة ولا من آثارها ولوازمها ، بل هي من آثار الشيء الموجود المتّصف بالتماميّة.

(٢) أي : اختلاف المهمّ.

(٣) وقد خالفه السيّد الإمام الخمينيّ وذهب إلى أنّ الصحّة والفساد كيفيّتان وجوديّتان عارضتان للشيء في الوجود الخارجيّ وبينهما تقابل التضادّ. مناهج الوصول ١ : ١٤٣ ـ ١٤٤.

(٤) وخالفه المحقّق النائيني وذهب إلى أنّه لا ضرورة تدعو إلى تصوير جامع وحدانيّ ـ

٥٤

ولا إشكال في وجوده بين الأفراد الصحيحة ، وإمكان الإشارة إليه بخواصّه وآثاره (١) ، فإنّ الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثّر الكلّ فيه (٢) بذاك الجامع (٣) ، فيصحّ تصوير المسمّى بلفظ الصلاة ـ مثلا ـ ب «الناهية عن الفحشاء» و «ما هو معراج المؤمن» ونحوهما (٤).

__________________

ـ يشترك فيه جميع الأفراد ، بل يمكن الالتزام بوضع لفظ العبادة ـ كالصلاة ـ في المرتبة العليا من مراتبها بالخصوص ، وهي المرتبة الواجدة لتمام الأجزاء والشرائط ـ أي الصلاة المختارة ـ. فالموضوع له على قول الصحيحيّ أو الأعمىّ هو المرتبة العليا. ويستعمل اللفظ في غيرها على كلا القولين ـ من الادّعاء والتنزيل ـ ، غاية الأمر أنّ الصحيحيّ يدّعي أنّ استعمال لفظ الصّلاة في بقيّة المراتب الصحيحة من باب الادّعاء وتنزيل الفاقد منزلة الواجد أو من باب الاشتراك في الأثر ، والأعمّي يدّعي أنّ استعماله في بقيّة مراتب الصّلاة من باب العناية والتنزيل أو الاشتراك في الأثر. أجود التقريرات ١ : ٣٦.

ولا يخفى : أنّ المرتبة العليا من كلّ عبادة هي العبادة المأمور بها ، وهي تختلف باختلاف الأصناف والأحوال ، فلا بدّ من تصوير الجامع الّذي يكون اللفظ موضوعا بإزائه.

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «بخواصّها وآثارها» فإنّ الضميرين يرجعان إلى الأفراد الصحيحة. والأولى أن يقول : «وإمكان الإشارة إليه ـ أي إلى الجامع ـ بخواصّها وآثارها المشتركة».

(٢) أي : في ذلك الأثر.

(٣) وهو لقاعدة فلسفيّة ، هي : «الواحد لا يصدر إلّا من الواحد».

(٤) نحو : «ما هو قربان كلّ تقيّ» و «ما هو عمود الدين».

وقد خالفه الأعلام الثلاثة :

أمّا المحقّق الاصفهانيّ فخالفه وأورد عليه بوجوه :

الأوّل : أنّه لا يتصوّر وجود جامع ذاتيّ مقوليّ لأفراد الصّلاة ، لأنّها مؤلّفة من مقولات متباينة لا تندرج تحت مقولة واحدة ، فإنّ المقولات أجناس عالية لا جنس فوقها.

الثاني : أنّه لو فرض وجود الجامع البسيط المقوليّ المتّحد مع الأفراد الخارجيّة يلزم منه اتّحاد البسيط مع المركّب ، وهو ممتنع.

الثالث : أنّ النهي عن الفحشاء أثر واحد عنوانا لا حقيقة ، لاختلاف أنحائه حقيقة باختلاف مراتب أنحاء الفحشاء ، فهو لا يكشف عن وحدة المؤثّر حقيقة.

الرابع : أنّه لو كان الجامع المقوليّ الذاتيّ معقولا لم يكن مختصّا بالصحيحيّ ، بل يعمّ الأعميّ ، لأنّ مراتب الصحيحة والفاسدة متداخلة حيث أنّ ذات الأجزاء والشرائط قابلة للصحّة والفساد بلحاظ اختلاف حالها. ـ

٥٥

والإشكال فيه (١) : ب «أنّ الجامع لا يكاد يكون أمرا مركّبا ، إذ كلّ ما فرض جامعا يمكن أن يكون صحيحا وفاسدا ، لما عرفت. ولا أمرا بسيطا ، لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون هو عنوان المطلوب أو ملزوما مساويا له (٢) ، والأوّل غير معقول ، لبداهة استحالة أخذ ما لا يتأتّى (٣) إلّا من قبل الطلب في متعلّقه ؛ مع لزوم الترادف بين لفظة الصّلاة والمطلوب ؛ وعدم جريان البراءة مع الشكّ في أجزاء العبادات وشرائطها ، لعدم الإجمال حينئذ في المأمور به فيها ، وإنّما الإجمال فيما يتحقّق به ، وفي مثله لا مجال لها ـ كما حقّق في محلّه ـ ، مع أنّ المشهور القائلين بالصحيح قائلون بها في الشكّ فيها. وبهذا يشكل لو كان البسيط هو ملزوم المطلوب أيضا».

