كفاية الأصول - ج ١

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٦
ISBN: 978-964-470-184-9
الصفحات: ٢٩٦

منوطا بحصوله» انتهى موضع الحاجة من كلامه رحمه‌الله (١).

وقد عرفت (٢) بما لا مزيد عليه أنّ العقل الحاكم بالملازمة دلّ على وجوب مطلق المقدّمة ، لا خصوص ما إذا ترتّب عليها الواجب ، فيما لم يكن هناك مانع عن وجوبه ـ كما إذا كان بعض مصاديقه محكوما فعلا بالحرمة ـ ، لثبوت مناط الوجوب حينئذ في مطلقها وعدم اختصاصه بالمقيّد بذلك منها.

وقد انقدح منه : أنّه ليس للآمر الحكيم الغير المجازف بالقول ذلك التصريح. وأنّ دعوى أنّ الضرورة قاضية بجوازه مجازفة ، كيف يكون ذا؟! مع ثبوت الملاك في الصورتين (٣) بلا تفاوت أصلا ، كما عرفت.

نعم ، إنّما يكون التفاوت بينهما (٤) في حصول المطلوب النفسيّ في إحداهما (٥) وعدم حصوله في الاخرى (٦) ، من دون دخل لها في ذلك أصلا ، بل كان بحسن اختيار المكلّف وسوء اختياره ، وجاز للآمر أن يصرّح بحصول هذا المطلوب في إحداهما وعدم حصوله في الاخرى. بل وحيث (٧) إنّ الملحوظ بالذات هو هذا المطلوب ، وإنّما كان الواجب الغيريّ ملحوظا إجمالا بتبعه ـ كما يأتي أنّ وجوب المقدّمة على الملازمة تبعيّ ـ جاز في صورة عدم حصول المطلوب النفسيّ التصريح بعدم حصول المطلوب أصلا ، لعدم الالتفات إلى ما حصل من المقدّمة فضلا عن كونها مطلوبة ، كما جاز التصريح بحصول الغيريّ مع عدم فائدته لو التفت إليها ، كما لا يخفى ، فافهم.

إن قلت : لعلّ التفاوت بينهما في صحّة اتّصاف إحداهما بعنوان الموصليّة دون

__________________

(١) انتهى كلامه مع اختلاف يسير. فراجع الفصول الغرويّة : ٨٦.

(٢) تقدّم ذيل ردّ قول الشيخ في الصفحة : ٢١٦.

(٣) وهما : ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة وعدمه.

(٤) أي : بين الصورتين.

(٥) وهي الموصلة.

(٦) وهي : غير الموصلة.

(٧) وفي بعض النسخ : «وحيث». والأنسب وجود كلمة «بل» قبل قوله : «وحيث» ، كما في النسخة الأصليّة.

٢٢١

الاخرى أوجب التفاوت بينهما في المطلوبيّة وعدمها وجواز التصريح بهما ، وإن لم يكن بينهما تفاوت في الأثر ، كما مرّ.

قلت : إنّما يوجب ذلك تفاوتا فيهما لو كان ذلك لأجل تفاوت في ناحية المقدّمة ، لا فيما إذا لم يكن تفاوت في ناحيتها أصلا ، كما هاهنا ، ضرورة أنّ الموصليّة إنّما تنتزع من وجود الواجب وترتّبه عليها من دون اختلاف في ناحيتها (١) ، وكونها (٢) في كلا الصورتين على نحو واحد وخصوصيّة واحدة ، ضرورة أنّ الإتيان بالواجب بعد الإتيان بها بالاختيار تارة وعدم الإتيان به كذلك (٣) اخرى لا يوجب تفاوتا فيها ، كما لا يخفى.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره من أنّ مطلوبيّة المقدّمة حيث كانت بمجرّد التوصّل بها ، فلا جرم يكون التوصّل بها إلى الواجب معتبرا فيها. ففيه : أنّه إنّما كانت مطلوبيّتها لأجل عدم التمكّن من التوصّل بدونها ، لا لأجل التوصّل بها ، لما عرفت من أنّه (٤) ليس من آثارها ، بل ممّا يترتّب عليه (٥) أحيانا بالاختيار بمقدّمات اخرى ـ وهي مبادئ اختياره ـ ، ولا يكاد يكون مثل ذا (٦) غاية لمطلوبيّتها وداعيا إلى إيجابها.

وصريح الوجدان إنّما يقضي بأنّ ما اريد لأجل غاية وتجرّد عن الغاية بسبب عدم حصول سائر ما له دخل في حصولها يقع على ما هو عليه من المطلوبيّة الغيريّة (٧) ، كيف؟ وإلّا يلزم أن يكون وجودها من قيوده ومقدّمة

__________________

(١) أورد عليه المحقّق الاصفهانيّ بأنّ الموصليّة وشبهها من العناوين منتزعة عن المقدّمة عند بلوغها إلى حيث يمتنع انفكاكها عن ذيها. نهاية الدراية ١ : ٣٩٩.

(٢) معطوف على قوله : «أنّ الموصليّة» أي : وضرورة كون المقدّمة في صورة الإيصال وعدمه على نحو واحد.

(٣) أي : عدم الإتيان بالواجب بعد الإتيان بالمقدّمة بالاختيار.

(٤) أي : التوصّل والترتّب.

(٥) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «عليها» ، فإنّ الضمير يرجع إلى المقدّمة.

(٦) أي : مثل هذا التوصّل الفعليّ المترتّب على المقدّمة تصادفا بحسن اختيار المكلّف.

(٧) وبتعبير أوضح : يقع ما اريد لأجل غاية على صفة المطلوبيّة الغيريّة.

٢٢٢

لوقوعه (١) على نحو تكون الملازمة بين وجوبه بذاك النحو ووجوبها (٢) ، وهو كما ترى ، ضرورة أنّ الغاية لا تكاد تكون قيدا لذي الغاية بحيث كان تخلّفها موجبا لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو عليه من المطلوبيّة الغيريّة ، وإلّا يلزم أن تكون مطلوبة بطلبه كسائر قيوده ، فلا يكون وقوعه على هذه الصفة منوطا بحصولها كما أفاده.

ولعلّ منشأ توهّمه خلطه بين الجهة التقييديّة والتعليليّة (٣).

هذا مع ما عرفت من عدم تخلّف هاهنا ، وأنّ الغاية إنّما هو حصول ما لولاه لما تمكّن من التوصّل إلى المطلوب النفسيّ ، فافهم واغتنم.

ثمّ إنّه لا شهادة على الاعتبار (٤) في صحّة منع المولى عن مقدّماته بأنحائها إلّا فيما إذا رتّب عليه الواجب ـ لو سلّم ـ أصلا ، ضرورة أنّه وإن لم يكن الواجب منها حينئذ غير الموصلة إلّا أنّه ليس لأجل اختصاص الوجوب بها في باب

__________________

(١) كان الأولى أن يقول : «وإلّا يلزم أن يكون وجودها من قيودها ومقدّمة لوقوعه كذلك».

ومعناه : وإن لم يقع ما اريد لأجل غاية على صفة المطلوبيّة يلزم أن يكون وجود الغاية من قيود مطلوبيّة ما اريد لأجل الغاية ، ويلزم أيضا أن يكون وجود الغاية مقدّمة لوقوع ذي الغاية على صفة المطلوبيّة.

(٢) أي : على نحو تكون الملازمة بين وجوب ما اريد لأجل غاية بنحو المطلوبيّة الغيريّة ووجوب الغاية.

