كفاية الأصول - ج ١

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٦
ISBN: 978-964-470-184-9
الصفحات: ٢٩٦

غير سديد (١) ، فإنّه وإن كان قد ارتفع به الدور ، إلّا أنّ غائلة لزوم توقّف الشيء على ما يصلح أنّ يتوقّف عليه على حالها ، لاستحالة أن يكون الشيء الصالح لأن يكون موقوفا عليه الشيء موقوفا عليه (٢) ، ضرورة أنّه لو كان في مرتبة يصلح لأن يستند إليه لما كاد يصحّ أن يستند فعلا إليه (٣).

والمنع عن صلوحه لذلك (٤) ـ بدعوى أنّ قضيّة كون العدم مستندا إلى وجود الضدّ لو كان مجتمعا مع وجود المقتضي وإن كانت صادقة ، إلّا أنّ صدقها لا يقتضي كون الضدّ صالحا لذلك ، لعدم اقتضاء صدق الشرطيّة صدق طرفيها ـ مساوق (٥) لمنع مانعيّة الضدّ(٦) ، وهو يوجب رفع التوقّف رأسا من البين ، ضرورة أنّه لا منشأ

__________________

ـ يمكن تحقّق المقتضي لكلا الضدّين ، فتتعلّق إرادة شخص بالإزالة ـ مثلا ـ وإرادة الآخر بالصلاة ، لكن وجود أحد الضدّين انّما يستند إلى أقوائيّة قدرة أحد الشخصين على الآخر كما أنّ عدم الضدّ الآخر يستند إلى عدم حصول شرطه ـ أي القدرة ـ ، لا إلى وجود المانع وهو الضدّ الآخر.

(١) خبر قوله : «وما قيل في التفصّي».

(٢) وفي النسخة الأصليّة : «لأن يكون موقوفا عليه موقوفا عليه». والصحيح ما أثبتناه ، كما في بعض النسخ. ومعنى العبارة : أنّه يستحيل أن يكون الشيء الّذي يصلح أن يكون شيء آخر موقوفا عليه موقوفا على ذلك الشيء. مثلا : وجود الإزالة شيء صالح لأن يكون عدم الصلاة موقوفا عليه ، فيستحيل أن يكون وجود الإزالة موقوفا على عدم الصلاة.

(٣) وحاصل الجواب عمّا أفاده المحقّق الخوانساريّ في دفع الدور : أنّ ما ذكره المحقّق الخوانساريّ وإن يرفع به إشكال الدور ، إلّا أنّ محذور توقّف الشيء على نفسه باق على حاله ، لأنّ صلاحيّة استناد العدم إلى وجود الضدّ فيما إذا فرض وجود المقتضي نوع اقرار بكون وجود الضدّ في رتبة سابقة على عدم الضدّ الآخر. وحينئذ يمتنع أن يستند وجود الضدّ إلى عدم الضدّ الآخر المتأخّر عنه رتبة ، وإلّا يلزم أن يكون الموقوف عليه الشيء موقوفا على ذلك الشيء ، وهو محال ، لأنّه يستلزم تقدّم الشيء على نفسه.

(٤) أي : المنع عن صلاحيّة وجود الضدّ لأنّ يتوقّف عدم الضدّ عليه.

(٥) خبر لقوله : «والمنع».

(٦) مع أنّ حديث عدم اقتضاء صدق الشرطيّة لصدق طرفيها وإن كان صحيحا ، إلّا أنّ الشرطيّة هاهنا غير صحيحة ، فإنّ وجود المقتضي للضدّ لا يستلزم بوجه استناد عدمه إلى ضدّه ، ولا يكون الاستناد مترتّبا على وجوده ، ضرورة أنّ المقتضي لا يكاد يقتضي وجود ما يمنع عمّا يقتضيه أصلا ، كما لا يخفى. فليكن المقتضي لاستناد عدم الضدّ إلى وجود ضدّه فعلا ـ

٢٤١

لتوهّم توقّف أحد الضدّين على عدم الآخر إلّا توهّم مانعيّة الضدّ ـ كما أشرنا إليه ـ وصلوحه لها (١).

إن قلت : التمانع بين الضدّين كالنار على المنار ، بل كالشمس في رائعة النهار ، وكذا كون عدم المانع ممّا يتوقّف عليه ممّا لا يقبل الإنكار ، فليس ما ذكر إلّا شبهة في مقابل البديهة.

قلت : التمانع بمعنى التنافي والتعاند الموجب لاستحالة الاجتماع ممّا لا ريب

__________________

ـ عند ثبوت مقتضي وجوده هو الخصوصيّة الّتي فيه الموجبة للمنع عن اقتضاء مقتضيه ، كما هو الحال في كلّ مانع. وليست في الضدّ تلك الخصوصيّة. كيف؟! وقد عرفت أنّه لا يكاد يكون مانعا إلّا على وجه دائر. نعم ، انّما المانع عن الضدّ هو العلّة التامّة لضدّه ، لاقتضائه ما يعانده وينافيه فيكون عدمه كوجود ضدّه مستندا إليها ، فافهم. منه رحمه‌الله.

(١) وتوضيح كلامه : أنّ قوله : «والمنع عن صلوحه لذلك» إشارة إلى إيراد على بقاء محذور توقّف الشيء على نفسه. وبيانه يتفرّع على تقديم مقدّمات :

١ ـ إنّ المناط في صدق القضيّة الشرطيّة انّما هو ثبوت الملازمة بين التالي والمقدّم ، سواء كان طرفاها صادقين أو كاذبين أو مختلفين.

٢ ـ قد مرّ أنّ عدم أحد الضدّين يستند إلى وجود الضدّ الآخر لو ثبت المقتضي له. وهذا قضيّة شرطيّة ، تاليها استناد عدم أحدهما إلى وجود الآخر ، ومقدّمها ثبوت المقتضي لوجود الضدّ الآخر.

٣ ـ قد عرفت امتناع تحقّق المقتضي لأحد الضدّين مع وجود الضدّ الآخر. فالمقدّم في تلك القضيّة الشرطيّة ممنوع.

إذا عرفت هذه المقدّمات فنقول : إنّ وجود الضدّ لا يصلح لأن يتوقّف عليه عدم الضدّ الآخر كي يكون مانعا عن وجود الضدّ الآخر. وذلك لأنّ تحقّق المقتضي لوجود أحد الضدّين مع وجود الضدّ الآخر ممتنع ، ضرورة أنّ المشروط ينتفي بانتفاء شرطه ، فتوقّف عدم الضدّ على وجود الضدّ الموجود ممنوع. وهذا ينافي صدق القضيّة الشرطيّة ، فإنّ صدقها لا يقتضي صدق طرفيها.

وقوله : «مساوق لمنع مانعيّة الضدّ» جواب عن الإيراد المذكور. وحاصله : أنّ هذا القول يساوق نفي مانعيّة كلّ من الضدّين للآخر ، لأنّ المفروض أنّ وجود الضدّ الموجود لا يصلح أن يكون مانعا عن وجود الضدّ المعدوم ، ولازمه امكان اجتماع وجود الضدّين ، ومعه لا يكون عدم أحدهما مقدّمة لوجود الآخر أيضا ، كما لا يكون وجود أحدهما مقدّمة لعدم الآخر.

٢٤٢

فيه ولا شبهة تعتريه ، إلّا أنّه لا يقتضي إلّا امتناع الاجتماع وعدم وجود أحدهما إلّا مع عدم الآخر الّذي هو بديل وجوده المعاند له ، فيكون في مرتبته ، لا مقدّما عليه ولو طبعا. وعدم المانع الّذي يكون موقوفا على عدم الوجود (١) هو ما كان ينافي ويزاحم المقتضي في تأثيره ، لا ما يعاند الشيء ويزاحمه في وجوده.