مدفوع : بأنّ الجامع إنّما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المركّبات المختلفة

__________________

ـ ثمّ ذكر وجها للجامع الصحيحيّ ، حاصله : أنّ الجامع لا ينحصر في الجامع المقوليّ والعنوانيّ ، بل لنا أن نلتزم بثبوت جامع آخر للأفراد الصحيحة ، وهو سنخ عمل مبهم مركّب من جملة أجزاء يعرّفه جهة نهيه عن الفحشاء ، وبذلك يقتصر في صدقه على خصوص الأفراد الصحيحة. نهاية الدراية ١ : ٦١ ـ ٦٤.

وأمّا المحقّق العراقيّ ـ بعد ملاحظة ما في كلام المصنّف رحمه‌الله وعدم ارتضائه بما ذكره المحقّق الاصفهانيّ ـ فصوّر الجامع ببيان آخر ، حاصله : أنّ الجامع لا ينحصر في المقوليّ والعنوانيّ ، بل لنا فرض جامع آخر ، وهو المرتبة الخاصّة من الوجود الساري في المقولات المتباينة ماهيّة. بدائع الأفكار ١ : ١١٦ ـ ١١٨.

وأمّا المحقّق النائينيّ فهو ـ بعد ذكر ما يرد على الجامع الصحيحيّ الّذي صوّره المحقّق الخراسانيّ ـ أنكر وجود الجامع الصحيحيّ. فوائد الاصول ١ : ٦٥ ـ ٧٤.

وفي كلماتهم بعض ملاحظات ذكر بعضها السيّدان العلمان : الخوئيّ والخمينيّ ، فراجع المحاضرات ١ : ١٤٤ ـ ١٥٥ ، ومناهج الوصول ١ : ١٤٨ ـ ١٥٥.

(١) والمستشكل هو الشيخ الأعظم الأنصاريّ على ما في تقريرات بحثه ، فراجع مطارح الأنظار : ٦.

(٢) وفي مطارح الأنظار : ٦ : «أو ما هو في مرتبته أو ملزوما مساويا له». ثمّ أورد الإشكال الأوّل «لبداهة ...» والثاني «مع لزوم الترادف ...» على فرض كون الجامع عنوان المطلوب أو ما هو في مرتبته. وأورد الإشكال الثالث «وعدم جريان البراءة ...» على فرض كونه ملزوما مساويا له.

(٣) هكذا في جميع النسخ. والأولى أن يقول : «يأتي».

٥٦

ـ زيادة ونقيصة بحسب اختلاف الحالات ـ متّحد معها نحو اتّحاد (١) ، وفي مثله تجري البراءة ، وإنّما لا تجري فيما إذا كان المأمور به أمرا واحدا خارجيّا مسبّبا عن مركّب مردّد بين الأقلّ والأكثر ، كالطهارة المسبّبة عن الغسل والوضوء فيما إذا شكّ في أجزائهما.

هذا على الصحيح.

وأمّا على الأعمّ ، فتصوير الجامع في غاية الإشكال ، فما قيل في تصويره أو يقال وجوه :

أحدها : أن يكون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة كالأركان في الصّلاة ـ مثلا ـ وكان الزائد عليها معتبرا في المأمور به ، لا في المسمّى (٢).

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ التسمية بها حقيقة لا تدور مدارها ، ضرورة صدق الصّلاة مع الإخلال ببعض الأركان (٣) ، بل وعدم الصدق عليها مع الإخلال بسائر الأجزاء والشرائط عند الأعميّ (٤) ؛ مع أنّه يلزم أن يكون الاستعمال فيما هو المأمور به بأجزائه وشرائطه مجازا عنده ، وكان من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكلّ (٥) ، لا من باب إطلاق الكلّيّ على الفرد والجزئيّ ـ كما هو واضح ـ ، ولا يلتزم به القائل بالأعمّ ، فافهم.

ثانيها : أن تكون موضوعة لمعظم الأجزاء الّتي تدور مدارها التسمية عرفا.

__________________

(١) من قبيل اتّحاد الكلّي مع أفراده.

(٢) وهذا ما استظهره الشيخ الأعظم الأنصاريّ ـ على ما في مطارح الأنظار : ٧ ـ من كلام المحقّق القميّ في قوانين الاصول ١ : ٦٠.

