كفاية الأصول - ج ١

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٦
ISBN: 978-964-470-184-9
الصفحات: ٢٩٦

لا يقال : علي هذا يمكن تداخل علمين في تمام مسائلهما في ما كان هناك مهمّان متلازمان في الترتّب على جملة من القضايا لا يكاد انفكاكهما.

فإنّه يقال : ـ مضافا إلى بعد ذلك بل امتناعه عادة ـ لا يكاد يصحّ لذلك تدوين علمين وتسميتهما باسمين ، بل تدوين علم واحد ، يبحث فيه تارة لكلا المهمّين واخرى لأحدهما ، وهذا بخلاف التداخل في بعض المسائل ، فإنّ حسن تدوين علمين كانا مشتركين في مسألة أو أزيد في جملة (١) مسائلهما المختلفة لأجل مهمّين ممّا لا يخفي (٢).

[تمايز العلوم]

وقد انقدح بما ذكرنا أنّ تمايز العلوم إنّما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين ، لا الموضوعات (٣) ولا المحمولات (٤) ، وإلّا كان كلّ باب ـ بل كلّ مسألة ـ من كلّ علم علما على حدة ـ كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمّل ـ ، فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجبا للتعدّد (٥) ، كما لا يكون

__________________

(١) في قوله : «في جملة» وجهان :

الأوّل : أن يكون متعلّقا بقوله : «تدوين» ، ومعناه : أنّ حسن تدوين علمين ـ كانا مشتركين في مسألة أو أزيد ـ في جملة من مسائلهما المختلفة لأجل مهمّين ممّا لا يخفي.

الثاني : أن يكون بدلا عن قوله : «أو أزيد» ومعناه : أنّ حسن تدوين علمين ـ كانا مشتركين في مسألة أو في جملة من مسائلهما المختلفة ـ لأجل مهمّين ممّا لا يخفي.

(٢) خبر عن قوله : «فإنّ».

(٣) والقول بأنّ تمايزها بتمايز الموضوعات منسوب إلى المشهور ، كما في فوائد الاصول ١ : ٢٤.

وذهب المحقّق الأصفهانيّ والمحقّق النائينيّ إلى أنّ تمايزها بتمايز الموضوعات المتحيّثة بالحيثيّة الخاصّة ، ولكن اختلفا في ما يراد من تحيّث الموضوع. راجع نهاية الدراية ١ : ١٠ ، وفوائد الاصول ١ : ٢٥ ـ ٢٦.

(٤) لم أجد من ذهب إليه. وفي المقام قولان آخران ذهب إلى أحدهما السيّد الإمام الخمينيّ وإلى الآخر السيّد المحقّق الخوئيّ ؛ فذهب الأوّل إلى أنّ تمايزها بذات العلوم ، والثاني إلى عدم انحصاره بالموضوع والأغراض. راجع مناهج الوصول : ١ : ٤٤ والمحاضرات ١ : ٢٧.

(٥) أورد عليه المحقّق الاصفهانيّ في نهاية الدراية ١ : ١١ ـ ١٢.

٢١

وحدتهما سببا لأن يكون من الواحد.

ثمّ إنّه ربما لا يكون لموضوع العلم ـ وهو الكلّيّ المتّحد مع موضوعات المسائل ـ عنوان خاصّ واسم مخصوص ، فيصحّ أن يعبّر عنه بكلّ ما دلّ عليه ، بداهة عدم دخل ذلك في موضوعيّته أصلا.

[موضوع علم الاصول]

وقد انقدح بذلك أنّ موضوع علم الاصول هو الكلّيّ المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّتة (١) ، لا خصوص الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة (٢) ، بل ولا بما هي هي (٣) ، ضرورة أنّ البحث في غير واحد من مسائله المهمّة ليس عن عوارضها.

وهو (٤) واضح لو كان المراد بالسنّة منها (٥) هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، كما هو المصطلح فيها ، لوضوح عدم البحث في كثير من مباحثها المهمّة ـ كعمدة مباحث التعادل والترجيح ، بل ومسألة حجّيّة خبر الواحد ـ لا عنها ولا عن سائر الأدلّة.

__________________

(١) وخالفه كثير ممن تأخّر عنه. فذهب المحقّق العراقيّ إلى عدم وجود الموضوع لعلم الاصول ، لعدم جامع متصوّر في مسائل علم الاصول. وتبعه السيّد المحقّق الخوئيّ. راجع نهاية الأفكار ١ : ١٠ ، والمحاضرات ١ : ٢٨.

وذهب المحقّق النائينيّ إلى أنّ موضوعه كلّ ما كان عوارضه واقعة في طريق استنباط الحكم الشرعيّ أو ما ينتهي إليه العمل. فوائد الاصول ١ : ٢٨.

وذهب السيّد الإمام الخمينيّ ـ تبعا لاستاذه المحقّق البروجرديّ ـ إلى أنّ موضوع علم الاصول هو الحجّة في الفقه. راجع نهاية الاصول : ١١ ، وأنوار الهداية ١ : ٢٧٠ ـ ٢٧٢.

(٢) كما ذهب إليه المحقّق القميّ في قوانين الاصول ١ : ٩.

(٣) أي : الأدلّة الأربعة بذاتها ، وهي : الكتاب والسنّة والاجماع والعقل. وهذا ما ذهب إليه صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ١١ ـ ١٢.

وقريب منه ما عن بعض العامّة حيث فسّروا اصول الفقه ب «أدلّة الفقه» ـ أي الكتاب والسنّة والاجماع والقياس والاستدلال أو الاستصحاب ـ. كما في الإحكام ١ : ٩ ـ ١٠ ، واللمع : ٦.

(٤) أي : عدم كون البحث في أكثر مسائله عن عوارض الأدلّة.

(٥) أي : من الأدلّة الأربعة.

٢٢

ورجوع البحث فيهما في الحقيقة إلى البحث عن ثبوت السنّة بخبر الواحد في مسألة حجّيّة الخبر ـ كما افيد (١) ـ وبأيّ الخبرين في باب التعارض ، فإنّه أيضا بحث في الحقيقة عن حجّيّة الخبر في هذا الحال (٢) ، غير مفيد (٣) ؛ فإنّ البحث عن ثبوت الموضوع وما هو (٤) مفاد كان التّامّة (٥) ليس بحثا عن عوارضه ، فإنّها مفاد كان الناقصة (٦).

