كفاية الأصول - ج ١

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٦
ISBN: 978-964-470-184-9
الصفحات: ٢٩٦

وهو فاسد ، لأنّه لا يكون إطلاق إلّا فيما جرت هناك المقدّمات. نعم ، إذا كان التقييد بمنفصل ، ودار الأمر بين الرجوع إلى المادّة أو الهيئة ، كان لهذا التوهّم مجال حيث انعقد للمطلق إطلاق ، وقد استقرّ له ظهور ولو بقرينة الحكمة ، فتأمّل.

[٣ ـ الواجب النفسيّ والواجب الغيريّ]

ومنها : تقسيمه إلى النفسيّ والغيريّ.

[تعريف الواجب النفسيّ والغيريّ]

وحيث كان طلب شيء وإيجابه لا يكاد يكون بلا داع ، فإن كان الداعي فيه هو التوصّل به إلى واجب لا يكاد التوصّل بدونه إليه لتوقّفه عليه فالواجب غيريّ ، وإلّا فهو نفسيّ ، سواء كان الداعي محبوبيّة الواجب بنفسه ، كالمعرفة بالله ، أو محبوبيّته بما له من فائدة مترتّبة عليه ، كأكثر الواجبات من العبادات (١) والتوصّليّات (٢). هذا.

لكنّه لا يخفى : أنّ الداعي لو كان هو محبوبيّته كذلك ـ أي بما له من الفائدة المترتّبة عليه ـ كان الواجب في الحقيقة واجبا غيريّا ، فإنّه لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازما لما دعا إلى إيجاب ذي الفائدة.

فإن قلت : نعم ، وإن كان وجودها محبوبا لزوما ، إلّا أنّه حيث كانت من الخواصّ المترتّبة على الأفعال الّتي ليست داخلة تحت قدرة المكلّف لما كاد يتعلّق بها الإيجاب.

قلت : بل هي داخلة تحت القدرة ، لدخول أسبابها تحتها ، والقدرة على السبب قدرة على المسبّب ، وهو واضح ، وإلّا لما صحّ وقوع مثل التطهير والتمليك والتزويج والطلاق والعتاق إلى غير ذلك من المسبّبات موردا لحكم من الأحكام التكليفيّة.

__________________

(١) كالصلاة والصوم والحجّ.

(٢) كتكفين الميّت ودفنه.

٢٠١

فالأولى أن يقال : إنّ الأثر المترتّب عليه وإن كان لازما ، إلّا أنّ ذا الأثر لمّا كان معنونا بعنوان حسن يستقلّ العقل بمدح فاعله بل وبذمّ تاركه ، صار متعلّقا للإيجاب بما هو كذلك ؛ ولا ينافيه كونه مقدّمة لأمر مطلوب واقعا. بخلاف الواجب الغيريّ ، لتمحّض وجوبه في أنّه لكونه مقدّمة لواجب نفسيّ ؛ وهذا أيضا لا ينافي أن يكون معنونا بعنوان حسن في نفسه ، إلّا أنّه لا دخل له في إيجابه الغيريّ (١).

ولعلّه مراد من فسّرهما بما امر به لنفسه ، وما امر به لأجل غيره (٢). فلا يتوجّه عليه (٣) بأنّ جلّ الواجبات لو لا الكلّ يلزم أن يكون من الواجبات الغيريّة ، فإنّ المطلوب النفسيّ قلّما يوجد في الأوامر ، فإنّ جلّها مطلوبات لأجل الغايات الّتي هي خارجة عن حقيقتها ، فتأمّل.

__________________

(١) وأورد عليه المحقّق النائينيّ بأنّه يستلزم أن يكون في الواجب النفسيّ ملاكان : ملاك الوجوب النفسيّ وملاك الوجوب الغيريّ ، وهو ممتنع.

ثمّ تصدّى لدفع الإيراد بوجه آخر ، حاصله : أنّ نسبة الفعل الواجب إلى الأثر نسبة المعدّ إلى المعدّ له ، لا نسبة السبب التوليديّ إلى مسبّبه كي يكون مقدورا بالواسطة ، وذلك لأنّ الأثر لا يترتّب على الفعل إلّا بتوسيط أمور غير اختياريّة ، فيمتنع تعلّق التكليف به ، لكونه غير مقدور حتّى بالواسطة.

ثمّ أورد على التعريف المذكور بأنّه يستلزم خروج الواجبات التهيّئيّة عن كونها واجبات نفسيّة ، لأنّ الأمر بها يكون لأجل التوصّل بها إلى واجبات أخر ، فيلزم أن تكون واجبات غيريّة ، مع أنّها نفسيّة.

ثمّ عدل عن التعريف وقال : «الأولى أن يعرّف الواجب النفسيّ بما امر به لنفسه ـ أي تعلّق الأمر به ابتداء وكان متعلّقا للإرادة كذلك ـ. ويقابله الواجب الغيريّ وهو ما إذا كانت إرادته ترشّحيّة من ناحية إرادة الغير». فوائد الاصول ١ : ٢١٩ ـ ٢٢٠ ، أجود التقريرات ١ : ١٦٧ ـ ١٦٨.

والفرق بين التعريفين أنّ النفسيّة والغيريّة وصفان إضافيّان على الأوّل ـ كما صرّح بذلك المصنّف ـ ، ووصفان متباينان على الثاني.

(٢) هو ما حكاه الشيخ الأنصاريّ عن غير واحد على ما في مطارح الأنظار : ٦٦.

(٣) إشارة إلى ما أورده الشيخ الأنصاريّ على التفسير المذكور. راجع مطارح الأنظار : ٦٦.

٢٠٢

حكم التردّد بين النفسيّة والغيريّة

ثمّ إنّه لا إشكال فيما إذا علم بأحد القسمين. وأمّا إذا شكّ في واجب أنّه نفسيّ أو غيريّ ، فالتحقيق أنّ الهيئة وإن كانت موضوعة لما يعمّهما إلّا أنّ إطلاقها يقتضي كونه (١) نفسيّا ، فإنّه لو كان شرطا لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلّم الحكيم.

وأمّا ما قيل (٢) من : «أنّه لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة لدفع الشكّ المذكور بعد كون مفادها الأفراد الّتي لا يعقل فيها التقييد (٣). نعم ، لو كان مفاد الأمر هو مفهوم الطلب صحّ القول بالإطلاق ، لكنّه بمراحل من الواقع ، إذ لا شكّ في اتّصاف الفعل بالمطلوبيّة بالطلب المستفاد من الأمر ، ولا يعقل اتّصاف المطلوب بالمطلوبيّة بواسطة مفهوم الطلب ، فإنّ الفعل يصير مرادا بواسطة تعلّق واقع الإرادة وحقيقتها لا بواسطة مفهومها. وذلك واضح لا يعتريه ريب».

ففيه : أنّ مفاد الهيئة ـ كما مرّت الإشارة إليه (٤) ـ ليس الأفراد ، بل هو مفهوم الطلب ـ كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف (٥) ـ ، ولا يكاد يكون فرد الطلب الحقيقيّ (٦) والّذي يكون بالحمل الشائع طلبا ، وإلّا لما صحّ إنشاؤه بها ، ضرورة أنّه من الصفات الخارجيّة الناشئة من الأسباب الخاصّة (٧). نعم ، ربما يكون هو (٨) السبب لإنشائه كما يكون غيره أحيانا.

واتّصاف الفعل بالمطلوبيّة الواقعيّة والإرادة الحقيقيّة ـ الداعية إلى إيقاع طلبه

__________________

(١) أي : الواجب.

(٢) والقائل الشيخ الأعظم الأنصاريّ على ما في مطارح الأنظار : ٦٧.