وذهب إليه السيّد المحقّق الخوئيّ ـ بعد دفع ما أورد عليه المصنّف والمحقّق النائينيّ ـ. محاضرات في اصول الفقه ١ : ١٥٧ ـ ١٦٣.

(٣) كما تصدق الصّلاة على صلاة الجالس الفاقدة للقيام ، فلا يكون هذا الجامع منعكسا.

(٤) فلا يكون هذا الجامع مطّردا.

(٥) لأنّ اللفظ موضوع لخصوص الأركان ، فاستعماله في المجموع وإطلاقه على الواجد لجميع الأجزاء والشرائط استعمال للّفظ الموضوع للجزء في الكلّ ، وهو مجاز.

٥٧

فصدق الاسم كذلك يكشف عن وجود المسمّى ، وعدم صدقه عن عدمه (١).

وفيه ـ مضافا إلى ما اورد على الأوّل أخيرا (٢) ـ : أنّه عليه يتبادل ما هو المعتبر في المسمّى ، فكان شيء واحد داخلا فيه تارة وخارجا عنه اخرى ، بل مردّدا بين أن يكون هو الخارج أو غيره عند اجتماع تمام الأجزاء ، وهو كما ترى ، سيّما إذا لوحظ هذا مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات (٣).

ثالثها : أن يكون وضعها كوضع الأعلام الشخصيّة ك «زيد» ، فكما لا يضرّ في التسمية فيها (٤) تبادل الحالات المختلفة من الصغر والكبر ونقص بعض الأجزاء وزيادته ، كذلك فيها (٥).

وفيه : أنّ الأعلام إنّما تكون موضوعة للأشخاص ، والتشخّص إنّما يكون بالوجود الخاصّ ، ويكون الشخص حقيقة باقيا ما دام وجوده باقيا وإن تغيّرت عوارضه من الزيادة والنقصان وغيرهما من الحالات والكيفيّات ، فكما لا يضرّ اختلافها في التشخّص لا يضرّ اختلافها في التسمية. وهذا بخلاف مثل ألفاظ العبادات ممّا كانت موضوعة للمركّبات والمقيّدات ، ولا يكاد يكون موضوعا له إلّا ما كان جامعا لشتاتها وحاويا لمتفرّقاتها ، كما عرفت في الصحيح منها.

رابعها : أنّ ما وضعت له الألفاظ ابتداء هو الصحيح التامّ الواجد لتمام الأجزاء

__________________

(١) هذا منسوب إلى جماعة من القائلين بالأعمّ ، راجع مطارح الأنظار : ٨.

(٢) وهو لزوم المجازيّة في استعمال اللفظ في الكلّ.

(٣) فإنّ معظم الأجزاء في صلاة المختار هو النيّة والتكبيرة والركوع والتشهّد والقيام ـ مثلا ـ ، وهو في صلاة العاجز عن القيام تلك الامور مجرّدة عن القيام ، فجزء واحد قد يكون داخلا في المعظم وقد يكون خارجا عنه ، فلا يعلم أنّ القيام داخل في المعظم أو خارج عنه.

وهذا الإيراد دفعه المحقّق الاصفهانيّ وصحّح كون الجامع هو المعظم بنحو آخر. وحاصله : أنّ إشكال تبادل أجزاء ماهيّة واحدة انّما يرد إذا لوحظت الأجزاء معيّنة لا مبهمة ، فيمكن تصحيح كون الجامع هو المعظم بنحو الإبهام. وتقريبه : أنّ الجامع الموضوع له هو سنخ عمل مبهم إلّا من بعض الجهات ، وهو قابل للانطباق على الكثير والقليل ، وتكون نسبته إلى الأفراد نسبة الكلّي إلى أفراده ، فيصدق على الأفراد المتبادلة بنحو البدل. نهاية الدراية ١ : ٧٦.

(٤) أي : في الأعلام الشخصيّة.

(٥) أي : في ألفاظ العبادات.

٥٨

والشرائط ، إلّا أنّ العرف يتسامحون ـ كما هو ديدنهم (١) ـ ويطلقون تلك الألفاظ على الفاقد للبعض تنزيلا له منزلة الواجد ، فلا يكون مجازا في الكلمة ـ على ما ذهب إليه السكّاكي في الاستعارة (٢) ـ ، بل يمكن دعوى صيرورته حقيقة فيه بعد الاستعمال فيه كذلك (٣) دفعة أو دفعات ، من دون حاجة إلى الكثرة والشهرة ، للانس الحاصل من جهة المشابهة في الصورة أو المشاركة في التأثير. كما في أسامي المعاجين الموضوعة ابتداء لخصوص مركّبات واجدة لأجزاء خاصّة ، حيث يصحّ إطلاقها على الفاقد لبعض الأجزاء المشابه له صورة والمشارك (٤) في المهمّ أثرا ، تنزيلا أو حقيقة.