لا يقال : هذا في الثبوت الواقعيّ ، وأمّا الثبوت التعبّديّ (٧) ـ كما هو المهمّ في هذه المباحث ـ فهو في الحقيقة يكون مفاد كان الناقصة.

فإنّه يقال : نعم ، لكنّه ممّا لا يعرض السنّة ، بل الخبر الحاكي لها ، فإنّ الثبوت التعبّديّ يرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر ، كالسنّة المحكيّة به ، وهذا من عوارضه لا عوارضها ، كما لا يخفي. وبالجملة : الثبوت الواقعيّ ليس من العوارض ، والتعبّديّ وإن كان منها إلّا أنّه ليس للسنّة ، بل للخبر ، فتأمّل جيّدا.

وأمّا إذا كان المراد من السنّة ما يعمّ حكايتها (٨) ، فلأنّ البحث في تلك المباحث وإن كان عن أحوال السنّة بهذا المعنى ، إلّا أنّ البحث في غير واحد من مسائلها ـ كمباحث الألفاظ وجملة من غيرها (٩) ـ لا يخصّ الأدلّة ، بل يعمّ غيرها ، وإن كان المهمّ معرفة أحوال خصوصها ، كما لا يخفي.

__________________

(١) هذا ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاريّ في مبحث حجّيّة خبر الواحد من فرائد الاصول ١ : ٢٣٨.

(٢) أي : حال التعارض. ولم أجد من أفاده في باب التعارض.

(٣) خبر قوله : «رجوع البحث».

(٤) أي : ثبوت الموضوع.

(٥) هكذا في جميع النسخ. والأولى أن يقول : «وهو مفاد كان التامّة».

(٦) مفاد كان الناقصة هو مطلب هل المركّبة ، أي : ثبوت شيء لشيء ، كما أنّ مفاد كان التامّة هو مطلب هل البسيطة ، أي : ثبوت الشيء.

(٧) وهو يرجع إلى العمل بالخبر تعبّدا.

(٨) والأولى أن يقول : «ما يعمّ الحاكي لها».

(٩) كبعض مباحث الأدلّة العقليّة ، وبعض أقسام الاجماع ، وبعض مباحث الأوامر كالبحث عن ظهور الأمر في الوجوب.

٢٣

[تعريف علم الاصول]

ويؤيّد ذلك تعريف [علم] الاصول بأنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة (١) ، وإن كان الأولى تعريفه ب «أنّه صناعة يعرف بها القواعد الّتي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام ، أو الّتي ينتهي إليها في مقام العمل» (٢) بناء على أنّ مسألة حجّيّة الظنّ على الحكومة ومسائل الاصول العمليّة في الشبهات الحكميّة من الاصول (٣) ، كما هو كذلك ، ضرورة أنّه لا وجه لالتزام الاستطراد في مثل هذه المهمّات.

__________________

(١) كما في قوانين الاصول ١ : ٥ ، والفصول الغرويّة : ٩.

(٢) والوجه في الأولويّة خلّوه عمّا في التعريف السابق من الخلل. والعمدة لزوم خروج بعض المسائل الاصوليّة من علم الاصول ، كالظنّ الانسداديّ على الحكومة حيث لا علم بالحكم في مورده ، والاصول العمليّة في الشبهات الحكميّة حيث أنّها بنفسها أحكام شرعيّة لا أنّها واسطة في استنباطها. وإن شئت تفصيل الخلل فراجع نهاية الدراية ١ : ١٧ ـ ١٨ ونهاية الأفكار ١ : ١٩ ـ ٢٠.

ولكن لا يخفي : أنّ هذا التعريف أيضا وقع مورد النقض والابرام ، فعدل عنه تلميذه المحقّق النائينيّ إلى أنّ علم الاصول عبارة عن العلم بالكبريات الّتي لو انضمّت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعيّ كلّي». وعدل عنه المحقّق العراقيّ أيضا وبعض من تأخّر ، فراجع فوائد الاصول ١ : ١٩ ، ونهاية الأفكار ١ : ١٩ ، وتهذيب الاصول ١ : ٥.

(٣) أي : من علم الاصول.

٢٤

الأمر الثاني

[تعريف الوضع وأقسامه] (١)

__________________

(١) لا يخفى : أنّه يقع الكلام في الوضع من جهات :

الاولى : ما الوضع؟

الثانية : ما أقسامه؟

الثالثة : هل دلالة الألفاظ على معانيها ذاتيّة أو جعليّة؟

الرابعة : هل للألفاظ نحو مناسبة ذاتيّة توجب جعل اللفظ للمعنى أو المناسبة بينهما انّما تحصل بالجعل؟

الخامسة : هل الوضع من الامور الواقعيّة أو من الامور الاعتباريّة؟

السادسة : من الواضع؟

والمصنّف رحمه‌الله انّما تعرّض للجهتين : الاولى والثانية. وأمّا الثالثة والرابعة فأشار إليهما بقوله : «ناشئ من تخصيصه ...». وأمّا الخامسة والسادسة فلم يتعرّض لها أصلا ، بل ليس في كلامه أيّة إشارة إليهما.

أمّا الجهة الأولى : فقال المصنّف رحمه‌الله : «الوضع هو نحو اختصاص للفظ بالمعنى وارتباط خاصّ بينهما».

وأورد عليه السيّد الإمام الخمينيّ بأنّ الاختصاص والارتباط ليس وضعا ، بل أثره ، والوضع هو جعل اللفظ للمعنى وتعيينه للدلالة عليه. مناهج الوصول ١ : ٥٧.

وأمّا الجهة الثانية : فتعرّض له المصنّف رحمه‌الله حيث قال : «ثمّ إنّ الملحوظ حال الوضع ...».

وأمّا الجهة الثالثة : فربّما يقال : «إنّ دلالة الألفاظ على معانيها ذاتيّة». وهو المنسوب إلى سليمان بن عبّاد الصيمريّ. ولكنّه ـ على فرض صحّة أصل النسبة ـ متفرّد فيه ، بل المتّفق عليه أنّه ليست دلالتها ذاتيّة وإلّا يعرفها كلّ أحد. والمصنّف رحمه‌الله أشار إلى عدم ذاتيّة دلالتها ـ

٢٥

[تعريف الوضع]

الوضع هو نحو اختصاص للّفظ بالمعنى وارتباط خاصّ بينهما ، ناشئ من تخصيصه به تارة ومن كثرة استعماله فيه اخرى ؛ وبهذا المعنى صحّ تقسيمه إلى التعيينيّ والتعيّنيّ ، كما لا يخفى.