(٣) والوجه في ذلك أنّ الأفراد واقعيّات خارجيّة جزئيّة ولا يعقل السعة والإطلاق فيها ، فلا يعقل الضيق والتقييد فيها.

(٤) لا يخفى عليك : أنّه ليس في كلام المصنّف في مبحث الوضع من مفاد الهيئة عين ولا أثر ، إلّا أنّه لما كانت الهيئات ملحقة بالحروف في الوضع فالتصريح بوضع الحروف إشارة إلى وضعها.

(٥) راجع الأمر الثاني من الأمور المقدّمة في مقدّمة الكتاب : ٢٨.

(٦) الإضافة بيانيّة ، فمعنى العبارة : أنّه لا يكاد يكون مفهوم الطلب فردا للطلب ، وهو الطلب الحقيقيّ.

(٧) وهي الأسباب التكوينيّة الخارجيّة.

(٨) أي : الفرد الخارجيّ من الطلب.

٢٠٣

وإنشاء إرادته بعثا نحو مطلوبه الحقيقيّ وتحريكا إلى مراده الواقعيّ ـ لا ينافي اتّصافه بالطلب الإنشائيّ أيضا ، والوجود الإنشائيّ لكلّ شيء ليس إلّا قصد حصول مفهومه بلفظه ، كان هناك طلب حقيقيّ أو لم يكن ، بل كان إنشاؤه بسبب آخر (١).

ولعلّ منشأ الخلط والاشتباه تعارف التعبير عن مفاد الصيغة بالطلب المطلق ، فتوهّم منه أنّ مفاد الصيغة يكون طلبا حقيقيّا يصدق عليه الطلب بالحمل الشائع. ولعمري أنّه من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق ، فالطلب الحقيقيّ إذا لم يكن قابلا للتقييد لا يقتضي أن لا يكون مفاد الهيئة (٢) قابلا له ، وإن تعارف تسميته بالطلب أيضا. وعدم تقييده بالإنشائيّ لوضوح إرادة خصوصه وأنّ الطلب الحقيقيّ لا يكاد ينشأ بها ، كما لا يخفى.

فانقدح بذلك صحّة تقييد مفاد الصيغة بالشرط (٣) ـ كما مرّ هاهنا بعض

__________________

(١) والحاصل : أنّ الفعل يتّصف بالمطلوبيّة الإنشائيّة بمجرّد الإنشاء ، لتعلّق الطلب الإنشائيّ به ، غاية الأمر أنّ المطلوبيّة الإنشائيّة قد تلازم المطلوبيّة الحقيقيّة فتكون سببا لإنشائه ، وقد تنفكّ عنه وكان سبب إنشائه أمرا آخر ، كالامتحان.

(٢) وهو مفهوم الطلب.

(٣) فيصحّ التمسّك بإطلاق الهيئة على إثبات النفسيّة. وتقريبه : أنّ الهيئة وإن كانت موضوعة لما يعمّ الطلب النفسيّ والغيريّ ، إلّا أنّ إطلاقها يقتضي كونه نفسيّا ، لأنّ الوجوب النفسيّ هو الوجوب الثابت المطلق ، سواء وجب شيء آخر أو لا ، والوجوب الغيريّ هو الوجوب الثابت المقيّد بوجوب شيء آخر ، فالوجوب الغيريّ مقيّد ويحتاج إلى مئونة زائدة على أصل مدلول الكلام ، فمع عدم مئونة زائدة يتمسّك بإطلاق الهيئة في ثبوت الواجب المطلق ، وهو الوجوب النفسيّ.

ولا يخفى : أنّ ما ذكره في المقام ينافي ما تقدّم منه في مبحث الواجب المشروط من رجوع القيد إلى الهيئة. وينافي أيضا ما يأتي منه في مبحث مفهوم الشرط من عدم قابليّة المعنى الحرفيّ للإطلاق لكونه ملحوظا آليّا.

وقطع النظر عن المناقضة المذكورة فأورد المحقّق الاصفهانيّ على ما أفاده المصنّف في المقام إيرادات ثلاثة.

والمحقّق النائينيّ أيضا ناقش في إيراد المصنّف على الشيخ الأنصاريّ وادّعى أنّ المصنّف خلط بين المفهوم والمصداق ، لا الشيخ. ثمّ ناقش في أصل الاستدلال. ولكن أجاب المحقّق الاصفهانيّ عن المناقشة الاولى ، كما أجاب السيّد الإمام الخمينيّ عن ـ

٢٠٤

الكلام (١) وقد تقدّم في مسألة اتّحاد الطلب والإرادة (٢) ما يجدي في المقام ـ.

هذا إذا كان هناك إطلاق ، وأمّا إذا لم يكن (٣) ، فلا بدّ من الإتيان به فيما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطا له فعليّا ، للعلم بوجوبه فعلا ، وإن لم يعلم جهة وجوبه ، وإلّا فلا ، لصيرورة الشكّ فيه بدويّا ، كما لا يخفى (٤).

تذنيبان :

[التذنيب] الأوّل : [في استحقاق الثواب والعقاب وعدمه في الواجب الغيريّ]

لا ريب في استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسيّ وموافقته ، واستحقاق

__________________

ـ المناقشة الثانية. فراجع تفصيل كلماتهم في نهاية الدراية ١ : ٣٧١ ـ ٣٧٢ ، أجود التقريرات ١ : ١٦٨ ـ ١٦٩ ، مناهج الوصول ١ : ٣٧٣.

(١) راجع مبحث الواجب المطلق والمشروط : ١٨٢.

(٢) راجع الصفحة : ١٢٣.

(٣) كما إذا كان دليل الوجوب دليلا لبيّا ـ كالإجماع ـ أو دليلا لفظيّا مجملا.

) والحاصل : أنّ في المقام صورتين :

الاولى : ما إذا علم المكلّف أنّ التكليف بما احتمل كون هذا الواجب مقدّمة له فعليّ ، كما إذا علم بوجوب كلّ من الصلاة والوضوء بعد الزوال ، وشكّ في أنّ الصلاة الواجبة بالوجوب النفسيّ متقيّدة بالوضوء فيكون وجوب الوضوء غيريّا أو غير متقيّدة به فيكون وجوبه نفسيّا.

والحكم حينئذ وجوب الإتيان بالوضوء الّذي شكّ في نفسيّته وغيريّته ، إذ أصل وجوبه معلوم ، غاية الأمر إن كان شرطا للصلاة فوجوبه فعليّ غيريّ ، والّا فوجوبه فعليّ نفسيّ.

الثانية : ما إذا علم المكلّف بعدم فعليّة التكليف بما احتمل كون هذا الواجب مقدّمة له ، كما إذا علم إجمالا بوجوب شيء وتردّد في كونه واجبا نفسيّا أو غيريّا ، وعلم أنّه لو كان غيريّا لم يكن ذلك الواجب فعليّا ، مثلا : علمت الحائض بوجوب الوضوء على نفسها وتردّدت في كونه نفسيّا أو غيريّا ، وتعلم أنّ الصلاة لم تجب عليها فعلا ، فتعلم أنّه لو كان الوضوء واجبا غيريّا لم يكن واجبا عليها فعلا ، لعدم فعليّة وجوب ما يحتمل كونه شرطا له ، فالشكّ يرجع إلى وجوبه ـ لو كان نفسيّا ـ وعدم وجوبه ـ لو كان غيريّا ـ ، والمرجع هاهنا هو البراءة ، فلا يجب الإتيان بالوضوء.

وقد ذكر المحقّق النائينيّ لموارد الشكّ ثلاث صور ، وتعرّض لها السيّدان العلمان ـ الإمام الخمينيّ والمحقّق الخوئىّ ـ وناقشا فيما أفاده حكما. فراجع فوائد الاصول ١ : ٢٢٢ ـ ٢٢٣ ، مناهج الوصول ١ : ٣٧٤ ـ ٣٧٦ ، المحاضرات ٢ : ٣٨٩ ـ ٣٩٤.