(٣) توضيحه : أنّ ترتّب الواجب على المقدّمة جهة تعليليّة لوجوب المقدّمة ، فيكون الترتّب علّة لوجوب المقدّمة ، بحيث لولاه لما أوجب المولى المقدّمة. وليس جهة تقييديّة كي يكون قيدا لوجوب المقدّمة بحيث لو انتفى الترتّب ينتفي الوجوب ـ كما زعمه صاحب الفصول ـ.

(٤) أي : على اعتبار ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة في وجوب المقدّمة.

وهذا إشارة إلى استدلال آخر على وجوب خصوص المقدّمة الموصلة. وحاصله : أنّه يجوز للمولى أن يمنع عن المقدّمات غير الموصلة ، ولا يستنكره العقل. مع أنّه يستحيل العقل أن ينهى عن مطلق المقدّمة أو خصوص الموصلة. وهذه التفرقة دليل على عدم وجوب مطلق المقدّمة ووجوب خصوص الموصلة.

وقال السيّد المحقّق الخوئيّ ـ على ما في المحاضرات ٢ : ٤٢٠ ـ : «وهذا الاستدلال منسوب إلى السيّد الطباطبائيّ صاحب العروة».

٢٢٣

المقدّمة ، بل لأجل المنع عن غيرها المانع عن الاتّصاف بالوجوب هاهنا ، كما لا يخفى.

مع أنّ في صحّة المنع عنه كذلك نظر (١). وجهه أنّه يلزم أن لا يكون ترك الواجب حينئذ مخالفة وعصيانا ، لعدم التمكّن شرعا منه ، لاختصاص جواز مقدّمته بصورة الإتيان به. وبالجملة : يلزم أن يكون الإيجاب مختصّا بصورة الإتيان ، لاختصاص جواز المقدّمة بها ، وهو محال ، فإنّه يكون من طلب الحاصل المحال (٢) ، فتدبّر جيّدا (٣).

بقي شيء :

وهو : أنّ ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة هي تصحيح العبادة الّتي يتوقّف على تركها فعل الواجب ، بناء على كون ترك الضدّ ممّا يتوقّف عليه فعل ضدّه ، فإنّ تركها ـ على هذا القول ـ لا يكون مطلقا واجبا ليكون فعلها محرّما فتكون فاسدة ، بل فيما يترتّب عليه الضدّ الواجب ، ومع الإتيان بها لا يكاد يكون هناك ترتّب ، فلا يكون تركها مع ذلك واجبا ، فلا يكون فعلها منهيّا عنه ، فلا تكون فاسدة (٤).

__________________

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «نظرا».

(٢) حيث كان الإيجاب فعلا متوقّفا على جواز المقدّمة شرعا ، وجوازها كذلك كان متوقّفا على إيصالها المتوقّف على الإتيان بذي المقدّمة بداهة ، فلا محيص إلّا عن كون إيجابه على تقدير الإتيان به ، وهو من طلب الحاصل الباطل. منه رحمه‌الله.

(٣) قال المحقّق الاصفهانيّ : «إنّ الصحيح في الإشكال هو محذور طلب الحاصل. وأمّا لزوم عدم كون ترك الواجب مخالفة وعصيانا فمخدوش بأنّه مع عدم الوجوب قبل الوجود لا وجوب حتّى يكون الترك ترك الواجب ، ليلزم عدم كونه مخالفة وعصيانا ، لينافي طبيعة ترك الواجب». نهاية الدراية ١ : ٤٠٣.

(٤) توضيحه : أنّ ترك الصلاة ـ مثلا ـ إذا كان مقدّمة لواجب أهمّ ـ كإزالة النجاسة ـ كان ذلك الترك واجبا. وإذا صار الترك واجبا كان فعلها منهيّا عنه ـ بناء على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ ـ ، وإذا كان منهيّا عنه فهو فاسد ، لأنّ النهي عن العبادة يوجب فسادها. هذا بناء على القول بوجوب مطلق المقدّمة.

وأمّا بناء على القول بوجوب خصوص الموصلة فيصحّ فعل الصلاة في المثال السابق. وذلك لأنّ الترك الواجب ـ على هذا القول ـ انّما هو الترك الموصل ، لا مطلق الترك. ـ

٢٢٤

وربّما اورد (١) على تفريع هذه الثمرة بما حاصله : أنّ (٢) فعل الضدّ وإن لم يكن نقيضا للترك الواجب مقدّمة ـ بناء على المقدّمة الموصلة ـ إلّا أنّه لازم لما هو من أفراد النقيض ، حيث إنّ نقيض ذاك الترك الخاصّ رفعه ، وهو أعمّ من الفعل (٣) والترك الآخر المجرّد. وهذا يكفي في إثبات الحرمة ، وإلّا لم يكن الفعل المطلق محرّما فيما إذا كان الترك المطلق واجبا ، لأنّ الفعل أيضا ليس نقيضا للترك ، لأنّه أمر وجوديّ ، ونقيض الترك إنّما هو رفعه ، ورفع الترك إنّما يلازم الفعل مصداقا ، وليس عينه ؛ فكما أنّ هذه الملازمة تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل ، فكذلك تكفي في المقام ؛ غاية الأمر أنّ ما هو النقيض في مطلق الترك إنّما ينحصر مصداقه في الفعل فقط ، وأمّا النقيض للترك الخاصّ فله فردان ، وذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده ، كما لا يخفى.

قلت : وأنت خبير بما بينهما من الفرق ، فإنّ الفعل في الأوّل (٤) لا يكون إلّا مقارنا لما هو النقيض من رفع الترك المجامع معه (٥) تارة ومع الترك المجرّد اخرى ، ولا تكاد تسري حرمة الشيء إلى ما يلازمه فضلا عمّا يقارنه أحيانا. نعم لا بدّ أن لا يكون الملازم محكوما فعلا بحكم آخر على خلاف حكمه ، لا أن يكون

__________________

ـ ومن المعلوم أنّ نقيضه ـ وهو ترك الترك الموصل ـ ليس عين فعل الصلاة في الخارج حتّى يكون منهيّا عنه ، بل فعل الصلاة في الخارج من مقارنات ترك الترك الموصل ، لأنّ ترك الترك الموصل قد يتحقّق بفعل الصلاة وقد يتحقّق بفعل آخر كالنوم والأكل وغيرهما. ومعلوم أنّ الحرمة ثابتة لترك الترك الموصل ، وهي لا تسري إلى ملازمه فضلا عن مقارنه. وعليه فلا تكون الصلاة فاسدة.

ولا يخفى : أنّ هذه الثمرة أوّل من ذكرها هو صاحب الفصول في مبحث الضدّ من الفصول الغرويّة : ٩٧ ـ ١٠٠.

(١) كما أورد عليه الشيخ الأعظم الأنصاريّ على ما في مطارح الأنظار : ٧٨.

(٢) وفي النسخ المطبوعة : «بأنّ». والصحيح ما أثبتناه ، كما لا يخفى.

(٣) أي : فعل الواجب. وهو في المثال السابق فعل الصلاة.

(٤) وهو كون الترك المقيّد بالإيصال مقدّمة.

(٥) أي : مع فعل الواجب.