نعم ، العلّة التامّة لأحد الضدّين ربما يكون مانعا عن الآخر ومزاحما (٢) لمقتضيه في تأثيره ، مثلا : تكون شدّة الشفقة على الولد الغريق وكثرة المحبّة له تمنع عن أن يؤثّر ما في الأخ الغريق من المحبّة والشفقة لإرادة إنقاذه مع المزاحمة ، فينقذ به الولد دونه ، فتأمّل جيّدا(٣).

وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا فرق بين الضدّ الموجود والمعدوم في أنّ عدمه الملائم للشيء المناقض لوجوده المعاند لذاك لا بدّ أن يجامع معه من غير مقتض لسبقه ، بل قد عرفت ما يقتضي عدم سبقه.

فانقدح بذلك ما في تفصيل بعض الأعلام (٤) حيث قال بالتوقّف على رفع الضدّ الموجود ، وعدم التوقّف على عدم الضدّ المعدوم. فتأمّل في أطراف ما

__________________

(١) هكذا في النسخ : والصحيح أن يقول : «وعدم المانع الّذي يكون موقوفا عليه الوجود».

وفي هامش النسخة الأصليّة : «والمانع الّذي يكون موقوفا على عدمه الوجود». وهو أيضا صحيح ، لكن ما أثبتناه أولى.

(٢) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «تكون مانعة عن الآخر ومزاحمة».

(٣) وحاصل ما أفاده المصنّف في المقام هو إنكار مقدّميّة عدم الضدّ للضدّ الآخر.

والمحقّق الاصفهانيّ لم يرتض بإنكار المقدّميّة وحاول تصحيحها بوجه آخر ، حاصله : أنّ عدم الضدّ متقدّم بالطبع على الضدّ الآخر ، ومنشأ هذا التقدّم هو كون عدم الضدّ متمّما لقابليّة المحلّ لعروض الضدّ الآخر عليه ، إذ بدونه لا يكون المحلّ قابلا ، فلا يكون المحلّ قابلا لوجود الإزالة ـ مثلا ـ إلّا في صورة عدم الصلاة. نهاية الدراية ١ : ٤٢٨ ـ ٤٣٥.

ولكن أورد عليه السيّد الإمام الخمينيّ بأنّ العدم لا يمكن أن يكون مؤثّرا في تصحيح القابليّة ، فإنّ العدم محض البطلان ، وقابليّة المحلّ شأن من شئونه الوجوديّة ، فكيف يؤثّر ما هو محض البطلان في شأن من الشئون الوجوديّة للمحلّ؟! مناهج الوصول ٢ : ١٤ ـ ١٥.

(٤) وهو المحقّق الخوانساريّ كما مرّ.

٢٤٣

ذكرناه ، فإنّه دقيق وبذلك حقيق.

فقد ظهر عدم حرمة الضدّ من جهة المقدّميّة.

وأمّا من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود في الحكم (١) ، فغايته أن لا يكون أحدهما فعلا محكوما بغير ما حكم به الآخر ، لا أن يكون محكوما بحكمه (٢).

وعدم خلوّ الواقعة عن الحكم فهو إنّما يكون بحسب الحكم الواقعيّ لا الفعليّ.

فلا حرمة للضدّ من هذه الجهة أيضا ، بل على ما هو عليه ـ لو لا الابتلاء بالمضادّة للواجب الفعليّ ـ من الحكم الواقعيّ (٣).

الأمر الثالث : [الضدّ العامّ ، والأقوال فيه]

أنّه قيل (٤) بدلالة الأمر بالشيء بالتضمّن على النهي عن الضدّ العامّ ـ بمعنى الترك ـ ، حيث إنّه يدلّ على الوجوب المركّب من طلب الفعل والمنع عن الترك.

والتحقيق : أنّه لا يكون الوجوب إلّا طلبا بسيطا ومرتبة وحيدة أكيدة من الطلب ،

__________________

(١) هذا هو المسلك الثاني في إثبات أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ الخاصّ.

ويسمّى : «مسلك التلازم».

وحاصله : أنّ وجود الضدّ ملازم لترك الضدّ الآخر ، والمتلازمان لا يمكن اختلافهما في الحكم بأن يكون أحدهما واجبا والآخر محرّما ، فإذا كان أحد الضدّين واجبا فلا محالة يكون ترك الآخر واجبا. مثلا : وجود الإزالة ملازم لعدم الصلاة ، والمتلازمان في الوجود متلازمان في الحكم ، فعدم الصلاة الملازم للإزالة الواجبة واجب ، ووجوب عدم الصلاة يقتضي النهي التحريميّ عن وجودها ، فالأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه.

(٢) وبتعبير أوضح : أنّ عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم لا يستلزم توافقهما في الحكم ، بل هناك شقّ ثالث ، وهو خلوّ أحدهما من الحكم ، فإذا كان أحدهما خاليا والآخر واجبا لم يختلف المتلازمان في الحكم.

(٣) لا يخفى عليك : أنّه لو لا ابتلاء الضدّ بالمضادّة للواجب الفعليّ كان الضدّ محكوما بالحكم الواقعيّ الفعليّ ، لعدم المانع من فعليّته ، ومع ابتلائها بها محكومة بالوجوب الواقعيّ الإنشائيّ. فالأولى أن يقول : «بل على ما هو عليه ـ لو لا الابتلاء بالمضادّة للواجب الفعليّ ـ من الحكم الفعليّ» أو يقول : «بل محكوم بالحكم الإنشائيّ الّذي لو لا الابتلاء بالمضادّة لكان محكوما به فعلا».

(٤) والقائل صاحب المعالم في معالم الدين : ٦٤.

٢٤٤

لا مركّبا من طلبين. نعم ، في مقام تحديد تلك المرتبة وتعيينها ربما يقال : «الوجوب يكون عبارة من طلب الفعل مع المنع عن الترك» ، ويتخيّل منه أنّه يذكر له حدّا. فالمنع عن الترك ليس من أجزاء الوجوب ومقوّماته ، بل من خواصّه ولوازمه ، بمعنى أنّه لو التفت الآمر إلى الترك لما كان راضيا به لا محالة ، وكان (١) يبغضه البتّة.

ومن هنا انقدح أنّه لا وجه لدعوى العينيّة (٢) ، ضرورة أنّ اللزوم يقتضي الاثنينيّة ، لا الاتّحاد والعينيّة. نعم ، لا بأس بها بأن يكون المراد بها أنّه يكون هناك طلب واحد ، وهو كما يكون حقيقة منسوبا إلى الوجود وبعثا إليه ، كذلك يصحّ أن ينسب إلى الترك بالعرض والمجاز ، ويكون زجرا وردعا عنه ، فافهم.

الأمر الرابع : [ثمرة المسألة]

تظهر الثمرة في أنّ نتيجة المسألة ـ وهي النهي عن الضدّ بناء على الاقتضاء ـ بضميمة أنّ النهي في العبادات يقتضي الفساد ، ينتج فساده إذا كان عبادة (٣).

__________________

(١) معطوف على النفي ، أي : لو التفت الآمر إلى الترك لكان يبغضه. والأولى أن يقول : «بل كان».

(٢) والمدّعي صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ٩٢. ومراده من العينيّة أنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العامّ ، فيدلّ الأمر عليه حينئذ بالدلالة المطابقة.