٢٠٥

العقاب على عصيانه ومخالفته عقلا (١).

وأمّا استحقاقهما على امتثال الغيريّ ومخالفته : ففيه إشكال ، وإن كان التحقيق عدم الاستحقاق على موافقته ومخالفته بما هو موافقته ومخالفة (٢) ، ضرورة استقلال العقل بعدم الاستحقاق إلّا لعقاب واحد أو لثواب كذلك ، فيما خالف الواجب ولم يأت بواحدة من مقدّماته على كثرتها ، أو وافقه وأتاه بما له من المقدّمات (٣).

نعم ، لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترك المقدّمة ، وبزيادة المثوبة على الموافقة فيما لو أتى بالمقدّمات بما هي مقدّمات له من باب أنّه يصير حينئذ من أفضل الأعمال حيث صار أشقّها. وعليه ينزّل ما ورد في الأخبار من

__________________

(١) فإنّ العقل يحكم بأنّ امتثال الأمر النفسيّ طاعة ، فيترتّب على امتثاله الثواب بالاستحقاق أو التفضّل. ويحكم أيضا بأنّ مخالفته تمرّد وطغيان على المولى وخروج عن رسم العبوديّة ، فيستحقّ العقاب.

(٢) وخالفه المحقّق العراقيّ والسيّد الخوئيّ ، ووافقه المحقّقان : الاصفهانيّ والنائينيّ. فراجع نهاية الأفكار ١ : ٣٢٥ ـ ٣٢٦ ، المحاضرات ٢ : ٣٩٦ ـ ٣٩٧ ، نهاية الدراية ١ : ٣٧٥ ـ ٣٧٦ ، فوائد الاصول ١ : ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

(٣) لا يخفى : أنّه كان الأولى أن يقول : «ضرورة أنّ بناء العقلاء على عدم الاستحقاق ...». وذلك لأنّ ما ذكره ليس إلّا موافقا لبناء العرف والعقلاء. وأمّا العقل فلا يحكم بذلك ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المحقّق الاصفهانيّ قرّب عدم الاستحقاق على مخالفة الأمر الغيريّ وموافقته بوجه آخر برهانيّ. وحاصله : أنّه لا شكّ أنّ الوجوب الغيريّ في المقدّمة معلول لوجوب النفسيّ في ذي المقدّمة ، لعدم تعلّق الغرض به إلّا تبعا لتعلّقه بالأمر النفسيّ ، فلا محرّكيّة له إلّا بتبع محرّكيّة الأمر النفسيّ ، فيكون الانبعاث نحو امتثال الأمر الغيريّ تابعا للانبعاث نحو امتثال الأمر النفسيّ ، كما أنّ عدم الانبعاث عنه تابع لعدم الانبعاث عن الأمر النفسيّ. وعليه فلا استقلال للأمر الغيريّ في مقام الانبعاث وعدمه ، فلا يكون الانبعاث عنه موجبا للقرب ، ولا عدمه موجبا للبعد ، فلا يكون امتثاله موجبا للثواب ، ولا عدمه موجبا للعقاب. نهاية الدراية ١ : ٣٧٦.

والمحقّق النائينيّ أسقط أساس البحث عن استحقاق الثواب على امتثال الواجب الغيريّ بدعوى أنّ امتثال الواجب الغيريّ انّما يكون بعين امتثال ذي المقدّمة الّذي تولّد أمره منه ، فليس له امتثال بحيال ذاته حتّى يبحث عن استحقاق الثواب على امتثاله واستحقاق العقاب على عدم امتثاله. فوائد الاصول ١ : ٢٢٥.

٢٠٦

الثواب على المقدّمات (١) ، أو على التفضّل (٢) ، فتأمّل جيّدا.

وذلك لبداهة أنّ موافقة الأمر الغيريّ بما هو أمر ـ لا بما هو شروع في إطاعة الأمر النفسيّ ـ لا توجب قربا ، ولا مخالفته بما هو كذلك بعدا ، والمثوبة والعقوبة إنّما تكونان من تبعات القرب والبعد.

إشكال ودفع

أمّا الأوّل : فهو أنّه إذا كان الأمر الغيريّ ـ بما هو ـ لا إطاعة له ولا قرب في موافقته ولا مثوبة على امتثاله ، فكيف حال بعض المقدّمات ، كالطهارات ، حيث لا شبهة في حصول الإطاعة والقرب والمثوبة بموافقة أمرها؟ هذا مضافا إلى أنّ الأمر الغيريّ لا شبهة في كونه توصّليّا ، وقد اعتبر في صحّتها إتيانها بقصد القربة (٣).

وأمّا الثاني : فالتحقيق أن يقال : إنّ المقدّمة فيها بنفسها مستحبّة وعبادة ،

__________________

(١) كما روي أنّ في كلّ خطوة في زيارة أمير المؤمنين عليه‌السلام ثواب الحجّ والعمرة. الوسائل ١٠ : ٢٩٦ ، الباب ٢٤ من أبواب المزار ، الحديث ١.

(٢) أي : أو يحمل على التفضّل ، لا الاستحقاق.

(٣) لا يخفى : أنّ البحث عن عباديّة الطهارات الثلاث وترتّب الثواب عليها من المباحث المهمّة الّتي تترتّب عليها آثار علميّة وعمليّة. ولذا تعرّض له الأعلام جميعا واهتمّوا في دفع الاشكالات الواردة على عباديّتها. وعمدة الإشكالات أربعة :

الأوّل : أنّه لا شبهة في حصول التقرّب بالإتيان بالطهارات الثلاث لأجل الصلاة ، والمفروض أنّ موافقة الأمر الغيريّ لا تستلزم القرب ، فكيف يحصل بها التقرّب؟

الثاني : لا شبهة في ترتّب الثواب على الإتيان بالطهارات الثلاث لأجل الصلاة ، والمفروض أنّ موافقة الأمر الغيريّ لا تستوجب ثوابا ، فكيف يترتّب على الإتيان بها الثواب؟

الثالث : أنّ الأمر الغيريّ أمر توصّلي يسقط بمجرّد الإتيان بمتعلّقه ، مع أنّه في الطهارات الثالث لا بدّ من الإتيان بها بنحو العبادة ، فما هو الأمر العباديّ المصحّح لعباديّتها؟

هذه الإشكالات الثلاثة ذكرها المصنّف في المقام.

الرابع : ما ذكره الشيخ الأنصاريّ ـ في كتاب الطهارة ٢ : ٥٤ ـ ، وهو لزوم الدور. وتقريبه : أنّ الأمر الغيريّ انّما يتعلّق بالوضوء وأخويه بما أنّها مقدّمة ، ومقدّميّتها تتوقّف على الإتيان بها على وجه العبادة ، والإتيان بها على وجه العبادة يتوقّف على الأمر بها ، فيكون الأمر الغيريّ متوقّفا على مقدّميّتها ، ومقدّميّتها متوقّفة على الأمر الغيريّ بها ، وهذا دور.

٢٠٧

وغاياتها (١) إنّما تكون متوقّفة على إحدى هذه العبادات ، فلا بدّ أن يؤتى بها عبادة ، وإلّا فلم يؤت بما هو مقدّمة لها. فقصد القربة فيها إنّما هو لأجل كونها في نفسها امورا عباديّة ومستحبات نفسيّة ، لا لكونها مطلوبات غيريّة (٢).

والاكتفاء بقصد أمرها الغيريّ فإنّما هو لأجل أنّه يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه ، حيث إنّه لا يدعو إلّا إلى ما هو المقدّمة (٣) ، فافهم (٤).