٢٢٥

محكوما بحكمه. وهذا بخلاف الفعل في الثاني (١) ، فإنّه بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه ، لا ملازم لمعانده ومنافيه ، فلو لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوما ، لكنّه متّحد معه عينا وخارجا. فإذا كان الترك واجبا فلا محالة يكون الفعل منهيّا عنه قطعا ، فتدبّر جيّدا.(٢)

[الأمر الخامس]

في بيان الثمرة (٣) [في مسألة مقدّمة الواجب]

وهي في المسألة الاصوليّة ـ كما عرفت سابقا (٤) ـ ليست إلّا أن تكون نتيجتها صالحة للوقوع في طريق الاجتهاد واستنباط حكم فرعيّ. كما لو قيل بالملازمة في المسألة ، فإنّه بضميمة مقدّمة كون شيء مقدّمة لواجب ، يستنتج أنّه واجب (٥).

__________________

(١) أي : كون الترك المطلق مقدّمة.

(٢) لا يخفى : أنّ هذا الجواب غير تامّ عند السيّد الإمام الخمينيّ. فأورد عليه من وجوه. ثمّ أجاب عن إيراد الشيخ بما حاصله : أنّ نقيض الترك الموصل لا يمكن أن يكون الفعل والترك المجرّد ، لأنّ نقيض الواحد واحد ، والّا لزم امكان اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، فلا محالة يكون نقيض الترك الموصل ترك هذا الترك المقيّد ، وهو منطبق على الفعل بالعرض ، لعدم إمكان انطباقه عليه ذاتا ، للزوم كون الحيثيّة الوجوديّة عين الحيثيّة العدميّة ، والانطباق العرضيّ لا يوجب سراية الحرمة فتقع صحيحة.

ثمّ تعرّض لما أورد المحقّق الاصفهانيّ على أصل الثمرة وأجاب عنه. فراجع مناهج الوصول الوصول ١ : ٤٠٢ ـ ٤٠٥.

(٣) وفي بعض النسخ : «تذنيب في بيان الثمرة».

(٤) في صدر الكتاب ، حيث قال : «وإن كان الأولى تعريفه ...» : ٢٤.

(٥) لا يخفى عليك : أنّ نتيجة المسألة الاصوليّة في المقام هي ثبوت الملازمة ـ لو قيل بها ـ.

ومعناها : أنّ كلّ مقدّمة يستلزم وجوب ذيها وجوبها ، وإذا ضممت إليه أنّ الوضوء مقدّمة للصلاة الواجبة ـ مثلا ـ ينتج أنّ الوضوء يستلزم وجوب ذيه وجوبه ، فالنتيجة ثبوت الملازمة بين وجوب الصلاة ووجوب الوضوء. وهي إحدى مصاديق تلك النتيجة الكلّيّة ـ أعنى ثبوت الملازمة ـ. فالقياس المذكور لا ينتج وجوب المقدّمة ـ كالوضوء ـ حتّى تكون نتيجته حكما فقهيّا ليصدق أنّ ثبوت الملازمة نتيجة للمسألة الاصوليّة صالحة للوقوع في طريق استنباط ـ

٢٢٦

ومنه قد انقدح أنّه ليس منها (١) مثل برء النذر بإتيان مقدّمة واجب عند نذر الواجب ؛ وحصول الفسق بترك واجب واحد بمقدّماته إذا كانت له مقدّمات كثيرة ، لصدق الإصرار على الحرام بذلك ؛ وعدم جواز أخذ الاجرة على المقدّمة.

مع أنّ البرء وعدمه إنّما يتبعان قصد الناذر ، فلا برء بإتيان المقدّمة لو قصد الوجوب النفسيّ ـ كما هو المنصرف عند إطلاقه ـ ولو قيل بالملازمة. وربما يحصل البرء به لو قصد ما يعمّ المقدّمة ولو قيل بعدمها ، كما لا يخفى.

ولا يكاد يحصل الإصرار على الحرام بترك واجب ولو كانت له مقدّمات غير عديدة ، لحصول العصيان بترك أوّل مقدّمة لا يتمكّن معه من الواجب ، ولا يكون ترك سائر المقدّمات بحرام أصلا ، لسقوط التكليف حينئذ ، كما هو واضح لا يخفى.

__________________

ـ الحكم الفرعيّ.

نعم ، يمكن أن يجعل نتيجة القياس المذكور صغرى لقياس آخر ويقال : «إنّ الوضوء يستلزم وجوب ذيه وجوبه ، وكلّ ما كان كذلك فهو واجب ، فالوضوء واجب». وعليه تكون الملازمة الكلّيّة واقعة في طريق الاستنباط الحكم الفرعيّ مع الواسطة.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الثمرة المذكورة غير تامّة ، لأنّ القياس الأخير انّما ينتج لا بدّيّة الوضوء عقلا ، لا أنّه ينتج وجوب الوضوء شرعا لتكون الملازمة واقعة في طريق الاستنباط الحكم الفرعيّ مع الواسطة. مضافا إلى أنّ بعد فرض لا بدّيّة الإتيان بالمقدّمة عقلا فلا فائدة في القول بوجوبها شرعا.

ولعلّه أنكر كثير من المتأخّرين وجود أيّة ثمرة في مسألة مقدّمة الواجب. منهم : المحقّق النائينيّ في فوائد الاصول ١ : ٣٠١ ، والسيّد الإمام الخمينيّ في مناهج الوصول ١ : ٤٠٨ ، والمحقّق الخوئيّ في المحاضرات ٢ : ٤٢٥ ـ ٤٣٢.

إن قلت : إذا لم تكن لمسألة مقدّمة الواجب ثمرة عمليّة فلم أطنبوا الكلام فيها؟

قلت : إنّ البحث في المقام وإن كان عن وجوب المقدّمة عنوانا ولكن في الواقع لا يكون البحث عن أصل المقدّمة ووجوبها إلّا على الهامش. كيف؟ ويبحث في المقام عن أمور دقّيّة نظريّة لا علاقة لها بوجوب المقدّمة وعدمه ، وكلّ منها ذو آثار عمليّة في الفقه ، كالبحث عن إمكان الشرط المتأخّر وعدمه ، والبحث عن المقدّمات المفوّتة ، والبحث عن تقسيمات الواجب ، وإمكان الواجب المعلّق وعدمه ، وغيرها ممّا له آثار مهمّة في الفقه.

(١) أي : من الثمرة في مسألة مقدّمة الواجب.

٢٢٧

وأخذ الاجرة على الواجب لا بأس به إذا لم يكن إيجابه على المكلّف مجّانا وبلا عوض ، بل كان وجوده المطلق مطلوبا ، كالصناعات الواجبة كفائيّة الّتي (١) لا يكاد ينتظم بدونها البلاد ، ويختلّ لولاها معاش العباد ، بل ربما يجب أخذ الاجرة عليها لذلك ـ أي لزوم الاختلال وعدم الانتظام لو لا أخذها ـ. هذا في الواجبات التوصّليّة.

وأمّا الواجبات التعبّديّة : فيمكن أن يقال بجواز أخذ الاجرة على إتيانها بداعي امتثالها ، لا على نفس الإتيان كي ينافي عباديّتها ، فيكون من قبيل الداعي إلى الداعي. غاية الأمر يعتبر فيها كغيرها أن يكون فيها منفعة عائدة إلى المستأجر ، كيلا تكون المعاملة سفهيّة وأخذ الاجرة عليها أكلا بالباطل.

وربما يجعل من الثمرة اجتماع الوجوب والحرمة إذا قيل بالملازمة فيما كانت المقدّمة محرّمة ، فيبتني (٢) على جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه ، بخلاف ما لو قيل بعدمها (٣).

وفيه أوّلا : أنّه لا يكون من باب الاجتماع كي تكون مبتنية عليه (٤) ، لما أشرنا إليه غير مرّة أنّ الواجب ما هو بالحمل الشائع مقدّمة ، لا بعنوان المقدّمة ، فيكون على الملازمة من باب النهي في العبادة والمعاملة (٥).