(٣) وحاصل الثمرة ـ بعد تسليم أنّ النهي في العبادة يقتضي الفساد ـ هو فساد الضدّ إذا كان عبادة بناء على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه ، وصحّة الضدّ إذا كان عبادة بناء على عدم الاقتضاء. وهذه الثمرة أنكرها المحقّقان : النائينيّ والاصفهانيّ ، بدعوى صحّة الضدّ العباديّ حتّى على القول باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه.

أمّا المحقّق النائينيّ فأنكرها من جهة أنّ النهي الغيريّ عن العبادة لا يقتضي فسادها ، لأنّه لا يكشف عن وجود مفسدة في المنهيّ عنه ، وحينئذ فيكون المنهيّ عنه باقيا على ما هو عليه من المصلحة والمحبوبيّة الذاتيّة ، فيمكن التقرّب به إذا كان عبادة. أجود التقريرات ١ : ٢٦٥.

وتبعه في ذلك السيّدان العلمان ـ الإمام الخمينيّ والمحقّق الخوئيّ ـ ، فراجع مناهج الوصول ٢ : ٢٠ ، المحاضرات ٣ : ٨٧ ـ ٨٨ و ٥ : ٦ ـ ٧.

وأمّا المحقّق الاصفهانيّ فأنكرها من جهة أنّ الضدّ العباديّ وإن كان مبغوضا بالعرض ـ لمحبوبيّة تركه المقدّميّ ـ بل كان ملازما لمبغوض عرضيّ ـ وهو ترك الأهمّ ـ ، إلّا أنّه لا يمنع عن التقرّب به ، فالنهي عنه لا يقتضي فساده. نهاية الدراية ١ : ٤٤٦.

٢٤٥

وعن البهائيّ رحمه‌الله (١) أنّه أنكر الثمرة ، بدعوى أنّه لا يحتاج في استنتاج الفساد إلى النهي عن الضدّ ، بل يكفي عدم الأمر به ، لاحتياج العبادة إلى الأمر (٢).

وفيه : أنّه يكفي مجرّد الرجحان والمحبوبية للمولى كي يصحّ أن يتقرّب به منه ، كما لا يخفى. والضدّ ـ بناء على عدم حرمته ـ يكون كذلك ، فإنّ المزاحمة ـ على هذا (٣) ـ لا توجب إلّا ارتفاع الأمر المتعلّق به فعلا مع بقائه على ما هو عليه من ملاكه من المصلحة ـ كما هو مذهب العدليّة (٤) ـ أو غيرها (٥) أيّ شيء كان ـ كما هو مذهب الأشاعرة (٦) ـ وعدم (٧) حدوث ما يوجب مبغوضيّته وخروجه عن قابليّة التقرّب به ، كما حدث بناء على الاقتضاء (٨).

__________________

(١) نقل عنه في هداية المسترشدين : ٢٤٤.

(٢) وحاصل ما عن البهائيّ هو إنكار الثمرة بدعوى بطلان الضدّ العباديّ حتّى على القول بعدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه.

وتقريبه : أنّ الملاك في عباديّة الفعل والتقرّب به هو تعلّق الأمر به ، والضدّ العباديّ لا أمر به ، لأنّ الأمر به يرتفع بالمزاحمة مع الواجب الأهمّ ، فالضدّ العباديّ لا يقع صحيحا ، سواء قلنا بأنّه منهيّ عنه أو لم نقل به.

(٣) أي : على القول بعدم الاقتضاء وعدم حرمة الضدّ.

(٤) راجع : شرح التجريد «كشف المراد» : ٣٠٣ ، مفتاح الباب : ١٥٢.

(٥) أي : غير المصلحة.

(٦) راجع شرح المواقف ٨ : ١٩٢ ، شرح المقاصد ٤ : ٢٨٤ ، شرح التجريد (للقوشجىّ) : ٣٣٧.

(٧) معطوف على «بقائه».

(٨) وجدير بالذكر ما أفاده السيّد الإمام الخمينيّ ردّا على الشيخ البهائيّ وتصحيحا للأمر بالضدّ من دون التشبّث بالترتّب. وحاصل ما أفاده ـ بعد تقديم مقدّمات سبعة ـ : أنّه إذا واجهنا تكليفين متزاحمين إمّا أن يكون متعلّقا التكليفين متساويين في الجهة والمصلحة وإمّا أن يكون أحدهما أهمّ من الآخر.

فعلى الأوّل : لا إشكال في حكم العقل بالتخيير بين إتيان أيّهما شاء ، فإذا اشتغل بأحدهما يكون في مخالفة الأمر الآخر معذورا عقلا ، ومع عدم اشتغاله بذلك لا يكون معذورا في ترك واحد منهما ، لأنّ المفروض أنّه قادر على كلّ منهما ، وإنّما يصير عاجزا عن أحدهما إذا اشتغل بإتيان الآخر.

وعلى الثاني : فإن اشتغل بإتيان الأهمّ فهو معذور في ترك المهمّ ، لعدم القدرة عليه مع ـ

٢٤٦

[مسألة الترتّب] (١)

ثمّ إنّه تصدّى جماعة من الأفاضل لتصحيح الأمر بالضدّ بنحو الترتّب على العصيان وعدم إطاعة الأمر بالشيء بنحو الشرط المتأخّر ، أو البناء على المعصية (٢) بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن ، بدعوى أنّه لا مانع عقلا عن تعلّق الأمر بالضدّين كذلك ، أي بأن يكون الأمر بالأهمّ مطلقا ، والأمر بغيره معلّقا على عصيان ذاك الأمر ، أو البناء والعزم عليه ، بل هو واقع كثيرا عرفا (٣).

__________________

ـ اشتغاله بضدّه بحكم العقل. وإن اشتغل بالمهمّ فقد أتى بالمأمور به الفعليّ لكن لا يكون معذورا في ترك الأهمّ ، فيثاب بإتيان المهمّ ويعاقب بترك الأهمّ.

فالأهمّ والمهمّ ـ كالمتساويين ـ كلّ منهما مأمور به في عرض الآخر ، والأمران العرضيّان فعليّان متعلّقان بعنوانين كلّيّين. والمطاردة الّتي تحصل في مقام الإتيان إنّما توجب المعذوريّة العقليّة عن ترك أحد التكليفين حال الاشتغال بالآخر وعن ترك المهمّ حال اشتغاله بالأهمّ.

فعليه : أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي عدم الأمر بضدّه في التكاليف الكلّيّة كما فيما نحن فيه.

هذا حاصل كلامه أعلى الله مقامه الشريف. وعلى المتتبّع أن يلاحظ تفصيل كلامه في مناهج الوصول ٢ : ٢٣ ـ ٣٠.

(١) إنّ مسألة الترتّب من المسائل الحديثة ، وليس من المسائل العريفة في القدم ، بل ليس لها في كتب القدماء عين ولا أثر.

وأوّل من التزم به هو المحقّق الثانيّ ثمّ كاشف الغطاء. وفصّله المجدّد الشيرازيّ ، ثمّ رتّبه السيّد الفشاركيّ ، ونقّحه المحقّق النائينيّ ، وصحّحه المحقّق الاصفهانيّ كما يأتي. فراجع جامع المقاصد ٥ : ١٢ ـ ١٤ ، كشف الغطاء : ٢٧ ، تقريرات المجدّد الشيرازيّ ٢ : ٢٧٣ ـ ٢٨٢ ، الرسائل الفشاركيّة : ١٨٤ ـ ١٨٩ ، فوائد الاصول ١ : ٣٣٦ ، نهاية الدراية ١ : ٤٢٥.