[أقسام الوضع]

ثمّ إنّ الملحوظ حال الوضع إمّا يكون معنى عامّا فيوضع اللفظ له تارة ولأفراده ومصاديقه اخرى ، وإمّا يكون معنى خاصّا لا يكاد يصحّ إلّا وضع اللفظ

__________________

ـ بقوله : «ناشئ من تخصيصه ...».

وأمّا الجهة الرابعة : فأوّل من تعرّض لها بالصراحة هو المحقّق النائينيّ في فوائد الاصول ١ : ٣٠ ـ ٣١ ، فذهب إلى أنّ للألفاظ نحو مناسبة ذاتيّة لمعانيها توجب وضعها لمعانيها ، وإن كانت تلك المناسبة مجهولة.

وأنكره ـ أشدّ الإنكار ـ المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ١ : ٢٤ ـ ٢٥ ، وذهب إلى عدم وجود مناسبة ذاتيّة بينهما ، كما أنكره السيّد المحقّق الخوئيّ في المحاضرات ١ : ٣٥ ـ ٣٦.

وفي كلام المصنّف رحمه‌الله : «ناشئ من تخصيصه ...» تلويح إلى أنّ العلقة والمناسبة تحصل بالوضع. واختاره السيّد الإمام الخمينيّ على ما في تنقيح الاصول ١ : ٢٩.

وأمّا الجهة الخامسة : فتعرّض له تلميذه المحقّق الاصفهانيّ في نهاية الدراية ١ : ٢٠ ـ ٢٢ ، فذهب إلى أنّ الوضع من الامور الاعتباريّة ، وهو أمر مباشريّ قائم بالمعتبر بالمباشرة.

وخالفه المحقّق العراقيّ وذهب إلى أنّ الوضع من الامور الواقعيّة ، بمعنى أنّ صقعها قبل وجود اللفظ في الخارج وإن لا يكون إلّا الذهن ، إلّا أنّها بنحو ينال العقل خارجيّتها عند وجود طرفيها تبعا لها بنحو القضيّة الحقيقيّة ، فلو وجد اللفظ وجد العلاقة. نهاية الأفكار ١ : ٢٦.

وأمّا الجهة السادسة : فتعرّض له المحقّق النائينيّ في فوائد الاصول ١ : ٣٠. وذهب إلى أنّ الواضع هو الله تعالى بتوسيط الوحي إلى أنبيائه أو الإلهام منه إلى البشر أو الابداع في طباعهم.

وأورد عليه السيّد الخوئيّ في المحاضرات ١ : ٣٥ ـ ٣٨ ، ثمّ اختار أنّ الواضع لا ينحصر بشخص واحد أو جماعة معيّنة.

٢٦

له دون العامّ ، فتكون الأقسام ثلاثة (١). وذلك لأنّ العامّ يصلح لأن يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو كذلك (٢) ، فإنّه من وجوهها ، ومعرفة وجه الشيء معرفته بوجه ؛ بخلاف الخاصّ ، فإنّه ـ بما هو خاصّ ـ لا يكون وجها للعامّ ولا لسائر الأفراد ، فلا تكون معرفته وتصوّره معرفة له ، ولا لها أصلا ، ولو بوجه.

نعم ربما يوجب تصوّره تصوّر العامّ بنفسه ، فيوضع له اللفظ (٣) ، فيكون الوضع عامّا كما كان الموضوع له عامّا (٤). وهذا بخلاف ما في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، فإنّ الموضوع له ـ وهي الأفراد ـ لا يكون متصوّرا إلّا بوجهه وعنوانه ، وهو العامّ (٥) ، وفرق واضح بين تصوّر الشيء بوجهه وتصوّره بنفسه ولو كان بسبب تصوّر أمر آخر.

ولعلّ خفاء ذلك على بعض الأعلام (٦) وعدم تمييزه بينهما كان موجبا لتوهّم إمكان ثبوت قسم رابع ، وهو أن يكون الوضع خاصّا مع كون الموضوع له عامّا. مع أنّه واضح لمن كان له أدنى تأمّل.

ثمّ إنّه لا ريب في ثبوت الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ، كوضع الأعلام (٧). وكذا الوضع العامّ والموضوع له العامّ (٨) ، كوضع أسماء الأجناس. وأمّا

__________________

(١) أي : تكون الأقسام الّتي يمكن وقوعها ثلاثة.

(٢) أي : بما هو عامّ ولا بشرط.

(٣) أي : يوضع اللفظ للعامّ المتصوّر بتصوّر الخاصّ.

(٤) أي : فيكون الملحوظ حال الوضع عامّا ويوضع اللفظ لذلك العامّ.

(٥) ولا يخفى : أنّ العامّ بما أنّه عامّ لا يمكن أن يكون مرآة للخاصّ بما هو خاصّ ، ضرورة أنّ الإنسان بما أنّه إنسان لا يحكي إلّا عن الإنسانيّة الصرفة ، نعم إذا تصوّرناه بما أنّه صادق على الأفراد يحكي عنها إجمالا.

(٦) وهو المحقّق الرشتيّ في بدائع الأفكار : ٤٠.

(٧) والسيّد الإمام الخمينيّ تأمّل في كون الوضع في الأعلام الشخصيّة من الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ، بل التزم بأنّها موضوعة للماهيّة الكلّيّة الّتي لا تنطبق إلّا على الفرد الواحد. راجع مناهج الوصول ١ : ٦٧.

(٨) وقسّمه المحقّق العراقيّ إلى قسمين : ١ ـ أن يلحظ المعنى العامّ مستقلّا ويضع اللفظ بإزائه.

٢ ـ أن يلحظ المعنى المنتزع عن الجهة المشتركة بين الأفراد الذهنيّة ويضع اللفظ بإزائه. ـ

٢٧

الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ فقد توهّم (١) أنّه وضع الحروف وما الحق بها من الأسماء (٢) ؛ كما توهّم (٣) أيضا أنّ المستعمل فيه فيها خاصّ (٤) مع كون الموضوع له كالوضع عامّا (٥).

[الوضع في الحروف]

والتحقيق ـ حسب ما يؤدّي إليه النظر الدقيق ـ أنّ حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الأسماء (٦). وذلك لأنّ الخصوصيّة المتوهّمة (٧) إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصّص بها جزئيّا خارجيّا ، فمن الواضح أنّ كثيرا ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك ، بل كلّيّا (٨) ؛ ولذا التجأ بعض

__________________

ـ نهاية الأفكار ١ : ٣٢ ـ ٣٣.