__________________

(١) وكان الأولى أن يقول : «بل كان وجوده المطلق مطلوبا كفائيّا ، كالصناعات الواجبة الّتي ...».

(٢) أي : فيبتني اجتماع الوجوب والحرمة في المقدّمة وعدمه على جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه.

(٣) هذه الثمرة محكيّة عن الوحيد البهبهانيّ ، فراجع بدائع الأفكار (للمحقّق الرشتيّ) : ٣٤٦ ، ومطارح الأنظار : ٨١.

(٤) أي : كي تكون الثمرة المذكورة ـ وهي اجتماع الوجوب والحرمة في المقدّمة بناء على الملازمة ـ مبتنية على جواز اجتماع الأمر والنهي.

(٥) توضيحه : أنّ الموضوع في مسألة اجتماع الأمر والنهي هو مورد واحد له عنوانان تعلّق بأحدهما الأمر وبالآخر النهي ، كالصلاة في المغصوب ، فإنّها متعلّقة للأمر من جهة الصلاتيّة والنهي من جهة الغصبيّة. وأمّا في مقدّمة الواجب فليس إلّا عنوانا واحدا تعلّق به كلّ من الأمر والنهي ، وهو المقدّمة بالحمل الشائع ـ كالوضوء مثلا ـ. وأمّا عنوان المقدّمة فهو عنوان ـ

٢٢٨

وثانيا : لا يكاد يلزم الاجتماع أصلا ، لاختصاص الوجوب بغير المحرّم في غير صورة الانحصار به. وفيها إمّا لا وجوب للمقدّمة لعدم وجوب ذي المقدّمة لأجل المزاحمة ، وإمّا لا حرمة لها لذلك ، كما لا يخفى (١).

وثالثا : أنّ الاجتماع وعدمه لا دخل له في التوسّل (٢) بالمقدّمة المحرّمة وعدمه أصلا ، فإنّه يمكن التوسّل بها إن كانت توصّليّة ، ولو لم نقل بجواز الاجتماع ، وعدم جواز التوسّل بها (٣) إن كانت تعبّديّة على القول بالامتناع ـ قيل بوجوب المقدّمة أو بعدمه ـ ، وجواز التوسّل بها على القول بالجواز كذلك ـ أي قيل بالوجوب أو بعدمه ـ. وبالجملة : لا يتفاوت الحال في جواز التوسّل بها وعدم جوازه أصلا بين أن يقال بالوجوب أو يقال بعدمه ، كما لا يخفى.

[الأمر السادس]

في تأسيس الأصل في المسألة

اعلم أنّه لا أصل في محلّ البحث في المسألة (٤) ، فإنّ الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة وعدمها ليست لها حالة سابقة ، بل تكون الملازمة أو عدمها أزليّة (٥).

نعم ، نفس وجوب المقدّمة يكون مسبوقا بالعدم ، حيث يكون حادثا بحدوث وجوب ذي المقدّمة ، فالأصل عدم وجوبها.

وتوهّم عدم جريانه ـ لكون وجوبها على الملازمة من قبيل لوازم الماهيّة غير

__________________

ـ تعليليّ يوجب عرض الوجوب على مثل الوضوء ، فهو خارج عن متعلّق الأمر. فلا تندرج مقدّمة الواجب في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، بل تندرج في مسألة النهي عن العبادة إن كانت المقدّمة عبادة ، وفي مسألة النهي عن المعاملة إن كانت معاملة.

(١) لا يخفى عليك : أنّه سقط هذا الجواب عن شرح السيّد الحكيم ، وضرب عليه في النسخة الأصليّة.

(٢) وفي بعض النسخ : «في التوصّل». والمعنى واحد.

(٣) وكان الأولى أن يقول : «ولا يجوز التوسّل بها ...».

(٤) أي : في المسألة الاصوليّة.

(٥) وزاد المحقّق العراقيّ أنّ البراءة أيضا لا تجري في المقام ، لعدم كون الملازمة أمرا شرعيّا ولا موضوعا لأثر شرعيّ ، لأنّ ترتّب فعليّة الوجوب على الملازمة ترتّب عقليّ ، لا شرعيّ.

٢٢٩

مجعولة ، ولا أثر آخر مجعول مترتّب عليه (١) ، ولو كان لم يكن بمهمّ هاهنا ـ مدفوع بأنّه وإن كان غير مجعول بالذات ، لا بالجعل البسيط الّذي هو مفاد كان التامّة ، ولا بالجعل التأليفيّ الّذي هو مفاد كان الناقصة ، إلّا أنّه مجعول بالعرض وبتبع جعل وجوب ذي المقدّمة ، وهو كاف في جريان الأصل (٢).

ولزوم التفكيك بين الوجوبين مع الشكّ لا محالة ـ لأصالة عدم وجوب المقدّمة مع وجوب ذي المقدّمة (٣) ـ لا ينافي الملازمة بين الواقعيّين ، وإنّما ينافي الملازمة بين الفعليّين (٤). نعم ، لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتّى في المرتبة الفعليّة لما صحّ التمسّك بالأصل (٥) ، كما لا يخفى.

__________________

(١) توضيحه : أنّه يعتبر في الاستصحاب أن يكون مجراه مجعولا شرعيّا ـ كالوجوب والحرمة والملكيّة ـ أو موضوعا لأثر شرعيّ ـ كالعدالة ـ ، ووجوب المقدّمة ليس أثرا شرعيّا ولا موضوعا له ، بل هو من لوازم وجوب ذيها ومن قبيل لوازم الماهيّة الّتي امور انتزاعيّة تنتزع من ذات الماهيّة في أيّ عالم وجدت ، من الذهن أو الخارج ، فلا يجرى الاستصحاب فيه.

(٢) ظاهر الجواب أنّ المصنّف سلّم كون وجوب المقدّمة من قبيل لوازم الماهيّة.

وأمّا المحقّق الاصفهانيّ فأنكر كونه من قبيل لوازم الماهيّة ، وادّعى أنّ وجوب المقدّمة من لوازم الوجود ، لا من لوازم الماهيّة ، إذ ليست إرادة المقدّمة بالإضافة إلى إرادة ذيها كالزوجيّة بالإضافة إلى الأربعة ، فإنّ الزوجيّة من المعاني المنتزعة من الماهيّة الموجودة ذهنا أو خارجا ، فلا محالة لا وجود استقلاليّ لها ، بل وجودها بوجود منشأ انتزاعها. بخلاف إرادة المقدّمة فإنّها ليست منتزعة من إرادة ذيها ، بل لها وجود غير إرادة ذيها ، ومع تجدّد الوجود يجب تعدّد الجعل. نهاية الدراية ١ : ٤١٥.

(٣) هذا إشكال آخر على جريان استصحاب عدم وجوب المقدّمة. وحاصله : أنّ جريان أصالة عدم وجوب المقدّمة مع وجوب ذي المقدّمة يستلزم التفكيك بين وجوب المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة. والمفروض أنّهما متلازمان ، لأنّ الملازمة بينهما ثابتة ، ولا يجدي الأصل في نفي الملازمة. فالحكم بعدم وجوب المقدّمة يستلزم التفكيك بين المتلازمين ، وهو محال.