وذهب المصنّف تبعا لاستاذه الشيخ الأعظم الأنصاريّ إلى عدم إمكان تصحيح الأمر بالضدّ بنحو الترتّب ، كما يأتي.

(٢) وفي النسخ : «على معصيته». والأولى ما أثبتناه.

(٣) كما أنّ الأب يأمر ابنه بالذّب إلى المدرسة ، وعلى تقدير عصيانه يأمره بالبقاء في الدار ـ مثلا ـ.

وحاصل مسلك الترتّب ـ على تقريب ذكره المصنّف في المقام ـ : أنّه يمكن تصحيح الأمر بالضدّ بأن يكون الضدّ المهمّ متعلّقا للأمر بشرط عصيان الأمر بالأهمّ أو البناء على عصيانه ، بحيث يجتمع الأمر بالضدّ المهمّ والأمر بالأهمّ في زمان واحد.

وتوضيحه : أنّ المكلّف إذا دخل المسجد وقت الصلاة ـ مثلا ـ وعلم بنجاسة المسجد ـ

٢٤٧

قلت : ما هو ملاك استحالة طلب الضدّين في عرض واحد آت في طلبهما كذلك(١) ، فإنّه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهمّ اجتماع طلبهما إلّا أنّه كان في مرتبة الأمر بغيره اجتماعهما ، بداهة فعليّة الأمر بالأهمّ في هذه المرتبة ، وعدم سقوطه بعد بمجرّد المعصية فيما بعد ما لم يعص ، أو العزم (٢) عليها ، مع فعليّة الأمر بغيره أيضا ، لتحقّق ما هو شرط فعليّته (٣) فرضا.

لا يقال : نعم ، لكنّه بسوء اختيار المكلّف حيث يعصي فيما بعد بالاختيار ، فلولاه لما كان متوجّها إليه إلّا الطلب بالأهمّ ، ولا برهان على امتناع الاجتماع إذا كان بسوء الاختيار.

فإنّه يقال : استحالة طلب الضدّين ليس إلّا لأجل استحالة طلب المحال ،

__________________

ـ فتوجّه إليه أمر «أزل النجاسة» ـ بناء على أن تكون الإزالة أهمّ والصلاة مهمّا ـ ، وهذا الأمر مطلق. فلو ترك الإزالة وعصى الأمر به توجّه إليه الأمر بالمهمّ ـ أعني : «صلّ» ـ. فيكون عصيان الأمر بالأهمّ موضوعا للأمر بالمهمّ ، كأنّ المولى قال : «أزل النجاسة وإن عصيت أو بنيت على العصيان فصلّ». وعليه فالأمر بالضدّ المهمّ مترتّب على عصيان الأمر بالأهمّ وفي طوله بنحو الشرط المتأخّر ، أو مترتّب على البناء على المعصية بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن ، مع بقاء الأمر بالأهمّ بعد عصيانه ، فإنّ الأمر لا يسقط بالعصيان. فالأمر بالضدّ المهمّ والأمر بالأهمّ وإن يجتمعان في زمان واحد ولكن أحدهما مطلق ـ وهو الأمر بالأهمّ ـ والآخر مشروط بشرط حاصل ـ وهو الأمر بالمهمّ الّذي مشروط بعصيان الأمر بالأهمّ أو البناء عليه ، والمفروض أنّه حاصل ـ ، فيختلفان رتبة لتأخّر الأمر بالمهمّ عن الأمر بالأهمّ ، فلا يلزم من طلبهما بهذا النحو محذور طلب الضدّين في عرض واحد ، بل هو واقع كثيرا في العرف.

(١) والأولى أن يقول : «ما هو الملاك في عدم المعقوليّة من استحالة طلب الضدّين ...» أو يقول : «ما هو ملاك الاستحالة من طلب الضدّين ...». ومراده أنّ ملاك عدم إمكان تعلّق الأمر بالضدّ ليس إلّا طلب الضدّين في عرض واحد ، لأنّه محال ، وهو يأتي في طلب الضدّين بنحو الترتّب أيضا. وذلك لأنّ الأمر بالأهمّ وإن لم يجتمع مع الأمر بالمهمّ في صورة اطاعة أمره ـ حيث لم يحقّق موضوع الأمر بالمهمّ ـ ، إلّا أنّه يجتمع مع الأمر بالمهمّ في صورة ترك الأهمّ ، ضرورة أنّ الأمر بالمهمّ وإن كان مشروطا ، لكن المفروض أنّ شرطه حاصل ، فيكون فعليّا ، والأمر بالأهمّ مطلق ولا يختصّ بصورة الإطاعة ، فهو أيضا فعليّ ، فإذن يجتمع الأمران الفعليّان المتعلّقان بالضدّين في آن واحد ، وهو محال.

(٢) عطف على المعصية.

(٣) وهو عصيان الأمر بالأهمّ أو العزم عليه.

٢٤٨

واستحالة طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليّته لا تختصّ بحال دون حال ، وإلّا لصحّ فيما علّق على أمر اختياريّ في عرض واحد بلا حاجة في تصحيحه إلى الترتّب ، مع أنّه محال بلا ريب ولا إشكال.

إن قلت : فرق بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك (١) ، فإنّ الطلب في كلّ منهما في الأوّل يطارد الآخر ، بخلافه في الثاني ، فإنّ الطلب بغير الأهمّ لا يطارد طلب الأهمّ ، فإنّه يكون على تقدير عدم الإتيان بالأهمّ ، فلا يكاد يريد غيره على تقدير إتيانه وعدم عصيان أمره.

قلت : ليت شعري كيف لا يطارده الأمر بغير الأهمّ؟ وهل يكون طرده له إلّا من جهة فعليّته ومضادّة متعلّقه للأهمّ؟ والمفروض فعليّته ومضادّة متعلّقه له. وعدم إرادة غير الأهمّ على تقدير الإتيان به (٢) لا يوجب عدم طرده لطلبه مع تحقّقه على تقدير عدم الإتيان به وعصيان أمره ، فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير مع ما هما عليه من المطاردة من جهة المضادّة بين المتعلّقين. مع أنّه يكفي الطرد من طرف الأمر بالأهمّ ، فإنّه ـ على هذا الحال ـ يكون طاردا لطلب الضدّ ، كما كان في غير هذا الحال ، فلا يكون له معه أصلا بمجال(٣).

إن قلت : فما الحيلة فيما وقع كذلك من طلب الضدّين في العرفيّات؟

قلت : لا يخلو إمّا أن يكون الأمر بغير الأهمّ بعد التجاوز عن الأمر به وطلبه حقيقة(٤) ، وإمّا أن يكون الأمر به (٥) إرشادا إلى محبوبيّته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لو لا المزاحمة ، وأنّ الإتيان به يوجب استحقاق المثوبة ، فيذهب بها (٦) بعض ما استحقّه من العقوبة على مخالفة الأمر بالأهمّ ، لا أنّه أمر مولويّ فعليّ كالأمر به (٧) ، فافهم وتأمّل جيّدا.

__________________

(١) أي : بنحو الترتّب والطوليّة.

(٢) أي : بالأهمّ.

(٣) أي : فلا يكون لطلب المهمّ مع طلب الأهمّ مجال.

(٤) أي : بعد الإعراض ورفع اليد عن الأمر بالأهمّ حقيقة. وحينئذ فلو لم يأت بالأهمّ لا أمر إلّا بالمهمّ ، فليس هنا أمران بالضدّين كي يصحّح اجتماعهما بالترتّب.

(٥) أي : الأمر بغير الأهمّ.