__________________

(١) أي : غايات الطهارات الثلاث كالصلاة والحجّ والطواف وغيرها.

(٢) والحاصل : أنّ منشأ عباديّة الطهارات الثلاث انّما هو الأمر النفسيّ الاستحبابيّ المتعلّق بها بما هي عبادة في نفسها.

وبذلك تندفع الإشكالات الأربعة :

أمّا الأوّل والثاني : فلأنّ التقرّب واستحقاق الثواب ليس من جهة موافقة الأمر الغيريّ كي يقال : إنّ موافقته لا تستلزم القرب والثواب. بل من جهة موافقة الأمر الاستحبابيّ المتعلّق بنفسها.

وأمّا الثالث : فلأنّ الأمر الغيريّ هاهنا متعلّق بما هو عبادة في نفسه ، فلا يتحقّق الإتيان بمتعلّقه إلّا بالإتيان به بنحو العباديّة.

وأمّا الرابع : فلأنّ الأمر الغيريّ وإن توقّف على عباديّة الفعل ، إلّا أنّ عباديّة الفعل لا تتوقّف على الأمر الغيريّ ، بل عباديّته ناشئة من الأمر النفسيّ الاستحبابيّ ، فلا دور.

والمحقّق النائينيّ أورد على ما أفاد المصنّف في جواب الإشكال من وجوه. تعرّض لها السيّد المحقّق الخوئيّ وأجاب عنها. فراجع أجود التقريرات ١ : ١٧٥ ـ ١٧٦.

(٣) قوله : «والاكتفاء بقصد أمرها الغيريّ» إشارة إلى ثالث الوجوه من الإيرادات الّتي أوردها المحقّق النائينيّ على المصنّف. وأوّل من تعرّض له هو الشيخ الأعظم الأنصاريّ على ما في مطارح الأنظار : ٧٠ ، وحاصله : أنّه لو كانت الطهارات متعلّقة للأوامر النفسيّة فلا بدّ في الإتيان بها عبادة من قصد أمرها النفسيّ ولو في ضمن الطلب الوجوبيّ الغيريّ. وهذا خلاف طريقة الفقهاء ، فإنّهم بنوا على الاكتفاء بإتيانها بقصد أمرها الغيريّ من دون اعتبار الالتفات إلى أمرها النفسيّ. وهذا يكشف عن أنّ عباديّتها بالأمر الغيريّ ، فيعود المحذور.

وأجاب عنه المصنّف بقوله : «فانّما هو لأجل ...». وحاصله : أنّه لمّا كان الأمر الغيريّ لا يدعو إلّا إلى ما هو المقدّمة ، والمفروض أنّ المقدّمة في المقام هي الطهارات الثلاث المأمور بها بالأمر النفسيّ ، فالأمر الغيريّ تعلّق بالفعل العباديّ ، وقصده يوجب قصد الأمر النفسيّ ضمنا ، وهو المصحّح لعباديّتها.

(٤) لعلّه إشارة إلى أنّ الأمر النفسيّ الاستحبابيّ إمّا أن يكون ملتفتا إليه حين العمل ـ ولو ـ

٢٠٨

وقد تفصّي عن الإشكال بوجهين آخرين :

أحدهما : ما ملخّصه : أنّ الحركات الخاصّة ربما لا تكون محصّلة لما هو المقصود منها من العنوان الّذي يكون بذاك العنوان مقدّمة وموقوفا عليها ، فلا بدّ في إتيانها بذاك العنوان من قصد أمرها ، لكونه (١) لا يدعو إلّا إلى ما هو الموقوف عليه ، فيكون عنوانا إجماليّا ومرآة لها (٢) ، فإتيان الطهارات عبادة وإطاعة لأمرها ليس لأجل أنّ أمرها المقدّميّ يقضي بالإتيان كذلك ، بل إنّما كان لأجل إحراز نفس العنوان الّذي يكون (٣) بذاك العنوان موقوفا عليها (٤).

__________________

ـ اجمالا ـ فيكون هو الداعي إلى العمل ، لا الأمر الغيريّ. وإمّا أن يكون مغفولا عنه رأسا فلم يتحقّق القصد إليه كي تتحقّق العباديّة ، لأنّ قوام العباديّة بقصد الأمر النفسيّ.

(١) أي : لكون أمرها.

(٢) أي : فيكون القصد الأمر الغيريّ عنوانا إجماليّا لتلك الحركات.

(٣) هكذا في النسخ. والصحيح «تكون» ، فإنّ الضمير المستتر فيه يرجع إلى الطهارات.

(٤) لا يخفى عليك : أنّ هذا الوجه ذكره الشيخ الأعظم الأنصاريّ ـ في كتاب الطهارة ٢ : ٥٥ ـ جوابا عن الإشكال الرابع ـ أعنى إشكال الدور ـ ، فهو لم يتفصّ به عن الإشكالات الثلاثة الّتي ذكرها المصنّف كي يقال : «وقد تفصّي عن الإشكال بهذا الوجه» ، بل انّما تفصّى الشيخ به عن إشكال الدور. نعم ، يمكن التفصّي به عنها كما تفصّى الشيخ به عن إشكال الدور.

ولا يخفى أيضا : أنّ ما ذكره المصنّف في تقريب كلام الشيخ غير تامّ ، فإنّ غاية ما يستفاد من التقريب المذكور أنّ الحركات المخصوصة من العناوين القصديّة ، فتقصد إجمالا بقصد امتثال الأمر الغيريّ. وأمّا أنّ هذا العناوين هل هي من العناوين الواقعيّة الراجحة في ذاتها أم لا؟ فلا يستفاد من التقريب المذكور.

وفي الجملة : فحاصل هذه الوجه أنّ الحركات المخصوصة معنونة بعناوين واقعيّة قصديّة راجحة في ذاتها ، فهي قطع النظر عن الأمر الغيرىّ معنونة بتلك العناوين ، وهو موجب لوقوعها بنحو العبادة ، غاية الأمر لمّا كانت من العناوين القصديّة وكانت مجهولة لدينا فلا بدّ في قصدها من قصد امتثال الأمر الغيريّ ، لأنّ الأمر الغيريّ لا يدعو إلّا إلى تلك الحركات المعنونة بها ، فيكون قصد الأمر الغيريّ طريقا إلى قصد ذلك العنوان.

وتندفع به جميع الإشكالات الثلاثة ، لأنّ عباديّتها ومقرّبيّتها وترتّب الثواب عليها مستندة إلى رجحانها الذاتيّ ، لتعنونها بعنوان راجح ، لا من جهة اقتضاء امتثال الأمر الغيريّ ، فلا محذور.

٢٠٩

وفيه : ـ مضافا إلى أنّ ذلك (١) لا يقتضي الإتيان بها كذلك (٢) ، لإمكان الإشارة إلى عناوينها الّتي تكون بتلك العناوين موقوفا عليها بنحو آخر ولو بقصد أمرها وصفا (٣) ، لا غاية وداعيا (٤) ، بل كان الداعي إلى هذه الحركات الموصوفة بكونها مأمورا بها شيئا آخر غير أمرها (٥) ـ : أنّه غير واف (٦) بدفع إشكال ترتّب المثوبة عليها ، كما لا يخفى (٧).

ثانيهما : ما محصّله : أنّ لزوم وقوع الطهارات عبادة إنّما يكون لأجل أنّ الغرض من الأمر النفسيّ بغاياتها كما لا يكاد يحصل بدون قصد التقرّب بموافقته ، كذلك لا يحصل ما لم يؤت بها كذلك (٨) ، لا باقتضاء أمرها الغيريّ.

وبالجملة : وجه لزوم إتيانها عبادة إنّما هو لأجل أنّ الغرض في الغايات لا يحصل إلّا بإتيان خصوص الطهارات من بين مقدّماتها أيضا بقصد الإطاعة (٩).