(٤) وحاصل الجواب : أنّ الدعوى إن كانت هي الملازمة بين الوجوبين في مطلق مراتبهما ـ أي : ولو كانا فعليّين ـ فالإشكال في محلّه. وأمّا إن كانت هي الملازمة بين الحكمين الإنشائيّين في مرتبة الواقع ، لا في جميع المراتب ، فلا يرد الإشكال ، لأنّ الأصل لا نظر له إلى الحكم الإنشائيّ في مرتبة الواقع.

(٥) وفي بعض النسخ : «لصحّ التمسّك بذلك في إثبات بطلانها» أي : لصحّ التمسّك بالتلازم في ـ

٢٣٠

[مسألة مقدّمة الواجب والأقوال فيها]

إذا عرفت ما ذكرناه فقد تصدّى غير واحد من الأفاضل لإقامة البرهان على الملازمة (١) ؛ وما أتى منهم بواحد خال عن الخلل.

والأولى إحالة ذلك إلى الوجدان حيث إنّه أقوى شاهد على أنّ الإنسان إذا أراد شيئا له مقدّمات أراد تلك المقدّمات لو التفت إليها بحيث ربّما يجعلها في قالب الطلب مثله ، ويقول مولويّا : «ادخل السوق واشتر اللحم» ـ مثلا ـ ، بداهة أنّ الطلب المنشأ بخطاب : «ادخل» مثل المنشأ بخطاب «اشتر» في كونه بعثا مولويّا ، وأنّه حيث تعلّقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء ترشّحت منها له إرادة اخرى بدخول السوق بعد الالتفات إليه وأنّه يكون مقدّمة له ، كما لا يخفى.

ويؤيّد الوجدان بل يكون من أوضح البرهان وجود الأوامر الغيريّة في الشرعيّات والعرفيّات ، لوضوح أنّه لا يكاد يتعلّق بمقدّمة أمر غيريّ إلّا إذا كان فيها مناطه (٢). وإذا كان فيها كان في مثلها ، فيصحّ تعلّقه به أيضا لتحقّق ملاكه ومناطه.

والتفصيل بين السبب وغيره (٣) والشرط الشرعيّ وغيره (٤) سيأتي بطلانه (٥) ،

__________________

ـ إثبات بطلان أصالة عدم وجوب المقدّمة.

(١) كأبي الحسين البصريّ والمحقّق السبزواريّ والشيخ الأنصاريّ على ما في مطارح الأنظار : ٨٣ ـ ٩١.

(٢) وهو المقدّميّة والتوقّف.

(٣) التفصيل بين السبب وغيره بالوجوب في الأوّل وعدم الوجوب في الثاني ظاهر من كلام السيّد المرتضى في الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ٨٣.

(٤) بأنّ الشرط الشرعيّ يجب بالوجوب المقدّمي دون غيره. وهذا منسوب إلى إمام الحرمين وابن القشيريّ وابن برهان وابن حاجب. راجع نهاية السئول ١ : ٢٠٠.

وذهب المحقّق النائينيّ أيضا إلى التفصيل بين الشرط الشرعيّ وغيره بأنّه لا يجب الشرط الشرعيّ بالوجوب الغيريّ ، باعتبار أنّه واجب بالوجوب النفسيّ نظير جزء الواجب.

وأمّا غيره فيجب بالوجوب الغيريّ. فوائد الاصول ١ : ٢٦٢.

(٥) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «بطلانهما» ، فإنّ الضمير يرجع إلى التفصيل الأوّل والتفصيل الثاني.

٢٣١

وأنّه لا تفاوت في باب الملازمة بين مقدّمة ومقدّمة.

ولا بأس بذكر الاستدلال الّذي هو كالأصل لغيره ممّا ذكره الأفاضل من الاستدلالات ، وهو ما ذكره أبو الحسن البصريّ (١) ، وهو : أنّه لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها ، وحينئذ فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكيف بما لا يطاق ، وإلّا خرج الواجب المطلق عن وجوبه.

وفيه ـ بعد إصلاحه بإرادة عدم المنع الشرعيّ من التالي (٢) في الشرطيّة الاولى (٣) ، لا الإباحة الشرعيّة ، وإلّا كانت الملازمة واضحة البطلان ؛ وإرادة الترك (٤) عمّا اضيف إليه الظرف (٥) ، لا نفس الجواز (٦) ، وإلّا فمجرّد الجواز بدون الترك لا يكاد يتوهّم صدق القضيّة الشرطيّة الثانية ـ : ما لا يخفى ، فإنّ الترك بمجرّد عدم المنع شرعا لا يوجب صدق إحدى الشرطيّتين ، ولا يلزم منه (٧) أحد المحذورين (٨) ، فإنّه وإن لم يبق له وجوب معه ، إلّا أنّه كان ذلك بالعصيان ، لكونه متمكّنا من الإطاعة والإتيان ، وقد اختار تركه بترك مقدّمته بسوء اختياره ، مع

__________________

(١) هكذا في النسخ. والصحيح «أبو الحسين البصريّ». وذلك لأنّه ليس لأبي الحسن البصريّ كتاب معروف في اصول الفقه. وأمّا أبو الحسين البصريّ فله كتاب «المعتمد في الاصول» ، وهو كتاب معروف.

ويؤيّده ما ورد في مطارح الأنظار : ٨٣ ، وهداية المسترشدين : ٢٠٥ ، والمعتمد في اصول الفقه ١ : ٩٥ و ١٠٠.

(٢) وهو قوله : «لجاز تركه».

(٣) وهي قوله : «لو لم يجب المقدّمة».

(٤) معطوف على قوله : «بإرادة عدم المنع الشرعيّ». وهذا ما احتمله المحقّق السبزواريّ ـ صاحب كفاية الأحكام ـ على ما في مطارح الأنظار : ٨٤.

(٥) وهو قوله : «حينئذ».

(٦) وهذا ما احتمله صاحب المعالم على ما في مطارح الأنظار : ٨٤.

والحاصل : أنّ التنوين في «حينئذ» عوض عن مقدّر أضاف إليه «إذ». وذلك المقدّر هو الترك ، لا جواز الترك ، إذ يلزم من مجرّد جواز ترك المقدّمة مع بقاء الواجب النفسيّ على وجوبه محذور التكليف بما لا يطاق ، ولازمه كذب الشرطيّة الثانية.

(٧) وفي النسخ : «ولا يلزم». والصحيح ما أثبتناه.

(٨) وهما : الخلف والتكليف بما لا يطاق.

٢٣٢

حكم العقل بلزوم إتيانها إرشادا إلى ما في تركها من العصيان المستتبع للعقاب (١).

نعم ، لو كان المراد من الجواز جواز الترك شرعا وعقلا للزم أحد المحذورين ، إلّا أنّ الملازمة على هذا في الشرطيّة الاولى ممنوعة ، بداهة أنّها لو لم تجب شرعا لا يلزم أن تكون جائزا شرعا وعقلا ، لإمكان أن لا تكون محكومة بحكم شرعا وإن كانت واجبة عقلا إرشادا(٢) ، وهذا واضح.

وأمّا التفصيل بين السبب وغيره (٣) : فقد استدلّ على وجوب السبب بأنّ التكليف لا يكاد يتعلق إلّا بالمقدور ، والمقدور لا يكون إلّا هو السبب ، وإنّما المسبّب من آثاره المترتّبة عليه قهرا ، ولا يكون من أفعال المكلّف وحركاته أو سكناته ، فلا بدّ من صرف الأمر المتوجّه إليه عنه (٤) إلى سببه.