(٦) أي : المثوبة.

(٧) أي : كالأمر بالأهمّ الّذي كان مولويّا.

٢٤٩

ثمّ إنّه لا أظنّ أن يلتزم القائل بالترتّب بما هو لازمه من الاستحقاق في صورة مخالفة الأمرين لعقوبتين ، ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد. ولذا كان سيّدنا الأستاذ قدس‌سره (١) لا يلتزم به على ما هو ببالي ، وكنّا نورد به على الترتّب ، وكان بصدد تصحيحه(٢).

فقد ظهر أنّه لا وجه لصحّة العبادة مع مضادّتها لما هو أهمّ منها إلّا ملاك الأمر (٣).

نعم ، فيما إذا كانت موسّعة وكانت مزاحمة بالأهمّ ببعض الوقت ، لا في تمامه ، يمكن أن يقال : إنّه حيث كان الأمر بها (٤) على حاله ـ وإن صارت مضيّقة بخروج ما زاحمه الأهمّ من أفرادها من تحتها ـ أمكن أن يؤتى بما زوحم منها بداعي ذاك

__________________

(١) وهو المحقّق الميرزا الكبير الشيرازيّ.

(٢) فيتحصّل أنّ المصنّف ذهب إلى بطلان الترتّب تبعا لاستاذه الشيخ الأعظم الأنصاريّ على ما في مطارح الأنظار : ٥٦ ـ ٥٧.

وخالفه المحقّق النائينيّ ، فذهب إلى إمكان تصوير الأمر بالضدّ المهمّ بنحو الترتّب ، وبالغ في تنقيحه وتوضيحه بتقديم مقدّمات خمسة لا مجال لذكرها في المقام.

والمحقّق الاصفهانيّ تعرّض للمقدّمات الخمسة الّتي ذكرها المحقّق النائينيّ ، وناقش فيها كلّها ، ثمّ صحّح مسألة الترتّب وبرهن عليه ببيان آخر. وحاصله : أنّ الأمر بالضدّ المهمّ علّق على عصيان الأهمّ. ففي فرض الإتيان بالأهمّ وفعليّة تأثير الأمر به لا موضوع للأمر بالمهمّ ، فلا يتخيّل مزاحمته للأهمّ. وفي فرض الإتيان بالمهمّ وفعليّة تأثيره يستحيل مانعيّته عن فعليّة تأثير الأمر بالأهمّ ، لأنّ اقتضاء المهمّ منوط بعدم فعليّة تأثير الأمر بالأهمّ ، فكيف يمكن أن تكون فعليّة تأثيره اللاحقة لاقتضائه مانعة عن فعليّة تأثير الأهمّ؟! فلا يعقل أن يصل كلا الأمرين إلى مرحلة الفعليّة في التأثير في زمان واحد ، فلا تزاحم في التأثير الفعليّ ويصحّ الترتّب. راجع نهاية الدراية ١ : ٤٥٧ ـ ٤٧٢.

والسيّد الإمام الخمينيّ لم يرتض بما أفاده المحقّق النائينيّ ولا بما أفاده المحقّق الاصفهانيّ ، بل ناقش في كلامهما ، ووافق المصنّف في بطلان الترتّب ، ولكن صحّح تصوير الأمر بالضدّ المهمّ بنحو آخر دون التشبّث بالترتّب ، كما مرّ.

وإن شئت تمام ما أفادوه فراجع أجود التقريرات ١ : ٢٨٦ ـ ٢٩٩ ، نهاية الدراية ١ : ٤٥٧ ـ ٢٧٢ ، مناهج الوصول ٢ : ٣٠ ـ ٥٨.

(٣) وهو الرجحان والمحبوبيّة الذاتيّة.

(٤) أي : بالعبادة الموسّعة.

٢٥٠

الأمر ، فإنّه (١) وإن كان خارجا عن تحتها بما هي مأمور بها إلّا أنّه لمّا كان وافيا بغرضها (٢) ـ كالباقي تحتها ـ كان عقلا مثله في الإتيان به في مقام الامتثال والإتيان به بداعي ذاك الأمر ، بلا تفاوت في نظره (٣) بينهما أصلا.

ودعوى أنّ الأمر لا يكاد يدعو إلّا إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها ، وما زوحم منها بالأهمّ وإن كان من أفراد الطبيعة لكنّه ليس من أفرادها بما هي مأمور بها ؛ فاسدة ، فإنّه إنّما يوجب ذلك إذا كان خروجه عنها بما هي كذلك تخصيصا ، لا مزاحمة ، فإنّه معها (٤) وإن كان لا تعمّه الطبيعة المأمور بها إلّا أنّه ليس لقصور فيه ، بل لعدم إمكان تعلّق الأمر بما يعمّه عقلا (٥).

وعلى كلّ حال ، فالعقل لا يرى تفاوتا في مقام الامتثال وإطاعة الأمر بها (٦) بين هذا الفرد وسائر الأفراد أصلا.

هذا على القول بكون الأوامر متعلّقة بالطبائع.

وأمّا بناء على تعلّقها بالأفراد فكذلك ، وإن كان جريانه عليه أخفى ، كما لا يخفى ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّه ـ بناء على إمكان الترتّب وصحّته ـ لا بدّ من الالتزام بوقوعه من دون انتظار دليل آخر عليه ؛ وذلك لوضوح أنّ المزاحمة على صحّة الترتّب لا تقتضي عقلا إلّا امتناع الاجتماع في عرض واحد ، لا كذلك (٧).

فلو قيل بلزوم الأمر في صحّة العبادة ـ ولم يكن في الملاك كفاية ـ كانت العبادة مع ترك الأهمّ صحيحة ، لثبوت الأمر بها في هذا الحال ، كما إذا لم تكن هناك مضادّة.

__________________

(١) أي : ما زوحم.

(٢) أي : كان وافيا بالغرض الداعي إلى الأمر بالعبادة. فاسناد الغرض إلى العبادة اسناد مجازيّ.

(٣) أي : في نظر العقل.

(٤) أي : فإنّ الفرد المزاحم مع المزاحمة.

(٥) وفي بعض النسخ : «بما يعمّه عقلا مزاحمة». والصحيح ما أثبتناه.

(٦) أي : بالطبيعة.

(٧) أي : بنحو الترتّب.

٢٥١

[الفصل السادس]

[في عدم جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه]

فصل : لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه (١) ، خلافا لما نسب إلى أكثر مخالفينا (٢) ؛ ضرورة أنّه لا يكاد يكون الشيء مع عدم علّته ، كما هو المفروض هاهنا (٣) ، فإنّ الشرط من أجزائها ، وانحلال المركّب بانحلال بعض أجزائه ممّا لا يخفى.

__________________

(١) قد ذكر المحقّق النائينيّ أنّ هذه المسألة باطلة من رأسها وليس فيها معنى معقول. وذلك لأنّ الحكم لا يخلو : إمّا أن يكون مجعولا بنحو القضيّة الحقيقيّة فهو يدور مدار فعليّة موضوعه وتحقّق شرطه من دون أن يكون لعلم المولى وعدمه أيّ أثر في ثبوته وعدمه ، فلا معنى للنزاع فيه. وإمّا أن يكون مجعولا بنحو القضيّة الخارجيّة فهو يدور مدار علم الحاكم وشروط الحكم من دون دخل لوجود الموضوع خارجا ، فلا موضوع للنزاع فيه. أجود التقريرات ١ : ٢٠٩.