ولكن في هذا التقسيم ملاحظات ذكر بعضها في نهاية الدراية ١ : ٢٥ ، وبعض آخر منها في مناهج الوصول ١ : ٦٠ ـ ٦٣.

(١) هذا ما توهّمه المحقّق السيّد الشريف في حواشيه على المطوّل : ٣٧٢ ، والمحقّق القمّي في قوانين الاصول ١ : ١٠ ، وصاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ١٦.

(٢) كأسماء الإشارات والضمائر.

(٣) تعرّض له صاحب الفصول من دون أن يصرّح بقائله ، راجع الفصول : ١٦. وقد ينسب إلى التفتازانيّ.

(٤) وفي بعض النسخ : «المستعمل فيه فيها خاصّا» ، والصحيح ما في المتن.

(٥) والفرق بين الموضوع له والمستعمل فيه أنّ الموضوع له هو المعنى الملحوظ حال الوضع فيوضع له اللفظ ، والمستعمل فيه هو المعنى الملحوظ حال الاستعمال. فالمراد من كون المستعمل فيه في الحروف خاصّا والموضوع له فيها عامّا أنّ المعنى الملحوظ حال وضعها هو معنى عامّ كلّي وإن استعمل اللفظ في الجزئيّ ، فكلمة «من» ـ مثلا ـ يوضع للابتداء بمعناه العامّ ولكن استعمل في الابتداء من نقطة خاصّة من البصرة ـ مثلا ـ.

(٦) أي : كان الموضوع له والمستعمل فيه فيها عامّا كما كان الوضع فيها عامّا.

(٧) أي : الخصوصيّة الّتي توهّمها بعض في موضوع له أو مستعمل فيه الحروف.

(٨) كما في قولنا : «سر من البصرة إلى الكوفة» ، فإنّ كلمة «من» و «إلى» استعملا في كلّيّ الابتداء والانتهاء.

٢٨

الفحول (١) إلى جعله جزئيّا إضافيّا ، وهو كما ترى (٢). وإن كانت هي الموجبة لكونه جزئيّا ذهنيّا ـ حيث إنّه لا يكاد يكون المعنى حرفيّا إلّا إذا لوحظ حالة لمعنى آخر ومن خصوصيّاته القائمة به ويكون حاله كحال العرض (٣) ، فكما لا يكون [العرض] في الخارج إلّا في الموضوع ، كذلك هو لا يكون في الذهن إلّا في مفهوم آخر (٤) ؛ ولذا قيل (٥) في تعريفه : بأنّه ما دلّ على معنى في غيره ـ فالمعنى وإن كان لا محالة يصير جزئيّا بهذا اللحاظ بحيث يباينه إذا لوحظ ثانيا كما لوحظ أوّلا ولو كان اللاحظ واحدا ، إلّا أنّ هذا اللحاظ لا يكاد يكون مأخوذا في المستعمل فيه ، وإلّا فلا بدّ من لحاظ آخر متعلّق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ (٦) ، بداهة أنّ تصوّر المستعمل فيه ممّا لا بدّ منه في استعمال الألفاظ ، وهو كما ترى.

مع أنّه يلزم أن لا يصدق على الخارجيّات ، لامتناع صدق الكلّي العقليّ

__________________

(١) كالشيخ محمّد تقي في هداية المسترشدين : ٣٠ ، وصاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ١٦.

وقريب منه ما التجأ به المحقّق الاصفهانيّ من أنّها موضوعة للأخصّ من المعنى الملحوظ حال الوضع وأنّ ميزان عموم الوضع وخصوص الموضوع له ليس الوضع للجزئيّات الحقيقيّة. راجع نهاية الدراية ١ : ٣٠ ـ ٣٢.

(٢) لأنّ الجزئيّ الإضافيّ يرجع إلى الكلّيّ حيث ينطبق على الكثيرين.

(٣) لا يخفى : أنّه يكون حال المعنى الحرفيّ حال العرض في عدم الاستقلال فقط ؛ والّا فبينهما بون بعيد ، فإنّ العرض موجود في نفسه لغيره ـ أي يطرد العدم عن ماهيّته ـ ويسمّى بالوجود الرابطيّ ، والمعنى الحرفيّ موجود في غيره ـ أي لا يطرد العدم إلّا عن اتّحاد طرفيه ـ ويسمّى بالوجود الرابط ، كوجود النسبة بين الموضوع والمحمول.

وإن شئت تفصيل الفرق بين الوجودين فراجع ما علّقنا على الفصل الثالث من المرحلة الثانية من نهاية الحكمة.

(٤) لا يخفى : أنّ المعنى الحرفيّ وجود رابط ، والوجود الرابط ليس وعاؤه الذهن فقط ـ كما يتراءى من عبارة المصنّف ـ ، بل يكون نحو وجوده تبعا لوجود طرفيه ، سواء كان هذا الوعاء هو الخارج أو الذهن.

(٥) والقائل هو ابن الحاجب في الكافية ، راجع شرح الكافية ١ : ٧.

(٦) فيلزم اجتماع اللحاظين ، وهو خلاف الوجدان.

٢٩

عليها (١) ، حيث لا موطن له إلّا الذهن ، فامتنع امتثال مثل : «سر من البصرة» ، إلّا بالتجريد (٢) وإلغاء الخصوصيّة. هذا.

مع أنّه ليس لحاظ المعنى حالة لغيره في الحروف إلّا كلحاظه في نفسه في الأسماء ، وكما لا يكون هذا اللحاظ معتبرا في المستعمل فيه فيها ، كذلك اللحاظ في الحروف ، كما لا يخفى.

وبالجملة : ليس المعنى في كلمة «من» ولفظ «الابتداء» ـ مثلا ـ إلّا الابتداء. فكما لا يعتبر في معناه لحاظه في نفسه ومستقلّا ، كذلك لا يعتبر في معناها لحاظه في غيرها وآلة (٣) ، وكما لا يكون لحاظه فيه موجبا لجزئيّته فليكن كذلك فيها (٤).

__________________

(١) لا يخفى : أنّ المفروض أنّ المعنى الحرفيّ جزئيّ ذهنيّ ، فلا يصحّ الاستدلال على عدم صدقه على الخارجيّات بامتناع صدق الكلّي العقليّ عليها. فالصحيح إمّا أن يقال : «كامتناع صدق الكلّي العقليّ عليها» أو يقال : «لامتناع صدق الجزئيّ الذهنيّ عليها».