ولا يخفى ما فيه من أنّه ليس بدليل على التفصيل ، بل على أنّ الأمر النفسيّ إنّما يكون متعلّقا بالسبب دون المسبّب. مع وضوح فساده ، ضرورة أنّ المسبّب مقدور المكلّف وهو متمكّن عنه بواسطة السبب ، ولا يعتبر في التكليف أزيد من القدرة ، كانت بلا واسطة أو معها ، كما لا يخفى.

وأمّا التفصيل بين الشرط الشرعيّ وغيره (٥) : فقد استدلّ على الوجوب في الأوّل بأنّه لو لا وجوبه شرعا لما كان شرطا حيث إنّه ليس ممّا لا بدّ منه عقلا أو عادة.

وفيه ـ مضافا إلى ما عرفت (٦) من رجوع الشرط الشرعيّ إلى العقليّ ـ : أنّه

__________________

(١) ولا يخفى عليك : أنّ كلامه هذا ينافي ما أفاده في مقام ذكر البرهان على وجوب المقدّمة من قوله : «في كونه بعثا مولويّا» ، فإنّ ظاهره التمسّك بالوجدان لاثبات الوجوب المولويّ للمقدّمة.

(٢) وفي النسخ : «بداهة أنّه لم لو يجب شرعا لا يلزم أن يكون جائزا شرعا وعقلا ، لإمكان أن لا يكون محكوما بحكم شرعا وإن كان واجبا عقلا إرشادا». والصحيح تأنيث الضمير ، لأنّها ترجع إلى المقدّمة.

(٣) كما يظهر من كلام السيّد المرتضى في الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ٨٣.

(٤) أي : عن المسبّب.

(٥) راجع ما مرّ في التعليقة (٤) من الصفحة : ٢٣١.

(٦) في تقسيم المقدّمات : ١٧٧.

٢٣٣

لا يكاد يتعلّق الأمر الغيريّ إلّا بما هو مقدّمة الواجب ، فلو كان (١) مقدّميّته متوقّفة على تعلّقه بها لدار.

والشرطيّة وإن كانت منتزعة عن التكليف ، إلّا أنّه عن التكليف النفسيّ المتعلّق بما قيّد بالشرط (٢) ، لا عن الغيريّ ، فافهم.

تتمّة

[في مقدّمة المستحبّ والحرام والمكروه]

لا شبهة في أنّ مقدّمة المستحبّ كمقدّمة الواجب ، فتكون مستحبّة لو قيل بالملازمة.

وأمّا مقدّمة الحرام والمكروه فلا تكاد تتّصف بالحرمة أو الكراهة ، إذ منها ما يتمكّن معه من ترك الحرام أو المكروه اختيارا كما كان متمكّنا قبله ، فلا دخل له أصلا في حصول ما هو المطلوب من ترك الحرام أو المكروه ، فلم يترشّح من طلبه طلب ترك مقدّمتهما.

نعم ، ما لم يتمكّن معه من الترك المطلوب لا محالة يكون مطلوب الترك ، ويترشّح من طلب تركهما (٣) طلب ترك خصوص هذه المقدّمة ، فلو لم يكن للحرام مقدّمة لا يبقى معها اختيار تركه لما اتّصف بالحرمة مقدّمة من مقدّماته (٤).

__________________

(١) هكذا في النسخ. والصحيح «كانت».

(٢) فمتعلّق الأمر النفسيّ هو الصلاة مع الطهارة ـ مثلا ـ ، لا الصلاة والطهارة ، حتّى يقال : لا يصحّ تعلّق الأمر الغيريّ بالشرط بعد تعلّق الأمر النفسيّ به.

(٣) أي : الحرام والمكروه.

(٤) والحاصل : أنّ المحرّم من مقدّمات الحرام انّما هو ما لا يتوسّط بينها وبين الحرام اختيار ، وهي الأسباب التوليديّة في المحرّمات التوليديّة والإرادة في المحرّمات الإراديّة.

ولكن أورد عليه السيّد الإمام الخمينيّ بأنّ النفس لمّا كانت فاعلة بالآلة في العالم الطبيعيّ لا يمكن أن تكون إرادتها بالنسبة إلى الأفعال الخارجيّة المادّية جزءا أخيرا للعلّة ، بل هي مؤثّرة في الآلات والعضلات بالقبض والبسط حتّى تحصل الحركات العضويّة وترتبط بواسطتها بالخارج ، فتحقّق الأفعال الخارجيّة.

ثمّ ذهب إلى حرمة الجزء الأخير إذا كانت أجزاء العلّة مترتّبة ، وأحد الأجزاء إذا كانت عرضيّة. وذلك لمساعدة الوجدان ، ولأنّ الزجر عن الفعل مستلزم للزجر عمّا يخرج الفعل ـ

٢٣٤

لا يقال : كيف؟ ولا يكاد يكون فعل إلّا عن مقدّمة لا محالة معها يوجد ، ضرورة أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.

فإنّه يقال : نعم ، لا محالة يكون من جملتها ما يجب معه صدور الحرام ، لكنّه لا يلزم أن يكون ذلك من المقدّمات الاختياريّة ، بل من المقدّمات الغير الاختياريّة ، كمبادئ الاختيار الّتي لا تكون بالاختيار ، وإلّا لتسلسل ، فلا تغفل وتأمّل.

__________________

ـ من العدم إلى الوجود ، وهو الجزء الأخير في المترتّبات وأحد الأجزاء في غيرها. مناهج الوصول ١ : ٤١٥ ـ ٤١٨.

وفي المقام تفاصيل أخر لا بأس بالتعرّض لبعضها :

الأوّل : أنّ مقدّمة الحرام هي المقدّمة حال الايصال إلى المحرّم ، دون مطلق المقدّمة.

فتكون كلّ مقدّمة من مقدّمات فعل الحرام متّصفة بالحرمة الغيريّة في ظرف انضمامها ببقيّة المقدّمات الملازم لترتّب الحرام عليها. هذا ما ذهب إليه المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ١ : ٣٥٧ ، وبدائع الأفكار ١ : ٤٠٣.

الثاني : أنّ ترك الحرام يتحقّق بترك إحدى مقدّمات الوجود ، ومنه علم أنّ مقتضى القاعدة وجوب أحد التروك تخييرا ، وتعيّنه في ترك المقدّمة الأخيرة ، لا وجوب ترك الأخيرة بقول مطلق. وهذا ما اختاره المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ١ : ٤٢٢.

الثالث : أنّ مقدّمة الحرام تنقسم إلى ثلاثة أقسام :

أحدها : ما لا يتوسّط بينه وبين ذيه اختيار الفاعل وإرادته ، بحيث لو أتى بالمقدّمة فيقع ذو المقدّمة في الخارج قهرا. وهذا القسم حرام بالحرمة النفسيّة ، لا غيريّة ، لأنّ النهي الوارد على ذي المقدّمة وارد عليها حقيقة.

ثانيها : ما يتوسّط بينه وبين ذيه اختيار الفاعل ، إلّا أنّ الفاعل يقصد بإتيانه التوصّل إلى الحرام. وهذا القسم أيضا حرام ، غاية الأمر أنّها حرام بالحرمة النفسيّة لو قلنا أنّ حرمتها من باب حرمة التجرّي ، وبالحرمة الغيريّة لو قلنا بسراية الحرمة إليه من ذي المقدّمة.

وثالثها : ما يتوسّط بينه وبين ذيه إرادة الفاعل ، إلّا أنّه لم يقصد بإتيانه التوصّل إلى الحرام. وهذا القسم ليس بحرام.

هذا ما أفاده المحقّق النائينيّ على ما في تقريرات بحث المحقّق الخوئيّ ، فراجع المحاضرات ٢ : ٤٣٩.