وناقش فيه المحقّق الاصفهانيّ في تعليقاته على نهاية الدراية ١ : ٤٨٠ ، بأنّ النزاع ليس في معقوليّة فعليّة الحكم مع عدم فعليّة موضوعه الّذي هو شرط له ، فإنّه خلف محال. وكذا ليس النزاع في معقوليّة فعليّة الحكم مع علم الحاكم بانتفاء موضوعه في الخارج كي يقال : إنّ علم الآمر بوجود الموضوع خارجا وعدمه أجنبيّ عن ذلك بالكلّيّة ، بل الملاك في فعليّة الحكم واقعا فعليّة موضوعه كذلك. بل النزاع في إمكان أصل جعل الحكم مع علم الجاعل بانتفاء شرط فعليّته؟ ومن الواضح أنّ هذا النزاع نزاع في أمر معقول.

(٢) نسب إليهم في معالم الدين : ٨٢ ، والقوانين ١ : ١٢٦.

(٣) لا يخفى : أنّه لا ينبغي أن يكون النزاع في المقام في فعليّة الحكم مع عدم فعليّة موضوعه الّذي هو شرط له ، فإنّه خلف محال.

٢٥٢

وكون الجواز في العنوان بمعنى الإمكان الذاتيّ بعيد عن محلّ الخلاف بين الأعلام (١).

نعم ، لو كان المراد من لفظ «الأمر» الأمر ببعض مراتبه ، ومن الضمير الراجع إليه بعض مراتبه الأخر (٢) ـ بأن يكون النزاع في أنّ أمر الآمر يجوز إنشاء (٣) مع علمه بانتفاء شرطه بمرتبة فعليّته؟ وبعبارة اخرى : كان النزاع في جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعليّة لعدم شرطه ـ لكان جائزا ، وفي وقوعه في الشرعيّات والعرفيّات غنى وكفاية ، ولا يحتاج معه إلى مزيد بيان أو مئونة برهان.

وقد عرفت سابقا (٤) أنّ داعي إنشاء الطلب لا ينحصر بالبعث والتحريك جدّا حقيقة ، بل قد يكون صوريّا امتحانا ، وربما يكون غير ذلك.

ومنع كونه أمرا إذا لم يكن بداعي البعث جدّا واقعا وإن كان في محلّه ، إلّا أنّ إطلاق الأمر عليه ـ إذا كانت هناك قرينة على أنّه بداع آخر غير البعث ـ توسّعا ممّا لا بأس به أصلا ، كما لا يخفى.

وقد ظهر بذلك حال ما ذكره الأعلام (٥) في المقام من النقض والإبرام. وربما يقع به التصالح بين الجانبين ، ويرتفع النزاع من البين (٦) ، فتأمّل جيّدا.

__________________

(١) ضرورة أنّه لا يمكن دخل علم الآمر في الإمكان الذاتيّ.

(٢) وفي النسخة الأصليّة : «ببعض مراتبه الأخر». والأولى ما أثبتناه.

(٣) هكذا في النسخ. وكان الأولى أن يقول : «يجوز إنشاؤه ...».

(٤) في المبحث الأوّل من مباحث الفصل الثاني من الفصول المتعلّقة بصيغة الأمر : ١٣٢.

(٥) راجع القوانين ١ : ١٢٤ ـ ١٢٧ ، الفصول الغرويّة : ١٠٩ ، هداية المسترشدين : ٣٠٠.

(٦) فيقال : إنّ مراد القائل بالجواز هو جواز الأمر الإنشائيّ. ومراد القائل بعدم الجواز هو عدم جواز الأمر الفعليّ.

ثمرة المسألة :

وينبغي أن يختم البحث عن هذه المسألة بذكر ثمرتها. فهل تترتّب على البحث عنها ثمرة عمليّة أم لا؟

قد يقال : إنّ الثمرة لهذه المسألة تظهر في من أفطر في نهار شهر رمضان مع عدم تماميّة شرائط الوجوب له إلى الليل كمن أفطر أوّلا ثمّ سافر. فعلى القول بجواز أمر الآمر مع علمه ـ

٢٥٣

[الفصل السابع]

[في متعلّق الأوامر والنواهي]

فصل : الحقّ أنّ الأوامر والنواهي تكون متعلّقة بالطبائع دون الأفراد.

ولا يخفى : أنّ المراد أنّ متعلّق الطلب في الأوامر هو صرف الإيجاد ، كما أنّ متعلّقه في النواهي هو محض الترك ، ومتعلّقهما (١) هو نفس الطبيعة المحدودة بحدود والمقيّدة بقيود تكون بها موافقة للغرض والمقصود (٢) ، من دون تعلّق غرض بإحدى الخصوصيّات اللازمة للوجودات ، بحيث لو كان الانفكاك عنها بأسرها ممكنا لما كان ذلك ممّا يضرّ بالمقصود أصلا ـ كما هو الحال في القضيّة الطبيعيّة في غير الأحكام ، بل في المحصورة على ما حقّق في غير المقام ـ (٣).

__________________

ـ بانتفاء شرطه تجب عليه الكفّارة ، وعلى القول بعدم الجواز لا تجب.

ولكن ناقش فيها المحقّق النائينيّ بوجه ، والمحقّق الخوئيّ بوجه آخر. فراجع أجود التقريرات ١ : ٢١٠ ، والمحاضرات ٤ : ١٠.

(١) أي : متعلّق كلّ من الإيجاد والترك.

(٢) أي : تكون الطبيعة المقيّدة بتلك القيود موافقة للغرض والمقصود.

والمراد من الحدود والقيود هو العوارض اللازمة لوجود الطبيعة من زمان ومكان ونحوهما.

(٣) لا يخفى : أنّ كلمات القوم في تحرير محلّ النزاع مختلفة :

فيظهر من المصنّف أنّ النزاع في أنّ متعلّق الطلب في الأوامر هل هو وجود الطبيعة بذاتها من دون نظر إلى العوارض والمشخّصات اللازمة لها في الوجود ، بحيث لو فرض ـ فرضا محالا ـ انفكاك تلك العوارض عن الطبيعة لا يضرّ بالمقصود ، أو هو وجود الطبيعة المتقيّدة ـ

٢٥٤

وفي مراجعة الوجدان للإنسان غنى وكفاية عن إقامة البرهان على ذلك ، حيث يرى إذا راجعه أنّه لا غرض له في مطلوباته إلّا نفس الطبائع ، ولا نظر له إلّا إليها من دون نظر إلى خصوصيّاتها الخارجيّة وعوارضها العينيّة ، وأنّ نفس وجودها السعيّ (١) بما هو وجودها تمام المطلوب (٢) ، وإن كان ذاك الوجود

__________________

ـ بهذه العوارض ـ أي فرد الطبيعة ـ؟ وعليه فوجود الطبيعة أمر مفروغ عنه في محلّ النزاع.

ويظهر من المحقّق النائينيّ أنّ النزاع في المقام يرجع في الواقع إلى النزاع في وجود الطبيعيّ في الخارج وعدم وجوده. أجود التقريرات ١ : ٢١١ ـ ٢١٢.

ويظهر من السيّد الإمام الخمينيّ أنّ المراد من الكلّيّ الطبيعيّ في محلّ النزاع ليس الكلّيّ الطبيعيّ على اصطلاح علم المنطق ، بل المراد منه العنوان الكلّيّ ، فيبحث في المقام عن أنّ الأمر إذا تعلّق بعنوان كلّيّ فهل يسري إلى الأفراد المتصوّرة منها فتكون الطبيعة وسيلة إلى تعلّقه بالمصاديق الملحوظة ، أو لا يسري إليها بل تعلّق بنفس الماهيّة غير الموجودة الّتي أراد المولى بالأمر إخراجها عن المعدوميّة؟ مناهج الوصول ٢ : ٦٤ ـ ٦٩.