(٢) أي : تجريد المعنى الحرفيّ عن لحاظه حالة لغيره.

(٣) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «في غيره وآلة». ومعنى العبارة : أنّه لا يعتبر في معنى كلمة «من» لحاظ المعنى في ضمن غيره وآلة للربط بين معنيين.

(٤) فالوضع والموضوع له والمستعمل فيه في الحروف عامّ كما هو في الأسماء كذلك.

وهذا القول قد ينسب إلى المحقّق الرضيّ ، كما قد ينسب إليه القول بعدم وضع الحروف لمعان أصلا ، بل حالها حال علامات الإعراب في إفادة كيفيّة خاصّة في لفظ آخر. والوجه في نسبتهما إليه هو ما في كلماته من الاضطراب ، راجع شرح الكافية ١ : ٩ ـ ١٠.

ثمّ ينبغي التعرّض لما أفاده الأعلام الثلاثة في المقام :

أمّا المحقّق النائينيّ : فوافق في الشقّ الأوّل ـ أي أنّ الوضع والموضوع له في الحروف عامّ ـ ، وخالفه في الشقّ الثاني ـ أي في كيفيّة الفرق بين المعنى الحرفيّ والاسميّ ـ ، فذهب إلى أنّهما متباينان بالذات والحقيقة ولا اشتراك لهما في طبيعيّ معنى واحد ، فإنّ المفاهيم الاسميّة مفاهيم استقلاليّة اخطاريّة ، والمفاهيم الحرفيّة مفاهيم غير استقلاليّة إيجاديّة. فوائد الاصول ١ : ٣٤ ـ ٥٨.

وأمّا المحقّق الاصفهانيّ : فخالفه في كلا الشقّين ، وذهب ـ بعد اختيار المباينة بالذات بين المعنى الحرفيّ والاسميّ ـ إلى عموم الوضع وخصوص الموضوع له ، بمعنى أنّ الحروف موضوعة للأخصّ من المعنى الملحوظ حال الوضع. نهاية الدراية ١ : ٢٦ ـ ٣٢. ـ

٣٠

إن قلت : على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى ، ولزم كون مثل كلمة «من» ولفظ «الابتداء» مترادفين (١) صحّ استعمال كلّ منهما في موضع الآخر ، وهكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها ، وهو باطل بالضرورة ، كما هو واضح.

قلت : الفرق بينهما إنّما هو في اختصاص كلّ منهما بوضع ، حيث إنّه وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه ، والحرف ليراد منه معناه لا كذلك ، بل بما هو حالة لغيره ، كما مرّت الإشارة إليه غير مرّة. فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع يكون موجبا لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر وإن اتّفقا فيما له الوضع (٢). وقد عرفت بما لا مزيد عليه : أنّ نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن

__________________

ـ وأمّا المحقّق العراقيّ : فوافق المصنّف في الشقّ الأوّل ، ولكن لا بالمعنى المشهور ، بل بمعنى أنّ الموضوع له في الحروف ـ في كلّ صنف منها ـ عبارة عن الجامع بين أشخاص تلك الروابط. نهاية الأفكار ١ : ٥٣ ـ ٥٤.

وهذه الأقوال كلّها وقع مورد النقض والابرام بين الأعلام الثلاثة ومن تأخّر عنهم ، سيّما السيّد الامام الخمينيّ والسيّد الخوئيّ ، فإنّهما ـ بعد التأمّل فيما أفاده الأعلام الثلاثة ـ ذهبا إلى كون الوضع في الحروف عامّا والموضوع له خاصّا ، فراجع مناهج الوصول ١ : ٦٨ ـ ٨٥ ، والمحاضرات ١ : ٥٤ ـ ٨٢.

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «مترادفا».

(٢) توضيحه : أنّه لا فرق بين الاسم والحرف في المدلول التصوّري الّذي وضع اللفظ بإزائه ، فإنّ المدلول التصوّريّ في الاسم والحرف ليس إلّا ذات المعنى ، وهو الموضوع له فيهما ، فكلمة «من» و «الابتداء» ـ مثلا ـ لا تدلّان بالدلالة التصوّريّة إلّا على ذات الابتداء العامّ. وإنّما الفرق بينهما في المدلول التصديقيّ ـ أي الّذى أراده الواضع في مقام استعمالهما ، وهو في الاسم ذاك المعنى بما هو هو وفي نفسه وفي الحرف نفس المعنى بما هو حالة لغيره ـ ، فالاختلاف بينهما في المدلول التصديقيّ يوجب عدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر ، وإن اتّفقا في المدلول التصوّري الّذي وضعا فيه مشتركا.

ويظهر أنّ مراد المصنّف رحمه‌الله من قوله : «فى الوضع» هو المدلول التصديقيّ ، كما أنّ مراده من قوله : «فيما له الوضع» هو المدلول التصوّريّ.

٣١

أن يكون من خصوصيّاته (١) ومقوّماته (٢).

[الوضع في الخبر والإنشاء]

ثمّ لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والإنشاء أيضا كذلك ، فيكون الخبر موضوعا ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه ، والإنشاء ليستعمل في قصد تحقّقه وثبوته ، وإن اتّفقا فيما استعملا فيه (٣) ، فتأمّل (٤).

[الوضع في أسماء الإشارة والضمائر]

ثمّ إنّه قد انقدح ممّا حقّقناه أنّه يمكن أن يقال : إنّ المستعمل فيه في مثل أسماء الإشارة والضمائر أيضا عامّ ، وإنّ تشخّصه إنّما نشأ من قبل طور استعمالها (٥) ، حيث إنّ أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها ، وكذا بعض الضمائر ، وبعضها ليخاطب به المعنى (٦) ، والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخّص ، كما لا يخفى. فدعوى : «أنّ المستعمل فيه في مثل هذا ، أو هو ، أو إيّاك ، إنّما هو المفرد المذكّر ،

__________________

(١ و ٢) الضمير فيهما يرجع إلى المعنى الموضوع له.

(٣) والحاصل : أنّ الإخباريّة والإنشائيّة من مقوّمات المدلول التصديقيّ في مقام الاستعمال ، وإلّا فالخبر والإنشاء اتّفقا في المدلول التصوّريّ الّذي هو الموضوع له.

(٤) ولعلّ وجه التأمّل ما أورده عليه بعض من تأخّر عنه ، فراجع نهاية الدراية ١ : ٣٤ ـ ٣٥ ، نهاية الأفكار ١ : ٥٤ ـ ٥٨ ، محاضرات في الاصول ١ : ٨٥ ـ ٨٩.