ولا يخفى : أنّ هذه التفاصيل أيضا لا تخلو عن المناقشة ، فإن أردت التحقيق حول ما أفادوه والاطّلاع على سائر التفاصيل والآراء فراجع مناهج الوصول ١ : ٤١٥ ـ ٤١٩ ، ودرر الفوائد ١ : ٩٩ ـ ١٠٠ ، ونهاية الاصول : ١٨٨ ، ومحاضرات في اصول الفقه ٢ : ٤٣٩ ـ ٤٤٠.

٢٣٥

[الفصل الخامس]

[في مسألة الضدّ]

فصل : الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أو لا (١)؟ فيه أقوال (٢).

وتحقيق الحال يستدعي رسم امور :

[الأمر] الأوّل : [المراد من الاقتضاء والضدّ]

الاقتضاء في العنوان أعمّ من أن يكون بنحو العينيّة (٣) أو الجزئيّة (٤) أو اللزوم

__________________

(١) وقع الخلاف بين الاصوليّين في أنّ هذه المسألة هل هي من المسائل الاصوليّة العقليّة أو من المسائل الاصوليّة اللفظيّة أو من مبادئ الأحكام أو من المباحث اللغويّة؟

ذهب الأكثر إلى الأوّل.

أمّا أنّها أصوليّة ، فلأنّها تقع في طريق استنباط الحكم الشرعيّ ولو مع الواسطة ، فنقول ـ مثلا ـ : «إنّ الشارع أمر بالصلاة ، والأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، فالأمر بالصلاة يقتضي النهي عن ضدّه». ثمّ نجعل النتيجة صغرى لقياس آخر ونقول : «الأمر بالصلاة يقتضى النهي عن ضدّها ، والنهي عن الشيء يقتضى فساده إذا كان عبادة ، فالأمر بالصلاة يقتضي فساد ضدّه إذا كان عبادة».

وأمّا أنّها عقليّة ، فلأنّ البحث فيها عن الملازمة ، والحاكم بالملازمة انّما هو العقل.

(٢) تعرّض لها الشيخ الأنصاريّ في مطارح الأنظار : ١١٧.

(٣) أي : إنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه ، فيدلّ عليه بالدلالة المطابقة. وهذا ما اختاره صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ٩٢.

(٤) أي : إنّ الأمر بالشيء يدلّ على النهي عن ضدّه العامّ بالدلالة التضمّنيّة ، بناء على أنّ المنع من الترك جزء تحليليّ في معنى الوجوب.

٢٣٦

من جهة التلازم بين طلب أحد الضدّين وطلب ترك الآخر (١) أو المقدّميّة (٢) ، على ما سيظهر. كما أنّ المراد بالضدّ هاهنا هو مطلق المعاند والمنافي ، وجوديّا كان أو عدميّا.

[الأمر] الثاني : [تحقيق الحال في المقدّميّة وعدمها]

أنّ الجهة المبحوث عنها في المسألة وإن كانت أنّه هل يكون للأمر اقتضاء بنحو من الأنحاء المذكورة؟ إلّا أنّه لمّا كانت عمدة القائلين بالاقتضاء في الضدّ الخاصّ إنّما ذهبوا إليه لأجل توهّم مقدّميّة ترك الضدّ ، كان المهمّ صرف عنان الكلام في المقام إلى بيان الحال وتحقيق المقال في المقدّميّة وعدمها ، فنقول ـ وعلى الله الاتّكال ـ :

إنّ توهّم توقّف الشيء على ترك ضدّه ليس إلّا من جهة المضادّة والمعاندة بين الوجودين ، وقضيّتها (٣) الممانعة بينهما ، ومن الواضحات أنّ عدم المانع من المقدّمات (٤).

__________________

(١) ذهب المحقّق القميّ إلى أنّ الأمر يقتضي النهي عن ضدّه العامّ على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ أو غير البيّن. واختاره العلّامة النراقيّ أيضا. فراجع قوانين الاصول ١ : ١٠٨ و ١١٣ ، مناهج الأحكام : ٦١.

وذهب المحقّق النائينيّ إلى الاقتضاء على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، فيدلّ عليه بالدلالة الالتزاميّة. فوائد الاصول ١ : ٣٠٣.

(٢) أي : إنّ الأمر يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ من جهة أنّ وجود الضدّ مقدّمة لعدم الضدّ الآخر ، كما أنّ عدمه مقدّمة لوجود الضدّ الآخر.

(٣) أي : مقتضي المضادّة. والأولى أن يقول : «قضيّتهما» كي يرجع الضمير إلى المضادّة والمعاندة.

(٤) هذا ما توهّمه الحاجبيّ والعضديّ على ما في مطارح الأنظار : ١٠٤ ، وشرح العضديّ ١ : ٩٠ و ٩٦ ـ ٩٧ و ١٩٩.

وحاصل التوهّم : أنّه لا ريب في أنّ كلّ واحد من الضدّين مانع عن وجود الآخر ، وعدم المانع من أجزاء العلّة الّتي هي مقدّمة على المعلول ، فعدم أحد الضدّين المانع عن وجود الضدّ الآخر مقدّم رتبة على وجود الضدّ الآخر ، فهو مقدّمة لوجود الضدّ الآخر.

٢٣٧

وهو توهّم فاسد ، وذلك لأنّ المعاندة والمنافرة بين الشيئين لا تقتضي إلّا عدم اجتماعهما في التحقّق ، وحيث لا منافاة أصلا بين أحد العينين وما هو نقيض الآخر وبديله ، بل بينهما كمال الملاءمة ، كان أحد العينين مع نقيض الآخر وما هو بديله في مرتبة واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدّم أحدهما على الآخر ، كما لا يخفى(١).

__________________

(١) هذا أوّل الوجوه الّتي ذكرها المصنّف في دفع توهّم مقدّميّة عدم الضدّ للضدّ الآخر.

وتوضيحه : أنّ المنافرة والمعاندة بين الضدّين انّما يقتضي عدم اجتماعهما في مقام التحقّق والوجود ، فكلّ منهما يمنع الآخر عن التحقّق ، ويستحيل اجتماعهما في الوجود في زمان واحد. وأمّا عدم أحدهما ووجود الآخر فلا منافاة بينهما ، بل هما في مرتبة واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي التقدّم كي يكون عدم أحدهما متقدّما على وجود الآخر.

مثلا : البياض والسواد متضادّان ، ومقتضى مضادّتهما استحالة اجتماعهما في الوجود في زمان واحد. وأمّا وجود السواد وعدم البياض فلا منافاة بينهما ، بل بينهما كمال الملاءمة بحيث وجود السواد يستلزم عدم البياض بالضرورة ، فوجود السّواد وعدم البياض في مرتبة واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدّم عدم البياض على وجود السواد كي يكون عدم البياض من قبيل عدم المانع للسواد ليكون من مقدّمات وجوده.

وأورد عليه المحقّق الاصفهانيّ بأنّ غاية ما تقتضيه الملاءمة بين الضدّ ونقيضه هي المقارنة الزمانيّة بين الضدّ وعدم الآخر ، وهي لا تنافي التقدّم بالعلّيّة والطبع. نهاية الدراية ١ : ٤٢٥.