__________________

(١) أي : كون الحركات الخاصّة المعنونة بعنوان خاصّ مقدّمة.

(٢) أي : بقصد أمرها غاية.

(٣) بأن ينوي الإتيان بالمأمور به بالأمر الغيريّ بأيّ عنوان.

(٤) بأن ينوى الإتيان بالحركات المخصوصة لكونها مأمورا بها.

(٥) كالتنظيف والتبريد ونحوهما.

(٦) هذا هو الصحيح. بخلاف ما في النسخ : «غير واف».

(٧) قد مرّ أنّه يفي بردّ الإشكالات كلّها ، فإنّ المثوبة تترتّب على رجحانها الذاتيّ ، لا على امتثال الأمر الغيريّ.

(٨) أي : بقصد القربة.

(٩) ولا يخفى : أنّ هذا الوجه أيضا ذكره الشيخ الأعظم الأنصاريّ ـ في كتاب الطهارة ٢ : ٥٥ ـ جوابا عن إشكال الدور ، لا جوابا عن الإشكال الّذي ذكره المصنّف في المقام كي يدفع به الإشكال المذكور.

وحاصل الجواب ـ على ما في كتاب الطهارة للشيخ الأنصاريّ ـ : أنّ مقدّميّة الطهارات متقوّمة بكونها عباديّة ، فالمولى لا بدّ له من الأمر بذات الطهارات ابتداء ثمّ الإعلام بلزوم الإتيان بها بداعى أمر المتعلّق بذاتها ، فيكون الأمر بذاتها مقوّما لمقدّميّتها وغنى من أمر آخر ، فيرتفع به محذور الدور.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره المصنّف تقريبا لهذا الوجه لا يخلو من الاضطراب ، بل لا يطابق ما ذكره الشيخ.

٢١٠

وفيه : أيضا أنّه غير واف بدفع إشكال ترتّب المثوبة عليها.

وأمّا ما ربّما قيل (١) في تصحيح اعتبار قصد الإطاعة في العبادات ـ من الالتزام بأمرين : أحدهما كان متعلّقا بذات العمل ، والثاني بإتيانه بداعي امتثال الأوّل ـ فلا يكاد (٢) يجدي في تصحيح اعتباره (٣) في الطهارات ، إذ لو لم تكن بنفسها مقدّمة لغاياتها لا يكاد يتعلّق بها أمر من قبل الأمر بالغايات. فمن أين يجيء طلب آخر من سنخ الطلب الغيريّ متعلّق بذاتها ليتمكّن به من المقدّمة في الخارج؟ هذا مع أنّ في هذا الالتزام ما في تصحيح اعتبار قصد الطاعة في العبادة على ما عرفته مفصّلا سابقا (٤) ، فتذكّر (٥).

__________________

ـ وقال المحقّق الاصفهانيّ في هامش تعليقته على المقام ـ بعد ما ادّعى أنّ هذا الوجه هو الجواب الثاني من الجوابين الّذين ذكرهما العلّامة الأنصاريّ في كتاب الطهارة بأدنى تغيير ـ : «لا يخفى عليك : أنّ الإشكال المذكور في كتاب الطهارة ليس في مقرّبيّة الأمر الغيريّ وترتّب الثواب على موافقته ، بل في صيرورة المقدّمة تعبّديّة بالأمر بها ، للزوم الدور. فالجواب عنه بتعبّديّتها في ذاتها أو لزوم إتيانها بداعى الأمر بدليل آخر أو بأمر آخر جواب مطابق للإشكال». نهاية الدراية ١ : ٣٨٧.

(١) والقائل هو المحقّق الرشتيّ في بدائع الأفكار : ٣٣٥. فإنّه ذكر هذا الوجه توضيحا للوجه الثاني الّذي ذكره الشيخ في كتاب الطهارة زعما أنّه نفس الوجه المذكور في كتاب الطهارة ، لكنّك عرفت أنّ الشيخ لم يلتزم بوجود أمرين ـ أحدهما يتعلّق بذات العمل ، وثانيهما بالعمل بقصد الأمر الأوّل ـ ، بل صرّح بأنّ الأمر بذات العمل مغن عن أمر آخر ، وإليك نصّ عبارته : «وإذا أراد الشارع الصلاة المتوقّفة على تلك المقدّمة الموقوفة مقدّميّتها على الأمر وجب الأمر به مع نصب الدلالة على وجوب الإتيان به على وجه العبادة ، فهذا الأمر محقّق لمقدّميّته مغن عن أمر آخر بعد صيرورته مقدّمة». كتاب الطهارة ٢ : ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) وفي النسخ : «لا يكاد» ، والصحيح ما أثبتناه.

(٣) وفي النسخ : «اعتبارها». والصحيح ما أثبتناه ، فإنّ الضمير يرجع إلى قصد الإطاعة.

(٤) في مبحث التوصّليّ والتعبّديّ : ١٤٠ ، حيث قال : «وتوهّم امكان تعلّق الأمر ...».

(٥) إلى هنا ذكر المصنّف أربعة وجوه في التفصّي عن إشكالات الطهارات الثلاث. أحدها : ما أفاد من أنّها مستحبّة في أنفسها. وثانيها : ما أشار إليه بقوله : «أحدهما». وثالثها : ما ذكره ذيل قوله : «ثانيهما». ورابعها : ما أشار إليه بقوله : «وأمّا ما ربّما قيل ...». ولم يرتض إلّا بالوجه الأوّل.

وقد تفصّى عنه المحقّق النائينيّ بأنّ الأمر النفسيّ المتعلّق بذي المقدّمة ينحلّ إلى ـ

٢١١

[التذنيب] الثاني : [في عدم اعتبار قصد الغايات في صحّة الطهارات]

أنّه قد انقدح ممّا هو التحقيق في وجه اعتبار قصد القربة في الطهارات صحّتها ولو لم يؤت بها بقصد التوصّل بها إلى غاية من غاياتها. نعم ، لو كان المصحّح لاعتبار قصد القربة فيها أمرها الغيريّ لكان قصد الغاية ممّا لا بدّ منه في وقوعها صحيحة ، فإنّ الأمر الغيريّ لا يكاد يمتثل إلّا إذا قصد التوصّل إلى الغير ، حيث لا يكاد يصير داعيا إلّا مع هذا القصد ، بل في الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدّمة عبادة ولو لم يقصد أمرها ، بل ولو لم نقل بتعلّق الطلب بها أصلا.

وهذا (١) هو السرّ في اعتبار قصد التوصّل في وقوع المقدّمة عبادة. لا ما توهّم (٢) من أنّ المقدّمة إنّما تكون مأمورا بها بعنوان المقدّميّة ، فلا بدّ عند إرادة الامتثال بالمقدّمة من قصد هذا العنوان ، وقصدها كذلك لا يكاد يكون بدون قصد التوصّل إلى ذي المقدّمة بها ؛ فإنّه فاسد جدّا ، ضرورة أنّ عنوان المقدّميّة ليس بموقوف عليه الواجب ، ولا بالحمل الشائع مقدّمة له ، وإنّما كان المقدّمة هو نفس المعنونات بعناوينها الأوّليّة ، والمقدّميّة إنّما تكون علّة لوجوبها.

[٤ ـ الواجب الأصليّ والواجب التبعيّ]

ومنها : تقسيمه إلى الأصليّ والتبعيّ (٣).

والظاهر أن يكون هذا التقسيم بلحاظ الأصالة والتبعيّة في الواقع ومقام

__________________

ـ شرائطها كما ينحلّ إلى أجزائها ، فيتعلّق بكلّ شرط أمر نفسيّ ضمنيّ كما يتعلّق بكلّ جزء أمر نفسيّ كذلك ، والموجب للعباديّة هو هذا الأمر النفسيّ الضمنيّ. فوائد الاصول ١ : ٢٢٨.