(٥) فالموضوع له والمستعمل فيه فيها عامّ كالوضع.

ووافقه تلميذه المحقّق العراقيّ وقال بامكان تصوير عموميّة الموضوع له فيها بالمعنى الّذي تصوّره في الوضع والموضوع له ـ كما مرّ ـ ، بل بالمعنى الّذي هو المشهور. فراجع نهاية الأفكار ١ : ٦٠ ـ ٦١.

وخالفه المحقّق الاصفهانيّ والسيّدان المحقّقان : الخوئيّ والخمينيّ رحمهما‌الله ، وذهبوا إلى أنّ الوضع فيها عامّ والموضوع له خاصّ. فراجع نهاية الدراية ١ : ٣٦ ، ومحاضرات في اصول الفقه ١ : ٩٠ ـ ٩١. ومناهج الوصول ١ : ٩٨.

(٦) وفي بعض النسخ : «ليخاطب بها المعنى» والتأنيث باعتبار المضاف إليه.

٣٢

وتشخّصه إنّما جاء من قبل الإشارة أو التخاطب بهذه الألفاظ إليه ، فإنّ الإشارة أو التخاطب لا يكاد يكون إلّا إلى الشخص أو معه» غير مجازفة.

[حاصل الكلام]

فتلخّص ممّا حقّقناه : أنّ التشخّص الناشئ من قبل الاستعمالات لا يوجب تشخّص المستعمل فيه ، سواء كان تشخّصا خارجيّا ـ كما في مثل أسماء الإشارة ـ أو ذهنيّا ـ كما في أسماء الأجناس والحروف ونحوهما ـ ، من غير فرق في ذلك أصلا بين الحروف وأسماء الأجناس ، ولعمري هذا واضح. ولذا ليس في كلام القدماء من كون الموضوع له أو المستعمل فيه خاصّا في الحرف عين ولا أثر ، وإنّما ذهب إليه بعض من تأخّر (١). ولعلّه لتوهّم كون قصده بما هو في غيره من خصوصيّات الموضوع له أو المستعمل فيه ، والغفلة من أنّ قصد المعنى من لفظه على أنحائه لا يكاد يكون من شئونه وأطواره ، وإلّا فليكن قصده بما هو هو وفي نفسه كذلك. فتأمّل في المقام ، فإنّه دقيق وقد زلّ فيه أقدام غير واحد من أهل التحقيق والتدقيق.

__________________

(١) منهم صاحب القوانين في القوانين ١ : ١٠ ، وصاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ١٦ ، والمحقّق الشريف في تعليقته على المطوّل : ٣٧٤.

٣٣

الثالث

[استعمال اللفظ في المعنى المجازيّ]

صحّة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له (١) هل هو بالوضع أو بالطبع؟ (٢) وجهان ، بل قولان (٣). أظهرهما أنّه بالطبع ، بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه ولو مع منع الواضع عنه ، وباستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه ولو مع ترخيصه ، ولا معنى لصحّته إلّا حسنه (٤). والظاهر أنّ صحّة استعمال اللفظ في نوعه أو مثله من قبيله. كما تأتي الإشارة إلى تفصيله (٥).

__________________

(١) أي : المعنى المجازيّ.

(٢) ولا يخفى : أنّ هذا البحث ـ بعد الاتّفاق على جواز استعمال اللفظ في المعنى المناسب للموضوع له ـ ليس فيه ثمرة عمليّة ، بل ولا علميّة.

(٣) أحدهما : أنّه بالطبع ، كما ذهب إليه المحقّق القميّ في القوانين ١ : ٦٤ ، وتبعه المصنّف في المقام.

وثانيهما : أنّه بالوضع. واختلفوا في أنّه بالوضع الشخصيّ أو أنّه بالوضع النوعيّ؟ والأصل عدمهما.

قد يقال : «إنّ نفس الوضع للمعنى الحقيقيّ وضع للمجازات أيضا ، فيستعمل اللفظ في المجازات أيضا استعمالا حقيقيّا». وهذا ما ذهب إليه السكّاكيّ من انكار المجاز في الكلمة في الاستعارات. ووسّعه الشيخ أبو المجد محمّد رضا الاصفهانيّ بعدم اختصاصه بالاستعارات ، بل هو جار في مطلق المجازات حتّى المركّب والكناية. وتبعه السادة المحقّقون : البروجرديّ والخمينيّ والخوئيّ. فراجع المطوّل : ٣٦٢ ، وقاية الأذهان : ١٠٣ ـ ١١٢ ، نهاية الاصول ١ : ٢٤ ـ ٢٥ ، مناهج الوصول ١ : ١٠٤ ، المحاضرات ١ : ٩٣.

(٤) الضميران يرجعان إلى الاستعمال.

(٥) في الأمر الآتي.

٣٤

الرابع

[إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله أو شخصه]

لا شبهة في صحّة إطلاق اللفظ وإرادة نوعه به ، كما إذا قيل : «ضرب ـ مثلا ـ فعل ماض» ؛ أو صنفه ، كما إذا قيل : «زيد في (ضرب زيد) فاعل» ، إذا لم يقصد به شخص القول (١) ؛ أو مثله ك «ضرب» في المثال فيما إذا قصد (٢). وقد أشرنا (٣) إلى أنّ صحّة الإطلاق كذلك وحسنه إنّما كان بالطبع لا بالوضع ، وإلّا كانت المهملات موضوعة لذلك (٤) ، لصحّة الإطلاق كذلك فيها ، والالتزام بوضعها كذلك كما ترى.

وأمّا إطلاقه وإرادة شخصه ـ كما إذا قيل : «زيد لفظ» ، واريد منه شخص نفسه ـ ففي صحّته بدون تأويل نظر ، لاستلزامه اتّحاد الدالّ والمدلول أو تركّب القضيّة من جزءين كما في الفصول (٥). بيان ذلك : أنّه إن اعتبر دلالته على نفسه ، حينئذ لزم الاتّحاد ، وإلّا لزم تركّبها من جزءين ، لأنّ القضيّة اللفظيّة على هذا إنّما تكون حاكية عن المحمول والنسبة ، لا الموضوع ، فتكون القضيّة المحكيّة بها مركّبة من جزءين ،

__________________

(١) أي : لم يقصد بلفظ «ضرب» في المثال الأوّل شخص «ضرب» الّذي وقع في المثال ، بل يقصد به هيئة ضرب. ولم يقصد بلفظ «زيد» في المثال الثاني شخص هذا اللفظ الواقع في المثال ، بل يقصد به كلّ اسم يقع بعد فعل ضرب.