ثمّ إنّ السيّد الإمام الخمينيّ ـ بعد عدم ارتضائه بما ذكره المصنّف في دفع التوهّم ـ ذكر وجها آخر في دفعه ، ثمّ أجاب عنه بوجه دقيق :

أمّا الدفع ، فحاصله : أنّ نقيض أحد العينين يحمل على العين الآخر بالحمل الشائع ، فعدم البياض يحمل على السواد بالحمل الشائع ، لأنّ السواد لا يصدق على البياض ، ومع عدم صدقه لا بدّ من أن يصدق عليه نقيضه ، وإلّا ارتفع النقيضان. والصدق يقتضي الاتّحاد ، وهو ينافي التقدّم والتأخّر رتبة.

وأمّا الجواب عنه ، فحاصله : أنّ نقيض صدق البياض على السواد عدم صدقه عليه ـ على نحو السلب التحصيليّ ـ ، لا صدق عدمه عليه ـ بنحو الإيجاب العدوليّ ـ ، فالبياض وإن لم يصدق عليه أنّه سواد ، ولكن يصدق عليه أنّه ليس بسواد ـ بالسلب التحصيليّ ـ ، وهو نقيض الإيجاب ، لا صدق عدم السواد حتّى يلزم اتّحادهما في الوجود. مناهج الوصول ٢ : ١٠ ـ ١١.

٢٣٨

فكما أنّ قضيّة المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدّم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر ، كذلك في المتضادّين (١).

كيف؟! ولو اقتضى التضادّ توقّف وجود الشيء على عدم ضدّه ـ توقّف الشيء على عدم مانعة ـ لاقتضى توقّف عدم الضدّ على وجود الشيء ـ توقّف عدم الشيء على مانعة ـ ، بداهة ثبوت المانعيّة في الطرفين وكون المطاردة من الجانبين ، وهو دور واضح (٢).

وما قيل (٣) في التفصّي عن هذا الدور بأنّ التوقّف من طرف الوجود فعليّ ، بخلاف التوقّف من طرف العدم ، فإنّه يتوقّف على فرض ثبوت المقتضي له (٤) مع

__________________

(١) هذا ثاني الوجوه الّتي ذكرها المصنّف في دفع الاستدلال على مقدّميّة عدم الضدّ للضدّ الآخر. وحاصله : النقض بالمتناقضين. وتوضيحه : أنّه لا فرق بين المتناقضين والمتضادّين في استحالة اجتماعهما في الوجود ، وذلك لثبوت ملاكها فيهما على السواء. ومعلوم أنّ أحد النقيضين يكون في رتبة عدم الآخر ، ضرورة أنّ وجود زيد ـ مثلا ـ في رتبة عدم نقيضه ـ أي عدم عدمه ـ من دون تقدّم بينهما ، لأنّ عدم عدمه نفس وجوده ، وتقدّم الشيء على نفسه محال. وعليه فليس مجرّد وجود المعاندة بين شيئين مستلزما لمقدّميّة عدم أحدهما لثبوت الآخر ، والّا لكان عدم أحد النقيضين مقدّما على النقيض الآخر ، وهو كما ترى.

وأجاب عنه السيّد الإمام الخمينيّ بمنع لزوم كون أحد النقيضين في رتبة عدم الآخر. راجع مناهج الوصول ٢ : ١٢ ـ ١٣.

(٢) وهذا ثالث الوجوه المذكورة في دفع التوهّم المذكور. وهو واضح.

وأجاب عنه المحقّق الاصفهانيّ بأنّ توقّف فعل الضدّ على تركه قضاء لحقّ الشرطيّة ، لكنّه لا علّيّة في طرف العدم ، إذ لا علّيّة في الأعدام ؛ مع أنّ الفعل ليس مطابق ترك الترك بل ملازم له. نهاية الدراية ١ : ٤٢٨.

وأجاب عنه السيّد الإمام الخمينيّ أيضا بأنّ التمانع إذ اقتضى توقّف وجود أحد الضدّين على عدم الآخر ـ توقّف الشيء على عدم مانعة ـ يقتضي أيضا توقّف وجود الضدّ الآخر على عدم ضدّه أيضا ، لا توقّف عدمه على وجوده ، لأنّ العدم ليس بشيء حتّى يتوقّف تحقّقه على شيء. مناهج الوصول ٢ : ١٣ ـ ١٤.

(٣) والقائل هو المحقّق الخوانساريّ على ما في مطارح الأنظار : ١٠٥.

(٤) أي : للوجود.

٢٣٩

شراشر شرائطه غير عدم وجود ضدّه ، ولعلّه كان محالا ، لأجل انتهاء عدم وجود أحد الضدّين مع وجود الآخر إلى عدم تعلّق الإرادة الأزليّة به وتعلّقها بالآخر حسب ما اقتضته الحكمة البالغة ، فيكون العدم دائما مستندا إلى عدم المقتضي ، فلا يكاد يكون مستندا إلى وجود المانع كي يلزم الدور (١).

إن قلت : هذا إذا لوحظا منتهيين إلى إرادة شخص واحد. وأمّا إذا كان كلّ منهما متعلّقا لإرادة شخص ، فأراد ـ مثلا ـ أحد الشخصين حركة شيء وأراد الآخر سكونه ، فيكون المقتضي لكلّ منهما حينئذ موجودا ، فالعدم لا محالة يكون فعلا مستندا إلى وجود المانع.

قلت : [العدم] هاهنا أيضا (٢) مستند إلى عدم قدرة المغلوب منهما في إرادته ـ وهي ممّا لا بدّ منه في وجود المراد ، ولا يكاد يكون بمجرّد الإرادة بدونها ـ ، لا إلى وجود الضدّ ، لكونه مسبوقا بعدم قدرته ، كما لا يخفى (٣).

__________________

(١) حاصل التفصّي : أنّ توقّف وجود كلّ من الضدّين على عدم الضدّ الآخر فعليّ ، وتوقّف عدم الضدّ على وجود الضدّ الآخر تقديريّ ، فيرتفع الدور.

بيان ذلك : أنّ وجود الشيء يستند إلى جميع أجزاء علّته فعلا ، فوجود الضدّ مستند فعلا إلى عدم الضدّ الآخر ، لأنّه عدم المانع بالإضافة إلى وجود الضدّ ، وعدم المانع من أجزاء العلّة. وأمّا عدم الضدّ فهو لا يستند إلى وجود الضدّ الآخر ـ أعني وجود المانع ـ إلّا في صورة ثبوت مقتضى الضدّ الآخر ـ أعنى إرادة وجود الضدّ الآخر ـ وسائر شرائطه ، وإلّا فلو لم يكن المقتضي ـ أي الإرادة ـ موجودا استند عدم الضدّ إلى عدم ثبوت المقتضي ، لا إلى وجود الضدّ الآخر.

وبالجملة : فاستناد وجود الضدّ إلى عدم الضدّ الآخر فعليّ ، واستناد عدم الضدّ إلى وجود الضدّ الآخر تقديريّ ، فلا يلزم الدور.

وقوله : «ولعلّه كان محالا ...» أي : ولعلّ ثبوت مقتضي الضدّ الآخر لا يتحقّق أبدا. وذلك لأنّ مع إرادة المانع عن الضدّ ـ وهو الضدّ الآخر ـ لا يمكن أن تكون هناك إرادة اخرى تتعلّق بالضدّ ، فإذا فرض وجود أحد الضدّين لا بدّ أن يفرض عدم ثبوت مقتضي الضدّ الآخر ، وحينئذ يستند عدم الضدّ الآخر إلى عدم المقتضي ، لا إلى وجود المانع.

(٢) وفي النسخ سقط كلمة : «العدم».

(٣) والحاصل : أنّه إذا فرض أنّ كلّ واحد من الضدّين متعلّق لإرادة شخص واحد ، فحينئذ ـ

٢٤٠