(١) أي : كون التوصّل إلى الغير ملاك عباديّة الطهارة.

(٢) والمتوهّم هو الشيخ الأعظم الأنصاريّ على ما في مطارح الأنظار : ٧٢. ولكنّه لا يطابق ما ذكره الشيخ في كتاب الطهارة ٢ : ٥٤ ـ ٥٦. وقد مرّ آنفا.

) لا يخفى : أنّه ذكر هذا التقسيم في ذيل الأمر الرابع المتضمّن لبيان تبعيّة وجوب المقدّمة لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط. ولكن المناسب أن يذكر ذيل الأمر الثالث. ولعلّه سهو من قلم الناسخين. ولذا ذكرناه في المقام.

٢١٢

الثبوت (١) ؛ حيث يكون الشيء تارة متعلّقا للإرادة والطلب مستقلّا ، للالتفات إليه بما هو عليه ممّا يوجب طلبه ، فيطلبه ، كان طلبه نفسيّا أو غيريّا ؛ واخرى متعلّقا للإرادة تبعا لإرادة غيره لأجل كون إرادته لازمة لإرادته من دون التفات إليه بما يوجب إرادته. لا بلحاظ الأصالة والتبعيّة في مقام الدلالة والإثبات (٢) ، فإنّه يكون في هذا المقام تارة مقصودا بالإفادة واخرى غير مقصود بها على حدة ، إلّا أنّه لازم الخطاب ، كما في دلالة الإشارة ونحوها (٣).

وعلى ذلك (٤) ، فلا شبهة في انقسام الواجب الغيريّ إليهما ، واتّصافه بالأصالة والتبعيّة كلتيهما ، حيث يكون متعلّقا للإرادة على حدة عند الالتفات إليه بما هو مقدّمة ، واخرى لا يكون متعلّقا لها كذلك عند عدم الالتفات إليه كذلك ، فإنّه يكون لا محالة مرادا تبعا لإرادة ذي المقدّمة على الملازمة.

كما لا شبهة في اتّصاف النفسيّ أيضا بالأصالة ، ولكنّه لا يتّصف بالتبعيّة ، ضرورة أنّه لا يكاد يتعلّق به الطلب النفسيّ ما لم تكن فيه مصلحة نفسيّة ، ومعها يتعلّق بها (٥) الطلب مستقلا ولو لم يكن هناك شيء آخر مطلوب أصلا ، كما لا يخفى.

نعم ، لو كان الاتّصاف بهما بلحاظ الدلالة اتّصف النفسيّ بهما أيضا ، ضرورة أنّه قد يكون غير مقصود بالإفادة ، بل افيد بتبع غيره المقصود بها.

لكنّ الظاهر ـ كما مرّ ـ أنّ الاتّصاف بهما إنّما هو في نفسه ، لا بلحاظ حال الدلالة عليه ، وإلّا لما اتّصف بواحد منهما إذا لم يكن بعد مفاد دليل ، وهو كما ترى.

ثمّ إنّه إذا كان الواجب التبعيّ ما لم يتعلّق به إرادة مستقلّة فإذا شكّ في واجب

__________________

(١) تبعا للشيخ الأعظم الأنصاريّ على ما في مطارح الأنظار : ٧٨.

(٢) كما ذهب إليه صاحبا الفصول والقوانين. ومال إليه السيّد الإمام الخمينيّ. فراجع الفصول الغرويّة : ٨٢ ، قوانين الاصول ١ : ١٠٠ ، تهذيب الاصول ١ : ٢٧٥.

(٣) كدلالة القضيّة الشرطيّة على مفهومها.

(٤) أي : وبناء على كون التقسيم بحسب مقام الثبوت.

(٥) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «يتعلّق به» ، فإنّ الضمير يرجع إلى النفسيّ.

٢١٣

أنّه أصليّ أو تبعيّ ، فبأصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة به يثبت أنّه تبعيّ ويترتّب عليه آثاره إذا فرض له آثار شرعيّ (١) ، كسائر الموضوعات المتقوّمة بامور عدميّة. نعم ، لو كان التبعيّ أمرا وجوديّا خاصّا غير متقوّم بعدميّ ـ وإن كان يلزمه ـ لما كان يثبت بها إلّا على القول بالأصل المثبت ، كما هو واضح ، فافهم.

الأمر الرابع

[في ما هو الواجب في باب المقدّمة]

لا شبهة في أنّ وجوب المقدّمة ـ بناء على الملازمة ـ يتبع في الإطلاق والاشتراط وجوب ذي المقدّمة ، كما أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا (٢).

[مسلك صاحب المعالم وما فيه]

ولا يكون مشروطا بإرادته ، كما يوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم رحمه‌الله في بحث الضدّ ، قال : «وأيضا فحجّة القول بوجوب المقدّمة ـ على تقدير تسليمها ـ إنّما تنهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلّف مريدا للفعل المتوقّف عليها ، كما لا يخفى على من أعطاه حقّ النظر» (٣).

وأنت خبير بأنّ نهوضها على التبعيّة (٤) واضح لا يكاد يخفى (٥) ، وإن كان نهوضها على أصل الملازمة لم يكن بهذه المثابة ، كما لا يخفى.

__________________

(١) هكذا في النسخ. والصحيح إمّا «آثار شرعيّة» أو «أثر شرعيّ».

(٢) راجع الصفحة : ١٨٦ ، حيث قال : «ثمّ الظاهر دخول المقدّمات الوجوديّة للواجب المشروط في محلّ النزاع أيضا ... غاية الأمر تكون في الإطلاق والاشتراط تابعة لذي المقدّمة».

(٣) معالم الدين : ٧١.

(٤) أي : التبعيّة في الإطلاق والاشتراط.

(٥) إذ الملاك في وجوب المقدّمة توقّف ذيها عليها ، وهو مستمرّ ، سواء أراد الإتيان بذي المقدّمة أم لا.

٢١٤

[مسلك الشيخ الأنصاريّ وصاحب الفصول ، وما فيهما]

وهل يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بها بداعي التوصّل بها إلى ذي المقدّمة (١) ـ كما يظهر ممّا نسبه إلى شيخنا العلّامة رحمه‌الله بعض أفاضل مقرّري بحثه (٢) ـ أو ترتّب ذي المقدّمة عليها بحيث لو لم يترتّب عليها لكشف (٣) عن عدم وقوعها على صفة الوجوب ـ كما زعمه صاحب الفصول رحمه‌الله (٤) ـ أو لا يعتبر في وقوعها كذلك شيء منهما؟

الظاهر عدم الاعتبار (٥).

__________________

(١) والفرق بين هذا المسلك ومسلك صاحب المعالم أنّ في الأوّل اعتبر قصد التوصّل إلى الغير قيدا للواجب بالوجوب الغيريّ ، وفي الثانيّ اعتبر قيدا لوجوب الواجب بالوجوب الغيريّ.

(٢) راجع مطارح الأنظار : ٧٢.

ولا يخفى : أنّ نسبة هذا القول إلى الشيخ غير صحيحة ، فإنّ كلامه في التقريرات من أوّله إلى آخره يأبى عن ذلك. بل يظهر من بعض كلامه وجوب ذات المقدّمة بما هي مقدّمة ، حيث قال : «إنّ الحاكم بوجوب المقدّمة هو العقل ، وهو القاضي فيما وقع من الاختلاف ، ونحن بعد ما استقصينا التأمّل لا نرى للحكم بوجوب المقدّمة وجها إلّا من حيث أنّ عدمها يوجب عدم المطلوب ... فملاك الطلب الغيريّ في المقدّمة هذه الحيثيّة ، وهي ممّا يكفي في انتزاعها عن المقدّمة ملاحظة ذات المقدّمة». مطارح الأنظار : ٧٥ ـ ٧٦.