(٢) أي : فيما إذا قصد شخص ضرب. ومثله عبارة عن «ضرب» في «ضرب خالد» و «ضرب عمرو» وغيرهما.

(٣) في الأمر السابق.

(٤) أي : النوع أو الصنف أو المثل.

(٥) الفصول الغرويّة : ٢٢.

٣٥

مع امتناع التركّب إلّا من الثلاثة ، ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبين (١).

قلت : يمكن أن يقال : إنّه يكفي تعدّد الدال والمدلول اعتبارا ، وإن اتّحدا ذاتا ؛ فمن حيث إنّه لفظ صادر عن لافظه كان دالّا ، ومن حيث إنّ نفسه وشخصه مراده كان مدلولا.

مع أنّ حديث تركّب القضيّة من جزءين لو لا اعتبار الدلالة في البين إنّما يلزم إذا لم يكن الموضوع نفس شخصه ، وإلّا كان أجزاؤها الثلاثة تامّة وكان المحمول فيها منتسبا إلى شخص اللفظ ونفسه. غاية الأمر أنّه نفس الموضوع لا الحاكي عنه (٢) ، فافهم ، فإنّه لا يخلو عن دقّة.

وعلى هذا ليس من باب استعمال اللفظ بشيء. بل يمكن أن يقال : إنّه ليس أيضا من هذا الباب ما إذا اطلق اللفظ واريد به نوعه أو صنفه ، فإنّه فرده ومصداقه حقيقة ، لا لفظه وذاك معناه ، كي يكون مستعملا فيه استعمال اللفظ في المعنى ؛ فيكون اللفظ نفس الموضوع الملقى إلى المخاطب خارجا ، قد احضر في ذهنه بلا وساطة حاك ، وقد حكم عليه ابتداء بدون واسطة أصلا ، لا لفظه (٣) ، كما لا يخفى ، فلا يكون في البين لفظ قد استعمل في معنى ، بل فرد قد حكم في القضيّة عليه بما هو مصداق لكلّيّ اللفظ ، لا بما هو خصوص جزئيّه.

__________________

(١) والحاصل : أنّا إمّا نلتزم بوجود الدالّ في قضيّة : «زيد لفظ» ، وليس الدالّ إلّا لفظ «زيد» ، فإنّه يوجب انتقال الذهن إلى صورة المدلول ، وليس المدلول إلّا نفس الموضوع في قضيّة «زيد لفظ» وهو لفظ «زيد» ، فيلزم اتّحاد الدالّ والمدلول ، وهو محال لامتناع اتّحاد الحاكي والمحكي. وإمّا نلتزم بعدم وجود الدالّ في القضيّة فليس في القضيّة ما يحكي عن الموضوع حتّى ينتقل الذهن إلى الموضوع ، ويلزم أن تكون القضيّة مركّبة من جزءين : المحمول والنسبة ، وهذا ممتنع لأنّ النسبة متقوّمة بالطرفين.

(٢) وحاصل الجواب عن الشقّ الثاني من الإشكال : أنّا نلتزم بعدم وجود الدالّ ، ولا يلزم تركّب القضيّة من جزءين ، فإنّ انتقال الذهن إلى الموضوع لا يحتاج إلى ثبوت الحاكي عنه ، بل يتحقّق بمجرّد إحضار نفس الموضوع خارجا.

(٣) أي : لا لفظ الموضوع الحاكي عنه.

٣٦

نعم فيما إذا اريد به فرد آخر مثله كان من قبيل استعمال اللفظ في المعنى. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ لفظ «ضرب» وإن كان فردا له إلّا أنّه إذا قصد به حكايته وجعل عنوانا له ومرآته كان لفظه المستعمل فيه ، وكان حينئذ كما إذا قصد به فرد مثله.

وبالجملة : فإذا اطلق واريد به نوعه ـ كما إذا اريد به فرد مثله ـ كان من باب استعمال اللفظ في المعنى ، وإن كان فردا منه وقد حكم في القضيّة بما يعمّه ؛ وإن اطلق ليحكم عليه بما هو فرد كلّيّه ومصداقه ، لا بما هو لفظه وبه حكايته ، فليس من هذا الباب ، لكنّ الإطلاقات المتعارفة ظاهرا ليست كذلك ، كما لا يخفى. وفيها ما لا يكاد يصحّ أن يراد منه ذلك (١) ممّا كان الحكم في القضيّة لا يكاد يعمّ شخص اللفظ ، كما في مثل «ضرب فعل ماض».

__________________

(١) أي : الحكم على الفرد بما هو مصداق لا بما هو مرآة كي يكون من غير الاستعمال.

٣٧

الخامس

[وضع الألفاظ لذوات المعاني]

لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي ، لا من حيث هي مرادة للافظها ، لما عرفت بما لا مزيد عليه (١) من أنّ قصد المعنى على أنحائه من مقوّمات الاستعمال ، فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه (٢).

__________________

(١) في الأمر الثاني.

(٢) الأولى أن يقول : «فلا يكاد يكون من قيود الموضوع له». وذلك لما مرّت الإشارة إليه من الفرق بين الموضوع له والمستعمل فيه ، وهو أنّ الموضوع له يطلق على المعنى الملحوظ حال الوضع فيوضع اللفظ بإزائه حتّى يفهم من اللفظ عند صدوره ؛ والمستعمل فيه يطلق على الملحوظ حال الاستعمال. والملحوظ حال الاستعمال مراد للمستعمل قطعا ، سواء استعمل اللفظ واريد إفهام نفس الموضوع له أو اريد إفهام غيره ممّا يناسب الموضوع له أو اريد عدم إفهام معنى خاصّ.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ لكلّ من الوضع والاستعمال غرض خاصّ ، فالغرض من الوضع ليس إلّا فهم نفس المعنى الملحوظ حال الوضع الّذي يفهم من اللفظ بمجرّد سماعه ، فليس الموضوع له إلّا نفس المعنى ، فلا يدلّ اللفظ بالدلالة الوضعيّة إلّا على نفس المعنى. وأمّا الاستعمال ـ وهو إظهار اللفظ ـ فالغرض منه دلالة السامع إلى ما يقصده المستعمل من إظهار اللفظ ، فليس المستعمل فيه إلّا ما يقصده المستعمل ، وهو تارة إفهام نفس الموضوع له ، وتارة اخرى إفهام ما يناسب الموضوع له ، وثالثة الإهمال والإجمال. فدلالة اللفظ على المستعمل فيه تابعة لإحراز ما أراده المتكلّم. وعلى هذا فلا يطلق المستعمل على من لم يصدر اللفظ عنه باختياره ، كالنائم والساهي وما يصدر عن فرق الهوى ، بل إنّما يصدر اللفظ منه ، والصدور أعمّ من ـ