وفيه : أنّه إنّما يتمّ في مثل أسامي المعاجين وسائر المركّبات الخارجيّة ممّا يكون الموضوع له فيها ابتداء مركّبا خاصّا. ولا يكاد يتمّ في مثل العبادات الّتي عرفت أنّ الصحيح منها يختلف حسب اختلاف الحالات وكون الصحيح بحسب حالة فاسدا بحسب حالة اخرى ، كما لا يخفى ، فتأمّل جيّدا.

خامسها : أن يكون حالها حال أسامي المقادير والأوزان ، مثل المثقال والحقّة والوزنة إلى غير ذلك ممّا لا شبهة في كونها حقيقة في الزائد والناقص في الجملة ، فإنّ الواضع وإن لاحظ مقدارا خاصّا إلّا أنّه لم يضع له بخصوصه ، بل للأعمّ منه ومن الزائد والناقص ، أو أنّه وإن خصّ به أوّلا إلّا أنّه بالاستعمال كثيرا فيهما (٥) ـ بعناية أنّهما منه ـ قد صار حقيقة في الأعمّ ثانيا.

وفيه : أنّ الصحيح ـ كما عرفت في الوجه السابق ـ يختلف زيادة ونقيصة فلا يكون هناك ما يلاحظ الزائد والناقص بالقياس عليه كي يوضع اللفظ لما هو الأعمّ ، فتدبّر جيّدا.

__________________

(١) أي : دأبهم وعادتهم.

(٢) مفتاح العلوم : ١٥٦.

(٣) أي : يمكن دعوى صيرورة اللفظ حقيقة في الفاقد بعد استعماله فيه تنزيلا له منزلة الواجد.

(٤) المشابه والمشارك وصفان لقوله : «الفاقد».

(٥) أي : في الزائد والناقص.

٥٩

[٤ ـ الوضع والموضوع له في ألفاظ العبادات]

منها : أنّ الظاهر أن يكون الوضع والموضوع له في ألفاظ العبادات عامّين.

واحتمال كون الموضوع له خاصّا بعيد جدّا ، لاستلزامه كون استعمالها في الجامع ـ في مثل : «الصّلاة تنهى عن الفحشاء» (١) و «الصّلاة معراج المؤمن» (٢) و «عمود الدين» (٣) و «الصوم جنّة من النار» (٤) ـ مجازا ، أو منع استعمالها فيه في مثلها. وكلّ منهما بعيد إلى الغاية (٥) ، كما لا يخفى على اولي النهاية (٦).

[٥ ـ ثمرة النزاع]

ومنها : أنّ ثمرة النزاع إجمال الخطاب على القول الصحيحيّ (٧) وعدم جواز الرجوع إلى إطلاقه في رفع ما إذا شكّ في جزئيّة شيء للمأمور به أو شرطيّته أصلا ، لاحتمال دخوله في المسمّى كما لا يخفى (٨) ، وجواز الرجوع إليه في ذلك على

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ). العنكبوت / ٤٥.

(٢) الاعتقادات للشيخ ٢ : ٣٩.

(٣) دعائم الإسلام ١ : ١٣٣. وسقط في بعض النسخ.

(٤) المحاسن (للبرقي) : ٢٨٦ ، الحديث ٤٣٠.

(٥) أمّا الأوّل : فلأنّ استعمال الألفاظ الموضوعة للأفراد في الجامع يحتاج إلى قرينة ، وهي مفقودة في المقام. وأمّا الثاني : فلأنّ المتبادر إلى الذهن في مثل هذه التراكيب طبيعيّ الصّلاة ، لا أفرادها.

(٦) هكذا في جميع النسخ. والأولى أن يقول : «اولى النهى» ، فإنّ النهى جمع النهية أي : العقل.

وأمّا النهاية فليس معناها إلّا غاية الشيء ، وهو لا يناسب المقام.

(٧) هكذا في جميع النسخ. والصحيح أن يقول : «قول الصحيحيّ».

(٨) بيان ذلك : أنّ إحراز صدق اللفظ المطلق على الفرد المشكوك فيه شرط في التمسّك بالإطلاق. وهذا مفقود في المقام على القول بوضع اللفظ للصحيح ، لأنّ كلّ ما يشكّ في اعتباره ـ جزءا وشرطا ـ في المأمور به يحتمل أن يكون دخيلا في المسمّى ، فلا يحرز صدق اللفظ على فاقده حتّى يتمسّك بإطلاقه في نفى اعتباره في المأمور به. وأمّا على القول بوضع اللفظ للأعمّ فلا شكّ أنّ اللفظ يصدق على الفاقد كما يصدق على الواجد ، فيجدي التمسّك بإطلاقه فى نفى اعتبار المشكوك فيه في المأمور به.

٦٠