وقال في كتاب الطهارة : ٢ : ٥٥ إنّ الوضوء في نفسه له عنوان واقعيّ راجح في ذاته ...».

اللهم إلّا أن يستفيد المصنّف من الشيخ في مجلس درسه أنّه ذهب إلى هذا القول.

(٣) وفي بعض النسخ : «يكشف».

(٤) الفصول الغرويّة : ٨١ ـ ٨٦. وقوّاه السيّد الإمام الخمينيّ في مناهج الوصول ١ : ٣٩٢ ـ ٤٠١ ، كما اختاره السيّد المحقّق الخوئيّ في المحاضرات ٢ : ٤١٣ ـ ٤٢٤.

(٥) ووافقه المحقّق النائينيّ ، واستدلّ على استحالة الالتزام بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة بأنّه مستلزم للدور والتسلسل. ولكن ناقش فيه السيّدان العلمان : المحقّق الخوئيّ والإمام الخمينيّ بأحسن وجه. فراجع فوائد الاصول ١ : ٢٩٠ ، محاضرات في اصول الفقه ٢ : ٤١٤ ـ ٤١٥ ، مناهج الوصول ١ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣.

٢١٥

أمّا عدم اعتبار قصد التوصّل : فلأجل أنّ الوجوب لم يكن بحكم العقل إلّا لأجل المقدّميّة والتوقّف ، وعدم دخل قصد التوصّل فيه واضح. ولذا اعترف (١) بالاجتزاء بما لم يقصد به ذلك (٢) في غير المقدّمات العباديّة لحصول ذات الواجب.

فيكون تخصيص الوجوب بخصوص ما قصد به التوصّل من المقدّمة بلا مخصّص ، فافهم.

نعم ، إنّما اعتبر ذلك في الامتثال ، لما عرفت (٣) من أنّه لا يكاد يكون الآتي بها بدونه ممتثلا لأمرها وآخذا في امتثال الأمر بذيها ، فيثاب بثواب أشقّ الأعمال. فيقع الفعل المقدّميّ على صفة الوجوب ولو لم يقصد به التوصّل كسائر الواجبات التوصّليّة ، لا على حكمه السابق الثابت له لو لا عرض صفة توقّف الواجب الفعليّ المنجّز عليه. فيقع الدخول في ملك الغير واجبا إذا كانت (٤) مقدّمة لإنقاذ غريق أو إطفاء حريق واجب فعليّ ، لا حراما ، وإن لم يلتفت إلى التوقّف والمقدّميّة. غاية الأمر يكون حينئذ (٥) متجرّئا فيه ، كما أنّه مع الالتفات يتجرّأ بالنسبة إلى ذي المقدّمة فيما لم يقصد التوصّل إليه أصلا. وأمّا إذا قصده ولكنّه لم يأت بها بهذا الداعي بل بداع آخر أكّده بقصد التوصّل ، فلا يكون متجرّئا أصلا.

وبالجملة : يكون التوصّل بها إلى ذي المقدّمة من الفوائد المترتّبة على المقدّمة الواجبة ، لا أن يكون قصده قيدا وشرطا لوقوعها على صفة الوجوب ، لثبوت ملاك الوجوب (٦) في نفسها بلا دخل له فيه أصلا ، وإلّا لما حصل ذات الواجب ولما سقط الوجوب به ، كما لا يخفى.

__________________

(١) أي : اعترف الشيخ الأنصاريّ ، حيث قال : «وقضيّة ذلك هو قيام ذلك الواجب مقامه» وقال :«انّما الإشكال في المقدّمة إذا كانت من الأعمال العباديّة الّتي يجب وقوعها على قصد القربة».

مطارح الأنظار : ٧٢.

(٢) أي : التوصّل إلى ذي المقدّمة.

(٣) في التذنيب الثاني : ٢١٢.

(٤) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «كان».

(٥) أي : حين عدم الالتفات إلى المقدّميّة.

(٦) وفي بعض النسخ : «لملاك ثبوت الوجوب ...».

٢١٦

ولا يقاس على ما إذا أتى بالفرد المحرّم منها ، حيث يسقط به الوجوب مع أنّه ليس بواجب ؛ وذلك لأنّ الفرد المحرّم إنّما يسقط به الوجوب لكونه كغيره في حصول الغرض به بلا تفاوت أصلا ، إلّا أنّه لأجل وقوعه على صفة الحرمة لا يكاد يقع على صفة الوجوب. وهذا بخلاف هاهنا (١) ، فإنّه إن كان كغيره ممّا يقصد به التوصّل في حصول الغرض فلا بدّ أن يقع على صفة الوجوب مثله ، لثبوت المقتضي فيه بلا مانع ، وإلّا لما كان يسقط به الوجوب ضرورة ، والتالي باطل بداهة ، فيكشف هذا عن عدم اعتبار قصده في الوقوع على صفة الوجوب قطعا ، وانتظر لذلك تتمّة توضيح.

والعجب أنّه (٢) شدّد النكير على القول بالمقدّمة الموصلة واعتبار ترتّب ذي المقدّمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب (٣) ـ على ما حرّره بعض مقرّري بحثه قدس‌سره ـ بما يتوجّه على اعتبار قصد التوصّل في وقوعها كذلك (٤) ، فراجع تمام كلامه «زيد في علوّ مقامه» وتأمّل في نقضه وإبرامه (٥).

وأمّا عدم اعتبار ترتّب ذي المقدّمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب : فلأنّه لا يكاد يعتبر في الواجب إلّا ما له دخل في غرضه الداعي إلى إيجابه

__________________

(١) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «بخلاف ما هاهنا».

(٢) أي : الشيخ الأنصاريّ.

(٣) وهذا ما سلكه صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ٨١ ـ ٨٢.

(٤) أي : على صفة الوجوب.

(٥) وملخّص ما أفاده ـ على ما في مطارح الأنظار : ٧٥ ـ أنّه استشكل على صاحب الفصول بثلاثة وجوه :

الأوّل : أنّ الوجه في حكم العقل بوجوب المقدّمة ليس إلّا أنّ عدم المقدّمة يوجب عدم المطلوب ، وهذه الحيثيّة لا تختصّ بالمقدّمات الموصلة ، بل تشترك فيها جميع المقدّمات.

الثاني : أنّ القول بوجوب المقدّمة الموصلة يستلزم القول بوجوب مطلق المقدّمة ، لأنّ الأمر بالمقيّد بقيد خارجيّ مستلزم للأمر بذات المقيّد.

الثالث : أنّ الوجدان يشهد بسقوط الطلب بعد وجودها من غير انتظار ترتّب ذي المقدّمة.

ولا يخفى عليك : أنّ هذه الوجوه بعينها واردة على القول المنسوب إلى الشيخ من اعتبار قصد التوصّل إلى ذي المقدّمة في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب. ولكن قد مرّ الكلام في نسبته إلى الشيخ. بل ورودها عليه يؤيّد عدم صحّة النسبة.

٢١٧

والباعث على طلبه ، وليس الغرض من المقدّمة إلّا حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدّمة ، ضرورة أنّه لا يكاد يكون الغرض إلّا ما يترتّب عليه من فائدته وأثره ، ولا يترتّب على المقدّمة إلّا ذلك (١) ، ولا تفاوت فيه (٢) بين ما يترتّب عليه الواجب وما لا يترتّب عليه أصلا ، وأنّه لا محالة يترتّب عليهما ، كما لا يخفى (٣).