٣٨

هذا مضافا إلى ضرورة صحّة الحمل والإسناد في الجمل بلا تصرّف في ألفاظ الأطراف ، مع أنّه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة لما صحّ بدونه (١) ، بداهة أنّ المحمول على زيد في «زيد قائم» والمسند إليه في «ضرب زيد» ـ مثلا ـ هو نفس القيام والضرب ، لا بما هما مرادان ؛ وهكذا الحال في طرف الموضوع (٢).

مع أنّه يلزم كون وضع عامّة الألفاظ عامّا والموضوع له خاصّا ، لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ (٣) ، فإنّه لا مجال لتوهّم أخذ مفهوم الإرادة فيه ، كما لا يخفى (٤).

[توجيه المحكيّ عن الشيخ الرئيس والمحقّق الطوسيّ]

وأمّا ما حكي عن العلمين : الشيخ الرئيس والمحقّق الطوسيّ ـ من مصيرهما

__________________

ـ الاستعمال ، ولذا لا يدلّ ما يصدر منه على المعنى المقصود وإن دلّ على نفس المعنى.

وبالجملة : لا تدلّ الألفاظ بالدلالة الوضعيّة إلّا على المعنى الموضوع له ، كما ذهب اليه المصنّف رحمه‌الله ، وتبعه تلميذه المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ١ : ٦٣ ـ ٦٤ والسيّد الإمام الخمينيّ في مناهج الوصول ١ : ١١٣ ـ ١١٥.

وخالفه السيّد المحقّق الخوئيّ مستدلّا بأنّ الغرض الباعث على الوضع هو ابراز المقاصد ، فلا يزيد سعة الوضع عن سعة ذلك الغرض ، فتختصّ العلقة الوضعيّة بصورة إرادة التفهيم ، وتنحصر الدلالة الوضعية في الدلالة التصديقيّة. محاضرات في اصول الفقه ١ : ١٠٤ ـ ١٠٥.

وأنت خبير بأنّه خلط بين الوضع والاستعمال وليس غرض الواضع إلّا جعل العلقة بين اللفظ والمعنى بحيث يفهم من اللفظ نفس المعنى لا المعنى المراد.

(١) أي : بدون التصرّف.

(٢) وفي النسخ المطبوعة ذكر قوله : «وهكذا الحال في طرف الموضوع» بعد قوله الآتي : «كما لا يخفى». ولكن الصحيح ما أثبتناه ، وهو الموافق لما في بعض النسخ.

(٣) فيكون الموضوع له هو المعاني المرادة بالإرادات الشخصيّة الحاصلة للمتكلّمين الموجبة لصيرورتها جزئيّة.

(٤) فالوجوه الّتي أقامها المصنّف رحمه‌الله ثلاثة : الأوّل : قوله : «لما عرفت ...». والثانى : ما أشار إليه بقوله : «مضافا إلى ضرورة ...». والثالث : ما تعرّض له بقوله : «مع أنّه يلزم ...».

واستدلّ عليه المحقّق العراقيّ بأنّ الإرادة من الامور المتأخّرة رتبة عن المعنى ، فيستحيل أخذها قيدا في ناحية الموضوع له. نهاية الأفكار ١ : ٦٣.

٣٩

إلى أنّ الدلالة تتبع الإرادة (١) ـ فليس ناظرا إلى كون الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة ـ كما توهّمه بعض الأفاضل (٢) ـ ، بل ناظر إلى أنّ دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقيّة (٣) ـ أي دلالتها على كونها مرادة للافظها ـ تتبع إرادتها منها (٤) وتتفرّع عليها ـ تبعيّة مقام الإثبات للثبوت وتفرّع الكشف على الواقع المكشوف ـ ، فإنّه لو لا الثبوت في الواقع لما كان للإثبات والكشف والدلالة مجال ، ولذا لا بدّ من إحراز كون المتكلّم بصدد الإفادة في إثبات إرادة ما هو ظاهر كلامه ودلالته على الإرادة (٥) ، وإلّا لما كانت لكلامه هذه الدلالة ، وإن كانت له الدلالة التصوّريّة ـ أي كون سماعه موجبا لإخطار معناه الموضوع له ، ولو كان من وراء الجدار أو من لافظ بلا شعور ولا اختيار ـ.

إن قلت : على هذا يلزم أن لا يكون هناك دلالة عند الخطأ والقطع بما ليس بمراد ، أو الاعتقاد بإرادة شيء ولم يكن له من اللفظ مراد.

قلت : نعم لا يكون حينئذ دلالة ، بل يكون هناك جهالة وضلالة يحسبها الجاهل دلالة.

ولعمري ما أفاده العلمان من التبعيّة ـ على ما بيّنّاه ـ واضح لا محيص عنه. ولا يكاد ينقضي تعجّبي كيف رضي المتوهّم أن يجعل كلامهما ناظرا إلى ما لا ينبغي صدوره عن فاضل ، فضلا عمّن هو علم في التحقيق والتدقيق؟!

__________________

(١) راجع الفصل الثامن من المقالة الاولى من الفن الأوّل من منطق الشفاء : ٤٢ ، وشرح الإشارات ١ : ٣٢.

(٢) وهو صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ١٧.

(٣) لا يخفى : أنّ حمل كلامهما على الدلالة التصديقيّة بعيد ، فإنّه لا يوافق صريح كلامهما من انحصار الدلالة اللفظيّة الوضعيّة في التصديقيّة. ولذا حمله غيره على محامل أخر ، فراجع نهاية الدراية ١ : ٣٩ ـ ٤٠ ، مناهج الوصول ١ : ١١٥.

(٤) والأولى أن يقول : «تتبع إحراز إرادتها منها» ، ضرورة أنّ مجرّد إرادة المتكلّم من دون إحرازها من السامع لا يوجب انتقال السامع إلى المعنى المراد ، كما أشار إليه بعد أسطر.

(٥) أي : وفي دلالة كلامه على المعنى المراد.

٤٠