وتحقيق الكلام فوق مستوى ما نحن بصدده. وعلى الطالب المتتبّع أن يرجع إلى المطوّلات ، كنهاية الدراية ١ : ٤٨٠ ـ ٤٨٣ ، ونهاية الأفكار ١ : ٣٨١ ـ ٣٨٤ ، والمحاضرات ٤ : ١٢ ـ ٢١.

(١) والوجه في تسميته بذلك هو سعته باعتبار اتّحاده مع وجود كلّ فرد.

(٢) فعليه تعلّق الطلب بوجودها السعيّ ، لا بوجودها الخاصّ.

ولا يخفى : أنّ الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد ، ولا تشخّص إلّا بالوجود ، فلا معنى لوجود الطبيعة بالوجود السعيّ ، لأنّ الوجود يلازم التشخّص.

وقد يقال ـ كما قال به المحقّق الاصفهانيّ في نهاية الدراية ١ : ٤٨٤ ـ : أنّ الطلب تعلّق بالوجود المفروض ، وتأثير الطلب فيه بإخراجه من حدّ الفرض إلى الفعليّة. والوجود المفروض قابل للصّدق على كلّ وجود محقّق في الخارج. فالمراد من الوجود السعيّ هو الوجود المفروض.

ولا يخفى عليك : أنّ هذا في الأوامر الصادرة من غير الشارع ممكن. وأمّا في الأوامر الصادرة عن الشارع فممنوع ، كما لا يخفى.

ويمكن أن يقال : إنّ الأوامر والنواهي متعلّقة بالفرد ، لا بالفرد الخاصّ ، فالآمر أراد وجود الطبيعة الّتي تتخصّص بخصوصيّة في الخارج لا محالة ، وهو الفرد مطلقا ، لا أنّه أراد وجود الطبيعة الّتي تتخصّص بخصوصيّة خاصّة في الخارج.

والفرق بين الفرد على الإطلاق والفرد الخاصّ أنّ الأوّل يصدق على كلّ فرد بحيث كان الإتيان بكلّ فرد امتثالا للأمر ، بخلاف الثاني ، كما هو واضح.

٢٥٥

لا يكاد ينفكّ في الخارج عن الخصوصيّة (١).

فانقدح بذلك : أنّ المراد بتعلّق الأوامر بالطبائع دون الأفراد أنّها بوجودها السعيّ بما هو وجودها ـ قبالا لخصوص الوجود ـ متعلّقة للطلب ، لا أنّها بما هي هي كانت متعلّقة له ـ كما ربما يتوهّم (٢) ـ ، فإنّها كذلك ليست إلّا هي (٣). نعم ، هي كذلك (٤) تكون متعلّقة للأمر ، فإنّه طلب الوجود (٥) ، فافهم (٦).

دفع وهم

لا يخفى : أنّ كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلّقا للطلب إنّما يكون بمعنى أنّ الطالب يريد صدور الوجود من العبد وجعله بسيطا ـ الّذي هو مفاد كان التامّة ـ وإفاضته. لا أنّه يريد ما هو صادر وثابت في الخارج كي يلزم طلب الحاصل ـ كما توهّم (٧) ـ. ولا جعل الطلب متعلّقا بنفس الطبيعة وقد جعل وجودها غاية لطلبها ،

__________________

(١) أي : تعلّق الأمر بوجود الطبيعة الّتي تتخصّص بخصوصيّة في الخارج لا محالة ، من غير فرق بين أنحاء الخصوصيّة ، لا بوجود الطبيعة الخاصّة.

وأنت خبير بأنّه يرجع إلى ما ذكرنا من تعلّق الأمر بالفرد لا بالفرد الخاصّ ، بحيث كان الإتيان بكلّ فرد امتثالا للأمر ، فلم يتعلّق الأمر بالطبيعة.

(٢) المتوهّم صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ١٢٥.

(٣) لا موجودة ولا معدومة ، لا مطلوبة ولا لا مطلوبة. والطلب انّما يتعلّق بالأشياء بداعي ما فيها من المصالح أو المفاسد القائمة بوجوداتها. وأمّا الطبائع بأنفسها بما هي ليست فيها مصلحة ولا مفسدة ، فلا وجه لتعلّقه بها.

(٤) أي : الطبيعة بما هي هي.

(٥) لعلّه إشارة إلى أنّ مدلول هيئة الأمر هو طلب الوجود ، فيكون لفظ الأمر اسما لطلب الوجود ، ولا إشكال في صحّة تعلّق طلب الوجود بالطبيعة من حيث هي ، فتكون الطبيعة من حيث هي متعلّقة للأمر.

(٦) ولعلّه إشارة إلى عدم صحّة كون الطبيعة من حيث هي متعلّقة للأمر بالبيان المذكور. وذلك لأنّ الطبيعة من حيث هي ليست متعلّقة لطلب الوجود الّذي هو مدلول هيئة الأمر ، بل متعلّقة لنفس الوجود ، ضرورة أنّ الماهية معروضة للوجود ، وبعد الوجود تعلّق به الطلب ، فلا يصحّ أن يقال : إنّ طلب الوجود متعلّق بالطبيعة بما هي هي.

(٧) المتوهّم صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ١٢٦.

٢٥٦

وقد عرفت أنّ الطبيعة بما هي هي ليست إلّا هي ، لا يعقل أن يتعلّق بها طلب لتوجد أو تترك ، وأنّه لا بدّ في تعلّق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم معها فيلاحظ وجودها فيطلبه ويبعث إليه كي يكون ويصدر منه. هذا بناء على أصالة الوجود (١).

وأمّا بناء على أصالة الماهيّة (٢) فمتعلّق الطلب ليس هو الطبيعة بما هي أيضا ، بل بما هي بنفسها في الخارج ، فيطلبها كذلك (٣) لكي يجعلها بنفسها من الخارجيّات والأعيان الثابتات. لا بوجودها. كما كان الأمر بالعكس على أصالة الوجود.

وكيف كان فيلحظ الآمر ما هو المقصود من الماهيّة الخارجيّة أو الوجود فيطلبه ويبعث نحوه ، ليصدر منه ، ويكون ما لم يكن ، فافهم وتأمّل جيّدا (٤).

__________________

(١) وهو مذهب الحكماء المشّائين ومن تبعهم كصدر المتألّهين والحكيم السبزواريّ. فراجع التحصيل : ٢٨٤ ، الأسفار ١ : ٤٩ ، شرح المنظومة (قسم الحكمة) : ١٠.

(٢) وهذا مختار الشيخ الإشراقيّ. فراجع شرح حكمة الإشراق (كلام الماتن) : ١٨٥ ـ ١٩١.

(٣) أي : بما هي بنفسها في الخارج.

(٤) بقي شيء :

وهو أنّه هل يترتّب على البحث عن هذه المسألة ثمرة عمليّة أو لا؟

قد ذكر المحقّق النائينيّ أنّ الثمرة بين القولين تظهر في باب اجتماع الأمر والنهي. فعلى القول بتعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع يجوز اجتماع الأمر والنهي في الصلاة في الدار المغصوبة ـ مثلا ـ ، فإنّ متعلّق الأمر وجود طبيعة الصلاة من دون سريان الأمر إلى مشخّصاتها ولوازم وجودها من المكان والزمان وغيرهما ، ومتعلّق النهي أيضا وجود طبيعة التصرّف في مال الغير من دون سريان النهي إلى مشخّصاتها ولوازم وجودها من المكان والزمان وغيرهما. وعليه فتكون الصلاة من لوازم وجود التصرّف في مال الغير فلا يسري النهي إليها ، كما أنّ التصرّف من لوازم وجود الصلاة ولا يسري الأمر إليه. فإذا لا مناص من القول بالجواز هناك.