وأمّا ترتّب الواجب ، فلا يعقل أن يكون الغرض الداعي إلى إيجابها والباعث على طلبها ، فإنّه ليس بأثر تمام المقدّمات ـ فضلا عن إحداها ـ في غالب الواجبات (٤) ، فإنّ الواجب إلّا ما قلّ في الشرعيّات والعرفيّات فعل اختياريّ يختار المكلّف تارة إتيانه بعد وجود تمام مقدّماته واخرى عدم إتيانه ، فكيف يكون اختيار إتيانه غرضا (٥) من إيجاب كلّ واحدة من مقدّماته مع عدم ترتّبه على تمامها (٦) ـ فضلا عن كلّ واحدة منها ـ؟

نعم ، فيما كان الواجب من الأفعال التسبيبيّة والتوليديّة كان مترتّبا لا محالة على تمام مقدّماته ، لعدم تخلّف المعلول عن علّته.

__________________

(١) أي : حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدّمة.

(٢) أي : لا تفاوت في الغرض المذكور.

(٣) هذا هو الوجه الأوّل من الإيرادات الثلاثة الّتي أوردها المصنّف على مقالة صاحب الفصول.

ولكن أجاب عنه المحقّق الاصفهانيّ وادّعى أنّه لا يمكن أن يكون الغرض إلّا ما سلكه صاحب الفصول من ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة. وذلك لأنّ الغرض الأصيل حيث يترتّب على وجود المعلول فالغرض التبعيّ من أجزاء علّته هو ترتّب وجوده على وجودها إذا وقعت على ما هي عليه من اتّصاف السبب بالسببيّة والشرط بالشرطيّة وفعليّة الدخل في تأثير المقتضي. فوقوع كلّ مقدّمة على صفة المقدّميّة ملازم لوقوع الاخرى على تلك الصفة ووقوع ذيها في الخارج. فالمطلوب بالتبع ليس إلّا المقدّمة الّتي لا تنفكّ عن ذيها ، وهي المقدّمة الموصلة. نهاية الدراية ١ : ٣٩٤ ـ ٣٩٥.

(٤) أي : الترتّب ليس بأثر مجموع مقدّمات الواجب في غالب الواجبات فضلا عن أن يكون أثر إحداها. والأولى أن يقول : «فضلا عن كلّ واحدة منها».

(٥) وكان الأولى أن يقول : «فكيف يكون ترتّب الواجب على المقدّمة غرضا ...».

(٦) وفي بعض النسخ : «على تامّها» ، وفي بعض آخر : «على عامّها». والمراد واضح.

٢١٨

ومن هنا قد انقدح أنّ القول بالمقدّمة الموصلة يستلزم إنكار وجوب المقدّمة في غالب الواجبات ، والقول بوجوب خصوص العلّة التامّة في خصوص الواجبات التوليديّة (١).

فإن قلت : ما من واجب إلّا وله علّة تامّة ، ضرورة استحالة وجود الممكن بدونها ، فالتخصيص بالواجبات التوليديّة بلا مخصّص.

قلت : نعم ، وإن استحال صدور الممكن بلا علّة ، إلّا أنّ مبادئ اختيار الفعل الاختياريّ من أجزاء علّته ، وهي لا تكاد تتّصف بالوجوب ، لعدم كونها بالاختيار ، وإلّا لتسلسل ، كما هو واضح لمن تأمّل.

ولأنّه لو كان معتبرا فيه الترتّب لما كان الطلب يسقط بمجرّد الإتيان بها من دون انتظار لترتّب الواجب عليها ، بحيث لا يبقى في البين إلّا طلبه وإيجابه كما إذا لم تكن هذه بمقدّمة أو كانت حاصلة من الأوّل قبل إيجابه ، مع أنّ الطلب لا يكاد يسقط إلّا بالموافقة ، أو بالعصيان والمخالفة ، أو بارتفاع موضوع التكليف ـ كما في سقوط الأمر بالكفن أو الدفن بسبب غرق الميّت أحيانا أو حرقه ـ ، ولا يكون الإتيان بها ـ بالضرورة ـ من هذه الامور غير الموافقة (٢).

__________________

(١) هذا هو الوجه الثاني من الإيرادات الثلاثة.

ولكن أجاب عنه السيّد الإمام الخمينيّ بأنّ المراد من الترتّب أعمّ من الترتّب مع الواسطة.

مناهج الوصول ١ : ٣٩٥.

وأجاب عنه السيّد المحقّق الخوئيّ أيضا بنفس ما أجاب به المحقّق الاصفهانيّ عن الوجه الأوّل. محاضرات في اصول الفقه ٢ : ٤١٦.

(٢) وهذا هو الوجه الثالث من الإيرادات الثلاثة. وحاصله : أنّ الإتيان بالمقدّمة بناء على وجوب الموصلة لا يوجب سقوط الطلب منها إلّا أن يترتّب الواجب عليها ، مع أنّه يسقط بمجرّد إتيانها من دون انتظار ترتّب الواجب عليها. ومن الواضح أنّ سقوطه ليس بمخالفة المقدّمة ولا بارتفاع موضوع التكليف ، فلا بدّ وأن يكون بالموافقة ، وهذا يكشف عن وجوب مطلق المقدّمة لا خصوص الموصلة.

وقد يتخيّل أنّ قوله : «مع أنّ الطلب لا يكاد ...» وجه مستقلّ. ولكنه لا يوافق سياق كلام المصنّف. ـ

٢١٩

إن قلت : كما يسقط الأمر في تلك الامور ، كذلك يسقط بما ليس بالمأمور به فيما يحصل به الغرض منه ، كسقوطه في التوصّليّات بفعل الغير أو المحرّمات.

قلت : نعم ، ولكن لا محيص عن أن يكون ما يحصل به الغرض من الفعل الاختياريّ للمكلّف متعلّقا للطلب فيما لم يكن فيه مانع ـ وهو كونه بالفعل محرّما ـ ، ضرورة أنّه لا يكون بينهما تفاوت أصلا. فكيف يكون أحدهما متعلّقا له فعلا دون الآخر؟

وقد استدلّ صاحب الفصول على ما ذهب إليه بوجوه ، حيث قال ـ بعد بيان أنّ التوصّل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها ، لا من قبيل شرط الوجوب ـ ما هذا لفظه : «والّذي يدلّك على هذا ـ يعني الاشتراط بالتوصّل ـ أنّ وجوب المقدّمة لمّا كان من باب الملازمة العقليّة ـ فالعقل لا يدلّ عليه زائدا على القدر المذكور.

وأيضا لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم : اريد الحجّ واريد المسير الّذي يتوصّل به إلى فعل الواجب دون ما لم يتوصّل به إليه ، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك ، كما أنّها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيّتها له مطلقا أو على تقدير التوصّل بها إليه ، وذلك آية عدم الملازمة بين وجوبه ووجوب مقدّماته على تقدير عدم التوصّل بها إليه.

وأيضا حيث إنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب وحصوله ، فلا جرم يكون التوصّل بها إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيّتها ، فلا تكون مطلوبة إذا انفكّت عنه ، وصريح الوجدان قاض بأنّ من يريد شيئا لمجرّد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجرّدا عنه ، ويلزم منه أن يكون وقوعه على وجه المطلوب

__________________

ـ وأجاب السيّد المحقّق الخوئيّ عن هذا الوجه أوّلا : بالنقض بأجزاء الواجب المركّب ، حيث يسقط بإتيان كلّ واحد منها الأمر الضمنيّ المتعلّق بها. وثانيا : بما مرّ في الجواب عن الوجه الثاني. محاضرات في اصول الفقه ٢ : ٤١٧.

وأجاب عنه السيّد الإمام الخمينيّ أيضا بأنّ الأمر غير ساقط بعد فرض تعلّقه بالمقدّمة الموصلة ، فسقوط أمرها أوّل الكلام. مناهج الوصول ١ : ٣٩٦.

٢٢٠