وأمّا على القول بتعلّق الأوامر والنواهي بالأفراد فالأمر تعلّق بالصلاة مع مشخّصاتها ، والمفروض أنّ من مشخّصاتها هو التصرّف في مال الغير ، فإذن يكون متعلّقا للأمر والحال أنّه متعلّق للنهي أيضا ، فيلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، وهو محال. فلا مناص من القول بالامتناع في باب اجتماع الأمر والنهي. أجود التقريرات ١ : ٢١٢.

ولكن المصنّف أنكر وجود هذه الثمرة في مبحث اجتماع الأمر والنهي. وذلك لأنّه لا شكّ أنّ المجمع وجود واحد شخصيّ وإن كان له وجهان ، فإن كان تعدّد الوجه يجدي في رفع التناقض لكان يجدي ولو على القول بتعلّق الأوامر والنواهي بالأفراد ، والّا لما كان يجدي أصلا.

٢٥٧

[الفصل الثامن]

[في نسخ الوجوب]

فصل : إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ على بقاء الجواز بالمعنى الأعمّ (١) ، ولا بالمعنى الأخصّ (٢) ، كما لا دلالة لهما على ثبوت غيره من الأحكام ، ضرورة أنّ ثبوت كلّ واحد من الأحكام الأربعة الباقية بعد ارتفاع الوجوب واقعا ممكن ، ولا دلالة لواحد من دليلي الناسخ والمنسوخ بإحدى الدلالات على تعيين واحد منها ، كما هو أوضح من أن يخفى (٣). فلا بدّ للتعيين من دليل آخر.

ولا مجال لاستصحاب الجواز (٤) إلّا بناء على جريانه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكليّ ، وهو ما إذا شكّ (٥) في حدوث فرد كلّيّ مقارنا لارتفاع

__________________

(١) وهو الجنس لما عد الحرمة من الأحكام الأربعة.

(٢) وهو الإباحة الّتي من الأحكام الخمسة التكليفيّة.

(٣) أمّا دليل الناسخ : فلأنّه لا يقتضي سوى رفع الحكم الثابت ـ أعني الوجوب ـ من دون تعرّض إلى الجواز وغيره.

وأمّا دليل المنسوخ الدالّ على الوجوب : فلأنّ الوجوب أمر بسيط ، لا تركّب في حقيقته ، فلا يدلّ دليل المنسوخ إلّا على الوجوب الّذي قد ارتفع بدليل الناسخ فرضا.

(٤) بأن يقال : إنّ الجواز قبل نسخ الوجوب متيقّن ، لأنّ الوجوب هو جواز الفعل مع المنع من الترك ، وبعد نسخه نشكّ في بقائه ، فنستصحب.

(٥) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «وهو كما إذا شكّ ...» ، لأنّ القسم الثالث من ـ

٢٥٨

فرده الآخر (١). وقد حقّقنا في محلّه (٢) أنّه لا يجري الاستصحاب فيه ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القويّة أو الضعيفة المتّصلة بالمرتفع بحيث عدّ عرفا ـ لو كان ـ أنّه باق ، لا أنّه أمر حادث غيره. ومن المعلوم أنّ كلّ واحد من الأحكام مع الآخر ـ عقلا وعرفا ـ من المباينات والمتضادّات غير الوجوب والاستحباب ، فإنّه وإن كان بينهما التفاوت بالمرتبة والشدّة والضعف عقلا إلّا أنّهما متباينان عرفا ، فلا مجال للاستصحاب إذا شكّ في تبدّل أحدهما بالآخر ، فإنّ حكم العرف ونظره يكون متّبعا في هذا الباب (٣).

__________________

ـ استصحاب الكلّيّ لا ينحصر في الشكّ في بقاء الكلّيّ مستندا إلى احتمال حدوث فرد مقارنا لارتفاع فرد آخر ، بل هو أحد أقسامه ، كما سيأتي إن شاء الله.

(١) وقال السيّد الإمام الخمينيّ : «الحقّ عدم جريانه ولو سلّمنا جريانه في القسم الثالث من الكلّيّ ، لأنّ من شرائط جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب موضوعا ذا أثر شرعيّ أو حكما مجعولا ـ كالوجوب والاستحباب ـ ، والجواز ليس كذلك ، لأنّ الجواز بالمعنى الأعمّ ما ينتزعه العقل من الجعل المتعلّق بالأحكام». انتهى كلامه ملخّصا ، فراجع مناهج الوصول ٢ : ٨٣.

(٢) في التنبيه الثالث من تنبيهات الاستصحاب.

(٣) وناقش فيه المحقّق الاصفهانيّ بما حاصله : أنّ المراد من الوجوب والاستحباب إن كان الإنشاء بداعي البعث المنبعث عن مصلحة ملزمة أو غير ملزمة فلا شبهة أنّهما متباينان عقلا وعرفا ، وإن كان المراد منهما الإرادة الحتميّة والندبيّة فهما مرتبتان من الإرادة ولا يكون كلّ منهما مغايرا للآخر ، لا عقلا ولا عرفا. فراجع نهاية الدراية ١ : ٤٩٠.

٢٥٩

[الفصل التاسع]

[في الواجب التخييريّ]

فصل : إذا تعلّق الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء ففي وجوب كلّ واحد على التخيير(١) ـ بمعنى عدم جواز تركه إلّا إلى بدل ـ ، أو وجوب الواحد لا بعينه (٢) ، أو وجوب كلّ منهما مع السقوط بفعل أحدهما (٣) ، أو وجوب المعيّن

__________________

(١) ولعلّه مذهب الشيخ الطوسيّ في العدّة ١ : ٢٢٠ ، حيث قال : «إنّ الثلاثة لها صفة الوجوب ، إلّا أنّه يجب على المكلّف اختيار أحدها».

(٢) ذهب إليه الشيخ المفيد في التذكرة : ٣١. ونسبه الآمديّ إلى الأشاعرة والفقهاء من غير الشيعة ، فراجع الإحكام ١ : ١٠٠.

(٣) والأولى أن يقول : «أو وجوب الكلّ مع سقوط الباقي بفعل الواحد».

والوجه في الأولويّة أنّه يشمل ما إذا تعلّق الأمر بأحد الشيئين أو بأحد الأشياء. وأمّا عبارة المتن فلا يشمل إلّا ما إذا تعلّق الأمر بأحد الشيئين ، كما هو الظاهر.

وهذا القول منسوب إلى الجبّائيّين. واختاره السيّد المرتضى في الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ٨٨ ـ ٩٩.

ولعلّ الفرق بين هذا القول والقول الأوّل أنّ الواجب على القول الأوّل هو كلّ واحد تعيينا مقيّدا بعدم الإتيان بالطرف الآخر ، ـ بمعنى عدم جواز ترك كلّ واحد من الأطراف إلّا بإتيان الآخر ـ. وعلى هذا القول يكون الواجب كلّ واحد تعيينا من دون التقييد بعدم الإتيان بالطرف الآخر إلّا أنّه يسقط وجوب المتعلّق بكلّ واحد بفعل أحد الأطراف.

والفرق بين القولين والقول الثاني ـ أي القول بوجوب الواحد لا بعينه ـ أنّ الواجب على القولين متعدّد ، وعلى القول الثاني واحد. ـ

٢٦٠